تمهيد في جدل الإنسان (الرحمن والشيطان)
لقد ميز القرآن الكريم جدلاً خاصاً بالإنسان في قوله: {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثلٍ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} (الكهف 54).
فإذا كان هناك جدل للأشياء المادية فإن هذا الجدل ينطبق على الإنسان لكونه كائناً حياً مادياً أي بشراً، لذا قال {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}. أي أن هناك جدلاً خاصاً بالإنسان لا يوجد لغيره من الأشياء وهذا الجدل هو جدل الفكر حيث أن الإنسان يتميز عن بقية الأشياء بأنه كائن عاقل مفكر لذا فإن جدل الإنسان والمعرفة الإنسانية في القرآن يقوم على المبدأ التالي:
إن الحق والباطل “الحقيقة والوهم” في الفكر الإنساني ملتبسان في علاقة جدلية لا تتوقف بحيث يفرز الحق عن الباطل لفترة معينة ثم يعود هذا الإلتباس من جديد أشكال جديدة، فيحتاج إلى فك جديد وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد مثل الله التباس الحق والباطل بالماء الذي يشوبه التلوث فهو بحاجة إلى فرز وتنقية ليعود صافياً، وبالحديد الذي يوجد في الطبيعة على شكل فلزات فتقوم الأفران العالية الحرارة بفرز الحديد عن الخبث.
{أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد 17) “نوع الآية: قرآن”.
نلاحظ كيف جعل القرآن أساس المعرفة الإنسانية هو الفصل الدائم بين الحق والباطل المرتبطين ببعضهما بعلاقة تناقضات جدلية. ومهمة المعرفة هي تفريق الحقيقي عن الوهمي لذا قال لبني إسرائيل {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة 42) أي بعد تفريق الحق عن الباطل يجب أن لا نلبسهما معاً مرة أخرى لذا علق في نهاية الآية بقوله: {وأنتم تعلمون}.
لقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم بين الحق والباطل عند العرب في القرن السابع ومن جراء فك الالتباس هذا حصلت الحرب الأهلية “حيث أن الباطل ينسف والخطأ يصحح” وتأسست الدولة العربية الإسلامية بانطلاقتها الجبارة، حيث فرز النبي صلى الله عليه وسلم أوهام الجاهلية والوثنية عن الحقيقة الموضوعية في الفكر العربي المعرفي ثم السياسي في القرن السابع، ثم عاد الالتباس مرة أخرى بأشكال جديدة، وما علينا نحن العرب والمسلمين إلا أن نفك هذا الالتباس من جديد في القرن العشرين حيث نفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الحلال بين وإن الحرام بين) انظر صحيح مسلم م3 ص1219 ولم يقل أبداً إن “الحق بين والباطل بين” فالزنا يفهمه عمر كما نفهمه نحن، أما الأوهام التي كانت عند عمر في الجاهلية والانتقال إلى الحقيقة يختلف تماماً عن الأوهام التي نعيشها نحن والحقيقة التي نريد أن ننتقل إليها.
ولو كان الحق بيناً والباطل بيناً دون التباس بعلاقة جدلية لكفى للإنسانية جمعاء نبي واحد لتبيان الحق والباطل مرة واحدة وإلى أن تقوم الساعة. وهنا تكمن مهمة الفلسفة وبناتها العلوم جميعاً بفك الارتباط الدائم حيث أن مهمة الفلسفة والعوم لا تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هنا تظهر أهمية نظرية المعرفة الإنسانية بالفك المستمر للإلتباس وقد أعطى القرآن أسس نظرية المعرفة الإنسانية أي أسس فك الالتباس بين الحق والباطل حيث أن أسس نظرية المعرفة الإنسانية هي من القرآن (النبوة) وليست من أم الكتاب “الرسالة” “العلماء ورثة الأنبياء”.
وبالاستناد إلى نظرية المعرفة في القرآن نجيب على الأسئلة التالية:
1 – ما هي نظرية المعرفة الإنسانية؟
هي فك الالتباس بين الحقيقة الموضوعية والوهم “الحق الباطل” وذلك بإدراك العالم الموضوعي الرحماني “الحقيقة” على ما هو عليه حيث أن وجود الأشياء خارج الوعي هو عين حقيقتها، فالمعرفة الإنسانية تبدأ بالمشخص الجزئي وتنتهي بالمجرد العقلي والذي يسمى بالقوننة “الكلي” وهي التي مكنت الإنسان من تسخير الأشياء لمصلحته فهي عملية انتقال مستمر من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
2 – ما المقصود بموضوعية المعرفة الإنسانية؟
هو أن الصور الموجودة في الأذهان يجب أن تكون مطابقة للأشياء الموجودة في الأعيان “خارج الوعي” حيث أنه ليس من الضروري أن تكون الصور الموجودة في الأذهان مطابقة للأشياء الموجودة في الأعيان وهنا يكمن الإلتباس الأساسي بين الحق والباطل أي بين التصديق والتصور. أي يجب أن تكون التصورات والتصديقات متطابقة فإذا كان لدينا تصور ما عن الحياة ونظرنا إلى الحياة فوجدناها غير ذلك فما علينا إلا أن نعدل هذه التصورات لكي نجعلها مطابقة للتصديقات. وإن مصداقية هذه المطابقة هي في مقدار طواعية هذه الموجودات لإرادة الإنسان وبتعبير آخر هي في مقدار استجابة هذه الموجودات لتكون مسخرة له.
3 – هل العالم الموضوعي خارج الوعي حقيقي أم وهمي؟
لقد وقفت نظرية المعرفة الانعكاسية المادية “التي تقول إن المعرفة الإنسانية تنطلق ن الواقع المادي القائم على صراع المتناقضات الداخلي” عاجزة عن بيان عنصري التناقض في الدماغ الإنساني وكيف تمت إزالة هذا التناقض. لذا طرحت نظرية المعرفة الإنعكاسية المقولة التالية: إن الدماغ الإنساني تطور معقد جداً للمادة، ولم تستطع تفسير كيف بلغ الإنسان مرحلة التجريد ومرحلة التخيل والابتكار. أما نظرية المعرفة القرآنية التي تلتقي من حيث المنطلق فقط مع النظرية الإنعكاسية المادية، فإنها تقدم التفسير العلمي القادر على الإجابة عن تلك الأسئلة عن طريق طرح مقولة نفخة الروح من الله تعالى “من خارج الكون المادي الثنائي” التي حملت صفة من صفات الله وهي الأحادية التي تتميز بعدم التناقض.
إن هذا الفهم المادي لنظرية المعرفة القرآنية يرد على أوهام ذوي الفهم المثالي للقرآن الذين يرفضون نظرية التطور والارتقاء ويسخرون من نظرية داروين بزعم أنها غير علمية، وحجتهم في ذلك قائمة على التساؤل التالي: لماذا تطور الإنسان من القرد، وبقي القرد قرداً؟! وجوابنا هو أن الله تعالى نفخ الروح في البشر “وهو فصيلة من المملكة الحيوانية” فأدى ذلك إلى أنسنته وارتقائه عن عالم المملكة الحيوانية. ولو أنه نفخ الروح في فصائل أخرى لإرتقت أيضاً. إن نفخة الروح هي الحلقة المفقودة في نظرية داروين حول الأنسنة.
وقبل أن ندخل في بحث جدل الإنسان يجب علينا أن نميز بين مصطلحين قرآنيين هامين جداً وهما: مصطلح الرحمن، ومصطلح الشيطان وهما النقيضان اللذان يعملان في الدماغ الإنساني “التصديق والتكذيب، الحقيقة والوهم”.
الرحمن:
جاءت لفظة الرحمن في اللسان العربي من “رحم” وهو أصل يدل على الرقة والعطف والرأفة. والرحم علاقة القرابة.
وأضاف القرآن الكريم لها معنى آخر، فالرحم وظيفته التوليد ومن هنا جاء اسم الرحمن على وزن فعلان، لأن النون في الرحمن ليست من أصل الكلمة. ووزن فعلان يفهم في اللسان العربي على أنه وزن ثنائية المتناقضين والزوجين والضدين. وقد كان هذا المعنى جديداً على العرب وذلك في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} (الفرقان 60).
لنأخذ الأمثلة التالية على وزن فعلان:
كسيان – عريان
جوعان – شبعان
فرقان – جمعان {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} (الأنفال 41).
تعبان – ريحان {فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم} (الواقعة 87-88).
أنثان – ذكران {أتأتون الذكران من العالمين} (الشعراء 165).
موتان – حيوان {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت 64).
ظمآن – رويان
فاسم الله الرحمن يمثل قوانين الربوبية “السيطرة والاستحكام والتوليد وبالتالي التطور في هذا الكون المادي الثنائي” وهي تعمل بشكلٍ موضوعي، وعيناها أم لم نعها، أي بإخبار منه عنها أو دون ذلك، وهذا واضح في قوله {الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش الرحمن فاسئل به خبيراً} (الفرقان 59).
{رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً} (النبأ 37). {الرحمن على العرش استوى} (طه 5). أي أن كل القوانين المادية الموضوعية القائمة على الثنائيات في هذا الكون والذي يليه، هي قوانين رحمانية مادية، فالله يقضي في هذا الكون من خلال القوانين المادية الموضوعية، والتي سنطلق عليها من الآن فصاعداً “القوانين الرحمانية” وبما أن القرآن يشرح قوانين هذا الكون واكلون الذي يليه فهو رحماني لذا قال: {الرحمن * علم القرآن} (الرحمن 1-2).
