في عالمنا الإسلامي اليوم، ترتفع شعارات وتسود مقولات وتشيع مفردات ومصطلحات، يختلط فيها القومي بالعرقي. والسياسي بالعقائدي والفكري بالسلوكي، وتتداخل فيها حدود الانتماء الديني والمذهبي والقومي مع الانتماء السياسي الملكي والجمهوري والدستوري، وتضيع في ظل هذا التداخل وذلك الاختلاط الفوارق بين القوم والأمة والقبيلة والشعب والوطن. ولعل أبرز صورتين معاصرتين لهذا الضياع هما: عبارة سعد زغلول في مصر “الدين لله والوطن للجميع¨، وشعار زكي الأرسوزي منظر القومية: “أمة عربية واحدة¨ ففي الأولى وضع المواطنة قبل الدين بالنسبة للحياة العامة، والثانية تخلط بين الأمة والقوم فهناك قومية عربية أو تركية أو فارسية، وهناك أمة محمدية أو أتاتوركية أو ماركسية. فالقومية لسان والأمة سلوك وعقيدة.
هذه الشعارات والمقولات والمصطلحات ليست جديدة وضعها الفكر المعاصر كلها لأول مرة، فمعظمها نجده في كتب التراث، وبعضها نجد أصلاً له في التنزيل الحكيم جرى توظيفه بعد ليّه لمقاصد سلطوية سياسية حيناً، أو لأهداف مذهبية وقومية وعرقية حيناً آخر.
قلة من الذين كتبوا في الفكر الإسلامي، ونقدوا العقل العربي والإسلامي، تعرضوا لهذه الشعارات والمقولات والمفردات بالدراسة والتحليل. منهم من أعرض عنها ترفعاً فجاءت كتبه لصفوة أكاديمية منتقاة تسكن في أبراج بعيدة عن الواقع المعاش عند باقي الناس في الحارات، ومنهم من تجاهلها تقية خوفاً من سياط النقد، أو من قرارات المنع في هذا البلد أو ذاك، أو من تكفير أصحاب المنابر له على منابرهم، ناهيك عن سيل من كتب تطوير الخطاب الديني وتجديد الفقه الإسلامي وندوات تقريب المذاهب والأديان رأيناها تغرق عالمنا العربي الإسلامي في مشرقه ومغربه بعد أحداث 11 أيلول، يحاول أصحابها “تلميع¨ صورتهم أمام الحضارة والديموقراطية في عواصم الغرب، واضعين القواعد والأسس للخطاب معهم وكأن العرب من أبناء الأمة الإسلامية لايحتاج خطاب بعضهم بعضاً لأي تطوير، يمارسون بكل صفاقة أبشع أنواع تحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم من بعد مواضعه، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، كالوسطية والتحريف والتجديف والإفراط والتفريط، وصياغة العبارات بدقة مدهشة بشكل تحمل معنى الشيء وضده في آن معاً.
يقول أحدهم في كتاب له عن تجديد الفقه الإسلامي تحت عنوان التشريع والعقل: “أما في الإسلام فلا يعد العقل مصدراً من مصادر الفقه..¨. وهذا لعب مفضوح على الألفاظ مدروس بعناية. صحيح بديهةً أن الله هو الذي صاغ تنزيله الحكيم كمصدر للمعرفة وللتشريع، صياغة ليس فيها دور إنشائي للعقل الإنساني، لكن العقل الإنساني هو المصدر الوحيد لفقه وفهم هذا التنزيل. والكاتب في حقيقة الأمر لايهمه التشريع ولا العقل ولا التنزيل، مايهمه هو ألا يُتهم بالاعتزال.
كان لابد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ الكلام عن الولاء والبراء، أحد تلك الشعارات. ويبقى أن نوضح أن الموضوع شائك ومعقد وحساس لايكفي قول في سطور للإحاطة به، كتب فيه عديد من أنصاره سنحاول هنا ألا نكون منهم، رغم مانقتبسه أحياناً من كتبهم، وكتب فيه عديد من خصومه سنحاول هنا ألا نقلدهم رغم ماقد نستعين به أحياناً من عباراتهم. ولانزعم أننا وفيناه حقه من جميع جوانبه فذلك يحتاج في رأينا إلى أكثر من بضعة سطور، يعمل عليه فريق من المختصين بجملة علوم أبرزها: التاريخ واللغة وعلم الاجتماع والفقه والتفسير. لكن إشعال شمعة واحدة يبقى أنفع من لعن العتمة، وكتابة صفحة واحدة نسمي فيها الأشياء بأسمائها أجدى من مجلدات تغرق في التورية وتحكمها الكنايات والتشابيه.
الولاء:
الواو واللام والياء أصل صحيح في اللسان العربي ومفردة قرآنية من الأضداد وردت مشتقاتها في 217 موضعاً من التنزيل الحكيم أولها في قوله تعالى {ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} البقرة 64. وآخرها في قوله تعالى {أرأيت إن كذب وتولى} العلق 13. ومنه الولي والمولى والولاية والتولي والموالاة. وفي كل هذه المواضع لاتخرج عن أحد معنيين: الإقبال بالإتباع، والترك بالإعراض. أما في الأول فيقول تعالى:
- {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة 56.
- {ولكل وجهة هو مولّيها..} البقرة 148.
- {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله..} البقرة 115.
وأما في الثاني فيقول تعالى:
- {سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها..} البقرة 142.
- {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا} الإسراء 46.
- {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} آل عمران 64.
والولي والمولى هو السيد المُتَبَعُ، وهو التابع المطيع الموافق لأوامر ونواهي سيده. أما في الأول فيقول تعالى:
- {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} البقرة 257.
- {ومالكم من دون الله من أولياء ثم لاتنصرون} هود 113.
- {إن وليي الله الذي نزل اكتاب وهو يتولى الصالحين} الأعراف 196.
وأما في الثاني فيقول تعالى:
- {ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون} يونس 62.
- {ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} مريم 45.
- {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} الأنعام 128.
تلك هي الحدود اللغوية للولاء، سواء في الجانب الشكلي بالاشتقاق أم في جانب المضمون بالدلالة والمعنى. لكن هذا الولاء أخذ عند البعض معنى اصطلاحياً، تحول معه من مفردة عربية قرآنية إلى مصطلح فقهي. وتواكب هذا التحول مع تحولات في الدلالة والمعنى لمصطلحات أخرى مثل: “العلماء¨ و”الأولياء¨ و”أولي الأمر¨ و”الحرابة¨ و”الردة¨ و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر¨ متأثرة حيناً ومؤثرة حيناً آخر بولادة معان جديدة لم تكن موجودة قبلاً مثل: “الفقه¨ و”العصمة¨ و”التقية¨، حتى ليصعب – إن لم نقل يستحيل – الجزم تحديداً بمعيار التراتبية التاريخية أيها كان البيضة وأيها صار الدجاجة.
