الفصل الأول
الشهوات الإنسانية
تمهيد
يقوم النظام الاقتصادي في الإسلام على مبدأ “متاع الحياة الدنيا” أي ما ينتفع به من الأشياء في الحياة الدنيا طال هذا الانتفاع أو قصر، ويقوم على المتطلبات الإنسانية، الجانب البشري الغريزي والجانب الإنساني الشهواني، حيث أن هذين الجانبين تداخلا بعضهما ببعض بحيث صار من الصعب فرز كل واحد على حدة، فالإنسان لا يأكل فقط من أجل إملاء المعدة “الجانب الغريزي” ولكن يأكل من خلال الشهوات أيضا، فهناك صنوف الأطعمة وطريقة تحضيرها والأصناف المركبة لكل طعام وكذلك استعمال النار، وحتى الجماع الجنسي فهو غريزة بشرية ولكنها ترافقت مع شهوات إنسانية من لباس وزينة وحفلات الزفاف.
فالغرائز عبارة عن رغبات غير واعية وهي تتبع الجانب البشري الحيوي من الإنسان وفي هذا الجانب يكون الإنسان كالحيوان تماماً.
أما الشهوات فهي رغبات واعية وهي تخص الإنسان فقط. وبما أن الغرائز توجد لدى الحيوان أيضا، والحيوانات لا تشكل مجتمعات وإنما تشكل قطعانا، فنقول قطيع من الغنم وقطيع من البقر، وسرب منا لطيور، ولا نقول مجتمع من الغنم. والمجتمع له علاقات واعية بين أفراده وهو يخص الإنسان فقط.
لذا فإن أساس الحياة الاجتماعية والاقتصادية يقوم على الشهوات الإنسانية فلا نقول إن هناك علاقات اقتصادية، ودورة اقتصادية في البهائم حيث أن الغرائز فيها تمارس دون علاقات واعية، والغرائز وحدها لا تكفي لصنع نظام اقتصادي، لذا فإنه ضمن ظروف اقتصادية واجتماعية سيئة نقول إن الإنسان يفقد إنسانيته ولكن لا نقول إنه يفقد بشريته.
فما هي مقومات الحياة الاقتصادية عند الإنسان؟!
لقد حدد القرآن مقومات قوانين الاقتصاد الإنساني بالبندين التاليين:
1 – إن مادة الاقتصاد الإنساني هي “متاع الحياة الدنيا”، وهذا المتاع غير ناضج وخاضع للتبدل والتحول ولا يخضع للثبات. وقد حدد القرآن الحياة الاقتصادية على أنها متاع في الآيات التالية:
- {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} (القصص 60).
- {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} (غافر 39).
- {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} (الشورى 36).
- {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46).
وقد بين أن متاع الحياة الدنيا غير ناضج ولا يحوي صفة الكمال وإنما يخضع للتطور وتنطبق عليه قوانين الجدل الداخلي في قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (آل عمران 185). والغرور جاءت من الأصل “غر” وهو قلة الخبرة وعدم النضوج.
2 – إن “متاع الحياة الدنيا” بالنسبة للإنسان له مصدران أساسيان لا ثلاث لهما وهما:
أ – خيرات الطبيعة “الأرض” بما تحويه من غابات ونباتات ومصادر معدنية ومياه وأنعام.
ب – عمل الإنسان الواعي.
وقد ورد هذان المصدران في سورة يس في قوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون} (يس 33-35) وقوله: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} (يس 71-73).
نلاحظ في هذه الآيات كيف حدد أساس الحياة في موارد الطبيعة من نبات وحيوان ومياه في قوله: {ليأكلوا من ثمره} وقوله: {ومنها يأكلون} وعمل الإنسان في قوله: {وما عملته أيديهم}، هنا “ما” اسم موصول بمعنى الذي، أي والذي عملته أيديهم.
وبما أن عمل الإنسان الواعي والذي يقوم على علاقات واعية يخص الإنسان فقط، فيجب علينا تحديد الشهوات الإنسانية الرئيسية التي تلعب دورا أساسيا في سلوكه الشخصي والاجتماعي والتي تلعب دورا كدور الغرائز.
الفرع الأول: الشهوات الإنسانية المذكورة في القرآن
لنضع تعريفا لكل من الغرائز والشهوات:
- الغرائز: هي رغبات غير واعية وهي ذات منشأ فيزيولوجي بحت، أي أنها مغروزة فيا لطبيعة البشرية للإنسان مثل غريزة الطعام وغريزة الجنس وغريزة البقاء، وهذه تعتبر أهما لغرائز الموجودة في الكائنات الحية ومن جملتها البشر.
- الشهوات: هي رغبات واعية وهي ذات منشأ معرفي واجتماعي وموجودة فقط في الإنسان، أي بعد الأنسنة لا قبلها، لذا فلها بداية تاريخية “معرفية واجتماعية”.
لقد عرف القرآن الشهوات عل هذا الأساس أي أنها ذات منشأ معرفي واجتماعي ولها بداية تاريخية.
لنأخذ قوله تعالى: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} (الأعراف 80)، {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} (الأعراف 81). هنا نلاحظ أنه قال عن ظاهرة اللواط بأنها شهوة وعلق عليها بقوله: {ما سبقكم بها من أحد من العالمين}. ولم يقل عن ظاهرة الجماع الطبيعي شهوة لأن هذه الظاهرة ليس لها أية بداية تاريخية واعية، بل هي وجود فيزيولوجي بحت، ثم قال: {بل أنتم قوم مسرفون}.
السؤال الآن: أسرفوا في ماذا؟ فالإسراف هو الزيادة في استعمال شيء ما كقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف 31) أي لا تسرفوا في الطعام والشراب. فهنا قال لهم “مسرون” هل أسرفوا في اللواط؟ فاللواط فاحشة وهو حرام قل أو كثر ولكن جاء الإسراف هنا في الشهوات عندما قال: {شهوة من دون النساء} أي أنا لشهوات الإنسانية مقبولة وهي فطرة الناس ولكن الإسراف فيها مرفوض ووضع القرآن اللواط أحد أنواع الإسراف في الشهوات، كما وصف القرآن نعيم الجنة بأنه من الشهوات “أي رغبات يريدها الإنسان عن وعي” وذلك بقوله: {وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} (الأنبياء 192) وقوله: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيه ما تدعون} (فصلت 31) وقوله: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف 71) وقوله: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} (النحل 57). وقوله: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل} (سبأ 54)، {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} (الطور 22) وقوله: {وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون} (الواقعة 20-21).
هنا نلاحظ كيف وضع الشهوات الإنسانية حيث يريدها ويرغبها عن معرفة لا عن سلوك لا إرادي. فإذا سأل سائل كيف قال: {ولحم طير مما يشتهون} أليس الطعام غريزة؟ أقول: نعم الطعام غريزة ولكن اللحم المشوي والحساء والسلطة والأطعمة المصنعة كلها شهوات لأن اللحم المشوي مارسه الإنسان بعد أن عرف النار واستفاد منها، فالحيوان يأكل اللحم طبيعيا تماما والإنسان الآن يأكله بعد معالجة. فعملية إملاء المعدة غريزة، ما نوع الأكل وطريقة معالجته ووضع المعرفة الإنسانية فيه فيدخل في الشهوات، وكذلك الجنس فهو غريزة ولكن الزينة والحلاقة والعطور شهوات لأنها كلها تولدت عن معرفة وتمارس من قبل الإنسان فقط. وشرب الماء غريزة، ولكن شرب المياه الغازية وشراب البرتقال والعنب يعتبر شهوة، والشرب من خلال أوعية للشرب من أقداح وكؤوس يدخل في الشهوات.
وبما أن الشهوات إنسانية بحتة تولدت عن معرفة وبالتالي تدخل فيها وسائل الإنتاج مثل النار مصدر الشواء وعملية الصيد الواعية للحيوان ومن ثم مع تقدم المعرفة تقدمت وسائل الإنتاج وتقدم تنوع الإنتاج كيفا وكما، وتشعبت الشهوات الإنسانية كما وكيفاً وهي في حالة تطور دائم، لذا نظر الإسلام إليها نظرة حنيفية “متطورة” أي لا ثوابت فيها وصنف حب التطور والتجدد في الأشياء أول الشهوات وأعرقها في الإنسان. لقد حدد القرآن الشهوات الإنسانية الرئيسية والتي منها تتشعب كل الشهوات بالآية التالية {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} (آل عمران 14) “نوع الآية: قرآن، متشابه” وهي بحاجة إلى تأويل، والتأويل هو مطابقة الآية مع العقل والحقيقة أي صدق الخبر موضوعيا وعقلانيته.
- التأويل:
1 – هنا قال “الناس” والناس هم الذكور والإناث من العاقل وهي جمع إنسان لقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات 13).
2 – {حب الشهوات} والشهوات هي رغبات واعية إنسانية، ووضع {زين} للمجهول لأن المهم هنا هو الفعل نفسه “الخبر” وليس الفاعل، والزينة هنا لأمور يرغبها الناس ولا يعافونها كقوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت} (يونس 24). وقوله: {ولا يبدين زينتهن} (النور 31) وقوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (النحل 8).
3 – لقد عدد في هذه الآية ست شهوات وهي حسب الترتيب في الآية كالتالي:
1-النساء، 2- البنين، 3- القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، 4- الخيل المسومة، 5- الأنعام، 6- الحرث.
4 – بعد أن عدد هذه الشهوات قال عنها: {ذلك متاع الحياة الدنيا} (آل عمران 14) هنا “ذلك” اسم إشارة للدلالة على الشهوات الست السابق ذكرها وقال عنها إنها متاع الحياة الدنيا. أما كلمة “متاع” فقد جاءت في الكتاب كلمة للدلالة على أشياء ينتفع بها الإنسان ضمن فترة من الزمن ويرغب في اقتنائها، ومنها جاءت المتعة وهي اقتناء شيء أو القيام بعمل ينتفع منه الإنسان فيسبب له السرور ويرغب في حيازته أو القيام به عن وعي. فالحيوانات لا يوجد عندها متاع ومتعة إلا طعامها الذي تتغذى به دون وعي لذا قال: {أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم} (النازعات 31-33) فالكلأ يعتبر متاعا للأنعام ولكن لا يعتبر متاعا للحيوانات اللاحمة.
أما الأمتعة فهي حالة خاصة من المتاع وهي متاع المسافر والمقاتل لذا قال: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} (النساء 102).
لنأخذ الآن الآيات التالية:
1 – {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} (يوسف 17)، {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم} (يوسف 65)، {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} (يوسف 79). هنا جاء المتاع في معنى الحاجات التي أخذوها معهم والتي يحتاجون إليها في مرتعهم وملعبهم وتمارينهم ومأكلهم، وعندما يكون المتاع معدا للبيع والمقايضة يصبح بضاعة.
2 – {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم} (النور 29) هنا جاءت أيضا الحاجات التي ينتفع بها ويرغب الإنسان بامتلاكها.