والقوانين الرحمانية “قوانين الجدل” الخلق ووحدة وصراع المتناقضات في الشيء الواحد وجدل الأزواج في الأشياء عبارة عن قوانين مخزنة في اللوح المحفوظ الذي يشتمل على القوانين العامة الناظمة لهذا الكون، وجدل الأضداد في ظواهر الطبيعة عبارة عن قوانين جزئية متغيرة (ثابت ومتحول) مخزنة في الإمام المبين الذي يحتوي على قوانين التصرف في ظواهر الطبيعة وكذلك السلوك الإنساني بعد حدوثه مخزن في الإمام المبين. ولكي يبين أن اسم الله هو الأساس قال {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستةِ أيامٍ ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} (السجدة 4) فنقول “الله الرحمن” ولا نقول “الرحمن الله” لذا فعندما ترد لفظة “الرحمن” في القرآن فإنها ترد في هذا المفهوم ولا ترد في مفهوم الرحمة أبداً.
وبما أن الرحمن هو المولد قال {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون} (الأنبياء 26) وقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} (مريم 88). وكذلك عن الذكر قال إنه من الرحمن {وما يأتيهم من ذكرٍ من الرحمن محدثٍ إلا كانوا عنه معرضين} (الشعراء 5) وقد قلنا إن الذكر هو الصيغة الصوتية المادية للكتاب، وهو الصيغة التعبدية المحدثة، بغض النظر عن فهم المحتوى لذا أعطاها الصيغة الصوتية المادية.
ففي العالم الرحماني لا يوجد “لا معقولات” وإنما هناك عجز العقل الإنساني عن الإدراك في عصر من العصور “مثال على ذلك الجن والملائكة”.
ومن خلال القوانين الرحمانية والتي تعتبر قوانين الجدل “قانون التطور وتغير الصيرورة وقانون الزوجية “التكيف” من أساسياتها ولد هذا الكون وتشيأ أي أصبح أشياء متميزة بعضها عن بعض، وفي هذا الكون لا يوجد شيء اسمه فراغ بدون مادة أي أن ما نقول عنه الآن الفراغ الكوني هو فراغ مادي رحماني لذا قال {خلق السموات والأرض وما بينهما} (السجدة 4) أي أن الفراغ هو شكل من أشكال المادة.
هذا الوجود المادي الثنائي أطلق عليه مصطلح كلمات الله “في جوهره” وآيات الله في ظواهره، لذا فإن مفهوم كلام الله في القرآن يعني الوجود المادي ولا يعني أبداً الفكر “لا مبدل لكلماته”. {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} (الأنعام 115). وإذا أخذنا الآيات التي تقول “ومن آياته ..” “تلك آيات الله ..” “آيات بينات ..” “آية بينة ..” رأينا أنها تتكلم عن الظواهر الطبيعية في هذا الوجود كقوله:
- {وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للناس} (البقرة 259).
- {أني قد جئتكم بآية من ربكم} (آل عمران 49).
- {وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون} (آل عمران 50).
- {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك} (المائدة 114).
- {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} (الأنعام 25).
- {أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ} (الأنعام 35).
- {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آيةً ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الأنعام 37).
- {وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن ..} (الأنعام 124).
- {هذه ناقةُ الله لكم آيةً} (الأعراف 73).
- {ويا قوم هذه ناقة الله لكم آيةً فذروها تأكل في أرض الله) .(هود 64).
- {فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} (الأنبياء 91).
- {إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين} (الشعراء 8).
- {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل} (الإسراء 12).
- {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} (البقرة 252).
- {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} (آل عمران 118).
- {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} (آل عمران 108).
- {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} (الإسراء 101).
- {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} (الكهف 57).
- {إن في السموات والأرض لآياتٍ للمؤمنين} (الجاثية 3).
- {وفي خلقكم وما يبث من دابةٍ آيات لقوم يوقنون} (الجاثية 4).
- {واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزقٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون} (الجاثية 5)، {تلك آيات الله} (الجاثية 6).
هنا نلاحظ في الآيات 4-5-6 من سورة الجاثية كيف ذكر الآيات في الظواهر الكونية ثم أعقبها في الآية رقم 6 بقوله: {تلك آيات الله}.
وإذا أخذنا الآيات في سورة الإسراء من الآية 23 والتي تبدأ {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}. وتنتهي بالآية رقم 38 بقوله: {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً}. أعقب هذه الآيات بقوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} (الإسراء 39). وهي كلها من أم الكتاب وقد أطلق عليها مصطلح الحكمة، لأنها لا تحتوي أحكاماً شرعية أو تعبدية وهي “أخلاق” من الوصايا وهي ليست كلمات الله وليست آيات الله. ولكي يبين ذلك قال في سورة الأحزاب لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً} (الأحزاب 34).
ولا نرى في الكتاب آية من آيات العبادات والأحكام ذكر فيها أنها من آيات الله، فلم يقل عن الصلاة أو الصوم أو الحج تلك آيات الله أو كلماته.
نستنتج الآن أن الرأي الذي يقول إن كلام الله هو أزلي غير مقبول فالوجود هو عين كلام الله وهو مخلوق وغير قديم، ولو كان كلامه أزلياً لأصبح الكون والله واحداً، ولأصبح المسيح ابن الله لأنه كلم منه، وقد شرحت في الباب الأول أن القرآن هو كلام الله وآيات الله والقصص وأن أم الكتاب هي كتاب الله فانظره.
لنناقش الآن هل القرآن مخلوق أم أزلي؟ لقد سبق أن طرح الفكر المعتزلي هذا السؤال، والموقف من هذا الطرح بأنه مخلوق أم أزلي له انعكاسات أيديولوجية خطيرة على بنية الدولة والمجتمع والحرية الإنسانية.
أولاً: لقد قال المعتزلة بخلق القرآن، وأعتقد بأنهم يقصدون القرآن بمفهومه الذي طرحته في كتابي هذا وكانوا لا يقصدون الكتاب كله أي أنهم يقصدون المتشابه ولا يقصدون محكم التنزيل حيث أن القرآن جُعل عربياً وأنزل عربياً، أما أم الكتاب فقد أنزلت عربية فقط دون جعلٍ.
ثانياً: إن كان القصد بالأزلية هو النص القرآني الذي بين أيدينا والذي يتلى تلاوة وهو جزء من الذكر كقوله {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها* ..} فهو نص عربي فهذا يعني أن الله عربي ولغته هي العربية وهذا مرفوض وواضح أنه غير صحيح لقوله: {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} والجعل هو تغير في صيرورة أي أنه كان غير عربي في صيغة ما، ثم أصبح عربياً وقوله: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} والإنزال هو للإدراك الإنساني وقد تلازم الإنزال والجعل في القرآن.
ثالثاً: إذا كان المقصود بالأزلية هو عين الشمس والقمر والتي هي فعلاً من كلمات الله فأيضاً الشمس والقمر ليستا أزليتين.
رابعاً: إذا كان المقصود بكلام الله الأزلي هو الكلام النفسي “أي أفكار الله” فهذا خطأ لأنه يعني أن لله سبحانه وتعالى كلاماً نفسياً ونقيس الله على الإنسان، علماً بأنه بالنسبة لله سبحانه وتعالى القول والوجود متطابقان تماماً ومتلازمان {قوله الحق} {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} أي أن التصور والتصديق متلازمان متطابقان عند الله، وهذا هو عين كمال المعرفة.
فعند الله لا يوجد شيء اسمه طموح أي أن نقول بأن الله سبحانه وتعالى “يطمح إلى أن يفعل كذا وكذا” والتشابه بين الله والإنسان هو في أن الله عليم والإنسان متعلم، والله حر والإنسان متحرر، ولقد سمى الله الوجود كلماته، وهذه التسمية دقيقة جداً حيث أننا إذا أخذنا الكلام الإنساني “الأصوات-الكلام” رأيناه صادراً عنه وليس جزءاً منه.
خامساً: بانتصار الفقهاء على المعتزلة تم قصم الفكر الإسلامي العقلاني وأعتقد أنه في هذه النقطة ضاع الفرق بين الكتاب والقرآن وضاع العقل معه وأصبح النقل أساس الإسلام لا العقل، وكانت بداية التدهور الذي وصلنا إليه حتى يومنا هذا حيث أن أزلية الكتاب والذي يحوي {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى ..} ولدت المفهوم الجبري المسبق عند العرب والمسلمين وكانت هذه الجبرية المسبقة في الفكر الإسلامي هي النتيجة الأيديولوجية الأولى لانتصار الفقهاء على المعتزلة. هذا لا يعني أن المعتزلة لم يرتكبوا أخطاء في طروحاتهم حيث كانت معظم أفكارهم نتيجة للأرضية المعرفية لعصرهم.
أما الفقهاء فلا نقول إنهم أخطأوا، ولكن نقول إنهم قضوا على دور الفكر الإسلامي الحر العقلاني. وهذه المأساة لا نزال نعيشها حتى يومنا هذا حيث منذ ذلك الوقت أصبحت الجبرية هي العقيدة الرسمية لعامة المسلمين.
سادساً: هذا الوجود المادي الثنائي “الرحماني” مرتبط مع الله الأحادي بقانون صارم هو الحركة “التسبيح”، وقد شرحت التسبيح في القانون الأول للجدل المادي، فلا نرى في الكتاب صيغة “سبح للرحمن” أبداً.