قلنا أن الولاء من ألفاظ الأضداد في اللسان، فهو إما إقبال وإتباع أو ترك وإعراض، ولابد كي نفهم معنى الولاء في وجهيه من أن نجيب على أسئلة هامة مثل: إتباع ماذا؟ وترك ماذا؟ وهل الولاء – إتباعاً وتركاً – موقف فكري نظري؟ أم هو موقف سلوكي عملي؟ وهل هو فردي أم جماعاتي، أم هو للفرد والجماعة في آن معاً؟ وهل هو سلوك بمعنى أنه فعل وعمل، أم هو ناظم يحكم السلوك عند الفرد والجماعة؟ فإن كان بوصلة يهتدى بها، فهل هي من وضع الله تعالى أم من وضع الفقهاء الذين حولوا الولاء إلى مصطلح؟ وإن كان الولاء سلوكاً أو ناظم سلوك عند الجماعة، فهل هو كذلك على مستوى القوم والأمة والشعب والقبيلة؟ وهل يحكم الولاء التعارف الذي جعله الله هدفاً إلهياً في قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13؟ أم أن التعارف يحكم الولاء؟.
نستهل بالقول إن الولاء علاقة إنسانية اجتماعية، تبدأ عند الفرد فكراً نظرياً حين يقرر أن يتخذ لنفسه ولياً متّبَعَاً يقلده في كل مايفعل ويأتم به في كل مايعمل، وهذا معنى قوله تعالى {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات..} البقرة 148، ثم تصبح سلوكاً عملياً يجسد ذلك الفكر النظري، فإن أصبح الولي المتبع واحداً عند جماعة من الناس وتوحدت عندهم الوجهة، حسب تعبير آية البقرة 148، وتجانس السلوك صار الولاء جماعاتياً وأصبح اسم هذه الجماعة في التنزيل الحكيم “أمة¨، يقول تعالى:
- {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..} آل عمران 110، والواضح أن تجانس السلوك الذي جعل من المخاطبين بالآية أمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
- {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا..} يونس 19، والاختلاف هنا اختلاف تغاير في الفكر والسلوك، وليس اختلاف تنازع وتصادم.
- {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون..} القصص 23، والأمة في الآية هي مجموعة الرعاة الذين وحّد بينهم سلوك واحد هو السقاية.
- {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..} الأنعام 38.
- {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والأنس..} الأعراف 38. والآيتان الأخيرتان تشيران إلى أن وحدة السلوك يمكن أن تجمع بين مجموعات من الإنس والجن والدواب والطيور فتكون كل مجموعة منها أمة.
- {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وماكان من المشركين} النحل 120 – 123.
هذه الآيات الأربع ترسم لنا صورة إمام واجب الإتباع هو إبراهيم، له طريقة في السلوك تفرد بها، تجسدت في أربع مميزات: القنوت لله، والحنيفية عموماً، والحنيفية عن الشرك خصوصاً، والشكر لنعم الله، والاهتداء لصراطه المستقيم. ونزل الأمر الإلهي وحياً على قلب محمد (ص) بإتباعه في طريقته السلوكية. وإنما قلنا “إمام¨ بدلالة قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً..} البقرة 124، وأما التفرد في السلوك ففي قوله تعالى: {كان أمة}، فالأمة كما تعني مجموعة أفراد جمعتهم وحدة سلوكية واعية، فإنها تعني النهج والمسار والطريقة بدلالة قوله تعالى {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} الزخرف 22. وأما قولنا “واجب الإتباع¨ فبدلالة قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم}. ونلاحظ في الآيات أنه سبحانه ذكر محل الإتباع مرتين وحصره في الحنيفية وفي ترك الشرك، ليؤكد على أهمية تحديد موضع الولاء حين نلتزم به أو نلزم به الآخرين. وأمتنا الآن هي أقل الأمم حنيفية على سطح المعمورة وبالتالي فهي أقرب للشرك من بقية الأمم لأنه كلما زادت الحنيفية عند الإنسان بعد عن الشرك.
إن تحديد موضع الولاء ومحله للإجابة على سؤال مثل: الولاء في ماذا؟، هو الأساس في فهم قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} المائدة 55. والآية تقرر أمراً بصيغة الإخبار يطلب من المخاطبين الولاء لله بطاعته وإتباع مايدعوهم إليه وترك ماينهاهم عنه، والولاء لرسوله بالتصديق والتأسي به كما تأسّى هو بإبراهيم (ع)، وطاعة مايأتيه من ربه، ثم يطلب منهم الولاء بالإتباع والتأييد والمؤازرة لفئة هي فئة الذين آمنوا تتميز بسلوكيات ثلاثة: الإيمان بالله قانتين راكعين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. ونلاحظ أن الطاعة دخلت في مفهوم الولاء بوجهيه، أي الطاعة في الإقبال والإتباع والطاعة في الإعراض والترك، وذلك بدلالة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} النساء 59. وانظر في هذه المقارنة بين آيتي المائدة 55 والنساء 59:
المائدة 55: {وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}.
النساء 59: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر}.
والمتأمل في هذه المقارنة يرى بكل وضوح أن أولي الأمر هم ذاتهم الذين آمنوا، والذين أمرنا تعالى بتوليهم وإتباعهم في الإيمان وفي إقامة الصلاة وفي إيتاء الزكاة، هكذا نفهم {ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم} لأن الشعائر عندهم تختلف عن شعائر الذين آمنوا. وأن الذين نتولاهم لا علاقة لهم مطلقاً بالحكام من أمراء وسلاطين ولا بأهل الحل والعقد. إنه معنى جديد لأولي الأمر اصطلح عليه الفقهاء، خدمة لسلاطينهم، يمنحونهم به غطاءً شرعياً يضمن حكمهم الفردي واستبدادهم السياسي حتى إن كانوا غاصبين. وهذا نموذج من نماذج المفردات التي تحولت إلى مصطلحات في عملية تحريف من نوع خاص أشار إليها تعالى بقوله {..ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه}. المائدة 41. وهذا هو تحريف الدلالة بتبديل المعنى مع الإبقاء على المفردة كما هي لفظاً وحروفاً. أما إن استهدف التبديل الألفاظ ذاتها طبقاً لقوله تعالى {فمن بدله من بعد ماسمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه..} البقرة 187، فهذا تحريف من نوع آخر أشار إليه تعالى بقوله {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} المائدة 13. هكذا يتضح الفرق بين تحريف الكلام عن مواضعه وتحريف الكلام من بعد مواضعه.