3 – {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} (الأحزاب 28)، {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من رواء حجاب} (الأحزاب 53).
4 – {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} (البقرة 241).
5 – {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} (البقرة 236).
هنا في الآيات الثلاث المتعلقة بالمطلقات ذكر أن على الرجال ن يمتعوهن، والمتاع هنا أن يعطيها أشياء تنتفع بها وترغب المرأة في اقتنائها كالمال والحلي والملابس وما شابه ذلك وقد ربط ذلك بالمعروف أي حسب الأعراف المتبعة في كل بلد وفي كل زمن لذا قال: {متاعا بالمعروف} وهنا أخذا لمعروف شكله النسبي البحت أي لا يوجد معروف مطلق.
6 – {وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم} (عبس 31-32).
7 – {والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم} (النازعات 31-32-33) فالكلأ يعتبر متاعات للأنعام والمتاع من الأشياء التي ينتفع بها واللازمة لحياة الإنسان ومعاشه. لذا ذكر الغطاء النباتي الطبيعي للأرض على أنه متاع للإنسان وللأنعام بقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم}. وقد حدد كلمة المتاع بشكل قطعي بقوله:
8 – {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} (الشورى 36) هنا نلاحظ كيف ربط الأشياء بالمتاع.
9 – {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا} (البقرة 126) هنا لاحظ قوله: {فأمتعه قليلا} أي أن أشياء الحياة الدنيا من لباس وبيوت وسيارات وأنعام وأرض وزراعة وحلي هي للمؤمن والكافر على حد سواء، ومن الخطأ أن نقول إن المتاع هذا وقف للكفار في الحياة الدنيا وإنما هو للمؤمن والكافر على حد سواء أي للناس كلهم. وقولك “تمتع بعضنا ببعض” أي انتفع بعضنا ببعض لوجود المنافع المتبادلة.
10 – ما قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (الحديد 20، آل عمران 185) فقد قلنا إن المتاع شيء ينتفع به ويولد السرور ضمن فترة زمنية، هذه الأشياء في الحياة الدنيا والتي نتمتع بها مثل الفواكه والأطعمة والسيارات والبيوت، والتي هي متاع الحياة الدنيا والتي وصفها بالغرور وهو النقصان وعدم النضوج، إن كل ما نصنعه نحن الناس يمكن تجاوزه إلى أحسن منه، هذا من باب صنع الإنسان، ومن باب خيرات الطبيعة فالتفاح بحاجة إلى رش وسماد ورعاية وأدوية حتى عطي الإنتاج مرة واحدة في السنة، أي في الموسم الواحد، أما متاع الآخرة فهو متاع غير ناقص “ناضج” وذلك بعد تغير في صيرورة قوانين المادة فالزراعة لا تحتاج إلى عمل وإلى أدوية، بل كل ما سيوجد هناك لا عيب فيه ولا يمكن تجاوزه إلى أحسن منه.
لنعود الآن إلى آية الشهوات الرئيسية الست للناس والتي وصفها بأنها {متاع الحياة الدنيا} (آل عمران 14) والتي أتبعها بقوله: {والله عنده حسن المآب} للدلالة على أنها {متاع الغرور} متاع غير ناضج غير مكتمل.
لقد ذكر أن الشهوة الأولى من هذه الشهوات “النساء”. فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل النساء المقصودات في هذه الآية هن أزواج الرجال؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا قال: {زين للناس} (آل عمران 14) والناس هم الذكور والإناث معا ولم يقل زين للرجال؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قال في نهاية الآية: {ذلك متاع الحياة الدنيا} فإذا كان المقصود بالنساء أزواج الرجال فهل هذا يعني أن المرأة حاجة كالطعام والشراب والبيت والسيارة والحذاء؟ ومن ناحية أخرى أيضا إذا كان المقصود بالنساء أزواج الرجال فقد وردت في الشهوات مع الخيل المسومة ومع الأنعام التي هي الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والماعز والإبل.
هذا الفهم الخاطئ الشنيع هو الذي سمح للفقهاء المسلمين، والمسلمين بشكل عام، بأن يعاملوا المرأة كالغنم والبقر وعلى أنها شيء من الأشياء.
السؤال الثاني هل البنون المذكورون في هذه الآية هم الذكور من الأولاد؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن مرة أخرى: هل الذكور من الأولاد هم أشياء “متاع”؟ وكيف عطفهم على الخيل والبقر والغنم؟
السؤال الثالث: إن النساء هن من الناس والذكور من الناس أيضا فكيف تشتهي النساء النساء والذكور؟ علما بأن الغريزة الجنسية لا تدخل في الشهوات، وإنما هي من الغرائز المغروزة في بنية الإنسان الفيزيولوجية والتي يتشارك بها مع بقية البهائم.
السؤال الرابع: إن هذه الىية هي من القرآن فهي من الآيات المتشابهات وتحوي على خبر موضوعي وتأويلها هو مطابقتها مع الحقيقة الموضوعية بحيث يكون الخبر صادقا موضوعيا. فإذا كانت النساء هن الإناث والبنين الذكور من الأولاد فيصبح الخبر كاذباً، علما بأن الناس هم الذكور والإناث مؤمنين وكافرين ومتقين وفاجرين وهم كل الأمم والقوميات العربي والتركي والياباني والروسي والأمريكي والأفريقي…الخ.
فعندما نأتي على لفظة النساء والبنين في آية من آيات الكتاب وخاصة “القرآن” يجب أن ننظر إلى سياق الآية ونفهم المعنى فهما يقتضيه العقل والموضوع والمطابقة مع الحقيقة “صدق الخبر” فعندما تأتي النساء أزواجا للرجال تأتي واضحة في سياق الآية كقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} (النساء 34) أو قوله: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} (النساء 32) وقوله: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين} (النساء 11) وقوله: {وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} (النساء 1) وقوله: {يا نساء النبي} (الأحزاب 32) وقوله: {إذا طلقتم النساء} (الطلاق 1).
أما البنين بمعنى الذكور من الأولاد فتفهم من سياق الآية كقوله: {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون} (الصافات 149) وقوله: {اصطفى البنات على البنين} (الصافات 153) هنا جاءت النساء والبنون بالمعنى المجازي للكلمة، أما المعنى الحقيقي للنساء والبنين فهو ما يلي:
– النساء: جاءت في اللسان العربي من “نسأ” والنسيء هو التأخير كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة 37) ونسيء ونسوء جمعها نسوة ونساء “معجم متن اللغة-أحمد رضا”، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم إن صح “من أحب أن يسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه” “صحيح مسلم ج3 ص 1982” وجاءت النساء أزواج الرجال في المعنى المجازي لأنها اشتقت من هذا الأصل. فالنساء جمع امرأة وجمع نسيء.
لقد فهم المفسرون الأوائل هذا بشكل بدائي جدا حيث قالوا إن الله خلق آدم ثم خلقت منه حواء أي أن الأنثى ظهرت في الوجود متأخرة عن الذكر ولهذا سميت الإناث نساء “أي تأخرن في الخلق” وهذا واضح في قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} (النساء 1).
أما الفهم الموضوعي فهو بداية الوجود الحياتي للكائنات الحية كانت الذكورة الأنوثة مختلطة أي لم تكن أزواجا، فنر أن كائنا وحيد الخلية لا يتكاثر بالتزاوج وإنما يتكاثر بالانقسام، ومع تطور الكائنات الحية ظهرت الذكورة والأنوثة وهذا ما نلاحظه تماما في الإنسان فالحيوان المنوي في الذكر يحتوي على الذكورة والأنوثة معا، أما البويضة في المرأة فلا تحوي إلا على الأنوثة فقط، وهذا واضح في قوله تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة 37-39) فالنطفة هنا هي الخلية ثم عرفها بالخلية المنوية فقال: {من مني يمنى} أي الخلية المنوية بعد اللقاح تتحول إلى علقة وهي التي تحدد الذكورة والأنوثة بقوله تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} هنا يحدد القرآن أن الأصل هو الذكورة والأنوثة معا، ثم تم انفصال الأنوثة على حدة ومن هنا جاءت كلمة النساء على أنها المتأخرات ويمكن إطلاق هذا المصطلح على كل شيء جاء متأخرا.
وهنا يظهر معنى النساء في آية الشهوات والتي تعتبر الشهوة رقم واحد والتي يشتهيها كل الناس وهي المتأخرات منا لمتاع “الأشياء” أي ما نسئ منها أو نقول عنه في المصطلح الحديث “الموضة” فالإنسان يشتهي آخر موضة في اللباس وفي السيارات وفي الأثاث والستائر وفي البيوت، فنرى أن هذه الشهوة الموجودة عند الإنسان في الأرض قاطبة والإنسان يشتهي المتأخر “الجديد” من الأشياء كلها فالأشياء المنتجة عام 1986 جاءت متأخرة عن الأشياء المنتجة عام 1985 فكل الأشياء المتجددة “أي جاءت متأخرة عن ما قبلها” نسئت عما قبلها جملها القرآن بمصطلح واحد هو النساء.
والنبي صلى الله عليه وسلم كإنسان تنطبق عليه هذه الآية فكان يحب هذه الشهوة من بين كل الشهوات وهي التجديد وذلك بقوله إن صح “حبب إلى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة” “الجامع الصغير ج1 ص 145” هنا فهم الكثيرون أن النساء هن أزواج الرجال، ولكن النساء هنا هي شهوة التجديد في الأشياء وقد جاءت بمعنى التأخير في سورة النور في قوله: {أو نسائهن} أي ما تأخر عن المذكورين في الآية من أحفاد وفروع مهما نزلوا.
الآن إذا نظرنا إلى هذه الشهوة لوجدناها كامنة وراء التقدم الصناعي في إنتاج الأشياء “المتاع” فلولا هذه الشهوة لانخفض إنتاج معامل الألبسة مثلا وكل شيء يخضع للتجديد. هنا أريد أن أوضح أن المرأة ليست متاع الرجل والرجل ليس متاع المرأة وإنما علاقة الرجل بالمرأة هي علاقة حب ومودة ورحمة {وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم 21)، {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة 187).
– البنون: جاءت من الأصل “بنن” وتعني اللزوم والإقامة، وعندما يتزوج الذكر فإنه يبني على الأنثى وكان يبنى له خيمة منفصلة عند العرب، أما لفظة الابن فقد جاءت من “بنو” وهو نا لتوليد وجمعها أبناء فنقول ابن فلان وابن المدينة وابن القرية. فالمعنى الحقيقي للبنين هو من اللزوم والإقامة وهذه هي صفة الأبنية والبنيان، وقد جاءت في المعنى الحقيقي في قوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 133) هنا ربط البناء بتذليل الأنعام فلولا تذليل الأنعام لما استقر الإنسان وبنى له مسكنا. وقوله: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46) فالبنون هنا هي الأبنية منا للزوم والإقامة وليس الذكور منا لأولاد والمال كل ما يمول به الإنسان من نقد ومواد تحويلية فقوله: {والبنون} يعني الأبنية التي هي المواد غير المنقولة.