سابعاً: في هذا الوجود المادي “الرحماني” ظهرت أسماء الله الحسنى على شكل معان مميزة بعضها عن بعض وعلى شكل ثنائي لذا قال أولاً {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف 180) وبما أن أسماء الله الحسنى لا تفهم إلا من خلال الوجود المادي الرحماني قال {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (الإسراء 110).
ثامناً: من خلال القوانين الرحمانية “والإرادة الإلهية” ولدت الحياة على الأرض ضمن قوانين الجدل المادي “البث” وتطورت وظهر البشر ككائن عضوي حي. لذا قال {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان} (الرحمن 1-2-3). أي أن خلق الإنسان تم من خلال القوانين الرحمانية وقوله {خلق الإنسان}. لبيان مجمل هذه الحقيقة الرحمانية، أما عندما أعطى المراحل التفصيلية لنشوء الإنسان وارتقائه فقد قال: “البشر”.
تاسعاً: عندما نضج البشر كائناً رحمانياً وأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعله خليفة له في الأرض ليخلفه في قوانين الربوبية أولاً، أي في القدرة على التصرف في هذا الوجود المادي، والألوهية ثانياً أي في القدرة على التشريع أعطاه من صفاته الذاتية الأحادية الخالية من التناقض وهي الروح {ونفخت فيه من روحي}. لذا فإن الإنسان فقط مدين لله سبحانه وتعالى في أنسنته وابتعاده عن المملكة الحيوانية ومن هنا جاءت لفظة الدين وهي من دان يدين ومنه جاء الدين والدينة والمدنية.
الشيطان:
إن لفظة الشيطان في الكتاب هي من المصطلحات المتشابهة، فلهذه الكلمة معنيان متباينان تماماً، ويؤخذ أحد هذين المعنيين حسب السياق العام للآية التي ورد فيها مصطلح الشيطان. فعندما تأتي لفظة الشيطان من فعل “شطن” تكون النون من أصل الفعل فهو على وزن “فيعال”.
وفعل شطن يعني البعد فنقول بئر شطون أي بعيدة القعر، والشطن هو الحبل لأنه بعيد ما بين الطرفين ومنه أيضاً معنى الغرابة. وفي هذا المعنى مصطلح الشيطان هو مصطلح مادي موضوعي له وجود خارج الوعي الإنساني، ولكي نفرقه عن المعنى الآخر للشيطان سنطلق عليه مصطلح “الشيطان الفيعالي” وقد جاء بهذا المعنى في الآيات التالية:
- {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شيطانهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} (البقرة 14).الشياطين هنا قد تعني أشخاصاً “زعماء” غير ظاهرين للعيان:
- {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} (الصافات 65). الشياطين هنا تعني شيئاً غريباً بعيداً عما ألفه الناس.
- {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين} (الأنبياء 82).
- {والشياطين كل بناء وغواصٍ} (ص 37).
- {وحفظاً من كل شيطان ماردٍ} (الصافات 7).
- {وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} (النساء 117).
- {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} (البقرة 102).
- {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} (الأنعام 71).
- {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء 27).
- {ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ويتبع كل شيطان مريد} (الحج 3).
- {فو ربك لنحشرنهم والشياطين} (مريم 68).
- {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} (المؤمنون 97).
- {وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون} (الشعراء 210، 211).
- {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} (الشعراء 221). “لاحظ كيف استعمل التنزيل للدلالة على حركة خارج الوعي الإنساني”.
- {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} (الملك 5).
- {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (البقرة 275).
أما المعنى الثاني للشيطان فهو من “شاط-شيط” هنا النون ليست من أصل الفعل لذا الشيطان في هذه الحالة هو على وزن “فعلان” وشاط تعني ذهاب الشيء وبطلانه كقولنا أشاط السلطان دم فلان أي أبطله، وجاء الشيطان بهذا المعنى للدلالة على الباطل “الوهم” في الفكر الإنساني، وسنطلق عليه مصطلح “الشيطان الفعلاني”.
أي أن الشيطان الفعلاني هو أحد أطراف العملية الجدلية في الفكر الإنساني الذي يحاول معرفة الحقيقة الموضوعية الرحمانية، لذا وهو الطرف النقيض للرحم الذي هو الطرف الحقيقي وهما العنصران المتناقضان في الفكر الإنساني. وهكذا نلاحظ الخلاف الكبير جداً بين هذين المعنيين للمصطلح الواحد “وهذا هو أحد أشكال التشابه”.
لقد ورد الشيطان الفعلاني في الآيات التالية:
- {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا} (مريم 44).
- {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (طه 120).
- {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} (الحج 52).
- {وكان الشيطان للإنسان خذولاً} (الفرقان 29).
- {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} (النمل 24).
- {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} (النساء 119).
- {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى ع القوم الظالمين} (الأنعام 68).
- {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (النحل 98).
- {وكان الشيطان لربه كفوراً} (الإسراء 27).
- {إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً} (الإسراء 53).
- {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} (الإسراء 64).
- {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً} (مريم 45).
- {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} (فاطر 6).
- {وما هو بقول شيطان رجيم} (التكوير 25).
- {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} (الزخرف 36).
- {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} (البقرة 36).
- {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} (الأعراف 27).
لذا فعلينا أن نفرق وندقق تماماً الشيطان الفيعالي من الشيطان الفعلاني في كل آية ورد فيها ذكر مصطلح الشيطان. وعلى الباحثين المسلمين تدقيق آيات الشيطان مرة أخرى للتفريق بين الشيطانين وبحث ماذا يمثل الشيطان الفيعالي في الحقيقة الموضوعية.
وبما أن الشيطان الفعلاني هو أحد أطراف العملية الجدلية في الفكر الإنساني، فالطرف الآخر في العملية الجدلية هو الرحمن المادي لذا قال: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً} (مريم 44) فالشيطان الفعلاني يمثل الوهم والجانب الوهمي في الفكر الإنساني، والرحمن يمثل الجانب المادي الموضوعي في الفكر الإنساني.
وبما أن الشيطان الفعلاني هو اسم جنس ولكل إنسان شيطانه الخاص فلا يأتي في الكتاب إلا على صيغة المفرد وليس الجمع. وبما أن الشيطان الفيعالي هو وجود مادي خارج الوعي الإنساني فيمكن أن يأتي في صيغة المفرد أو في صيغة الجمع كقوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم ..} وعندما يأتي الشيطان في صيغة الجمع “شياطين” ينصرف معناها إلى الشيطان الفيعالي.
لذا فبالنسبة لما ورد في الكتاب من الأمر بأن نستعيذ بالله من الشيطان عند قراءة القرآن {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (النحل 98). نرى أن المعنى المقصود هنا “الشيطان الفعلاني” لأن مهمة الشيطان الفعلاني تحويل قراءة “فهم” القرآن من قراءة مادية “رحمانية” إلى قراءة مثالية “شيطانية”.
بعد هذا التمهيد الذي قدمناه لموضوع جدل الإنسان ننتقل الآن إلى شرح عناصر المعرفة الإنسانية:
الفرع الأول: عناصر المعرفة الإنسانية
- الحق والباطل
- الغيب والشهادة
- السمع والبصر والفؤاد
- القلب
- العقل والفكر
- البشر والإنسان
1- الحق والباطل:
الحق: لقد عرفنا الحق في الباب الأول (الذكر) بأنه الوجود الموضوعي المادي خارج الوعي الإنساني. وقد عبر القرآن عن هذا المعنى بقوله: {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً … الآية} (يوسف 100). لقد عبر القرآن عن الحق بمصطلحين الأول هو “الله” حيث عبر عن الله بأنه وجود موضوعي خارج الفكر الإنساني وليس من نتاج الفكر الإنساني بقوله:
- {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} (الحج 62).
- {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير} (الحج 6).
لقد عبر القرآن عن الوجود الإلهي بأنه وجود موضوعي حقيقي خارج الوعي الإنساني ولكن هذا الوجود ليس مثل وجود الأشياء. {ليس كمثله شيء} (الشورى 11) حيث إن الأشياء ينطبق عليها القانون الأول والثاني للجدل فتتغير وتتطور طبقاً للقانون الأول ولها علاقات تأثير وتأثر متبادل طبقاً للقانون الثاني، وقد سبحت الأشياء لله تعالى تسبيح وجود “نزهته” عن أن يكون مثلها فيفسد ويهلك. وبما أن قانون الثنائية ينطبق على الأشياء كلها، فقد عبر القرآن عن الوجود الإلهي بالصفات التالية:
- لا ينطبق عليه قانون 1، 2 للجدل {ليس كمثله شيء} (الشورى 11).
- بأنه أحادي غير ثنائي في كيفه. {قل هو الله أحد} (الإخلاص 1).
- بأنه واحد في كمه. {أنما إلهكم إله واحد} (الكهف 110).
- عدم التناقض حيث أن الوجود الموضوعي الأحادي لا يحتوي على التناقضات في ذاته وبالتالي غير قابل للفساد والتغير “الهلاك”. {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88).
- لا تنطبق عليه معادلة الزمان حيث أن الزمان والمكان بمفهومه الحالي هو من صفات المادة الثنائية المتغيرة {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} (الحديد 3).