قلنا في تعريف الولاء إنه “علاقة إنسانية اجتماعية¨. فأما قولنا “اجتماعية¨ فيعني أن الإنسان المنفرد في جزيرة معزولة لايحتاج إلى الولاء، إذ لابد فيه من ولي ومولى. فإن صاح بنا مستنكر من أنصاف المثقفين – وهم كثر – إن ولاية الله تنسحب حتى على المنفردين بأنفسهم في الصوامع والسراديب باعتباره خالقهم. قلنا: أولاً تلك علاقة أخرى بين المخلوق وخالقه لاينكرها إلا المجرمون. ثانياً، هذا خلط خطير في أسماء الله الحسنى، شاع في أوساط عوام الأمة الإسلامية، حتى صاروا يسمون أبناءهم: عبد الدائم، وعبد الموجود، وعبد المولى، وغيرها من صفات وصف تعالى بها نفسه في التنزيل الحكيم لكنها ليست من الأسماء الحسنى التي من بينها “الخالق¨. ثالثاً، حين يسمي سبحانه نفسه بالولي والمولى فهو يخص بولايته صراحة الذين آمنوا به من جانب ويحدد محل هذه الولاية ومجالها من جانب آخر. وهذان الجانبان يبدوان واضحين في قوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات..} البقرة 257. أما الخالق، فهو ولي كل الناس بالخلق مؤمنهم وكافرهم.
وأما قولنا “إنسانية¨، فيعني أنها علاقة عقلانية، إن غاب عنها الجانب العقلي تحولت إلى تقليد غريزي غير واعٍ، عادت معه الجماعات الإنسانية لتصبح أسراب طيور تتبع إمامها أينما ذهب، وقطيع بقر يلحق قائده كيفما توجه. ومن هنا تأتي ضرورة تحديد محل الولاء ومجاله في الإجابة على سؤال مثل: الولاء بماذا؟
كان يمكن أن يكفي ماقلناه. لو أن المجموعات الإنسانية أمم فقط، لكنها ليست كذلك. فالله تعالى يعلّمنا في آية الحجرات 13 أنه خلق الناس من ذكر وأنثى، ثم جعلهم شعوباً وقبائل، ليحققوا هدفاً إلهياً وحيداً لهذا الجعل وذلك الخلق هو التعارف. وإذا كانت الأمة – كما عرّفناها استنباطاً من آيات القرآن الكريم – جماعة من الخلق تجمع بينها وحدة سلوك، فإن القبيلة والقوم والشعب تعريفات أخرى قد تشترك في وجوه لكنها تتمايز في وجوه وتتباين في وجوه، فتتغير – في ضوء هذا التباين وذلك التمايز – صورة الولاء ومحله.
الولاء بوجهيه إقبالاً وإتباعاً أو تركاً وإعراضاً سلوك فطري قديم لدى الإنسان، رافقه منذ كان بشراً في المملكة الحيوانية قبل الأنسنة وقبل أن ينفخ الله فيه من روحه ويجعله خليفة له في الأرض. ثم بدأ هذا الولاء الفطري يأخذ أشكالاً جديدة مع ارتقاء الإنسان ككائن اجتماعي، فكان الولاء الأسري، ثم الولاء العشائري، ثم الولاء القبلي، تواكب معها ولاء عقائدي مكتسب سار في خط متوازٍ مع ذلك الولاء الفطري الأصل بكل أشكاله مستقلاً عنه، قد يتوافق معه حيناً، وقد يحتك به حيناً، لكنهما أبداً لايلغي أحدهما الآخر. وأوضح الشواهد على ذلك مانجده في عدة مواضع في التنزيل الحكيم. الأول قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} الشعراء 214. والثاني في قوله تعالى يصف آخر أيام هذا الكون {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه} عبس 34 – 36. والثالث في قوله تعالى {وماكان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..} التوبة 114، والرابع في قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين} البقرة 124. والخامس في قوله تعالى على لسان نوح {فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} هود 45. ونقف عند كل من هذه المواضع بالتحليل بعيداً عن التفاسير التراثية التي لم نجد فيها أحداً اهتم بما يهمنا نحن اليوم.
أما الأول، فنحن أمام أمر موحى من الله لنبيه الكريم (ص) يرسم فيه سلماً للأولويات يتساوق مع فطرته البشرية في دعوته إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، تأتي على الدرجة الأولى منه العشيرة الأقرب التي تضم الوالدين والأخوة والأخوات والزوجة والأولاد ذكوراً وإناثاً والأعمام والأخوال والعمات والخالات وأولادهم ذكوراً وإناثاً، كما سنراه في الفقرة التالية.
وأما الثاني، فنحن أمام أهوال يوم عظيم هو يوم الحشر، تذهل منها كل مرضعة عما أرضعت، وينسى المرء معها كل ولاء أسري وعشائري، وينشغل بنفسه عن عشيرته الأقربين الذين تذكرهم الآيات في هذا الموضع تفصيلاً بعد أن ذكرتهم إجمالاً في الموضع السابق. هذه العشيرة الأقرب بأفرادها المذكورين آنفاً أطلق عليها سبحانه في موضع آخر من التنزيل الحكيم اسم الفصيلة التي يدين لها المرء بالولاء لما تقدمه له من الحماية والعون والأمان، وذلك في قوله تعالى {..يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه} المعارج 11 – 13. ونفهم أن الولاء الأسري والعشائري هو أقوى أنواع الولاء بدليل أنه تعالى ذكره في معرض تصوير أهوال الساعة.
وأما الثالث، ففيه إشارة إلى بر الوالدين من جانب، ومع إبراهيم (ع) إلى الإستغفار لمربيه آزر غافلاً عن أن مغفرة الله محجوبة عمن يشرك به، وفيه بيان من جانب آخر لما يجب أن يكون عليه موقف الداعية إلى الإيمان بالله تجاه أفراد عشيرته الأقربين الذين يرفضون هذه الدعوة ويحاربونها، هذا البيان يأتي واضحاً في تتمة آية التوبة 114 بقوله تعالى {..فلما تبين له أنه عدو تبرأ منه..} إنه موقف البراءة من أعداء الله ومحاربيه. لكنها براءة رحيمة لاقسوة فيها، رقيقة لاغلظة معها، ودودة تحافظ على العلاقات الفطرية فلا تقطعها. وهذا مانفهمه من خاتمة آية التوبة 114 حيث يقول تعالى {إن إبراهيم لأواه حليم} كما نفهمه من قوله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس له به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} لقمان 15. مصداقاً لهذا المعنى، نقرأ في السيرة النبوية أنه (ص) كان يتغير وجهه كلما قرأ أو سمع سورة المسد التي نزلت بحق عمه أبي لهب.
أما الرابع، ففيه امتداد لسابقه، وانتقال بمستوى ولاء الأسرة والعشيرة من الأصول إلى الفروع. وإبراهيم بحكم هذا الولاء الفطري يريد لذريته أن يكونوا أئمة، وأن ينسحب عليهم ماخصه تعالى به، لولا أن لله قراراً حاسماً آخر يتجلى واضحاً في خاتمة الآية بقوله تعالى {..ولاينال عهدي الظالمين} ونفهم أن لإبن الملك أن يصير ملكاً، ولإبن الأمير أن يصبح أميراً، أما الإمامة فليست إرثاً يورث وليست امتيازاً ينتقل بالنسب.