هنا لاحظ كيف تطابقت هذه الآية مع آية الشهوات حيث شهوات الإنسان أشياء منقولة وغير منقولة وهذه الأشياء متاع الحياة الدنيا وزينة الحياة الدنيا “هنا لاحظ كيف تمت وحدة الموضوع في الآيات وكيف أصبح الخبر موضوعا صادقا”. فإذا سأل سائل: لماذا هذا التعقيد؟ أقول هذه الآيات من القرآن والقرآن كله متشابه “انظر فصل إعجاز القرآن”.
– القناطير المقنطرة منا لذهب والفضة: فالقناطير جمع قنطار، والقنطار جاء من المجموعة التي لها انحناء، فإذا جمعنا كميات من القمح أو التمر أو الشعير فإن تجمعها يأخذ شكل منحن ومن هنا جاءت المقنطرة أي ذات الانحناء كما نقول أيضا القناطر الخيرية أو الجسور التي لها أقواس “قناطر”.
فيصبح معنى القناطير المقنطرة من الذهب والفضة هي العدد الكبير منا لحلي المصنعة منا لذهب والفضة والمصنعة بأشكال هندسية فيها منحنيات. فإذا نظرنا إلى أنواع الحلي المصنعة في العالم وجدنا أنه لا يوجد قطعة من الحلي ليس فيها شكل منحن “قنطرة” كالخواتم وعقود الرقبة وأقراط الأذنين والأساور في اليدين. هنا نستنتج نتيجة هامة بأن الإنسان يشتهي الذهب والفضة بعد تصنيعهما أي بعد وضع جهد وفن الإنسان فيهما لا في حالتهما الطبيعية وهما في باطن الأرض.
– الخيل المسومة: الخيل المدربة والمعلمة المرباة كقوله تعالى: {مسومة عند ربك} (هود 83) نرى إلى يومنا هذا أن الخيل المسومة هي منا لشهوات التي لا يستطيع إشباعها أي إنسان.
– الأنعام: وتشمل مواشي الركوب ومواشي إنتاج اللحم واللبن اللذين يعتبران الغذاءين الرئيسين للإنسان.
– الحرث: من “حرث” ولها في اللسان العربي أصلان: الأصل الاول الجمع والكسب ومن هذا المعنى سمى الرجل “حارث” لأنه يجمع المال ويكسبه. من هذا المعنى للجمع والكسب جاء مفهوما لمنافع والحوافز المادية للإنسان في الدنيا والآخرة لقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب} (الشورى 20). هنا جاءت الحرث في الجمع والكسب على معنى العموم في الحوافز المادية بكل أنواعها بما فيها حوافز الثواب المادي في الآخرة وقد جاء الحرث بمعنى الجمع والكسب على معنى الخصوص بمفهوم المحصول الزراعي الذي يدخل عمل الإنسن فيه لا الغطاء النباتي للأرض ولا الأرض الزراعية لذا قال: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} (الواقعة 63-64) فالحرث هنا ما يجنيه الإنسان من محصول من العمل في الزراعة.
ولكي يبين أن الأرض غير الحرث قال: {إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} (البقرة 71) هنا لاحظ كيف فرق بين الأرض والحرث وربط فعل السقاية مع الحرث أي أن الحرث هو نتاج زراعي يحتاج إلى سقاية. وجاءت في هذا المعنى بقوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} (الأنعام 136) وقوله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} (الأنبياء 78).
أما قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} (البقرة 223) هذه الآية تحتاج إلى تأويل.
لنأخذ الآية التي قبلها وهي: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (البقرة 222) في هذه الآية بين الله سبحانه وتعالى لنا اعتزال العلاقة الجنسية زمانا وهو زمن الحيض بقوله: {فاعتزلوا النساء في المحيض} وشرح لنا العلاقة الجنسية مكانا بقوله: {فأتوهن من حيث أمركم الله} أما الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} (البقرة 223) هذه الآية ليس لها علاقة بالعلاقة الجنسية بقوله تعالى “أنى شئتم” لأن الآية التي قبلها حددت المكان والزمان في العلاقات الجنسية بشكل نهائي وكامل.
ولنلاحظ كيف أتمها بقوله: {وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} (البقرة 223) فهنا النساء تأتي بمعنى الأشياء المحدثة المستجدة فقال عنها إنها “حرث لكم” وهنا استعمل صيغة الجماعة للدلالة على الذكور والإناث معا لأنه في اللسان العربي يمكن أن يوجه الخطاب إلى الذكور والإناث معا بصيغة الذكورة كقوله: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون 1) فهنا المؤمنون هم الذكور والإناث وقوله: {وكنت من القانتين} (التحريم 12) أي مريم كانت من القانتين من الذكور والإناث.
هذه الأشياء المستجدة قال عنها إنها حرث للناس أي هي من الأشياء المادية التي يحب الناس أن يجمعوها ويكسبوها، وقد أباح الله سبحانه وتعالى لنا استعمالها متى نشاء وكيف نشاء أي “أنى” زمانية مكانية. وبما أن هذا الحرث هو من متاع الدنيا قال: {وقدموا لأنفسكم واتقوا الله} (البقرة 223) أي علينا أن نتقي الله في استعمال هذه الأشياء وألا ننسى حقوق الله فيها وألا ننسى الآخرة وهذا واضحة في سورة المزمل بقوله: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (المزمل 20).
أما الأصل الآخر للحرث فهو إهزال الشيء أي جعله هزيلا.
وهكذا نرى أن لفظة النساء في الكتاب جاءت بمعنى جمع نسيء لا جمع امرأة في الآيات التالية:
- الآية 223 من سورة البقرة.
- الآية 14 من سورة آل عمران.
- الآية 31 من سورة النور “بمعنى الأحفاد أي ما تلى المذكورين أعلاه من الذكور”.
- الآية 55 من سورة الأحزاب “بمعنى الأحفاد” أي ما تلى المذكورين أعلاه من الذكور.
الفرع الثاني: أسس النظام الاقتصادي في الإسلام
إن الشهوات الإنسانية المذكورة هي من الأشياء المتمكنة في سلوك الإنسان وهي من العناصر الرئيسية الموجهة له في سلوكه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فعلى أي نظام سياسي اقتصادي مبني على أسس إسلامية أن يأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1 – إن الإنسان يشتهي التجديد وكل جديد في الأشياء، فعلى أي تخطيط اقتصادي أن يأخذ هذا بعين الاعتبار بالنسبة لإنتاج السلع كما وكيفا وبالنسبة للعملية الإنتاجية نفسها وإلا فإنه سيفقد أهم حافظ من حوافز رغبة الناس في شراء السلع، وهكذا تعمل عملية الإنتاج وتبادل السلع بكل جد ونشاط وإذا لم يحصل ذلك فإن عملية البيع والإنتاج ستتم بالإكراه بغض النظر عن الطروحات وشعارات الدولة إسلامية أم غير إسلامية. علما بأن الشهوات مرتبطة بشكل مباشر بالمستوى المعرفي للإنسان، فكلما زادت معرفته تشعبت شهواته.
2 – إن مبدأ الحوافز المادية في الجمع والكسب “الحرث” هو أساس كل نظام اقتصادي مبني على النهج الإسلامي، فبدون هذا المبدأ يفقد الإنسان اهتمامه بالعمل والإنتاج.
3 – إن ملكية الأبنية السكنية والأشياء ومستجداتها من أثاث ولباس ووسائل رفاهية ووسائل الاتصال الشخصية “السيارات مثلا” والحلي تدخل تحت بند الملكية الشخصية للإنسان ولا يحق لأحد أن يتدخل فيها.
4 – إن ملكية المواشي “وسائل إنتاج اللحم واللبن” تدخل تحت بند الملكية الخاصة لأنها كائنات حية تحتاج إلى حب ورعاية وعناية والشروط التاريخية الموضوعية تنظم شكل هذه الملكي وضوابطها.
5 – لقد فصل الإسلام بين الأرض كملكية وبين المحصول الزراعي كنتاج عمل وجهد وتنظيم وإدارة، والشروط الموضوعية التاريخية هي التي تحدد شكل الربط بين المحصول الزراعي والأرض. أي أن المصحول الزراعي يجب أن يكون ضمن الملكية الخاصة لأنه نتاج عمل وجهد والمزروعات كائنات حية تحتاج إلى رعاية خاصة. أما شكل الربط التاريخي فحسب الشروط الموضوعية حيث يكون بالشكل الذي يساعد على تطور الإنتاج وزيادته وفعالية استثمار الأرض.
وإذا كان هذا الشكل الذي نختاره لا يحقق التطور والزيادة والفعالية فعلينا كمسلمين أن نحنف عنه “نميل عنه” بدون أي حرج لأنه يجب علينا أن لا ننسى أثناء تخطيطنا الاقتصادي أننا أمة ذات ملة حنيفية. أما بالنسبة للأرض بعد إشادة المباني السكنية عليها فإن بيوت السكن تدخل تحت بند الشهوات المشروعة لا الأرض التي تبنى عليها المساكن.
6 – إن المواد الخام الطبيعية منغابات ونفط وخامات معدنية ومراع لا تدخل تحت بند الشهوات وإنما تدخل تحت هذا البند بعد تصنيعها وقلبها لى سلع “متاع” والظروف الموضوعية التاريخية تحدد شكل ملكيتها.
7 – إن النظام الإسلامي يقوم على أساس عدم الإفراط والتفريط في البنود أعلاه، أي عدم السرف والترف، والسرف هو الزيادة في استهلاك الحاجات والطعام والشراب، والترف هو الاختصاص بالنعم على ناس دون غيرهم “طبقة المترفين” أي عدم تكافؤ الفرص.
8 – إن بند الشهوات هو أحد البنود الحنيفية من الإسلام، لذا يجب أن تكون نظرتنا إلى هذه الأمور وتشريعاتنا الناظمة لها حنيفية أيضا أي عندما نرى أن أي تشريع من التشاريع المتعلقة بهذه البنود لا يتناسب مع الواقع أو يعرقل مسيرة النمو والتقدم والرفاهية، فما علينا إلا أن نحنف عنه “نميل عنه” وإلا ستنطبق علينا الآية {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة 130) فنصبح من السفهاء أي “المجانين المتخلفين عقليا” لأن الحنيفية هي أساس النهج التقدمي في العالم كله.
9 – فيما يتعلق بالنظام المصرفي والفوائد حيث يعتبر من أساسيات النظام الاقتصادي في أية دولة فقد شرحته في فصل الحدود.