حيث وضع واو العطف بين الأول والآخر، وبين الظاهر والباطن وإذا استعرضنا الكتاب فلا نرى أسماء الله الحسنى معطوفة على بعضها إلا في هذه الآية وذلك للدلالة على عدم انطباق معادلة الزمان على الله. لذا فإن الإلحاد من وجهة نظر القرآن هو من نتاج الفكر الإنساني وهو موقف مثالي بحت.
أما المصطلح الثاني للحق: فهو كلمات الله والتي هي عين الموجودات المخلوقة {قوله الحق} (الأنعام 73} {ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} (يس 82). ولكي يعبر عن أن الوجود المادي الكوني خارج الوعي الإنساني “الأشياء” عبارة عن حقيقة وليست تصورات قال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} (الحجر 85} {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} (النحل 3).
هنا بين بشكل واضح أن السموات والأرض وما بينهما مخلوقات موضوعية لها وجود خارج الوعي وليست تصوراً، لذا استعمل الحق مع حرف الجر “الباء” “بالحق” “أي أنها مخلوقة بكلماته”.
لذا فنحن المسلمين نعتقد بوجود حقيقي لله وبوجود لكلماته التي هي عين الموجودات وكلاهما خارج الوعي الإنساني.
أما عندما استعمل كلمة الحق في أم الكتاب كقوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} (الأنعام 151). أو قوله {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} (الحج 40) هنا استعمل كلمة الحق لارتباطها بمفهومين أساسيين بالحقيقة، وقد عبر عن هذين المفهومين في سورة الأنعام. {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} (الأنعام 115).
فالصدق والعدالة لا تكونان إلا من خلال الموجودات الحقيقية فلا صدق وهمياً ولا عدالة وهمية، فالعدالة لا تتحقق إلا إذا جاءت منسجمة لا متعارضة مع قوانين الوجود، والصدق لا يكون في أوهام بل في موجودات “كلمات”. لذا قال بعد فتح مكة {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} (الإسراء 81). ولم يقل قل جاء الصواب وذهب الخطأ.
الباطل: لقد استعمل القرآن مصطلح الباطل للدلالة على الوهم والتصور الوهمي فعبادة العرب للأصنام قبل الإسلام لا تعتبر موقفاً خاطئاً بل موقفاً باطلاً “مثالياً” أي أنهم تصورا بأن الأصنام تضر وتنفع موضوعياً، ولكنها موضوعياً ليست أكثر من أحجار، وهذا شأن كل موقف فيه شرك فهو موقف باطل “مثالي”. ولكي يؤكد بطرح بمعاكس بأن السموات والأرض حقيقة لا وهم قال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} (ص 27)، {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته .. الآية} (الشورى 24)، {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران 191).
وعندما استعمل الباطل بمفهوم الحلال والحرام في السلوك الإنساني استعمله بنفس المفهوم في قوله: {إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلوا أموال الناس بالباطل} (التوبة 34)، {وأكلهم أموال الناس بالباطل} (النساء 16) هنا استعمل الباطل لأن الأحبار والرهبان يزرعون في أذهان الناس تصورات وهمية كأنهم وسطاء في المغفرة من الله ووسطاء في التقرب من الله ويأخذون أموال الناس انطلاقاً من هذه التصورات لذا قال “بالباطل”.
لذا نستنتج مما ذكر أن الوجود الموضوعي المادي خارج الوعي هو وجود حقيقي لا وهمي “تصوري” وهذا الوجود سبق في وجوده وجود الإنسان كائناً حياً عاقلاً لذا نقول إن التصديق سابق التصور أي أن الموجودات سبقت في وجودها وجود الإنسان وأن المعرفة الإنسانية هي معرفة هذا الوجود على ما هو عليه. فهنا تقسم المعرفة الإنسانية إلى قسمين:
أ – معرفة الموجودات “الوجود المادي الثنائي” الأشياء.
ب – معرفة الله من خلال كلماته وآياته. فكلما زادت معرف الإنسان بالموجودات “كلمات الله وآياته-العالم الرحماني” زادت معرفته بالله ن خلال أسمائه الحسنى “السمات”.
2- الغيب والشهادة:
الغيب في اللسان العربي من “غيب” وهي أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون ثم يقاس عليه.
والشهادة في اللسان العربي من “شهد” وهو أصل يدل على حضور وعلم، والمشهد محضر الناس.
إن مفهوم الغيب والشهادة كما ورد في الكتاب هو مفهوم مادي بحت فالغيب لا يعني في الكتاب كما يقال في المصطلح الفلسفي ما وراء الطبيعة، ففي معنى حصول حدث ما أثناء غياب الشخص المعني قال تعالى حول امرأة العزيز {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} (يوسف 52). وجاءت في المعنى المباشر لغياب شيء محدد ما في قوله: {وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} (النمل 20). وعندما أنهى جزءاً من قصة نوح في سورة هود قال تعالى {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (هود 49).
لقد كانت أحداث قصة نوح بالنسبة لقومه من الشهادة وليست من الغيب، وعندما أخبر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها إنها من أنباء الغيب لأنها كانت غيباً بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه، وقوله أيضاً من مريم واصطفائها. {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} (آل عمران 44). ولكي يبين أن حدث مريم لم يكن شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}.
وعندما أخبر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، بعض أحداث نوح ومريم على أنها غيب دخلت في معلومات النبي صلى الله عليه وسلم وفي معلوماتنا نحن وأصبحت من المدركات ولو أنها غابت عنا ولكي يبين أن القصص كله غيب بالنسبة للنبي، وشهادة لله مع أنه أحداث مادية وإنسانية قال {فلنقصن عليهم بعلمٍ وما كنا غائبين} (الأعراف 7) ولكي يؤكد أن الغيب هو أشياء وأحداث مادية قال: {وما من غائبةٍ في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} (النمل 75) و {إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور} (فاطر 38) و: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقومٍ يؤمنون} (الأعراف 188).
إن الدول تحاول تطبيق هذه الآية “أي الآية 188 من سورة الأعراف” بكل إمكانياتها، فإذا سألنا الدول عن سبب الأقمار الصناعية والتصوير الفضائي وإرسال الجواسيس وصرف مليارات الدولارات على هذه المشاريع لجاءنا الجواب بشقين اثنين:
- الأول: هو معرفة ما تبيته الدول بعضها لبعض واستكشاف الكوارث الطبيعية وذلكم من باب درء الأذى هو شق الآية {وما مسني السوء}. فعندما يعرف الإنسان ما يبيته له الآخرون فإنه يتخذ الاحتياطات اللازمة لدرء الأذى.
- الثاني: هو استكشاف خيرات الأرض واستثمارها وعقد الصفقات التجارية التي تؤدي إلى ربح وهذا ما يسمى بدراسة الجدوى الاقتصادية وهذا هو شق الآية {لاستكثرت من الخير}. فالغيب أشياء وأحداث مادية موجودة، أو حصلت ولكنها غابت عن بعض الناس أو عن كل الناس ولكنها ليست في ما وراء الطبيعة وقابلة للإدراك. فهناك في القرآن آيات الجنة والنار والبعث والحساب والساعة وكلها من الغيبيات ولكنها في عالم المادة وقابلة للإدراك. لذا قال عن بداية الكتاب {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} (البقرة 2).
{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة 3) وبما أن الله كامل المعرفة فلا يوجد بالنسبة له أشياء موجودة أو أحداث حصلت لا يعرفها لذا قال عن نفسه عالم الغيب والشهادة في قوله {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} (الرعد 9). وقال: {عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} (الحشر 22). وقال: {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} (التغابن 18).
ولكي يؤكد أن عالم الغيب هو من عالم الرحمانيات المادي قال: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} (ق 33). وقال: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرةٍ وأجر كريم} (يس 11) وقال عن الجنة والنار إنها مادية {جنات عدنٍ التي وعد الرحم عباده بالغيب} (مريم 61). وقال: {أطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهداً} (مريم 78).
والآن يمكن لنا أن نعرف الغيب كالتالي:
الغيب: هو وجود لأشياء مادية أو أحداث طبيعية أو إنسانية غابت عن المعرفة الإنسانية الحضورية أو العقلية غياباً جزئياً أو كلياً، أي أن الغيب إما أن يكون جزئياً أو كلياً.
فالغيب الجزئي: هو أشياء أو أحداث مادية أو إنسانية “كالقصص” شهدها “وعرفها” أناس وغابت عن غيرهم شهوداً ومعرفة، وهناك الآن أشياء كثيرة في العالم يعرفها البعض وغابت عن البعض الآخر وهذا النوع من الغيب متحول غير ثابت، وهو غير أبدي، لأن ما عرفه البعض اليوم وهو غيب للآخرين قد يعرفه الآخرون غداً.
الغيب الكلي: هو أشياء أو أحداث مادية لا يعرفها أحد إلا الله، وهذا الغيب هو غيب نسبي لأن ما تجهله الإنسانية اليوم قد تعرفه غداً. هنا وضعت الإنسانية ككل لأنه إذا عرف شخص واحد شيئاً ما أو حدثاً ما فهذا الشيء وهذا الحدث لا يدخل في الغيب الكلي.
فالغيب الكلي والجزئي متحرك دائماً باتجاه المعرفة وبالتالي باتجاه التقلص، وقد غداً هذا الأمر واضحاً بعد التقدم الذي حصل في ميدان المعلومات والتقدم الهائل في انتقال المعلومات من مكان إلى مكان آخر.
