هل نتحمل مسؤولياتنا؟
لا يختلف عاقلان على تجريم الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم ويقتلون المدنيين هنا وهناك، إذ لا يعتبر عاقل سوي النفس من يبرر لهم أو يقتنع بصحة أفعالهم، مهما كانت الدوافع أو الأهداف، لكن ما يستدعي التوقف عنده وبشدة هو أن أغلب المنفذين شباب صغار، اقتنعوا أنهم يجاهدون في سبيل الله، وأن الله راض وسيرضى عنهم أكثر بعد قتلهم هؤلاء، الناس، والجنة وحورياتها بانتظارهم، وللأسف فإن مؤسساتنا الدينية كلها وكتبنا المدرسية لا يمكنها محاججتهم، بل على العكس فهي تثني عليهم وتعتبر إنجازهم قمة الإيمان، ولذلك لا نجد أصواتاً عالية في تكفير داعش أو فكر القاعدة، بل هو استهجان خجول لذر الرماد في العيون لا أكثر، أو ما يسمى في العامية “رفع عتب”.
فالمسلم “العادي” غير المتطرف، ولا المتشدد، يتعلم في المدرسة العادية “غير الدينية” أن دينه يقوم على شهادتي “أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله” إضافة للأركان الأربعة من إقامة صلاة وأداء زكاة وصوم رمضان وحج البيت، وكل من لا يستوفي هذه الأركان الخمسة هو خارج الإسلام قولاً واحداً، وبالتالي تنطبق عليه الآية {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران 85)، ومن هو خارج الإسلام هو حتماً كافر بالله تعالى، مما يجعله ينتقل تلقائياً إلى منزلة العدو ووجب قتاله {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد 4) والقتال “كتب علينا” {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة 216) ووفق كتبنا المدرسية وأدبياتنا نحن مجبرون عليه ملزمون به،
لكنه “فرض كفاية” بحيث إذا أداه بعض المسلمين سقط عن البعض الآخر، ومن ينوي القتال يقرأ {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (البقرة 191) أما الجهاد فهو أعلى مرتبة في التقرب من الله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (التوبة 20)، ومن يقتل في المعارك مع الكافرين سينال “الشهادة” ويجلس مع النبيين والصديقين يوم القيامة {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} (النساء 69)، وترفد الأحاديث “النبوية” المنهاج المدرسي، لتؤكد للطالب أن رسوله بعث ليقتل الناس بالسيف “بعثت بالسيف ورزقي تحت ظل رمحي”، ومن يُقتل في سبيل الله فهو شهيد “من قتل دون دينه فهو شهيد” والشهيد في الجنة “للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوته منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه”، ولا تغفل الكتب المدرسية المرتد وتارك الصلاة وغيرهم ممن يجوز قتله دون استتابة أو مع استتابة، فالأحاديث شاملة كاملة، يمكنها تغطية كل حالات “العصيان”، ومن ثم يتخرج الطالب من المدرسة ولديه كامل الحيثيات التي بإمكانه استخدامها للذهاب سريعاً إلى الجنة، فكيف إذا تخرج من المدارس الشرعية أو الأزهر أو قم، أو تلقفته يد القاعدة أو مشتقاتها؟ وكيف ونحن ندعو على كل من خالف المسلمين من على المنابر، ونستكثر عليهم الدعاء بالرحمة حين الموت، فإن حدث وقلت عن جارك المسيحي “رحمه الله” بادرك أحدنا بالاستنكار فالرحمة حكر علينا فقط، نحن المسلمون لا غيرنا، فهل بعد هذا من لوم على هؤلاء الانتحاريين؟ وهل عرفتم أين الإرهاب؟ وهل عرفتم كيف يسهل على المتآمرين إيجاد مسلم ينتحر ويقتل الأبرياء؟ فهل نطلب من المجتمع الدولي معاقبة من لفقوا أحاديث عن رسول الله أو فهموا الدين خطأً، أم من كرس هذا الفكر ولا يقبل مراجعته و النظر فيه؟
فإذا كلفنا أنفسنا عناء البحث في كتاب الله الذي أرسله لنا، وجدنا فيه ما يدحض هذا الكلام كله، إذ لا يمكن لله أن يبارك القتل، ولا يمكن للرسالة التي حملها الكتاب رحمة للعالمين إلا أن تعارض فكر الفقهاء هذا، وإذا سرنا بالتسلسل أعلاه ذاته نجد الآتي:
– الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر إضافة للعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، والعمل الصالح هو كل ما يصب في مصلحة القيم الإنسانية، فلا يمكن ألا تحوي أركان الإسلام على أخلاق، أما شهادة “أن محمد رسول الله” وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم وأداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فهي أركان الإيمان برسالة محمد تحديداً، أي اتباعه في أداء الشعائر، وهي تلي الإسلام.