10 – إن علاقة النشاط الواعي للإنسان مع الأرض يجب أن تكون علاقة مسؤولة، فلا يحق للإنسان أن يفسد الدورات الطبيعية للأرض من مناخ ورطوبة ومياه من جراء إقامته فيها لقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (هود 85-الأعراف 74) والأرض بما فيها من أنظمة حياتية معقدة هي مكان إقامة النسان ونشاطه الواعي ومصدر حياته، وقد أعطانا الله هذه الأرض أمانة بأيدينا لكي نعمرها ونستفيد منها {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} (هود 61) وقد خلق الله الأرض وأنظمتها بشكل أنها قادرة على أن ترمم نفسها وتحافظ على صحتها، والمشكلة هي الإنسان ذو النشاط الواعي غير المسؤول والذي من جراء نشاطه هذا قد يؤدي إلى إفساد الأرض “مرضها” فعلى كل البرامج الاقتصادية في التنمية والاستثمار أن تأخذ هذه الناحية بعين الاعتبار لأن مرض الأرض من جراء عبث الإنسان فيها سيؤدي إلى دمار الإنسان نفسه وتعتبر هذه الظاهرة اليوم هي من التناقضات الرئيسية في العالم كله من مشاكل تلوث بيئة وتصحر.
11 – إن أي طرح للعدالة النسبية لا يأخذ بعين الاعتبار البنود الواردة أعلاه فهو طرح طوباوي لا معنى له ومآله إلى الفشل لا محالة حيث أن قوانين الوجود وفطرة الإنسان المنسجمة معها لا تكذب على أحد ولا تغش أحدا وبنفس الوقت لا تساير أحدا. لذا وجب علينا معرفتها وطرح شعارات العدالة النسبية من خلالها لا من خراجها. وإذا تم الطرح من خارجها فنكون قد وضعنا القانون الأخلاقي بشكل متصادم ومعاكس للقانون الموضوعي، فنقع في الوهم ومضيعة الوقت والمال والأنفس.
الفرع الثالث: أسس المفاهيم الجمالية في الشهوات الإنسانية
بما أن الشهوات الإنسانية نتجت عن معرفة الإنسان بالموجودات المحيطة به وهي من نتاج نفخة الروح، حيث أن هذه النفخة نتج عنها الفكر وارتباطه باللغة وقدرة الإنسان على التجريد بالمعرفة والتشريع، فقد تطور مفهوم الجمال مع المعرفة وظهرت المفاهيم الجمالية المعرفية خلال السياق التاريخي للتطور الإنساني، ورافق هذا التطور المعرفي تطور المعايير الجمالية والأخلاقية، فجاءت المعايير الأخلاقية في الوصايا.
وبحثنا الآن هو نشأة المعايير الجمالية وتطورها وترافقها مع المعرفة الإنسانية. وبما أن المعرفة الإنسانية هي خاصية تتبع جدل الإنسان فكذلك المعايير الجمالية فهي خاصية تتبع جدل الإنسان، فما هو تعريف الجمال؟
من الناحية الجدلية الجمال والقبح هما نقيضان يوجدان في النفس الإنسانية المدركة ويظهر التعبير عنهما والجدل بينهما حسب درجة وعي الإنسان للعالم الموضوعي الذي يعيش فيه ويمارس نشاطه ضمنه كظواهر متصلة بعضها ببعض “الكلي” وكظواهر منفصلة بعضها عن بعض “الجزئي” ضمن وحدة جدلية الانفصال والاتصال للموضوع التي ينتج عن وعي الإنسان لها الحركة المستمرة للجمال والقبح “الحنيفية” فكلما زاد وعي الإنسان لهذه الظواهر الموضوعية منفصلة ومتصلة تتغير مفاهيم الجمال والقبح عنده.
أما الأخلاق فهي مفاهيم ذاتية تنتمي إلى جدل الإنسان ولكنها منفصلة عن مفاهيم الجمال والقبح حيث أنها تحمل الطابع الكوني الشمولي وهي قيم ذاتية تؤثر في طريقة التعبير عن مفاهيم الجمال عند الناس، أي أن الأخلاق مرتبطة مع الجمال بعلاقة عضوية مؤثرة غير تناقضية. إن جميع الفنون الإنسانية قاطبة ظهرت من خلال المنفصل والمتصل والكلي والجزئي.
قبل أن نبدأ ببحث الجمال ومركباته بعد أن عرفناه علينا الإجابة على السؤال التالي:
هل خلق الله الكون والإنسان من أجل الجمال؟ أي هل هناك غاية جمالية في الطبيعة؟ فإذا كان كذلك فهذا يعني أن للجمال وجودا مطلقا ويفقد الجمال مفهوما لنسبية والتطور وتصبح غاية المعرفة الإنسانية هي التعرف على جمال الطبيعة المطلق الموجود خارج الوعي، فبذلك تدخل علوم الفلك والفيزياء والكيمياء والطب تحت علم الجمال.
لقد أدرك الإنسان مفهوم الجمال المتطور دائما. من خلال إدراكه لقوانين الجدل المادي في الوجود (الثنائية التناقضية والزوجية والضدية) التي تحكم الأشياء وظواهرها. فعندما ينظر الإنسان إلى ظواهر الطبيعة ومركباتها ويرى أن كل عنصر يقوم بوظيفته ضمن قوانين ناظمة له فإن هذا الإدراك يولد الشعور بالجمال في جدل الإنسان. فعندما ننظر إلى العيون ذات الألوان والأبعاد الطبيعية ثم ندرك أن هذه العيون فاقدة البصر فإنها تفقد جمالها في نظرنا، لأن العين في وعينا وجدت لتقوم بوظيفة الإبصار.
فالوظيفة هي أساس الجمال وبعد ذلك يأتي البعد والموقع ونوع المادة واللون التي هي مركبات الجمال، فالجمال شعور يتولد لدى الإنسان الواعي لذا فهو خاص ذاتية (Subjective) تتولد في الشعور الإنساني من جراء إدراك العالم الموضوعي والاجتماعي عندما يقوم بوظيفته التي نعيها طبقا لدائرة معارفنا، والقبح نقيض ذلك لذا فن مفهومي الجمال والقبح غير مستقرين بل متطوران مع تطور العلوم الطبيعية والاجتماعية “وهذه هي الحنيفية في الجمال).
لنر الآن ما هي المكونات الموضوعية للجمال عند الإنسان والتي من خلال وعيها والحاجة إليها نمت مفاهيم الجمال عنده وتقلمت “تميز بعضها عن بعض”. إن مادة الجمال والقبح أي الجانب الموضوعي هي: الأصوات، الحركة، الألوان، الخطوط، النص اللغوي “الكلمة، الشعر، النثر، الصياغة اللغوية”. والتي يظهر فيها كلها جدل الانفصال والاتصال الكلي والجزئي الموجودين في آن واحد في الموضوع المراد التعبير عنه فأول مادة من مواد الجمال والقبح هي الأصوات والحركات.
إن السبب في دمج الأصوات والحركات معا هو أنهما قديمين قدم الإنسان على الأرض، وهما موضوعان مارس فيهما الإنسان مفاهيم الجمال لأنهما يدخلان في تركيب جسم الإنسان ذاته أي هما أول ما عرف الإنسان، لأن له جهازا صوتيا، وأول ما ميز العالم الخارجي الأصوات، فهي وسيلة التمييز حيث كان تقليد أصوات الطبيعة والحيوان عند الإنسان لا يحتاج إلى وسيلة خارجية بل احتاج إلى جهاز صوتي موجود عنده، وكذلك أيضا الحركات فجسم الإنسان متحرك جيئة وذهابا يحرك يديه ورأسه ورجليه بمرونة كبيرة، لذا كانت ولا زالت الأصوات والحركات هي أكثر التعبيرات أصالة عن مفاهيم الجمال لقدمها، وكل الفنون التي تتعلق بالأصوات والحركات “الغناء والرقص والرياضة” هي من أكثر الفنون أصالة في تاريخ الإنسان. لذا لا يوجد شعب من شعوب الأرض من أكثرها بدائية إلى أرقاها تحضرا إلا عنده الغناء والرقص “الصوت والحركة”.
هذه الأصوات وعاها الإنسان منفصلة ومتصلة، فوعيه المنفصل لها جاء بتقليد الأصوات الطبيعية كل على حدة وهذا ما جاء التعبير عنه في الغناء المنفرد ووعاها بشكل متصل كمجموعة من الأصوات المختلفة النغم بعضها مع بعض في إيقاع أو بلا إيقاع، وهو ما جاء التعبير عنه أيضا في الغناء الجماعي والذي كان يمثل التعبير عن موقف اجتماعي أو سياسي أو أخلاقي. “ظهر هذا الموقف عند العرب في الهجرة النبوية عند استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بغناء جماعي معبرا عن موقف فكري وسياسي”.
أي أن الجمال الجزئي في الصوت والحركة “الغناء الفردي والرقص الفردي” جاء سابقا للغناء الجماعي والرقص الجماعي حيث أن الجماعية تحتاج إلى وعي متقدم على افردية وتحتاج إلى مفهوم وموقف مشترك بين الجماعة التي تؤدي الدور الغنائي والرقصي وبين الجماعة التي تشاهده ومع زيادة الوعي والحاجة إلى مواقف مشتركة ومفاهيم مشتركة أي زيادة درجة التقدم الاجتماعي عند الإنسان وزيادة التقدم العلمي بالموجودات “الأصوات، والحركات” نما وتشعب هذان الشكلان من الفنون، ففي جمال الأصوات حصل ما يلي:
ظهور الآلة الموسيقية التي بدأت بأشكال بدائية جدا كضرب العصا على الأرض وضرب العصا على عصا، أو ضرب كف على كف “التصفيق وهو أقدم تعبير موسيقي مازال موجودا عند الإنسان”، ضرب الرجل على الأرض ظهرت هذه الآلات مع نمو المعرفة الإنسانية بالإضافة إلى البذور الفطرية الجمالية في الإنسان، فظهر جمال الصوت في الآلات بأن أصبح هناك آلات ذات أصوات مختلفة، فهناك الآلات الوترية والنافخة والإيقاعية “الطبل وما شابه” بحيث أصبح لكل آلة صوت جمالي خاص بها وظهر مع ظهور هذه الآلات مفاهيم النوتة الموسيقية للتعبير عن وحدة الموضوع بين الجزئي والكلي، كل آلة على حدة، والكلي في الآلات المختلفة وهي تعمل بعضهامع بعضها الآخر للتعبير عن موضوع معقد، ولم تظهر النواحي الجمالية في الموضوع المعبر عنه إلا من خلال عمل الآلات ككل متصل، علما بأنه خلال العزف المتصل يظهر جمال المنفصل كل على حدة ضمن مقاطع منفصلة لكل آلة “البيانو الكمان، العود” من هنا كانت الموسيقى والغناء من أكثر الفنون أصالة عند الإنسان لأنها أقدمها ظهورا.