أما ما اختص به الله سبحانه وتعالى فهو “مفاتيح الغيب” وهي مجموعة م القوانين إذا عرفها الإنسان أصبح مؤهلاً لأن يكون كامل المعرفة والتي لا يطلع عليها إلا من ارتضى من “رسول” حيث قال {عالم الغيب فلا يظهر على غيبهِ أحداً} (الجن 26). ثم أتبعها بقوله: {إلا من ارتضى من سولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} (الجن 27).
أما الشهادة فمن المعنى اللغوي الذي هو الحضور والعلم يتبين أنها إما المعرفة الحسية المباشرة “الحضورية” الآتية عن طريق الحواس مباشرة، أو عن طريق السمع فقط، والتي تسمى “المعرفة الخبرية” وإما المعرفة الآتية عن طريق الاستنتاج العقلي والتي هي المعرفة النظرية. لذا قال عن اليوم الآخر {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} (هود 103). وهنا {يوم مشهود} تعني الحضور المباشر للناس في هذا اليوم، لا المعرفة النظرية فقط.
3- السمع والبصر والفؤاد:
لقد جاءت الألفاظ الثلاثة “السمع والبصر والفؤاد” مجتمعة في عدة أماكن في الكتاب كقوله تعالى:
- {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} (الإسراء 36).
- {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل 78).
- {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} (الملك 23).
- {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} (السجدة 9).
نلاحظ في هذه الآية كيف ربط بين السمع والبصر والفؤاد فالسمع هو وظيفة لعضو هو الأذن، والبصر وظيفة لعضو هو العين، وفي اللسان العربي لا تعطف إلا الصفات بعضها على بعضها أو الموصوفات بعضها على بعض. ففي عطف الموصوفات قال: {ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين} (البلد 8، 9، 10).
هنا نلاحظ في الآيات الثلاث من سورة البلد كيف ذك الأعضاء فبدأ بالعينين ثم تلا ذلك اللسان والشفتين ولم يقل بصراً ولساناً أو بصراً وشفتين، وهنا تأتي النتيجة المباشرة بأن النجدين هما أعضاء وهنا بمعنى الثديين. يدلك على هذا وضع النجوم بين الآيات الثلاث إذ لم يضعها في آية واحدة لتبيان اختلاف الوظائف لهذه الأعضاء.
وبما أن السمع والبصر هما وظائف لأعضاء، وبما أنه عطف الفؤاد عليهما نستنتج أن الفؤاد وظيفة لعضو وليس عضواً، فالفؤاد هو الإدراك الناتج عن طريق الحواس مباشرة وعلى رأس هذه الحواس السمع والبصر لأن التفكير الإنساني بدأ بهما أي الإدراك المشخص بحاستي السمع والبصر. وهو المقدمات المادية للفكر الإنساني. لذا قال عندما رمت أم موسى ولدها في اليم بيديها ورأت ذلك بأم عينيها {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} (القصص 10). أي أن المقدمات الحسية عند أم موسى جعلتها في وضع حيواني انعكاسي غير قادرة على التفكير فعندما يتعدى إنسان على قطط صغار فإن تصرف الأم يأتي مباشرة وتبدي استياءها مباشرة وتبدأ بالدفاع عن أطفالها لذا أتبعها بقوله: {إن كادت لتبدي به}.
وكذلك قوله عن تنزيل القرآن مرتلاً: {وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} (الفرقان 32). هنا ذكر الفؤاد في مجال التنزيل هو تبليغ القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر عن طريق الوحي حيث أن القرآن لم يأت للنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق السمع والبصر لكي يتثبت الإنسان ما سمع وما أبصر، ولو جاءه دفعة واحدة لوقع فيه الشك بين الوهم والحقيقة. علماً بأن بداية الوحي كانت بداية فؤادية بحتة حيث جاءه جبريل صوتاً وصورةً وعله {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق 1) ولو بدأ الوحي بداية مجردة لما صدق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذه ناحية مهمة جداً لنا نحن المسلمين بأن بداية الوحي كانت بداية فؤادية لها علاقة مباشرة بالسمع والبصر حيث جاءه جبريل مشخصاً.
وكذلك نفهم شروط الشهادة التي يجب أن يؤديها الإنسان. فحتى لا تكون الشهادة شهادة زور يجب أن تكون شهادة فؤادية أي معلومات معتمدة على السمع والبصر مباشرة. أما إذا كانت غير ذلك كالرأي الاستنتاجي أو الاستقرائي فتسمى خبرة وليست شهادة. ومن الآية رقم “78” من سورة النحل نستنتج أن الإنسان يولد خالياً من كل المعلومات، أي أن المعلومات المخزنة عنده تساوي الصفر، والحواس وعلى رأسها “السمع والبصر” هي مصدر بداية المعلومات، فالفؤاد “الإدراك المشخص” يعتبر المقدمات المادية للفكر الإنساني المجرد. أي أن الفؤاد يعتبر المرحلة الأولى من مراحل التفكير الإنساني-وهو القاسم المشترك بين أهل الأرض جميعاً عالمهم وجاهلهم-ذكيهم وغبيهم. “انظر فرع نشأة الفكرة وارتباطه باللغة”. وهكذا نفهم لماذا يعتبر التلفزيون أهم وسيلة للإعلام ظهرت في العالم .. لأنه مصدر معلومات فؤادي يعتمد على السمع والبصر “صوت وصورة” ولأنه جذب معظم أهل الأرض ودخل في حياتهم.
وهنا نفهم قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .. الآية} (البقرة 255). هنا ربط المشيئة بحرف الجر “الباء” بقوله “بما شاء” وهذا يعني أن المعلومات التي يحيط بها الإنسان تأتي بالوساطة التي أرادها الله وهي السمع والبصر والفؤاد. وأيضاً ربط الفؤاد بالسمع والبصر لكي يميز بداية التفكير الإنساني عن البهائم، فالبهائم لها سمع وبصر وفؤاد انعكاسي ولكنها دون فؤاد إنساني. وقد أعطى الكتاب معنى قياسياً للفؤاد حيث هو في اللسان العربي من “فأد” وهو أصل صحيح يدل على حمّى وشدة حرارة ومن ذلك فأدت اللحم أي شويته. وقد سمي بذلك الفؤاد لأنه مقدمات أو هو المرحلة الأولية من مراحل الفكر الإنساني، وقد أعطى القرآن هذا المعنى على أنه معنى حمول على المعنى الأول حيث أن الفؤاد هو بمثابة الصاعق “المحرض” أو مرحلة الإقلاع للفكر الإنساني.
4- القلب:
لقد جاء القلب في اللسان العربي من “قلب” والقاف واللام والباء أصلان صحيحان: أحدهما يدل على خالص شيء وشريفه، والآخر على رد شيء من جهة إلى جهة، والأول القلب قلب الإنسان وغيره سمي قلباً لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه، وخالص كل شيء وأشرفه قلبه.
لنر الآن كيف استعمل الكتاب هذا المصطلح. فما هو أخلص شيء وأشرفه في الإنسان؟ ويا ترى أي عضو من أعضاء الإنسان أطلق عليه الكتاب مصطلح القلب؟
لقد أطرق الكتاب مصطلح القلب على عضو يعتبر من أنبل الأعضاء في جسم الإنسان، هذا العضو هو المخ وهو أنبل الأعضاء لدى الإنسان لذا سمي بالقلب وقلب المخ هو القشرة الخارجية حيث هي أنبل جزء فيه “مركز الفكر والإرادة” وفي هذه الحالة يزول التعجب حيث أن الكتاب ذكر من أعضاء الإنسان اليدين والأرجل والجلود والحناجر والأذن والعين واللسان والشفة والأمعاء والقلب فكيف لم يذكر المخ وهو أنبل الأعضاء قاطبة؟
وإذا استعرضنا آيات الكتاب رأينا أنه ذكر المخ صراحة على أنه القلب وذلك في قوله: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج 46)، {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف 179) والإنسان يتميز عن الأنعام بالقشرة الخارجية للمخ.
نلاحظ في الآيتين “46” من سورة الحج و”19″ من سورة الأعراف أن القلب ليس العضلة التي تضخ الدم حيث وضع الصفات والموصفات التالية:
- “آذان يسمعون بها” الأذن عضو والسمع وظيفة الأذن.
- “أعين لا يبصرون بها” العين عضو والبصر وظيفة العين.
- “آذان لا يسمعون بها” الأذن عضو والسمع وظيفة الأذن.
- قلوب يعقلون بها” القلب عضو والعقل وظيفة القلب “وهنا هو المخ الإنساني”
- “قلوب لا يفقهون بها” القلب عضو والفقه وظيفة القلب
قد يسأل سائل لماذا لم يذك المخ صراحة؟ فالجواب أنه في سورة الأعراف ذكر الجن والإنس وذكر القلب على أنه عضو التفقه، والقلب هو أنبل وأشرف عضو في المخلوق وهو المخ عند الإنسان وليس من الضروري أنه المخ عند الجن لأن الجن مخلوقات عاقلة من نوع آخر فكان القلب الذي هو أنبل عضو بغض النظر عن اسمه الفيزيولوجي تحديداً هو قاسم مشترك بين الإنس والجن.
وقد ذكر الزمخشري في “الكشاف م3 ص167” “أن القلوب مراكز العقول”.