وأما الخامس، ففيه ماليس في سابقيه وإن تشابهوا في الظاهر، من حيث أن إبراهيم طلب المغفرة لأبيه والإمامة لذريته، ونوح طلب النجاة لإبنه والدافع في هذا كله هو الولاء الأسري.
ونحن في خبر نوح وإبنه أمام عدد من الفروقات والاختلافات، أولها أن استغفار إبراهيم لأبيه جاء بناء على وعد قطعه إبراهيم على نفسه، نجده في قوله تعالى {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} مريم 47. أما الوعد الحق بنجاة ابن نوح فصادر عن الله سبحانه، ثانيها أن القصد الإلهي من خبر إبراهيم – كما أسلفنا – هو بيان أن الإمامة لاتنتقل بالنسب، أما القصد من خبر نوح فهو بيان أن النجاة من أمر الله لاتكون إلا بالعمل، وأن المعيار في فرز الناجين عن الهالكين ليس النسب بل هو العمل الصالح، وفيه أيضاً مصداقية لقوله تعالى {وأهلك إلا من سبق عليه القول} لأن احتمال أن ابن نوح من خيانة زوجته له. وهذا هو معنى قوله تعالى {قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} هود 46. ثالثها أن الغلو في الولاء الأسري والعشائري يحول الاعتزاز المحمود إلى عصبية متكبرة مغرورة ذميمة، وهذا معنى قوله تعالى لنوح {..إني أعظك أن تكون من الجاهلين} هود 46.
نصل الآن في ضوء كل ماذكرناه إلى أن الأسرة مجموعة من الأفراد تنتمي إلى أب والد واحد، وأن العشيرة مجموعة من الأسر تنتمي إلى جد واحد، وأن القبيلة مجموعة من العشائر هي البطون والأفخاذ تنتمي إلى جد واحد، وأن الولاء فيها جميعاً ولاء فطري يتموضع حول محاور الأعراف السائدة والتقاليد الموروثة، وأن الرسالات السماوية بدءاً من نوح (ع) وانتهاء بمحمد (ص) ومروراً بإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، إنما نزلت عموماً لتهذيب هذا الولاء وضبطه ضمن إطار من التعارف والتواصل والعيش المشترك، وفي جو من التعاون على البر والتقوى، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13. ومرة أخرى تحمل خاتمة الآية ذات المعيار الذي حملته آية هود 46 في فرز المتقين وتكريمهم ونعني به العمل. وأن الرسالات السماوية نزلت خصوصاً لإحلال ولاء جديد على رأس سلم الولاءات هو الولاء الفكري العقائدي. وهذا ما نجده واضحاً في قوله تعالى {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة 24.
وآية الحجرات 13 لا تقتصر على بيان معيار العمل في فرز الخلق إلى صالح وطالح، وفائز وخاسر، ومكرم وغير مكرم، بل تضيف شكلاً جديداً للتجمعات الإنسانية من أسرة وعشيرة وقبيلة هو الشعب. والشّعب (بفتح الشين) مفرد جمعه شعوب ورد مرة واحدة في هذه الآية المدنية من التنزيل الحكيم، ويعني التجمع والالتئام. قال الطرمّاح:
شتّ شعبُ الحي بعد التئام
وشجاكَ اليومَ ربعُ المقام
أما الشّعب (بكسر الشين) فمفرد جمعه شعاب وشُعب ورد أيضاً مرة واحدة في التنزيل الحكيم بقوله تعالى {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شُعب} المرسلات 30، ويعني التفرق والانقسام. ونقول: شَعَبَ الشعّاب القِداحَ أي: فرّقها، وشعب الرجل أمره أي: جمعه (أنظر أساس البلاغة للزمخشري) والشّعبُ: جماعة من الناس تخضع لنظام اجتماعي واحد. وقيل: أكبر الجماعات الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة (أي العشيرة كما أسلفنا) ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ (أنظر المعجم المدرسي نقلاً عن اللسان).
أما القوم، فهو تجمع إنساني شأن العشيرة والقبيلة، يربط بين أفراده رباط اللغة الواحدة واللسان الواحد، وتجمعهم بالتالي طريقة واحدة في التفكير وأسلوب واحد في التعبير. وهو ما أشار إليه تعالى بقوله {وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم..} إبراهيم 4. وإذا كان الولاء عند الأسرة والعشيرة والقبيلة ولاء نسب هو أقرب مايكون إلى الولاء العرقي، فإن الولاء القومي ولاء لغة ولسان، قد يترافق مع الولاء الأسري والعشائري والقبلي وقد لايتوافق. بمعنى أن القوم الذين تجمعهم وحدة اللسان قد يكونون من أب أو جدّ واحد كالأسباط في قوم موسى وقد لايكونون كذلك.
قلنا أن الولاء مفردة قرآنية من الأضداد له معنيان: الإقبال والإتباع والترك والإعراض، وشرحنا ذلك بالأمثلة والشواهد. وقلنا إنه سلوك إنساني اجتماعي وموقف فكري يختاره صاحبه إقبالاً أو إعراضاً، وشرحنا ذلك بالأمثلة والشواهد. وقلنا أن له صوراً شتى يتجسد فيها كالولاء الأممي الذي تحكمه وحدة السلوك، والولاء الأسري العشائري الذي تحكمه وحدة النظام الاجتماعي. وقلنا إن الرسالات السماوية وخاتمها الإسلام جاءت لتضيف ولاءً جديداً يتجاوز الولاء الأسري والشعائري والقبلي. وقلنا إن هذه الولاءات المتعددة في صورها لاتتصادم ولايلغي أحدها الآخر. لابل إننا نجد الولاء العقائدي ينبع أحياناً من الولاء الأسري والعشائري، مثال ذلك إيمان حمزة بن عبد المطلب عم النبي (ص) الذي جاء نتيجة لولاء أسري صرف نلمحه في خبره مع أبي جهل، ونجد أن الولاء الأخلاقي (كالصدق والوفاء والكرم والإيثار وغيرها من مكارم الأخلاق) قد يقوى ليطغى على الولاء العقائدي مثال ذلك خبر عبد الله بن أريقط مع النبي (ص) وصاحبه أبي بكر يوم الهجرة، وخبر الحاطب بن أبي بلتعة مع الرسول ومع قومه في فتح مكة.