أما الحركات فقد مارسها الإنسان البدائي بشكل حركات طبيعية تشبه الحركات التي كان يمارسها في العمل والصيد والجماع الجنسي لذا كانت حركات فردية بالأساس ثم معنمو وعي العالم الموضوعي تطورت هذه الحركات وظهر منها نوعان من الفنون: النوع الأول الرقص، والنوع الثاني الرياضة، ففي البداية لم يجد الإنسان تمييزات واضحة بين الرقص كقيمة جمالية وبين الرياضة حيث أنهما كانا مندمجين بعضهما ببعض، ثم ظهر الانفصال بينهما “التقليم” من جراء تقدم المعرفة الإنسانية وبالتالي تقدم التقليم بين الأشياء ومن ضمنها الحركات.
فبتقدم الحركات إلى الرقص نتج نوعان من الرقص: الرقص الفردي والرقص الجماعي وهذا واضح في الرقص العربي وفي رقص الباليه وفي دور الراقصة الرئيسية في الرقص الجماعي وهذا واضح في تناسق الحركات بين الفردي والجماعي أي بين الواحد والمجموعة.
أما في الرياضة فقد ظهر بشكل واضح أكثر بين الرياضة الفردية والجماعية، فقد ظهرت الرياضة الفردية عند الشعوب قبل الرياضة الجماعية لأن الرياضة الجماعية تحتاج إلى وعي لتتقدم على الرياضة الفردية، فالرياضة الفردية ظهرت في ألعاب القوة والقوى والسباحة والسباق، والرياضة الجماعية ظهرت في ألعاب الكرات المختلفة. وفي الرياضة الفردية يظهر جمال الجزئي في الأداء، وفي الرياضة الجماعية يظهر جمال الكلي في التناسق والإيقاع في إخراج الموضوع “كرة القدم يظهر الموضوع في تسجيل الهدف” والجزئي في اللاعبين ذوي الأداء المتميز “المهارات الفردية”.
أما عندما ندمج الصوت والحركة معا فيظهر تعقيد إخراج الموضوع في الصوت والحركة وهذا واضح في فن الباليه. وبما أن الرياضة تعتمد فقط على جمال الحركة وبلوغ الهدف فيمكن أداؤها دون أصوات موسيقية حتى يومنا هذا، علما بأنه يمكن مواكبة صوت البيانو مع بعض الحركات الرياضية المحدودة.
لنأخذ الآن موضوع الألوان والخطوط حيث تعتبر من المواضيع التي اهتم بها الفن التشكيلي (الرسم والنحت وفن العمارة).
لقد تم دمجها بعضها ببعض لأن لها بداية تاريخية واحدة وهي كما ورد في قوله تعالى: {والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} (النحل 81).
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها واوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين} (النحل 80).
لقد عاش الإنسان قبل أنسنته عندما كان بشرا في الغابات وعندما بدأ ظهروا الوعي وبدأ عملية الأنسنة كان يعيش في الغابات “جنة آدم” لقوله: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} (طه 118)، {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} (طه 119) ففي هذه المرحلة كانت الغابات تؤمن له المأوى {والله جعل لكم مما خلق ظلالا} (النحل 81) وكانت تؤمن مرحلة حياتية متصلة مع المرحلة البهيمية، ثم انتقل بعد ذلك إلى العراء وكانت المرحلة الثانية مرحلة العراء والسعي وراء الطعام وهي مرحلة الصيد وكان سكن الإنسان في هذه المرحلة هو الكهوف {وجعل لكم منا لجبال أكنانا} (النحل 81).
فعندما سكن الإنسان الكهوف منتقلا من مرحلة الغابات عاش في جماعات متفرقة وكان عارياً لذا ذكر بعدها {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} (النحل 81) لأن الإنسان في بداية حياته في الغابات والكهوف كان يعيش في مناطق حارة ولم يصل بعد إلى المناطق الباردة. ففي البداية كانت للكهوف وظيفة عضوية فقط ضمن الحاجة الملحة آنذاك وهي الوقاية والاختباء من الأعداء ومن ظواهر الطبيعة والحيوانات المفترسة، وهكذا كان وعي الوظيفة العضوية للعمارة “وعي الجزء” سابقا عن وعي الكل وهو انسجام الجزء مع المحيط الخارجي، أي انسجام الكهف مع المحيط الخارجي له علما بأن هذا الانسجام كان موجودا، ولكن لم يلحظه الإنسان لأنه لم يكن بحاجة إليه ولأنه لم يصل بعد مرحلة التجريد الجمالي حيث كان في مرحلة المجسم الوظيفي.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ظهر الفن التشكيلي في مرحلة سكن الإنسان في الكهوف لسبب اساسي جدا وهو التعبير حيث كان الإنسان يتكلم وعنده جعبة معينة نا لكلمات للتعبير، والمعروف أن أساس الكلام إلى يومنا هذا هو الصوت فكان الإنسان يصدر تعابير صوتية “كلاما” ولكنه لا يعرف الأبجدية وهنا يكمن بيت القصيد، إذ أن الإنسان تكلم ووعى بعض الأجزاء المجسمة للعالم الخارجي “أشجار، حيوانات… الخ” وأصدر لها تعابير صوتية تدل عليها ولكنه كان عاجزا عن التسجيل إذ لا يوجد عنده أبجدية، فرسم ما اراد أن يعبر عنه من مجسمات بخطوط بدائية بسيطة تنسجم مع وعيه ومع آلة الإنتاج لديه “أداة الحفر أحجار منحوتة” فكانت بداية الفن التشكيلي عند الإنسان هي بديل الأبجدية، لذا فإن الفن التشكيلي “رسم ونحت” يعتبر من أقدم الفنون أصالة عند الإنسان بعد الحركة والصوت ولكنه قبل فن الكلمة “الشعر والأدب”.
ونلاحظ هذا حتى يومنا هذا، إذ أن الطفل يرسم قطة أو كلبا بخطوط قبل أن يستطيع أن يكتب كلمة قطة أو كلب بحروف أبجدية. والأبجدية القديمة هي أقرب إلى لامجسم “الأبجدية الفؤادية” منها إلى المجرد. مثال ذلك الأبجدية المصرية القديمة “الهيروغلوفية” واللغات التي ليس لها أبجدية مثل الصينية. وأثناء سكن الإنسان في الكهوف بدأ باستعمال السرابيل للوقاية من الحر وهي عبارة عن جلود الحيوانات التي وضعها الإنسان على جسده بدون مخيط. لذا قال “سرابيل” وذلك واضح في قوله تعالى: {سرابيلهم من قطران} (إبراهيم 50) فالقطران لا يخاط ولا يفصل، والسرابيل هي مواد للوقاية ولكن بدون تفصيل وخياطة، إذ أن الإنسان في هذه المرحلة لم يعرف المخيط بعد، ففي الآية رقم 81 من سورة النحل تظهر وحدة الموضوع وهو مرحلة الإنسان القديم في الغابات والكهوف.
ثم انتقل الإنسان بعد ذلك إلى مرحلة السكن في البيوت، والسكن من “سكن” وهو الهدوء والراحة، والسكن هو الوظيفة الأساسية للبيت. هذه البيوت كانت متنقلة أو ثابتة ولكن لها نفس الوظيفة “السكن” كانت من جلود الأنعام ولا وانتقل اللباس من السرابيل إلى أصواف وأوبار وأشعار الأنعام ولكن هذا الاستعمال هو مرحلة من حياة الناس وليس إلى أن تقوم الساعة لذا قال: {أثاثا ومتاعا إلى حين} (النحل 80) وهنا نرى كيف لعبت الأنعام “تذليل الأنعام” دورا أساسيا في حياة الإنسان، إذ أنها كانت طعاما له واتخذ من جلودها لباسا وسكنا ومن وبرها لباسا، وقد لعبت الدور الحاسم في الانتشار الواعي للإنسان عبر الأرض {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} (النحل 7) حيث كان لها الدور الحاسم في استقرار الإنسان وفي تنقله، واستمرار هذه الوظيفة حتى نهاية القرن الثامن عشر، ولازالت الأنعام تلعب اليوم الدور الحاسم في طعام الإنسان {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} (النحل 5).
من هذا العرض التاريخي نرى أن لخطوط والألوان أخذت تتطور باتجاهين:
- الخطوط: 1- الكتابة 2- الفن التشكيلي 3- الفن المعماري.
- الألوان: 1- الفن التشكيلي، 2- الفن المعماري.
والذي يجمع بين الخطوط والألوان معا فقط هو الفن التشكيلي، إذ أنه يتشكل من خطوط وألوان فقط ليعبر عن موضوع معين فهو فن تعبيري كالكتابة تماما.
أما الخطوط والألوان مضافا إليها المادة فأخذ التعبير عنها في فن النحت. وأما الخطوط والألوان والمادة مضافا إليها الحركة فتم التعبير عنها في فن العمارة.
فيمكن أن نجري التصنيف التالي:
- خط فقط = أبجدية + فن تشكيلي بدائي.
- خط + لون = فن تشكيلي.
- خط + لون + مادة “رخام، حديد، برونز” = نحت.
- خط + لون + ماد + حركة = فن عمارة.
أما مراحل السكن فقد مرت بالمراحل التالية. هنا يجب أن نميز بين البيت والسكن، فالبيت هو مكان السكن، والسكن هو وظيفة هذا المكان. فهذه المرحلة هي:
- مرحلة سكن الغابات وهي المرحلة التي بدأ بها الانتقال من الحالة البهيمية “البشر” إلى الأنسنة وكان فيها العمل يدويا بحتا يعتمد على ما تلتقطه يداه من الغابات وما تفترسه يداه من الحيوانات وكان لاحما نباتيا عرايا “أي كان نشاطه مقتصرا على الصوت والحركة الجسدية”.
- مرحلة سكن لكهوف وفيها بدأ باستعمال وسائل الإنتاج البدائية “الأحجار” أي كان نشاطه فقط مقتصرا على الحركة والأصوات والخطوط البدائية بداية الفن التشكيلي وفيها بدأ باستعمال اللباس بدون مخيط وكانت مرحلة صيد الأنعام وغيرها حيث كانت برية غير مذللة. ونعتقد أن الإنسان اكتشف استعمال النار في هذه المرحلة.
- مرحلة سكن البيوت الثابتة أو المتنقلة، في هذه المرحلة كان قد ذلل الأنعام واستخدما للباس المخيط، وفي هذه المرحلة ظهرت الكتابة والألوان وظهرت العمارة كفن منفصل وظهرت الزراعة في بعض المناطق كنتيجة ضرورية لتذليل الأنعام كما في قوله تعالى: {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} (الزخرف 12).
{لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} (الزخرف 13). هنا لاحظ وظيفة الأنعام: 1- الطعام، 2- المواصلات، 3- اللباس.