لقد ذكر الكتاب للقلوب فعلان الأول يعقلون بها والثاني يفقهون بها وهما فعلان متغايران. فالفقه جاء من “فقه” ويدل على إدراك الشيء والعلم به وكل علم بشيء فهو فقه ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام فقيه، وأفقهتك الشيء إذا بينته لك. فيهمنا هنا المعنى الأساسي وهو العلم بالشيء بكامل تفاصيله حيث سمي فيما بعد العلم بالحلال والحرام “الفقه”، علماً بأنه يحتوي على تفاصيل دقيقة ظرفية وعينية. أما قوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج 46). فهنا الصدور لا تعني صدر الإنسان الذي يحتوي على العضلة القلبية وقد شرحت في الباب الأول مفهوم الصد كقوله {الذي يوسوس في صدور الناس} (الناس 5).
وتعني الناس الذين يشغلون مواقع الصدارة في المجتمع، وقوله {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت 49) هنا أيضاً الناس الذين يشغلون مراكز الصدارة بين العلماء أي الراسخون في العلم، فالصد هنا أبرز شيء في الإنسان وهو الرأس الذي يحتل مركز الصدارة بين أجزاء الإنسان.
والصدر في اللسان العربي له أصلان صحيحان “أحدهما يدل على خلاف الورد” والآخر صدر الإنسان وغيره، والصدار ثوب يغطي الرأس والصدر. ففي معنى الرأس قوله تعالى: {القلوب التي في الصدور}. وفي معنى الصدر جاء في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} (الإنشراح 1). وهنا لا تعني المعنى الفيزيولوجي المباشر لشق الصدر “عملية جراحية” ولكن لها معنى محمول وهو التشجيع والراحة في الإقدام على عمل ما كقوله {رب اشرح لي صدري} (طه 25).
أما في معنى الصدر عكس الورود فقد جاءت في قوله تعالى {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم} (الزلزلة) وفي قوله تعالى: {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء} (القصص 23).
الآن إذا رتلنا آيات الكتاب التي تحوي على القلب فإننا نراها لا تخرج عن هذا المعنى:
1 – {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران 159). هنا ذك ناحيتين مهمتين في الإنسان: الناحية الأولى الفظاظة في الطبع وهي سلوكية، وغلاظة القلب وهي التي نقول عنها الآن “بلادة الذهن أو الغباء” STUPID. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان فطناً حيث أن الفطنة من صفات النبوة.
2 – {إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء 89)، {وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلبٍ سليم} (الصافات 83، 84). هنا القلب السليم تعني سلامة التفكير ونضجه، وقد ذكر هذا عن إبراهيم في مكان آخر في قوله {ولقد آتينا إبراهيم رشدهُ من قبل وكنا به عالمين} (الأنبياء 51).
وقد عبر أيضاً عن القلب السليم في قصة تكسير إبراهيم للأصنام بقوله: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} (الأنبياء 63). وقوله: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون} (الشعراء 72} {أو ينفعونكم أو يضرون} (الشعراء 73). وكذلك إخباره عن سلامة تفكير إبراهيم. {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم بتؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة 260) هنا أعطانا رأس المنهج العلمي السليم الذي بدونه لا يمكن أن يتقدم العلم وهو منهج الشك للوصول إلى اليقين. ومنهج التجربة العلمية “الاختبار” لمطابقة الحقيقة الموضوعية مع المقدمات والنتائج النظرية.
فالعلماء الآن يضعون النظيات العلمية، ويعلمون أنها مترابطة منطقياً، ومع ذلك فإنهم يخضعونها للتجربة العملية لمطابقة النظري مع الواقع العلمي وهذا هو أكبر اختبار لأية نظرية، وهذا ما فعله إبراهيم تماماً، إذ أراد أن يخضع نظرية البعث وإحياء الموتى للتجربة العملية مع أنه واثق منها لذا قال {بلى ولكن ليطمئن قلبي} فكان إبراهيم بهذا إماماً للناس في قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمنهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة 124).
هنا نلاحظ قوله: {إني جاعلك للناس إماماً}. ولم يقل “إني جاعلك للمتقين إماماً” فإبراهيم هو إمام الناس المؤمن منهم والكافر ولا يمكن أن يكون إمامهم إلا بالمنهج العلمي السليم لذا قال: {إذ جاء ربه بقلبٍ سليم} (الصافات 84). وهنا يجب أن لا نفهم الإمامية بالتقوى لأن المتقين هم من الناس ولكن ليس كل الناس من المتقين. وقد أكد ذلك بقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ) وقد قلنا إن الكلمات هي عين الموجودات وقوانينها وليست صلاة أو صوماً أو أخلاقاً فاضلة.
3 – {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك} (البقرة 97)، {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون ن المنذرين} (الشعراء 193-194) لقد كان الكتاب يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحياً مجرداً بوساطة جبريل وكان يغيب عن الوعي ويصحو، فإذا بالآيات الموحاة منقوشة “مسجلة” في دماغه لذا قال: {نزله على قلبك} (البقرة 97). وقال: {على قلبك لتكون من المنذرين}.
4 – {أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك} (الشورى 24). والافتراء هو نشاط فكري بحت ويجري في المخ، لذا علق على الافتراء بقوله: {إن يشأ الله يختم على قلبك}. ففي هذه الحالة يصبح المخ عاجزاً عن التفكير، وكذلك في قوله: {فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} (المنافقون 3).
5 – {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} (البقرة 204). القول هو من نشاط الفكر وقد قلنا: إن الكلام حين يتحول إلى معنى في الذهن يصبح قولاً، وهذه الآية تصف المنافقين: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} (الفتح 11). فالإنسان عندما يقول شيئاً ويضمر شيئاً آخر فإنه يضمره في دماغه لا في العضلة التي تضخ الدم.
ثم إنه لو كان يقصد بالقلب العضلة التي تضخ الدم فإن الحيوانات العليا كالقردة لها عضلة قلبية كعضلتنا تماماً ولكن دماغها ليس كدماغنا أي أنها لا تملك نشاطاً فكرياً. وكل شيء قاله القلب في الكتاب يتعلق بالنشاط الفكري الذي يميز الإنسان عن بقية الحيوانات.
6 – {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} (محمد 24). إن التدبر صفة إنسانية والقرآن بحاجة إلى تدبر لذا أتبع تدبر القرآن بقوله: {أم على قلوبٍ أقفالها}. هذا الإصلاح الذي نقول عنه الآن مخ مغلق أو مقفل (Closed Mind).
7 – {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} (الحشر 14). ففي قوله: {وقلوبهم شتى}. يذكر الخلافات الفكرية بين اليهود.
8 – {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} (الصف 5)، {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب} (آل عمران 8).
فالزيغ تعني النقص وهو عكس الطغيان “الزيادة” كقوله: {ما زاغ البصر وما طغى} (النجم 17) وهو الانحراف لذا قال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}. أي أصبح تفكيرهم منحرفاً.
9 – {ثم قست قلوبكم}. عن بني إسرائيل تعني أنهم تحجروا في تفكيرهم من بعد موسى، ولا تعني “قست قلوبكم” أي حصل معهم تصلب في الشرايين.
10 – {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} (البقرة 225).
هنا يذكر الله أن المؤاخذة عن الإيمان والأعمال التي يقوم بها الإنسان عمداً وعن وعي لما يعمل، ولذا قال: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}.
وهذا المعنى جاء أيضاً في قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولك ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً} (الأحزاب 5).
هنا أيضاً وضح الأعمال المقصودة عن وعي وإدراك حيث عبر عنها بقوله: {ما تعمدت قلوبكم} وقد عبر عن الحالة غير المقصود بقوله: {فيما أخطأتم}. والخطأ والعمد ما هما إلا نشاطان فكريان.
11 – {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكحان الله بما تعملون بصيرا} (الأحزاب 9)، {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب 10).
عندما ينتاب الإنسان الخوف ويظن أن الذي اعتمد عليه قد سحب تأييده، وفي هذه الحالة “المعتمد عليه هو الله” لذا قال: {وتظنون بالله الظنونا}. في هذه الحالة {بلغت القلوب الحناجر}. تعني ما يلي: الحنجرة هي جهاز الصوت “الكلام” والقلب هو جهاز الفكر والعقل. أي يبدأ الإنسان بالتعبير صراحة وجهراً عن شكوكه واستيائه.
لذا عندما قال: {وبلغت القلوب الحناجر}. أتبعها بقوله: {وتظنون بالله الظنونا}.
كذلك نفهم أيضاً قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر 18).
حيث أنه في يوم الحساب {يوم الأزفة}. كل شيء موجود في القلب “في المخ” يصبح على اللسان. {إذ القلوب لدى الحناجر}. ولا يوجد أي شيء يمكن أن يخفيه الإنسان مع أنه لا يرغب بإبدائه لذا قال: {كاظمين} والكاظمون لها أصل واحد وهو “الإمساك والجمع لشيء”.
وهذا المصطلح ما زال شائعاً حتى يومنا هذا إذ نقول أن زيداً من الناس لا يخفي شيئاً، ما في قلبه على لسانه.
12 – {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم} (التوبة 60).
يحدد هنا مصارف الصدقات، ويذكر أن نوعاً من المستفيدين منها هم مجموعة من الناس سماهم “والمؤلفة قلوبهم”، هؤلاء الناس الذين لهم جاه معين أو من الذين يتصفون بالحكمة ورجاحة العقل والدين يؤدون دوراً في إقناع الناس الآخرين بتأييدهم لفكرة أو قضية ما وعدم الوقوف ضدها.