ونفهم في ضوء ذلك كله أموراً: أولها: أن هذه الولاءات على تعددها اختيارية تقبل الجمع بعضها مع بعض، لا إكراه فيها ولا قهر، تختلف أولوياتها من إنسان إلى آخر. ثانيها: أن النبي الكريم عشيرته الصغرى بنو عبد المطلب، وعشيرته الكبرى بنو هاشم، وقبيلته قريش، وقومه العرب، وشعبه هم أهل المدينة المنورة من مؤمنين ويهود عندما هاجر إليها وأسس دولته، وأمته هم كل من آمن بنبوته وصدّقه برسالته، ثالثها: أن قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} الشعراء 214، نزل في مكة إيذاناً ببدء منطقي للدعوة التي ستتسع فيما بعد لتشمل القوم، ثم ستتسع مرة أخرى لتشمل الإنسان حيثما كان بغض النظر عن لونه وعرقه ولسانه وموقعه الجغرافي والاجتماعي، مصداقاً لقوله تعالى {وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107. وهذه الآية تبين الولاء الجديد الذي قلنا أنه تجاوز كل الولاءات السابقة دون أن يتضارب معها. ومن أجل هذا الولاء الجديد جاء قوله تعالى في سورة التوبة الآية 86 {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} ومن هنا أيضاً نرى معنى أن الرسول محمد (ص) كان مؤسساً لدولة لها أسس تختلف عن الدول التي سبقتها أو عاصرتها. وهذه الأسس تتحقق في المستقبل في المجتمعات. رابعها أن الولاء بكل أشكاله، العشيرة والقبيلة والأمة بهذا الترتيب، كان من أبرز مميزات المجتمعات العربية منذ أن وجدت في بواديها وحواضرها.
بعد هذا كله نقف لنطرح عدداً من التساؤلات:
- متى بدأ الولاء يتحول إلى مصطلح؟
- ومتى أصبح السلاطين والأمراء ولاة للأمر طاعتهم واجبة كطاعة الله والرسول؟
- ومتى صار الحاكم والياً والوالي حاكماً؟
- ومتى ترسخ القول بأن الولاء والطاعة لذي الشوكة؟
- ومتى أصبحت موالاة الحكام صراطاً مستقيماًُ لا يجوز الخروج عليه وإن ضربوا الظهور وصادروا الأموال واغتالوا العقول؟ ومتى صارت موالاة العلماء الأفاضل طلباً للعلم؟
سنحاول في بحثنا هذا الإجابة على بعض هذه التساؤلات، بعد أن نعرّف البراء كما عرفنا الولاء، وبعد أن نشرح دلالته كمفردة قرآنية، والله المستعان…
البراء: الباء والراء والهمزة أصل صحيح في اللسان العربي ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 31 موضعاً من التنزيل الحكم، أولها في قوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} البقرة166، وآخرها في قوله تعالى {أولئك هم شر البرية} البينة 7، ودلالته في كل المواضع تدور حول معنيين، الأول: بَرَأَ بَرْءاً وبروءاً، أي خلق على غير مثال، كما في قوله تعالى {ماأصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} الحديد 22، ومنه جاء البارئ ضمن الأسماء الحسنى. والثاني: بَرُؤَ بُرءاً وبراءة، أي خلا من العيوب وصفا من الشوائب وخلص من التهم، كما في قوله تعالى {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} التوبة1. ويتفرع من هذين المعنيين فرعان: الأول: أبرأه من المرض، أي شفاه وخلصه منه، كما في قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله} آل عمران 49، والثاني: تبرأ من الأمر أي أعلن تركه له، كما في قوله تعالى {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَراءٌ مما تعبدون} الزخرف 26، وتبرأ من الشخص أي أنكر علاقته به واستنكر صلته معه، كما في قوله تعالى {وماكان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} التوبة 114. وهذا المعنى الأخير كما ورد في آية التوبة 114، هو المحور الذي يدور حوله بحثنا هنا، لكونه المحور الذي تدور حوله دلالة لفظ البراء بعد أن تحول إلى مصطلح، واقترن بمصطلح آخر هو الولاء، فشكل معه ثنائية يحكمها التضاد، شاعت على كثير من الألسن وفي كثير من المؤلفات.
البراء – كالولاء تماماً – علاقة إنسانية اجتماعية اختيارية، تبدأ عند الفرد فكراً نظرياً يقرر فيه الفرد التبرؤ من أمر يتعارض مع ثوابته السلوكية، أو من شخص ارتكب مايوجب التبرؤ منه، ثم يتحول هذا القرار الفكري النظري إلى سلوك عملي، وإذا كان للولاء – لغةً – وجهان متضادان هما الإقبال بالاتباع والترك بالإعراض، فإن البراء ليس له سوى وجه واحد هو الترك والنبذ والإعراض. ولقد فصلنا القول آنفاً حين بحثنا عن الولاء في دلالات هذا التعريف فلا نعيد.
يبقى أن نشير إلى أن للبراء – ككل سلوك إنساني آخر – حدوداً تعين مجاله ومقداره، حدوداً عليا لا يجوز تجاوزها صعوداً وحدوداً دنيا لا يجوز تخطيها نزولاً، إذ كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فإن تجاوزت الأشياء حدودها وقع المحذور، مثال ذلك: الشجاعة المحمودة حين تتجاوز حدودها تتحول إلى تهور مذموم، والتأني يتحول إلى تردد، والكرم إلى تبذير، والثقة بالنفس إلى جنون عظمة، والأحلام إلى أوهام. ولقد أشار (ص)، محذراً من التشدد والغلو المؤدي لزوماً إلى تجاوز الحدود، في حديثه إن صح: “المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى¨ (رواه العسقلاني في فتح الباري).
إننا نجد الحدود الناظمة للبراء في التنزيل الحكيم وفي شعر العرب:
- {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} لقمان 15.
- {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} التوبة 114.
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلفٌ جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا بيتي بنيت لهم مجدا.
إن آية لقمان 15 تتحدث – فيما نرى – عن خلاف واختلاف عقائدي بين ابن موحد ووالدين مشركين يحاولان جاهدين حمل الابن على أن يكون مثلهما. في هذه الحالة بالذات يأتي التوجيه الإلهي ليسمح للابن بأن يعصي أبويه ضمن تكليف آخر يتجلى في عبارة {وصاحبهما في الدنيا معروفا} وهنا لاوجود لبراءة ولا تبرؤ، بل أمر بالصحبة بالمعروف.
أما آية التوبة 114 فتتحدث عن فتى هو إبراهيم (ع) وعن موقفه من مربيه وراعيه آزر، بعد أن اتضحت عداوة هذا الأخير لله تعالى. في هذه الحالة بالذات ترد مشروعية التبرؤ من المشركين ضمن شرطين نجدهما في الآية، الأول: ظهور عداوتهم لله ظهوراً مؤكداً، وهذا هو معنى عبارة (فلما تبين له أنه عدو) والتأكيد هنا جاء في استعمال فعل (تبين) بدلاً من (بان). والثاني اقتران التأوه والحلم بالتبرؤ وهذا هو معنى عبارة (إن إبراهيم لأواه حليم). صحيح أن إبراهيم – بدافع من ولائه العقائدي لله الواحد – أعلن عن براءته من أبيه مستنكراً ومنكراً عليه عداوته لله سبحانه، إلا أن إيمانه بالله وولاءه له لم ينفَ ولم يتعارض مع مايحمله لأبيه من عرفان بفضله في تربيته ورعايته، فبقي محزوناً يتأوه عليه رحمة وشفقة، وبقي الحلم وطول الأناة هو الحاكم لبراءته منه، وهذا بالضبط ما أشارت إليه آية التوبة 114.