ولكن قوله تعالى: {إذا استويتم} هنا استعمل “إذا” أي أن الإنسان عرف الأنعام ولكن بين معرفته للأنعام وبين تذليله لها مضى وقت طويل لذا قال: {إذا استويتم} ولو أن الإنسان استوى على الأنعام مباشرة حين معرفته لها لقال “إذ استويتم” عوضا عن “إذا استويتم” هنا حسب ترتيب الآية وضع الفلك قبل الأنعام، فإذا أخذنا هذا الترتيب من الناحية الزمنية فهذا يعني أن الإنسان ركب الماء قبل أن يذلل الأنعام “فبركوب الماء وتذليل الأنعام انتشر الإنسان في الأرض” وهذا الترتيب منطقي من الناحية الموضوعية، فربط قطعتين من الخشب بعضهما ببعض بوسائل بدائية أسهل على الإنسان من تذليل حصان وحشي لأنه حتى يومنا هذا تستطيع أية مجموعة من الناس لا على التعيين وبدون خبرات مسبقة أن تربط قطع خشب ببعضها بوسائل بدائية “أدوات حجرية وألياف طبيعية” ولكن لا تستطيع أية مجموعة من الناس تذليل حصان وحشي ودون خبرة مسبقة وإني أرى هذا الترتيب منطقيا من الناحية العلمية، لذا نرى أن أول سفينة صنعها الإنسان هي فر قوم نوح {ويصنع الفلك} (هود 38).
بوسائل إنتاج بدائية “أحجار” وألياف طبيعية لقوله تعالى: {وحملناه على ذات ألواح ودسر} (القمر 13) والدسر هي الألياف الطبيعية الطرية. هذا في قوم نوح، أما قوم عاد الذين جاؤوا بعد قوم نوح من الناحية الزمنية قال: {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 132-133) الأنعام والأبنية، لاحظ الربط بين الأنعام والأبنية حيث كانت معلومة لديهم من هود لأنه قال: {مدكم بما تعلمون} (الشعراء 132).
علما بأنه لم يذكر الأنعام مطلقا مع قوم نوح، حيث قال عند نوح: {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح 12) وهنا قال: {أمدكم} حيث لم يكن في زمن نوح أموال وبنون ولكن هذه كانت من نبوة نوح. أي ن بداية الاستقرار وتذليل الأنعام والبناء كانت من عاد الأولى أي عاد قوم هود.
أما الآن فلنأخذ العلاقة الجدلية في الجزء والكل “المنفصل والمتصل” في العناصر المذكورة أعلاه أي الخطوط والألوان والمادة والحركة.
– الخطوط: قلنا إن الخطوط هي بدايات الفنون التشكيلية، فبدأت الخطوط بداية وظيفية تعبيرا عن شيء مادي مجسم بطريقة بدائية، في هذه المرحلة لم يكن للمفاهيم الجمالية أي وجود منفصل في الفكر الإنساني وإنما كانت الحاجة هي الدافع لذلك ففي هذه المرحلة كانت الوظيفة والجمال في حالة دمج كامل دون وجود أي تمييز بينهما وذلك لسببين هامين:
- قصور المعرفة الإنسانية حيث كانت مقتصرة على الإدراك الفؤادي أي معرفة المجسمات من ظواهر الطبيعة والحيوانات والأشجار والتي كان يحتاجها الإنسان ويخافها أحيانا علما بأنه في هذه المرحلة كانت الأصوات المتميزة موجودة لدى الإنسان أي أنه قادر على إصدار أصوات متمايزة وعنده جعبة معينة من الكلمات وكان التجريد في بدايته “أي وجود مفهوم الذنب والتوبة” وهو من أقدم المفاهيم المجردة عند الإنسان وسبق مفهوم القبح والجمال وهذا المفهوم المجرد للذنب والتوبة مرتبط مع الخوف من الطبيعة والحاجة إيها وهنا حصل هذا التشويش في الفكر الإنساني في الخلط بين الله سبحانه وتعالى وبين ظواهر الطبيعة فظهرت الوثنية الطبيعية التي تعتبر أقدم مرحلة من مراحل الوثنية وهي وثنية قوم نوح.
- قصور وسائل الإنتاج والمواد المتوفرة فالمفاهيم الجمالية بالإضافة إلى المعرفة تحتاج إلى وسيلة إنتاج مثل الإزميل والفرشاة وتحتاج إلى مواد مثل الطين والأصبغة.
لقد بدأ التمايز في الخطوط بين الوظيفة والجمال في مرحلة لاحقة وذلك عندما بدأ الإنسان باستعمال الخطوط من الناحية الوظيفية فقط في اختراع الكتابة، ومن الناحية الجماية في الرسم علما بأن هناك مرحلة انتقالية خلط فيها بين الكتابة والرسوم مثل الأبجدية الهيروغلوفية، وهذا ما تؤكده الحضارات القديمة في مصر والصين والهند وما بين النهرين.
إن الإنسان بدأ بالتمييز بين الكتابة والرسم في مرحلة متأخرة وليس ما قبل التاريخ، أي فيمرحلة كان فيها مستقرا يعرف الزراعة والبناء “الأنعام والبنين”. في هذه المرحلة الحضارية بدأ التمييز بين الكتابة والفن التشكيلي والنحت والعمارة.
ففي الخطوط فقط “الأبجدية” ظهر الجمال منفصلا في الحرف وهذا ما نراه حتى يومنا هذا إذ أن معظم أبجديات أهل الأرض مقطعة كل حرف على حدة وكانت الغاية الجمالية بكل حرف على حدة ولم يظهر الكلي والجزئي إلا في أبجديات مثل الأبجدية العربية حيث يكون الحرف وحده وحدة جمالية وفيها الحرف المتصل مع الحرف في الكلمة والجملة، وهذه الخاصية أتاحت للخط العربي أن يكون فنا قائما في ذاته أي لو كان الخط العربي منفصلا فقط لما ظهر الفن المتقدم في هذا الخط.
حيث نرى في الآثار العربية إلى يومنا هذا لوحات الخط كظاهرة فنية قائمة في ذاتها وبارزة كثر بكثير من مثيلاتها في الحضارات الأخرى لأنها حوت جمال المنفصل والمتصل حيث أنهما موجودان في بنية الخط العربي، وهذا أيضا انعكس على الرسوم الهندسية في حفر الخشب والأحجار حيث نرى أنها عبارة عن تداخل الخطوط بعضها ببعض لتعطي جمالا في الشكل الهندسي المنفرد “مربع، دائرة، معين..” وفي النسب بين أبعاد الشكل وجمال المتصل في ربط الأشكال الهندسية بعضها ببعض وما هي إلا تطوير لجمال الخطوط الأبجدية على الأشكال الهندسية المعروفة حيث أننا نرى إبداع الفن العربي في الخط والأشكال الهندسية ونسبها وبروزه في الحضارة العربية عنه في بقية الحضارات. وهكذا نرى أن بداية الخطوط كانت وظيفية بحتة ثم أضيفت إليها النواحي الجمالية، فالوظيفة هي الأساس والجمال هو العرض الطارئ على الوظيفة والمتطور طبقا للحاجة والوعي الوظيفي.
– الفن الثاني من الخطوط هو الفن التشكيلي “الرسم”:
قلنا إن بداية الرسم كانت وظيفية بحتة وهي كظاهرة بديلة عن الكتابة وسابقة لها. ولكن بعد ظهور الكتابة انحسر دور الرسم كوظيفة وبقي كتعبير رمزي في البداية ثم كتعبير رمزي وجمالي فيما بعد.
فالتعبير الرمزي للرسم كان يتمثل في العقائد الوثنية حيث صار الإنسان يرسم تصورات عن الآلهة وعن الحياة وعن الموت وعن القحط والإخصاب وهذا نراه واضحا في الحضارة المصرية التي ملأت الرسوم مدافنها ومعابدها ثم استعملت أيضا الرسوم للتعبير عن الشجاعة والانتصارات العسكرةي في المعارك وهذا واضح في حضارات ما بين النهرين حيث كانت الرسوم تعبيرا عن موضوع معين وكانت تعبيرا عن وظيفة معينة ترمز لعقيدة أو سلوك والمفهوم الجمالي كان ثانويا في هذه المرحلة، فالجزئي في هذه الرسوم كانت عناصر الموضوع نفسه كالجندي والسيف والقائد والسهم، والكلي كان الموضوع نفسه المعركة والنصر، والجزئي كان أيضا عناصر الحياة بعد الموت، والكلي هو موضوع الحياة بعد الموت.
أي أن الرسم تطور مع تطور العقائد الدينية والوثنية حتى بلغ قمته في العالم القديم في الحضارة الرومانية والحضارة الإغريقية وهذا ما أثر تأثيرا بالغا على الفن الكنسي عندما تبنت الدولة الروماني الديانة المسيحية حيث نرى أروع اللوحات الفنية هي لوحات متعلقة بالعقيدة الدينية المسيحية وتعبر عنها إلى أن جاء عهد النهضة واتجه الفن اتجاها جماليا في الفنون التشكيلية التي تعبر عن الجمال في الطبيعة والإنسان والمواقف الإنسانية.
أما الخطوط والألوان معا، فقد استعملت الألوان حين توفرها لأنها بحاجة إلى معرفة وإنتاج وكان استعمالها متوقفا على توفرها ولكنها أعطت تميزا واضحا للأشكال المرسومة.
– الخطوط والمادة “النحت”:
استعمل فن النحت انطلاقا من وعي الإنسان للنسب البعدية وتقدم آلة الإنتاج الإزميل والمطرقة. وقد وعي الإنسان النسب البعدية قبل تقدم وسائل الإنتاج وذلك بأنه باشر باستعمال النحت من الطين، إذ بدأ بفن المجسم من مواد أولية متوفرة في الطبيعة بكثرة وقابلة للطواعية باليد أو بأبسط أدوات الإنتاج وهذا واضح في أن عصر النحت الطيني الفخاري سبق عصر النحت الحجري ولا عجب أن أول الكتابات نقشت على الطين وهكذا يعتبر الطين أول ما استعمل من الأدوات القرطاسية، فالقرطاس بدأ بالطين ووصل إلى شريط الفيديو ولوحة الكومبيوتر في يومنا هذا، فالطين قراس وشريط الفيديو قرطاس أيضا من حيث الوظيفة “القرطاس هو ما يسجل عليه” هنا نرى أن بداية فين النحت كانت وظيفية بحتة لأن الضرورة الأولية لها هي حاجة الإنسان إلى القرطاس ليسجل عليه.
من هذه النقطة بدأ النحت يتطور مع تطور وعي الإنسان للنسب البعدية وتطور أداة الإنتاج بحيث بدأ الإنسان يتعامل مع مواد غير الطين مثل الحجر والرخام علما بأن العرب في شبه جزيرة العرب كانوا بدائيين جدا في فن النحت والخط والرسم حتى ظهور الإسلام.
وقد وجه الإسلام الطاقات الفنية الهادفة طبقا لمستوى التطور التاريخي الذي كان يعيشه العرب.
ومع تطور النسب البعدية وأدوات الإنتاج تطور النحت وابتعد عن مفهوم القرطاس ليعبر عن مفاهيم جديدة دينية واجتماعية وذلك في العقائد الوثنية القائمة على تعدد الآلهة، فأصبح لكل إلاه نحت خاص به، وفكرة النحت للآلهة إلاه المطر والحب وإلاه الجمال…الخ هذه التعددية التي قال عنها القرآن {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} (الأعراف 71) حيث نرى أن مفهوم التعدد في الآلهة والنحت لكل إله كان موجودا تاريخيا في قوم عاد إذا كانت وسيلة الإنتاج متوفرة بقوله: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} (الشعراء 128).