13 – {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} (القصص 10).
لقد قلنا في بحث الفؤاد. إن الفؤاد هو الإدراك المشخص المرتبط بالحواس مباشرة وعلى رأسها السمع والبصر وهو القاسم المشترك بين أهل الأرض جميعاً الذين يملكون حواساً، لذا عندما ألقت أم موسى ولدها في اليم على مرأى ومسمع منها فرغ إدراكها الفؤادي أي كادت تخضع لرد الفعل الانعكاسي البهيمي أي تسلك سلوكاً بهيمياً كما تسلك البهائم عند فقدان أولادها وذلك بأن تصوت وتصرخ وتجلب الانتباه إليها لذا أتبعها بقوله: {إن كادت لتبدي به}. ولكن لكي يثبتها ويجعل عقلها يسيطر عليها وتسلك سلوك انسان رابط الجأش صابر قال: {لولا أن ربطنا على قلبها} ومركز الإدارة في القلب.
14 – {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (الحج 32). هذه الآية تتكلم عن شعائر الحج، وشعائر الحج طقوس تعبدية لذا ذكر فيها التقوى التقوى جاءت من فعل “وقى” وهي تدل على دفع شيء عن شيء بغيره، والوقاية: ما يقي الشيء، واتق الله “توقه”، أي اجعل بينك وبينه كالوقاية. ومنه جاء الطب الوقائي وهو إجراءات يقوم بها الإنسان ليدفع عن نفسه المرض وكذلك تعظيم شعائر الله هو من إجراءات الوقاية الواعية العاقلة التي يقوم بها الإنسان لذا قال: {من تقوى القلوب}.
هنا أيضاً نذكر قوله تعالى:
{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد 28).
فحتى يطمئن تفكير الإنسان بذكر الله يجب عليه أولاً أن يكون مؤمناً لذا بدأ الآية بقوله: {الذين آمنوا}. والاطمئنان بذكر الله هو الاتباع الواعي لأوامر الله الواردة في الكتاب وعلى رأسها الوصايا، هذا الاتباع الواعي هو الذي يولد الاطمئنان، لذا أتبعها. {وتطمئن قلوبهم بذكر الله}. وعندما ذكر الوصايا الخمس الأولى من الفرقان قال: {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعام 151). والمصطلح الحديث لاطمئنان القلب ما يسمى “براحة البال peace of mind).
15 – {وسنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} (آل عمران 151).
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} (الأنفال 12).
إن الرعب في اللسان العربي له ثلاثة أصول “الخوف، والملء، والقطع”. فهنا المعنى الأول وهو “الخوف” والثالث وهو “القطع” كقولنا للشيء المقطع: مرعب، فهنا الرعب هو الخوف واختلاف الرأي وهذه من صفات القلوب.
16 – {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} (الحجر 10).
{وما يأتيهم من رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون} (الحجر 11).
{كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} (الحجر 12).
{لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين} (الحجر 13).
{ولو نزلناه على بعض الأعجمين} (الشعراء 198).
{فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} (الشعراء 199).
{كذلك سلكناه في قلوب المجرمين} (الشعراء 200).
{لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} (الشعراء 201).
يذكر القرآن هنا أن المجرمين يصرون على أنه مجموعة الأساطير القديمة لذا تكلم عن شيع الأولين علماً بأن طريقة النبوات والمعجزات للأولين قد خلت، وأن هذه المعجزات جديدة هي للآخرين وليست للأولين.
17 – {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفهِ} (الأحزاب 4).
هنا يتكلم عن جوف الرأس “الجمجمة” الذي يحتوي على دماغ واحد مهما كانت التشوهات الخلقية لأنه لو كان هناك دماغان لجسد واحد لأصبح هذا المخلوق اثنين وليس بواحد. لأن الذي يحدد شخصية الإنسان دماغه وليس العضلة القلبية أو بقية الأعضاء.
نخلص إذاً إلى أن الآيات الواردة في الكتاب والمذكور فيها “القلب” تعني أشرف وأنبل عضو في الإنسان وهو الدماغ وهو عضو التعقل كما أن العين هي عضو البصر والأذن عضو السمع، وهذا ما نراه في الطب الحديث إذ أن القلب الذي يضخ الدم يمكن أن ينتقل من إنسان إلى آخر دون أن يؤثر على شخصية الآخر. ولكن إذا انتقل دماغ زيد إلى جوف رأس عمرو “جوف الجمجمة” فإن عمراً سيصبح زيداً. ولكي نميز القلب الذي يعقل عن القلب الذي يضخ الدم يجب علينا أن نقول: “القلب” عن الذي يعقل و”العضلة القلبية” عن الذي يضخ الدم. ونحن نعلم الآن أن العضلة القلبية والدماغ هما الأعضاء النبيلة في الإنسان، والدماغ أنبلها حيث أن الموت يتحدد بتوقف الدماغ عن العمل لا بتوقف القلب.
5- العقل والفكر:
العقل في اللسان العربي جاء من “عقل” وهو أصل واحد مطرد منقاس يدل عظمه على حبسةٍ في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل وهو الحابس عن ذميم القول والفعل. قال الخليل: العقل: نقيض الجهل يقال: عقل، يعقل عقلاً، ومن الباب: المعقل وهو الحصن. ويقال: عقلت البعير، أعقله عقلاً إذا شددت يده بعقاله، وهو الرباط، وعقيلة كل شيء أكرمه.
والفكر في اللسان العربي جاء من “فكر” وهي تردد القلب في الشيء. وجذرها “فك” وتعني التفتح والانفراج، من ذلك فكاك الرهن وهو فتحه من الانغلاق وجاءت الراء للتكرار والترداد في عملية التفتح وفك الأشياء بعضها عن بعض، ومنه جاء معنى الفكر وهو فك الأشياء بعضها عن بعض وتقليبها.
وهكذا نرى أن الفكر والعقل صفتان متتامتان فالفكر يفكك الأشياء بعضها عن بعض ويقلبها والعقل يشد “يربط” الأشياء بعضها إلى بعض فالفكر يفاضل ويحلل الأشياء بعضها عن بعض والعقل يكامل ويركب عناصر الأشياء بعضها إلى بعض ليصدر حكماً يتعلق بالوجود المادي الموضوعي أو حكماً يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقي.
– الفؤاد والفكر والعقل من سمات الإنسان وهي لنفخة الروح. هذه الصفات الثلاث ارتبطت بنشأة اللغة.
6- البشر والإنسان:
لقد ورد مصطلح البشر في الكتاب ليعبر عن الوجود الفيزيولوجي لكائن حي له صفة الحياة كبقية المخلوقات الحية وقد شرحت في القانون الأول للجدل كيف نمت الحياة وتطورت عن طريق البث الذي يحتوي على الطفرات الحياتية التي أدت إلى ظهور البشر وقد متميز البشر في الظهور ككائن حي مستقل في الفترة التي ظهرت فيها الأنعام {خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلمات ثلاثٍ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} (الزمر 6).
ففي هذه الآية نلاحظ أن وجود الإنسان البشري قد تزامن مع ظهور الأنعام وقد شرحت في بحث مفردات الذكر معنى الإنزال والتنزيل. وكيف أن الإنسان في رحم الأم يمر بكل مراحل التطور التي مر بها وهي الظلمات الثلاث وهي المرحلة الحيوانية البحرية والمرحلة الحيوانية البحرية البرية والمرحلة الحيوانية البرية. وعندا شرح الكتاب إحدى مراحل خلق الإنسان بالمعنى العام وذلك بالمقارنة مع الجان قال: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمأ مسنون} (الحجر 26).
وعندما أعطى التفصيل أتبعها بقوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ من حمأ مسنون} (الحجر 28} {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر 29). وبعد نفخة الروح أمر الله إبليس بالسجود فأجاب: {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} (الحجر 33). وفي سورة “ص” قال: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين} (ص71)، {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص72). وقد قلنا: إن الخلق هو التقدير قبل التنفيذ. لذا فعندما قال للملائكة: {إني خالق بشراً} فهذا يعني أن البشر لم يظهر بعدُ لذا اتبعها بقوله: {فإذا سويته}.
ثم اتبعها بقوله {ونفخت فيه من روحي} وبين الخلق والتسوية توجد الأداة “إذا” وهي ظرف لما يستقبل من الزمن. لذا قال {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون} (الأنعام 2). ثم استعمل أداتين معاً وهما “ثم وإذا” في قوله: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} (الروم 20) وقد استعمل هاتين الأداتين معاً بسبب الفارق الزمني الطويل بين التراب “المواد غير العضوية” وبين البشر هذه المرحلة التي أخذت مئات الملايين من السنين. وقد بين أن الانتشار في الأرض حصل في مرحلة البشر قبل نفخة الروح وأن البشر كان منتشراً قبل مرحلة الأنسنة. وأن البشر هو الشكل المادي الحيوي الفيزيولوجي الظاهري للإنسان حيث أن الإنسان هو كائن بشري مستأنس غير مستوحش “اجتماعي”.
وقد أجمل خلق الإنسان في بداية التنزيل في قوله: {خلق الإنسان من علق} (العلق 2). والعلق جاء من “علق” وفي اللسان العربي علق به و علقه: نشب به، كقول جرير يصف شجاعاً:
إذا علقت مخالبهُ بقرنٍ أصاب القلب أو هتك الحجايا
“الزمخشري أساس البلاغة ص211”
وفي ابن فارس العين واللام والقاف أصل كبير صحيح يرجع إلى معنى واحد وهو أن يناط الشيء بالشيء ثم يتسع الكلام فيه وأحد معاني العلق “الدم الجامد”.