أما أبيات المقنّع الكندي في شاهدنا الثالث، فنحن معها أمام تبرؤ أخلاقي غير معلن ينادي به الشاعر مستنكراً سلوكيات أهله وعشيرته المخالفة للمثل العليا العربية الموروثة. ومرة أخرى نجد أنها براءة سلمية تلبس لباس العتب الرقيق.
قلنا أن الـ (ب ر ء) مفردة قرآنية وردت في 31 موضعاً من القرآن الكريم، لا تخرج في دلالتها عن أحد معنيين، الأول الخلق على غير مثال، والثاني الخلو من العيوب والشوائب والتهم. ويتفرع عن هذا الثاني فرعان: الأول الشفاء من المرض والثاني إعلان قطع الصلة بشيء بعينه أو شخص بعينه إنكاراً أو استنكاراً، وقلنا أن بحثنا يدور هنا حول هذا المعنى الأخير، الذي ورد في 17 موضعاً من التنزيل الحكيم، نلاحظ أن التبرؤ فيها له محل مذكور صراحة:
- {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون} الزخرف 43. ومحل التبرؤ في الآية هو عبادة الأصنام.
- {فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون} الأنعام 78، ومحل التبرؤ في الآية هو الشرك.
- {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} الحشر 16، ومحل التبرؤ هنا هو الكفر وعدم الخوف من الله رب العالمين.
- {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} يونس 41. ومحل التبرؤ هنا هو العمل.
في هذه الزاوية بالذات نجد أن البراء يشبه الولاء، فكلاهما له محل لابد من ذكره وتوضيحه. والقول بوجوب وجود محل يتجلى فيه الولاء أو البراء يقودنا بالتالي لزوماً إلى القول بعدم وجود ولاء مطلق أو براء مطلق.
ثمة زوايا أخرى يشبه فيها البراء الولاء، هي أن كليهما قديم في المجتمعات العربية باديها وحاضرها، وأن كليهما تتغير دلالته بتغير الروابط التي تربط الجماعات من أسرية وعشائرية وقبلية وقومية وشعبية.
يقول الحارث بن حلّزة اليشكري في معلقته:
أم جنابا بني عتيق فإنا منكم إن غدرتم لَبَراءُ
روى الجاحظ في البيان والتبيين (ج2 ص 56) أن معاوية بن أبي سفيان قعد بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب، فجاءه رجل من بني تميم فأراده على ذلك فقال الرجل: يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولانتبرأ من موتاكم. فالتفت معاوية إلى المغيرة فقال: هذا رجل فاستوص به خيراً.
وروى المؤرخ ابن عبد الحكم (187 – 257 هـ) في سيرة عمر بن عبد العزيز، أن عمر بعث إلى شوذب الحروري وأصحابه حين خرجوا بالجزيرة، فجاؤوه برجلين من الخوارج، أحدهما شيباني والثاني حبشي اسمه عاصم وهو أشر الرجلين حجة ولساناً. فلما دخلا قالا: السلام عليكم. ثم جلسا، فقال عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا، وأي شيء نقمتم علينا؟ قال عاصم: والله مانقمنا عليك في سيرتك فإنك لتجري العدل والإحسان، ولكن بيننا وبينك أمراً إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، قال عمر: وما هو؟ قال: رأيناك قد خالفت أعمال أهل بيتك وسميت أعمالهم مظالم، فإن زعمت أنك على هدى وأنهم على ضلال فابرأ منهم والعنهم، فهذا الذي يجمع بيننا أو يفرّق. قال عمر: قد عرفت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، وأنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها، وإني سائلكم عن أمر، فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغه علمكما. قالا: نفعل، قال: أرأيتم أبا بكر وعمر؟ أليسا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالجنة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله وقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء وسبى الذراري؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن عمر لما قام بعده رد السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا.
قال عمر: فأخبراني عن أهل النهروان، أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالجنة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم عنهم فلم يخيفوا آمناً ولم يسفكوا دما؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله بن وهب استعرضوا الناس فقتلوهم وفيهم عبد الله بن خباب – صاحب رسول الله – وجاريته، ثم قتلوا النساء وألقوا بالولدان في قدور تفور بهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا.
قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحداً أم اثنين؟ قالا: بل واحداً. قال: فكيف وسعكم هذا الدين إن توليتم أبا بكر وعمر ووسع أهل الكوفة أن تولّوا أهل البصرة، ولايسعني هو عينه إلا أن العن أهل بيتي وابرأ منهم؟ فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة، فمتى كان آخر عهد كما يلعن فرعون وثمود؟ قالا: مانذكر متى لعناهم. قال: فكيف يسعكما ترك لعن فرعون ولايسعني في زعمكما إلا لعن أهل بيتي؟ ويحكم. أنتم قوم جُهّال. هل علمتم أن رسول الله بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى خلعها، وغلى شهادة أن لا إله إلا الله، فهل فعل حقن دمه وأمن عنده؟ قالا: نعم. قال: أفلستم اليوم تبرأون ممن خلع الأوثان وشهد أن لا إله إلا الله وتلعنونه وتستحلون دمه، وتلقون من لم يفعل ذلك من سائر اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال عاصم: مارأيت حجة أبين ولا اقرب مأخذاً من حجتك. أما أنا فأشهد أنك على الحق وأني بريء ممن خالفك، فقال عمر للشيباني: وأنت؟ قال: ما أحسن ماقلت، ولكني أكره أن أفتئت على المسلمين بأمر لاأدري ماحجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل لديهم حجة لا أعرفها، فقال عمر: فأنا أعلم بشأن نفسك.
وروى صاحب العقد الفريد (ج 5 ص 54) أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرى يوم الجماجم أن يعرضهم على السيف “فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخلّ سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه¨، ففعل. ثم أُتيَ بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخيّر وسعيد بن جبير، وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لايرى ذلك، فلما قدّم له الشعبي قال له: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل وأجدب بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، فقال الحجاج: صدق والله، مايروا بخروجهم علينا ولا قووا، خلوا عنه. ثم قدم غليه مطرف بن عبد الله فقال له الحجاج: أمؤمن أنت أم كافر؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق عصا الطاعة، ونكث البيعة وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر. فقال: صدق، خلوا عنه. ثم أتى بسعيد بن جبير فقال له الحجاج: أنت سعيد بن جبير؟ قال: نعم. قال: لا، أنت شقي بن كسير. قال: أمي أعلم باسمي منك. قال الحجاج: شقيتَ وشقيتْ أمك. قال: الشقاء لأهل النار. قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ماكفرت بالله منذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه.