بينما كان قوم نوح يعبدون مظاهر الطبيعة “لأن الاسم جاء من فعل وسم ليس من فعل سمو”. وقد نمت هذه الظاهرة في الحضارات المصرية وما بين النهرين والهند والصين ثم في الحضارة الإغريقية والرومانية لأن الجذور التاريخية لظهور النحت كانت عند الإنسان هي وظيفية أولا، ولم تظهر النواحي الجمالية في النحت ثانيا إلا بعد أن استوعب الإنسان النسب البعدية وتقدمت وسائل الإنتاج. فالجزئي في النحت يظهر في دقة نحت أجزاء الجسم مثل اليد والعين والفم وجمال الكلي في تكامل الأجزاء ضمن نسب مطابقة للنسب الطبيعية.
– فن العمارة:
ظهر فن العمارة انطلاقا من أشد الغرائز قوة في الإنسان وهي مغريزة البقاء وسعي الإنسان غير الواعي للحفاظ على حياته، ثم انتقل هذا السعي إلى رغبة واعية، فسكن الإنسان أولا الغابات في المناطق الحارة ثم انتقل إلى الكهوف ونشأت في وعيه وظيفة أساسية للكهوف هي وظيفة السكن “والسكن من فعل سكن” وهو الهدوء والراحة والنوم بشكل مطمئن فيه على أغلى ما عنده وهو الحياة. لذا تدرج السكن في القرآن في الغابات ثم في الكهوف، فكانت الكهوف أول سكن له جدران طبيعية وسقف ومدخل وهذا ما نراه في الحياة الحيوانية إلى يومنا هذا، إذ أن كثيرا من الحيوانات تأوي إلى قمم الأشجار كالطيور والقرود ومنها ما يأوي إلى الكهوف ومنها ما يحفر أنفاقا في الأرض. لذا فبداية السكن عند الإنسان كانت وظيفية لى آخر الحدود ولم يكن للجمال أي دور فيها.
وهذه هي الوظيفة الأولى للسكن إلى يومنا هذا فنرى الإنسان الواعي قد قلد الحيوانات في الحفر في الأرض، فبنى الأنفاق للمرور والملاجئ ضد غارات الأعداء. والله سبحانه وتعالى غرز حب البقاء في الإنسان وجعل الطبيعة مطواعة له للحفاظ على هذه الغريزة {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا} (الجاثية 13).
إن غريزة حب البقاء التي أخرجت آدم من الغابة “الجنة” حين وسوس إليه الشيطان وأغراه بغريزة البقاء بقوله تعالى: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (طه 120) فأغراه بصفتين مضادتين للموت وهما الخلود وعدم الفناء بقوله “لا يبلى” فلو كان آدم لا يعرف الموت والبلى لما استجاب إلى وسوسة الشيطان، أي أنه كان موجودا في وسط فيه موت يرى الأشجار والحيوانات تموت والأشياء تبلى. وهل يمكن إغراء أحد بشيء لا يعرفه؟!
لقد كان انتقال الإنسان من السكن في الكهوف ومن مرحلة الصيد مربوطا بتذليل الأنعام حيث أن تذليلها يمثل أكبر نقلة نوعية في تاريخ سكن الإنسان ونمط حياته حيث انتقل إلى مرحلة الزراعة واستعمال الأنعام في العمل وفي الطعام، لذا فإنه لا يمكن من الناحية التاريخية فصل الأنعام عن فن العمارة وهذا واضح في قوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 133). هنا نلاحظ كيف ربط الأنعام بالأبنية حيث أن “البنين” جاءت من “بنن” في اللسان العربي.
– ملاحظة: هذه الآية فيها وحدة الموضوع، فأي موضوع يوحد بين الأنعام والبنين إذا فهمنا أن البنين هم الذكور من الأولاد. والموضوع الذي يوحد بينهما هو أن البناء واستقرار الإنسان ارتبط بالأنعام. ثم لاحظ وحدة لموضوع في قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46) هنا الأ/وال المتداولة والثابتة “الأبنية” هي زينة الحياة الدنيا وليس الأموال والذكور من الأولاد لأن التأويل لا يحوي وحدة الموضوع ولا يطابق الحقيقة الموضوعية فيصبح الخبر كاذبا.
بعد تذليل الأنعام وظهور الزراعة وبالتالي ظهر مفهوم التمويل عند الإنسان ومن هنا جاءت كلمة الأموال من التمويل حين وعدهم نوح في نبوته {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح 12) حيث ربط التمويل من المواد الغذائية بالأبنية وبدأ البناء يأخذ ملامحه كعمارة وفن معماري بالإضافة إلى الوظيفة. فباستقرار الإنسان بدأت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية تتطور من أسرة إلى مجموعة من الأسر “العشيرة” ثم القبيلة ثم ظهور مفهوم السلطة والدولة وهذه الظواهر الاجتماعية تتطلب نوعا من الأبنية له وظائف تستجيب للمتطلبات الجديدة ويمكن تنفيذها بأدوات الإنتاج المتوفرة.
فأول أداة إنتاج متوفرة لدى الإنسان كانت العمل اليدوي للإنسان نفسه ولم يستغل العمل اليدوي للإنسان نفسه على مر التاريخ كما استغل في فن العمارة “لاحظ حجم العمل اليدوي المصروف ي الأهرمات ومعبد الكرنك ولم تظهر عبودية الإنسان في أشنع أشكالها كما ظهرت في العمارة والسكن والحماية من الأعداء بالنسبة للملوك والفراعنة..الخ” هنا يجب أن نفهم ظاهرة في غاية الأ÷مية وهي أن عرب قلب شبه جزيرة العرب كانوا بدوا رحلا وكان مكان إقامتهم هو الصحراء وبيوتهم جلود الأنعام وأوبارها وليس الحجر المنحوت إلا بعض بيوت الطين في مكة ويثرب ولا يوجد عندهم قصور للملوك أو رؤساء القبائل ولم يكن عندهم ملوك أصلا حتى الكعبة كانت عبارة عن مكان صغير من الأحجار المرصوفة بعضها فوق بعض.
وكان العرب وخاصة في الحجاز ونجد وعسير والإحساء “قلب شبه جزيرة العرب” على علم بالحضارات التي تحيط بهم وما فيها من أبنية ضخمة وكانوا يعلمون تمام العلم أن هذه الأبنية شيدها أناس مستعبدون لأسيادهم وملوكهم. ونحن نعتقد ن هذا هو السبب الجوهري الكامن وراء احتقار العرب في شبه الجزيرة العربية للعمل اليدوي، إذ أنه مرتبط في أذهانهم بالعبودية دون توهم أو مبالغة، وكان هذا فعلا من الناحية التاريخية وهو مبرر في ذاك الوقت. أما الآن فلا يوجد أي مبرر لاحتقار العمل اليدوي.
هذه الظاهرة نشأت ليس بسبب عدم حب العرب للعمل أو الأنفة كما يرى البعض، ولكن بسبب أعمق من ذلك وهو ارتباط العمل اليدوي بفقدان الحرية في ذاك الوقت وليس بالأمر العجيب أبدا أن تأتي الرسالة السماوية إلى هؤلاء الناس الذين لم يكبلوا بالعبودية ولم يعتادوا عليها حيث كانت الحرية تعني الكثير بالنسبة إليهم، وكذلك نفهم قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام 124) هذا بالإضافة إلى أصالة اللسان العربي الذي كانوا يتكلمونه والذي هو لسان الرسالة والنبوة. واعلم أن كل الثورات في العالم لا يقودها إلا الأحرار.
الآن يمكن أن نقول إن العمارة وظيفة أولاً، وتتألف من دمج العناصر التالية لإخراج الوظيفة، ثم جاء المفهوم الجمالي ثانيا.
الخط + اللون + المادة + الحركة = الوظيفة المعمارية والجمال المعماري.
فالخط ظهر بوعي الأشكال الهندسية “خط مستقيم، منحن” والتناسب بين الخطوط المستقيمة بعضها مع بعض والمنحنية بعضها مع بعض.
- اللون: ظهر بتقدم المعرفة الإنسانية بالألوان وصناعتها، لذا كانت العمارة القديمة ذات ألوان طبيعية بحتة ثم ظهرت الألوان الصناعية.
- المادة: بدأت بالطين وتطورت استعمالاتها من حجر وغرانيت ورخام ومعادن مختلفة ثم مواد مصنعة كالبيتون والمواد البلاستيكية.
- الحركة: ظهر تشعب الوظائف من الكهوف الذي هدفه المبيت فقط واللجوء إليه عند الخطر فقط، وقد رافق هذا التشعب التقدم المعرفي للطبيعة وقوانينها والتقدم في وسائل الإنتاج والذي نتج عنه تشعب الحياة الاجتماعية والاقتصادية وظهور التشريع والدولة فكان هناك المعبد وساحة السباق والقتال وقصر الملك والمقابر “علما بن أول ظاهرة اجتماعية تعامل فيها الإنسان مع الأرض بوظيفة محددة هي ظاهرة دفن الموتى لذا فإن أقدم الآثار للإنسان توجد في المقابل”.
لقد كان وعي الجزء الوظيفي في العمارة سابقا وبالتالي كان الجمال مقتصرا على الوحدة المعمارية حيث وعى الإنسان جمال الجزء الوظيفي، فنرى المعبد والقصر وبيوت الناس والمقابر مبعثرة هنا وهناك دون وجود أي نسق بينها حيث كل واحدة منها تقوم بوظيفتها على حدة ولم يأت ربط الوظائف المختلفة بعضها ببعض إلا في مرحلة متأخرة بعد نشوء الدولة وتقدمها.
فأول ماظهر الربط عند الإنسان ظهر بشكل موضوعي عملي وهو الربط بين أماكن السكن حيث ظهر مفهوم الطريق، هذا المفهوم تطور حتى أصبح أحد العوامل المسيطرة على تنظيم المدن، فأول ما نبدأ بتنظيم أي مدينة نبدأ بشبكة الطرق وبمداخلها أي بربطها مع بقية المدن والمراكز الصناعية والزراعية. في هذه المرحلة ظهر فن العمارة الكلي المتناسق والذي يربط الوظائف المختلفة بعضها ببعض، وما كان لهذه المرحلة أن تظهر دون ظهور الطرق ووسائل الاتصال كعناصر أساسية في حياة الإنسان.