لقد فهم المفسرون العلق على أنه الدم الجامد وهو تأويل لا يتطابق تمام التطابق مع الحقيقة وذلك لجهلهم بوجود الخلية المنوية والبويضة واللقاح الخلوي.
فالعلق هو أن يعلق شيء بشيء آخر ومفردها “علقة” لذا قال: {من نطفةٍ ثم من علقةٍ} فوضع العلقة بعد النطفة وهي مفرد وتعني دخول الحيوان المنوي إلى البويضة “تعلق شيء بشيء آخر” وهذا ما نسميه اللقاح وهو ما نقول عنه الآن في المصطلح الحديث “علاقة” فالعلق جمع علقة “أي علاقات” وقوله: {خلق الإنسان من علقٍ}. أي أن الإنسان مخلوق من مجموعة من العلاقات هذه العلاقات التي نقول عنها في المصطلح الحديث علاقات فيزيائية وكيميائية معدنية وعضوية وبيولوجية الخ. ثم لنلاحظ أن قوله {خلق الإنسان من علق}. قد جاءت في بداية الوحي للتنويه بأن الوجود المادي هو مجموعة كبيرة من العلاقات المتداخلة بعضها ببعض، ومن هذه العلاقات لا من خارجها تم خلق الإنسان. وذلك للدلالة على أن الوجود المادي خارج الوعي الإنساني هو مجموعة من العلاقات.
– الآيات التي ذكر فيها البشر تعني الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان وذلك للدلالة على جنسه كبشر وليس ملكاً أو من جنس آخر:
1 – {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران 47).
{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً} (مريم 20).
{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} (مريم 17).
إن هذه الآيات تبين أن مريم قد رأت روح الله في صورة بشرٍ بحت لا في صور ملكٍ أو جن ولذلك قال: “سويا”.
2 – {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو ن وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} (الشورى 51).
هنا يؤكد طريقة الوحي للجنس البشري لأنه لو كان جنساً آخر لكان من الممكن أن تكون طريقة الوحي غير الذي ذكر فمثلاً في الوحي للنحل، والنحل ليس بشراً كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل 68) فهذا يعني أن طريقة وحي الله للنحل غير طريقة وحي الله للبشر. ولكي يؤكد أن المسيح بشر والبشر إذا أوحي إليه من الله لا يقول للناس كونوا عباداً لي. فإذا حصل أن قال أحد من البشر للناس كونوا عباداً لي فهذا يعني أنه دجال ولم يوح إليه شيء.
3 – {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} (النحل 103).
{إن هذا إلا قول البشر} (المدثر 25).
هنا أكد أن الذي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ليس من البشر أي ليس من جنس النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يعلمه الله عن طريق الوحي وهو ليس من البشر. وقول الوليد بن المغيرة إن الذي يوحى إلى محمد هو من قول البشر أي من قول مخلوق من جنسنا.
4 – {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه} (المؤمنون 33). هنا أكد أن الطعام من صفات البشر وأن الرسل الذين أرسلهم الله كانوا من البشر يأكلون كما تأكل بقية الناس.
5 – {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذبُ من يشاء} (المائدة 18} {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء} (الأنعام 91} {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا} (إبراهيم 10)، {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم} (ابراهيم 11)، {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (الكهف 110)، {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكةً ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون 24).
- {ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآيةٍ إن كنت من الصادقين} (الشعراء 186).
- {فقال الملأ الذين كفروا من قومهِ ما نراك إلا بشراً مثلنا} (هود 27).
- {وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف 31).
- {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً} (الإسراء 94).
- {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} (المؤمنون 34).
- {فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعرٍ} (القمر 24).
- {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون 47). هنا نلاحظ في تلك الآيات السابقة ذكر البشر في مجال الجنس الفيزيولوجي المادي أي أنه كبقية الناس لهم أيدٍ ومعده ووجه وباقي الأعضاء ويأكلون كبقية الناس ولكن يتميزون عنهم فقد بالوحي لذا قال {بشر مثلنا}: {لبشرين مثلنا}. وقد قارن البشر كجنس بأنه ليس ملائكة بقوله في مجال المقارنة مع البشر. {ولو شاء الله لأنزل ملائكةً} (المؤمنون 24) والملائكة ليسوا من جنس البش وذلك أن الناس تعودوا بأن ينزل الله ملائكة رسلاً قبل أن يبعث الله رسلاً منهم بصفة بشرية ولذا كان هذا الاستغراب الكبير.
6 – {سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحةٌ للبشر * عليها تسعة عشر} (المدثر 26، 30).
هنا بين أن العذاب جسدي فيزيولوجي بحت قال عن سقر بأنها {لواحة للبشر} ولكي يبين أن إيراد ذكر سقر في الكتاب هو لهذا الجنس الذي هو البشر.
7 – الآيات التي جاء فيها الإنسان “الناس” تعني الكائن العاقل:
لقد ورد الإنسان والناس في عدة آيات بمعنى الكائن العاقل ولكن يجب أن نميز بين أصل إنسان وهو من “أنسن” وتعني في اللسان العربي ظهور الشيء وكل شيء خالف طريقة التوحش ومنه الإنس أي أنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه ويقال إنسان وإنسانان وأناسي.
فالإنسان هو البشر المستأنس غير المتوحش، أي له علاقة اجتماعية وصلة مع غيره، أما الناس فقد جاءت من “نوس” وهو في اللسان العربي أصل يدل على اضطراب وتذبذب فعندما اجتمع الإنسان مع أخيه الإنسان تولد عن هذا الاجتماع اضطراب وتذبذب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي لم تسر الحياة بشكل رتيب كما عند بقية المخلوقات كالنحل وأصبحوا ينوسون أي ينتقلون من مكان إلى آخر بشكل واع. وكلما ازداد الإنسان في تقدمه الإنساني كلما زاد النوسان.
فإذا تصفحنا آيات الكتاب التي تحتوي على لفظة الإنسان والناس نراها تدور حول المواضيع التالية:
1 – {ومن الناس من يقول ..} (البقرة 8)، {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس .. الآية} (البقرة 13)، {يا أيها الناس أعبدوا ربكم .. الآية} (البقرة 21)، {وقولون للناس ..} (البقرة 83)، {أتأمرون الناس ..} (البقرة 44)، {ولتجدنهم أحرص الناس ..} (البقرة 96)، {وسيقول السفهاء من الناس ..} (البقرة 142)، {بما ينفع الناس ..} (البقرة 164)، {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ..} (الروم 41)، {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس ..} (البقرة 185)، {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ..} (النساء 174)، {فلا تخشوا الناس ..} (المائدة 44)، {وإن كثيراً من الناس لفاسقون ..} (المائدة 49)، {يوسوس في صدور الناس ..} (الناس 5)، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..} (سبأ 28)، {لتأكلوا فريقاً من أموال الناس ..} (البقرة 188)، {ذلك يوم مجموع له الناس ..} (هود 103)، {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف 103).
نلاحظ أن هذه الصيغة كلها صيغ للعاقل ودائماً يوجه الخطاب في الكتاب في قوله {يا أيها الناس}. ولم يقل أبداً يا أيها البشر.
2 – {إن الإنسان لظلوم كفار} (ابراهيم 34)، {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير} (الإسراء 11)، {إن الإنسان لكفور مبين} (الزخرف 15)، {إن الإنسان خلق هلوعاً} (المعارج 19)، {يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر} (القيامة 10)، {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً} (الأحقاف 15) هذه الصفات كلها للمخلوق العاقل.
3 – عندما ذكر خلق الإنسان أعطاه في جملة كقوله {خلق الإنسان من علق}. وعندما أعطى التفاصيل وطريقة الخلق ذكر البشر كقوله {إني خالق بشراً}.
نلاحظ الفرق الواضح بين البشر والإنسان فالبشر هو الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان ككائن حي ضمن مجموعة مخلوقات حية. إن القردة كائنات حية والأنعام كائنات حية لذا عندما ندرس جسم الإنسان في الجامعة ككائن حي فقط نقول” كلية الطب البشري” ولا نقول كلية الطب الإنساني. فالبشر هو تباشير الإنسان أوله حيث تباشير كل شيء أوائله. وعندما نقول العلوم الإنسانية فإننا نقصد علوم اللغات والتاريخ والفلسفة والحقوق والشريعة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والفنون بأنواعها. أي العلوم التي تتعلق بالإنسان ككائن حي عاقل له سلوك واع.
(3) تعليقات
Monkey
At last! Someone with the insight to solve the prolebm!
بخدة صليحة
السلام يادكتور انا في بيروت واريد شراء الكتبك ولكنه ذهبت الى عدة مكتبات ولم اجد الكتب من الممكن ان اعرف اين اجد الكتب اذا سمحتم الرد في اقرب وقت لان سفري هذا الاسبوع تحياتي دكتور
الأخت صليحة
نعتذر للتأخر في الإجابة، الكتب موجودة لدى دار الساقي للنشر والتوزيع
http://www.daralsaqi.com
الهادي ودالكامل
فهم راقي جدا فوالله هذا ما يجهله فقهاؤنا تماما ا