– وفق معنى الإسلام هذا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) نفهم قوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} (آل عمران 85)
– الله سبحانه وتعالى حدد الآخرة مكاناً لخسران هؤلاء، لا الدنيا، وبيده وحده الفصل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، وبالتالي لا يحق لأحد محاسبة الآخر على معتقده.
– فرق التنزيل الحكيم بين آيات “أم الكتاب وتفصيلها” وهي الرسالة الصالحة لكل زمان ومكان، وبين القصص القرآني، بما فيه القصص المحمدي، الذي ورد كأخبار بالنسبة لمعاصريه، بينما هو أنباء بالنسبة لنا، أي لا يعدو عن كونه تاريخ له ظروفه، وهذا يشمل كل السور والآيات التي تتحدث عن الغزوات التي قامت في عصر النبوة، كسور التوبة والأنفال والأحزاب والحشر.
– القتال مشروع في حال الدفاع عن النفس والظلم والإخراج من الديار {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج 40)، ولا يكون في سبيل الله إلا إذا كان لإعلاء كلمته في الحرية لك ولغيرك {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)، وله شروطه {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190)، و{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة 8) و{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال 61).
– نفهم معنى الجهاد من قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت8) فالوالدان يجاهدا إبنهما بشتى الوسائل مثلاً لألا يتزوج فتاة معينة، والجهاد في سبيل الله يكون حتماً كالقتال، لإعلاء كلمة الله في حرية الإنسان.
– ذكر التنزيل الحكيم مقاماً عالياً لمن قتلوا في سبيل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران 169) لكن مصطلح “الشهيد” حتماً يتطلب تقديم شهادة حضورية، يقدمها حي لا ميت، وهذه الشهادة تفيد الإنسانية في تقدمها نحو الأفضل، وتثبت أهلية الإنسان للخلافة في الأرض، ووفقها يستحق الشهيد مكانة مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة.
– صناعة الحديث بدأت بعد قرنين من وفاة الرسول، لخدمة مصالح الحكام والسلاطين، علماً أن كل أقوال النبي واجتهاداته كانت في تنظيم الحلال لمجتمعه، ووفق ظروفه، ولا يؤخذ منها أحكام، ونحن نتعامل مع الحديث حتى لو وصلنا صوت وصورة عن النبي، بمنطق “تتغير الأحكام بتغير الأزمان”.
– كتاب الله هو النص الوحيد المقدس بالنسبة لنا، وهو من حي لأحياء، وهو كامل غير منقوص، لا يحتاج لتتمة، والتشريعات فيه محدودة وحدودية، تناسب كل أهل الأرض، وتتحرك ضمن حدودها كل الهيئات التشريعية في العالم، ابتداءً من العفو وحتى الإعدام للقتل العمد.
– الحرية بكل أشكالها هي كلمة الله العليا، وأهم شكل هو حرية المعتقد {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الكهف 29)، والظالم هو من يمنع هذه الحرية.
فهل تملك المؤسسات الدينية الجرأة على الاعتراف بمسؤوليتها عن تجنيد المقاتلين، سنة وشيعة، زوراً وبهتاناً؟ ومسؤوليتها بالتالي عن لصق الإرهاب بالإسلام، وارتكاب الجرائم والمجازر باسمه وباسم محاربته، في حلقة مفرغة لن تنتهي؟ بحيث أصبح الإسلام هو “الوحش” الذي يمكن لكل المصالح العالمية المرور عبره، من خلال الفعل ورد الفعل.
ولنعلم أن كل هذه الضحايا سنسأل عنها أمام الله، وربما أول هذه الضحايا هم الانتحاريون المغفلون القتلة أنفسهم.