تمهيد
أصل الجدل في اللسان العربي من “جدل” وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام “ابن فارس”- مقاييس اللغة – والاسترسال من “رسل” وتعي الانبعاث والامتداد، جاء القوم أرسالاً أي يتبع بعضهم بعضاً.
ويقوم الجدل على الثنائية. والثنائية على أنواع:
- ثنائية تلازمية في الشيء المادي الواحد. تؤدي إلى جدل داخلي يقوم على صراع تناقضي في اتجاه واحد بين عنصرين مكونين لكل شيء مادي. وهذا هو جدل هلاك شكل الشيء باستمرار.
- ثنائية تقابلية بين شيئين ماديين يتواجدان معاً في علاقة ما. تؤدي إلى جدل خارجي بينهما يقوم على صراع غير تناقضي في اتجاهين أي على تأثير وتأثر متبادل بين هذين الشيئين يفضي إلى تلاؤمهما. وهذا هو جدل تلاؤم الزوجين.
- ثنائية تعاقبية بين ظاهرتين لا تلتقيان أبداً، إذ ينفي وجود الواحد وجود الأخرى بالضرورة. تؤدي إلى جدل الأضداد في ظواهر الطبيعة غير الحية بنتيجة الحركة الميكانيكية للجمادات “مثال ذلك تعاقب الليل والنهار”. كما تؤدي إلى جدل الأضداد في عالم الأحياء بنتيجة الحركة العضوية للكائنات الحية “ومثال ذلك تعاقب بسط اليد وقبضها وتعاقب الشهيق والزفير في التنفس”. ويقوم جدل الأضداد على صراع تناقضي على التعاقب. وهذا هو جدل تعاقب الضدين.
- ثنائية تلازمية بين نقيضين غير ماديين يتواجدان معاً في الدماغ الإنساني الذي يقوم على صراع بينهما في اتجاهين. وقد ينتهي جدل النقيضين في الدماغ بإصدار حكم في كل صراع على حدة يؤيد أحدهما ويلغي الآخر. ويكون الحكم صادقاً أي حقيقياً إذا كان مطابقاً للواقع المادي الموضوعي خارج الذات الإنسانية، ويكون الحكم كاذباً أي وهمياً إذا كان غير مطابق للواقع الموضوعي. ويتجلى بهذا جدل الفكر الإنساني.
وقد لا ينتهي جدل النقيضين في الدماغ عن طريق إصدار حكم، فيتم حينئذ تغليب عاطفي “غير عقلي” لأحدها على الآخر “ويظهر ذلك مثلاً في التغلب العاطفي للحب على الكراهية أو بالعكس”. ويتجلى بهذا جدل النفس الإنسانية.
وسنبدأ بالحديث عن الجدل المادي الداخلي “جدل هلاك شكل الشيء باستمرار”، ثم عن الجدل المادي الخارجي “جدل تلاؤم الزوجين”. وننتقل بعد ذلك إلى عرض رأينا في الصور والحساب والجنة والنار. وفي الختام نتطرق إلى جدل النقيضين في الدماغ الإنساني الذي ينطلق يتجلى في صيغتين: جدل الفكر الإنساني وجدل النفس الإنسانية.