لقد عرفت المجتمعات العربية قبل الإسلام الولاء والبراء على المستوى الأسري. أما الولاء فكان يتم عن أحد طريقين: الأول: بالتبني، والثاني بالإلحاق بالنسب. وأما البراء فيتم بالخلع. كان الرجل في الجاهلية إذا غلبه ابنه أو من هو منه بسبيل جاء به إلى الموسم ثم نادى “يا أيها الناس هذا إبني فلان وقد خلعته، فإن جرّ لم أضمن وإن جُرّ عليه لم أطلب¨ يريد قد تبرأت منه (أنظر أساس البلاغة للزمخشري ص 118).
كما عرف العرب قبل الإسلام الولاء والبراء على المستوى القبلي. أما الولاء للقبيلة، التي هي مجموعة عشائر تربط بين أفرادها وشائج قربى بالعصب أو بالرحم، فهو كالولاء للأسرة والعشيرة تماماً، يضاف إليه شكل من أشكال الولاء لانجده في الأسرة ولا في العشيرة هو الولاء بالانتساب أو بالتحالف، يغدو معه المنتسب أو الحليف وكأنه من القبيلة نسباً ودماً، عدا العبيد فهؤلاء لايملكون الحق في انتساب أو تحالف مع غير مالكهم. وأما البراء فهو كالبراء في الأسرة والعشيرة، إذ ربما خلعت القبيلة أحد أفرادها وتبرأت منه إن هو خرج على بعض مبادئها أو خالف عرفاً من أعرافها أو ترك عبادة معبوداتها أو أهمل الالتزام بمثلها العليا.
يبقى أن نذكّر بما سبق أن قلناه من أن الرسالات السماوية عموماً، والرسالة المحمدية خصوصاً، جاءت لتضيف ولاءً جديداً هو الولاء العقائدي ولتضعه في رأس سلم أولوية الولاءات جميعاً دون أن يلغيها أو يتعارض معها. بدليل قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة..} الحجرات 10، وقوله: (ص) إن صح: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه¨ (رواه البخاري في صحيحه) وبدليل قوله تعالى {..واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} النساء 1.
لم نكن ونحن نضع التعريفات للولاء والبراء، ونفرق فيها بين الواحد والآخر في المعنى والدلالة، من شواهدها القرآنية والنبوية والتراثية كما فهمناها، غافلين عن أن الولاء – باعتباره من مفردات الأضداد عند أهل اللسان – بما يحمله في أحد وجهيه من معاني الترك والإعراض إنما هو في حقيقة الأمر براء. وعن أن البراء بما يحمله من إنكار واستنكار لشخص أو لمعتقد إنما هو في الحقيقة ولاء لشخص آخر أو لمعتقد آخر. ومن هنا، لم يكن غريباً – من الناحية اللغوية على الأقل – أن يقترن الولاء بالبراء، والبراء بالولاء، ليشكلا مصطلحاً ذا وجهين أشبه بالطرة والنقش في قطعة النقد الواحدة.
ولم نكن نشرح معنى الولاء ومعنى البراء في المواضع التي وردا فيها من التنزيل الحكيم والحديث النبوي، غافلين عن أن هذا المعنى لم يبق على حاله كما ورد في التنزيل الحكيم، بل دخلت عليه معان لم تكن موجودة فيه من قبل، وتم تحميله بفعل الأحداث والوقائع والمتغيرات التاريخية معاني إضافية أخرجته عن مضمونه القرآني والنبوي الأول، وهذا هو “تحريف الكلم عن مواضعه¨ الذي أشار إليه تعالى في الآية 46 من سورة النساء والآية 13 من سورة المائدة، والذي طال مفردات كثيرة كالعصمة والشفاعة والجهاد في سبيل الله والهجرة، لعلنا نفرد لكل منها بحثاً خاصاً بها في غير هذا المكان.
والسؤال الآن: ماهي المعاني المضافة الدخيلة على الولاء والبراء؟ وهل ثمة أحداث ووقائع أسهمت في إيجادها؟ وأين نجد الشواهد اللازمة لإثباتها وتأكيدها؟
إذا نحن عدنا – للإجابة على هذه الأسئلة – إلى ما اقتطفناه من شواهد الأخبار عند الجاحظ وابن عبد الحكم وابن عبد ربه الأندلسي، نلاحظ فيها بروز ولاء سلطوي سياسي ثمة من يرى أنه لم يكن موجوداً عند عرب ماقبل الإسلام ولا عند أهل العصر النبوي في شبه الجزيرة العربية، بل هو وافد جديد حمله معهم الداخلون في الإسلام من بلاد مصر واليمن وبلاد الروم وفارس، وهناك من يرى أنه كان موجوداً إلا أن زخم الولاء العقائدي لم يكن يسمح له بالظهور، وسواء أكان الناظر الدارس في التاريخ الإسلامي من أنصار هذا الرأي أو ذاك، فهو لايؤثر – من حيث النتائج المستخلصة – على أن هذا الولاء السلطوي السياسي بدأ بالبروز منذ يوم السقيفة وقبل أن يوارى النبي (ص) في مثواه الأخير، ممزوجاً حيناً بالولاء الأسري، وحيناً بالولاء العشائري والقبلي، وحيناً بالولاء القومي، ومتسربلاً بعباءة الولاء العقائدي في كل الأحيان حيث تم مباشرة إزاحة الأنصار من إمكانية تولي رئاسة الدولة وحصرها مبدئياً في قريش. ولا نرى هذا غريباً أبداً، إذ تم تدعيم هذا السلوك بحديث مزعوم عن أسماء العشرة المبشرين بالجنة وكلهم من قريش ولا يوجد واحد من الأنصار منهم. وإني لأتصور إن حدث هذا وروى رسول الله (ص) أسماء هؤلاء وسمعه الأنصار ما هو تعليقهم على ذلك وكيف سيواجههم، والعشرة المبشرون بالجنة تظهر أمراً هاماً جداً وهو أن الله سبحانه وتعالى تعصب لقريش كما لو أنه إلههم الخاص بهم. وكان من نتائج هذا الولاء على المستوى السياسي:
1 – حروب الردة – كما يسميها أهل الأخبار – التي قادها الخليفة الأول أبو بكر الصديق، واختلطت فيها الدوافع الاقتصادية بالولاءات القبلية والعقائدية، وجاءت سابقة خطيرة أجازت القتال بين المسلمين المؤمنين.
2 – الفتنة الكبرى – كما يسميها الدكتور طه حسين في كتاب له يحمل هذا الاسم – التي كان أحد أبرز أسبابها تنازع الولاء الأسري والعشائري بين بني عبد مناف من هاشميين وبني أمية بعد أن أزيحت بقية بطون قريش.