فبالبداية كان الجمال في الوظيفة “الجزء” “الوحدة المعمارية” ثم أضيف إليه الكل. وفن العمارة الآن ما هو إلا علاقة جدلية بين الوظيفة في “الجزء” والتناسق مع المحيط الخارجي “الكل”. وكما قلنا إن العقائد والأخلاق والعادات تؤثر على الفن المعماري، أي أن هناك علاقة جدلية خارجية “تأثيرا متبادلا” بين العقائد والأ×لاق والعادات وبين مفاهيم الجمال كلها من رقص وموسيقى ورسم ونحت وفن عمارة وكل الفنون. هذه العلاقة كان لها التأثير الكبير على كل الفنون بما فيها فن العمارة ومنها فن العمارة العربي الإسلامي الذي تأثر بالعقيدة الإسلامية تأثرا بالغا.
– جمال الكلمة: إن جمال الكلمة “التعبير عن الموضوع بشكل لغوي” يعتبر أرقى أنواع الفنون الإنسانية قاطبة والذي لا يرقى إليه أي فن آخر فهو ملكة الفنون كلها. قد يسل سائل: لماذا؟ فأقول ما يلي:
1 – إن اللغة هي أداة الفكر والاتصال ولا يمكن لأي إنسان أن يفكر لوحده أو يعبر عن نفسه إلا ضمن إطار لغوي، ونشوء اللغات وتطورها مرتبط مباشرة بنشوء الفكر وتطوره “أقصد هنا اللغة المنطوقة لا المخطوطة” لأن التعبير المادي عن اللغة هو الأصوات لا الخطوط وما الخطوط إلا اصطلاحات لتسجيل الأصوات وهي اختراع إنساني، أما اللغة فهي ليست اختراعا وليست إلهاما، وإنما خضعت في نشأتها لقوانين صارمة وهي كونها أداة التفكير والتعبير.
2 – بما أن اللغة أداة التفكير والاتصال لذ فهي أوسع وأسهل أداة يمكن أن يتصل فيها متكلم مع سامع، فالبث الإذاعي والتلفزيوني ومحاضرات الجامعات والمدارس والبيع والشراء لا تتم إلا عن طريق الكلام الإنساني ولا تتم عن طريق الصور واللوحات والحركات، حتى إن الإنسان يفضل سماع برنامج دون صور عن مشاهدة برنامج فيه صور دون صوت. أي أن اللغة هي الوسيلة التي يتم بها أوسع أنواع الاتصال مع الناس.
3 – هذه اللغة التي بدأت من تقليد صوت الطبيعة والحيوانات ثم قفزت إلى التجريد في التعبير عنا لمعاني المادية والمجردة ووصلت إلى مرحلة الإبانة “لسان عربي مبين” أي قدرة التعبير واستيعاب أدق خصائص الأشياء المادية والمشخصة في العالم الموضوعي “اللغة العلمية” والوصول إلى أدق المعاني في التعبير عن الأحاسيس والشعور والعلاقات الإنسانية المجردة مثل الشجاعة والجبن ومثل الحب والكراهية والجمال والقبح والكرم وابخل والعدل والظلم والبر والإحسان والأنانية والاعتزاز والعبادة والأمر والنهي والتي استطاعت أن تستعمل في تعبيرها وأدواتها كل أنواع البيان من كناية واستعارة وتشبيه وسجع وإيقاع موسيقي.
هذه اللغة المنطوقة لا يمكن أن يجاربيها أو ينافسها ريشة فنان أو يد نحات أو نوتة موسيقية و رقصة باليه، حتى الفنان التشكيلي أو النحات والموسيقي والراقص فإنهم يفكرون بألوانهم وتماثيلهم ونوتاتهم الموسيقية وحركاتهم الراقصة ضمن إطار لغوي أولاً.
لننظر إلى جمال اللغة، فكما قلنا إن اللغة أداة التفكير والاتصال لذا فهي تعبر عن المعلومات والشعور والأمر والنهي في بنية لغوية صوتية لإيصالها إلى الآخرين. فإذا فقد الكلام هذه الوظيفة يصبح مجرد أصوات لا معنى لها أي أصوات لها وجود تحسه الآذان دون أن يكون لها أي مدلول في الفكر لذا قلنا سابقا إن البلاغة في القول والفصاحة في الكلام.
فالجمال في بداية نشأة الكلام الإنساني كان مندمجا مع الوظيفة دون تفريق بينهما ومازالت الوظيفة موجودة حتى يومنا هذا، ولكن تقدم الفكر الإنساني ليميز بين وظيفة اللغة وجمالها. فالإنسان القديم لم يميز في اللغة بين جمالها ووظيفتها، أي لم يستعمل الأوجه البيانية في وصف الجمال والحب…الخ إذ أن هذه المفاهيم تحتاج إلى لغة متطورة، وقد توفر هذا في اللسان العربي عند نزول القرآن، إذ كان قد وصل في مراحل تطوره إلى مرحلة الإبانة “لسان عربي مبين” حيث كان قادرا على التعبير عن أدق المعاني بغنى المفردات وكمال البنية الوظيفية والبنية الجمالية في الاستعارات والتشبيه والكنايات.
فعندما ننظر إلى جمال الكلمة يجب أن ننطلق إلى ما يلي:
– إلى الألفاظ والبنية النحوية وذلك في ربط الألفاظ بعضها ببعض وهدفها خدمة المعاني، وأن المعاني هي المالكة سياستها وعندما ينسى القائل أنه يقول ليبين فهذه ليست لغة وإنما هراء. فهنا يظهر جمال الجزء في اللغة وهو انتقاء اللفظة المناسبة بحيث لا توجد لفظة أخرى تحل محلها لتؤدي المعنى المطلوب بدقة، ومن ثم انتقاء الجملة أي ربط الألفاظ بعضها ببعض “مسند ومسند إليه” بصيغة مبني للمعلوم أو مبني للمجهول أو بجملة اسمية أو جملة خبرية ابتدائية أو غير ابتدائية.
كل هذه الانتقاءات هي انتقاءات وظيفية لأنها تؤدي المعنى المطلوب بالدقة التي يريد المتكلم أن ينقلها للسامع وهذه هي عين البلاغة ويست البالغة أكثر من ذلك ولا أقل، أما جمال الكل فيظهر في اللغة في استعمال الأدوات البيانية “الاستعارة والتشبيه والكناية والسجع..الخ”.
هذه الأدوات تظهر جمال الكل ولكن ليس على حساب المعنى “البلاغة” وإنما بالعكس لخدمة المعنى حيث أنه عند استعمال هذه الأدوات فإن المعنى يصل إلى المستمع بشكل أسرع وأدق لأن الأدوات البيانية هي من خيال المتكلم وهذا واضح في الشعر لخدمة المقصود من القصيدة من معنى مراد نقله من خلال صور تساعد المستمع على الفم وتحريك مشاعره انطلاقا من صدق الخبر وجمال التعبير عنه.
4 – لذا فإن الشعر والأدب عموما هما أعلى أنواع الفنون الإنسانية قاطبة لأنهما قادران على الوصول إلى أكبر عدد من النسا وبأسهم الطرق عن طريق التعبير بواسطة آلية الفكر الإنساني “اللغة” وما رافق هذا التعبير من خيال وصور مسكوبة بقالب لغوي متماسك، كما أنهما قادران على اختراق كل العوائق المادية “لأنها لغة منطوقة وليس لوحة أو تمثالا” للوصول إلى أحاسيس الناس وآلامهم الاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا نرى أن الكلمة هي أخطر أعداء الحكومات الدكتاتورية، فهي تلاحق من قبلها مع المسرح أكثر من فنون الرسم والنحت والتصوير والرقص والموسيقى.
ومن ناحية ثانية يرقى الشعر والأدب عن الرسم والنحت والرقص فضلا عن كونه مرنا مرونة الكلمات والجمل بأنه فن متحرك وليس ساكنا حيث مادته الكلمات والبنية اللغوية أما مادة الرسم فهي الألوان وتناسق الخطوط ومادة النحت المعادن والحجارة ومادة الرقص الحركات الجسمية ومادة الموسيقى الأصوات غير اللغوية وكل هذه الفنون لا تحوي مرونة وحركية اللغة، أي أن لها عطالة أكبر من عطالة الكلمات في الوصول إلى الموضوع المعبر عنه وفي الوصول إلى عقل وأحاسيس المستمع.
وبما أن الموسيقى هي مجموعة النغمات الصوتية المختلفة المنسجمة بعضها مع بعض لإخراج موضوع متكامل “كتاب” فهي أقرب الفنون رقيا إلى الشعر والأدب أي تلي الشعر مباشرة في الرقي. والله سبحانه وتعالى ترك مجالا للموسيقى في المشاعر الإنسانية حين تعجز اللغة أن تعبر عنها.
فعمالقة الشعر مل شكسبير وبوشكين وأبو الطيب المتنبي يليهم عمالقة الموسيقى دخلوا إلى حياة شعوبهم وشعوب العالم أكثر من النحاتين والرسامين والراقصين.
من هذا المنطلق نرى أن اجتماع ملكة الفنون وهو الأدب من نثر وشعر يليه الموسيقى ثما لحركة ثم اللون، هذه الفنون مجتمعة توجد في المسرح، ففي المسرح يوجد النص اللغوي والحركة “حركة الممثلين” والألوان “الديكور” واللوحات ولكن أضعف نقطة فيه هي الموسيقى لأنها تلي الكلمة في رقيها، وبما أن المسرح يقوم على قوة الكلمة “النص” فلذلك لا داعي لقوة الموسيقى أو لوجود الموسيقى أصلا في المسرح. فالمسرح هو ملكة الفنون قاطبة لأن الجزء الرئيسي منه هو قوة الكلمة مضافا إليها الفنون الأخرى، فعندما يكون النص المسرحي قويا في وظيفته “يعبر عن موضوع يهم الناس” وقويا في بنيته أي ي بنية النص “بنية الجمل والحوار” قويا في ألفاظه قويا في أدائه “قوة وبراعة الممثلين” في هذه الحالة يمكن تقديم مسرحية في حديقة عامة لا على خشبة المسرح وستلاقي القبول الهائل ففي المسرح يظهر بشكل رائع جمال الكل والجزء في وحدة جدلية وهي قوة الموضوع في النص أو القصيدة وجمال الجزء في الجمل المنفصلة وفي أداء الممثلين.
فعلى كل شعب متحضر أن يفخر بشعرائه وأدبائه وفنانيه فخرا لا يقل أبدا عن فخره بعلمائه “علماء الهندسة والطبيعة والفلك…الخ” لأن الفنانين وعلى رأسهم الشعراء والأدباء والموسيقيين هم صانعوا الحضارة بمفهومها الروحي، أما العمال والمهندسون والفلاحون فهم صانعوا الحضارة بمفهومها المادي، وما الزعماء السياسيون إلا منفذين ومعبرين عن رغبات هؤلاء الصانعين العمالقة.
(2) تعليقات
يسرا
بارك الله في رؤيتك المستنيرة التي تثبت بها المسلمين و تزيد يقينهم بالكتاب المبين نفع الله بك المؤمنين امين و امانى ادعو لي بالهداية و التثبيت
محمد سيد
سبحان الله