3 – الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي طالت الخلفاء الراشدين الأربعة، على يد المنافقين والمتطرفين والخوارج.
4 – معركة الجمل التي قتل فيها عشرة آلاف من أهل البصرة وخمسة آلاف من أهل الكوفة، حسب مارواه الطبري في تاريخه ج4 ص 539، أي أكثر من عشرة أضعاف مجموع من قتل في غزوات ومعارك العصر النبوي كلها. والتي جرت بقيادة أم المؤمنين عائشة في جانب، والإمام علي في جانب آخر، وكان السبب الظاهر المعلن لها هو الثأر لمقتل عثمان.
5 – معركة صفين التي قاد جيش الشام فيها معاوية بن أبي سفيان، وقاد جيش الخلافة الإمام علي بن أبي طالب، وكان سببها المعلن الظاهر أيضاً هو الثأر لمقتل عثمان. والعجيب أن الطبري لم يذكر في تاريخه رقماً لعدد القتلى فيها، كما فعل في معركة الجمل، إلا أن المؤرخين المعاصرين يقدرون العدد بـ 50 – 60 ألفاً.
6 – ظهور الخوارج الذين رأوا في قبول الإمام علي بالتحكيم تساهلاً يصل إلى حد التخاذل، ووضعاً للأمور في غير موضعها.
وكذلك نرى بالنسبة للخوارج أنهم عاصروا علياً ومعاوية، أي أن فيهم عدداً من الصحابة، والباقون من التابعين، فهل يؤتم من قبلهم بعد أن يسمع قول رسول الله إن صح (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). ونرى أن كثيراً من الأحاديث التي تعبق منها رائحة السياسة ساهمت في إفساد العقيدة الإسلامية وقتل عدد كبير من المسلمين المؤمنين لأهداف سياسية بحتة.
وكان من نتائجه على المستوى الفكري:
1 – اقتران الولاية بالحكم والسلطنة في الذهن العربي، فالوالي والولي والمولى لم يعد الهادي والراعي والكفيل حسب قوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} البقرة 257. وقوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} المائدة 55. بل أصبح الوالي هو الحاكم، وأصبح ولاة الأمور الذين أمر تعالى بطاعتهم في آية النساء 59 هم الأمراء والسلاطين.
2 – ارتقاء الولاء السلطوي في سلم الأولويات إلى المرتبة الأولى، فلم يعد للولاء العقائدي موقعه الأول الذي خصه له الوحي الإلهي نظرياً، والذي أرساه فيه التطبيق النبوي عملياً.
3 – تحولت ولاية النبي (ص) للمؤمنين، التي نصت عليها الآية 6 من سورة الأحزاب، من وعظ وتذكير {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} وإرشاد وهداية ورأفة ورحمة ورقة قلب إلى مرتبة سلطوية حاكمة يمكن انتقالها بالإرث إلى الأولاد والأحفاد، ويمكن سحبها على الزوجات والأصحاب…
وقد عُرف الخوارج بهذا الاسم عند شيعة علي بن أبي طالب، لخروجهم على حكم الإمام وسلطان الولي، وعُرفوا بذات الاسم عند أنصار حكام بني أمية لخروجهم عن طاعة أولي الأمر.
4 – ظهور مفردات السب والشتم واللعن والتكفير كتوابع للبراء عند كل طرفين متخاصمين أياً ماكان سبب الخصومة: أنصار ومهاجرين، طالبيين وسفيانيين، أمويين وعباسيين، عرب وعجم، أهل العقل وأهل النقل.
5 – تحول نظام الحكم من خلافة بالانتخاب والشورى بالمفهوم التاريخي للكلمة، إلى ملك وراثي يحكمه النسب، حيث أخذ التاريخ مجراه الطبيعي بنشأة الدولة الامبراطورية التي تشبه الدول السائدة في ذلك العصر.
إن من الطبيعي في ضوء ماذكرناه أن نجد مصطلح الولاء والبراء اليوم، بما يحمله من معان ألحقها به توالي الأحداث ومن دلالات رسمت خطاً معيناً لمسيرة التاريخ، عند أهل الشيعة الرافضة، وأهل السنة الناصبة على حد سواء، دون أن تتكلف مشقة إثبات من أين كانت البداية، وأي الطرفين كان البيضة وأيهما كان الدجاجة، فالقصد ليس البحث عن مشجب نعلق عليه ثيابنا المهترئة القذرة، بقدر ما هو محاولة للعودة بهذا المصطلح إلى معانيه ودلالاته القرآنية والنبوية.
وإذا كان أهل البيت – بالمعنى التاريخي وليس بالمعنى القرآني – قد تمسكوا ومازالوا يتمسكون حتى اليوم بهذا المصطلح، وجعلوه المحور الأصل في عقيدتهم، والمعيار الذي يفرقون به بين كفر للكافر وإيمان للمؤمن، رغم مانزل بهم من ويلات ومالاقوه من أهوال، وإذا كانوا قد أخفوا ذلك تحت شعار التقية في أزمان المحن وعصور الفتن، فإن لهم عندنا بعض العذر، إلا من غلا منهم بولائه وتطرفه فانزلق بما لا يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن ينزلق إليه.
لكن العجب من ولاءٍ وبراءٍ شاع مؤخراً في بلد إسلامي يمتاز بخصوصية تجعله في موضع القلب من باقي البلدان الإسلامية الأخرى، وقام على الغلو والتشدد، وانطلق القائلون به من ثنائية لاقسمة فيها تقسم الأشياء إلى أبيض وأسود، بدءاً من التوحيد المتمثل بشهادة أن لا إله إلا الله، مروراً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق. ولم يكتف أصحابه بجعل منهجهم هذا مذهباً فكرياً قابلاً للحوار مع المذاهب الفكرية الأخرى، بل انزلقوا إلى ما انزلقت إليه الشوافعة والحنابلة والأحناف والمالكية عبر التاريخ من تكفير للآخرين – كل الآخرين – والاستعانة عليهم بالقمع السلطوي كلما سنحت الفرصة وواتت الظروف، رغم علمهم بأن التكفير سلاح ذو حدين، وإن أنت استخدمته ضد الآخرين فلن تعدم من يستخدمه ضدك، ورغم علمهم بأن الاحتكام للقمع السلطوي في مجال الفكر هو أيضاً سلاح ذو حدين، لأن السلطة في كتاب الله من المتغيرات التي ينظمها قوله تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس} آل عمران 140. وقد أورد ياقوت الحموي مثالاً على التصفية الجسدية في مدينة الرّي بين الشوافعة والأحناف من طرف، والشيعة من طرف آخر، ثم بين الشافعية والأحناف حتى أصبحت البلد كلها خراباً.
إن المتأمل فيما أرسيناه من تعاريف للولاء والبراء. ومافهمناه من معان لهاتين المفردتين في آيات التنزيل الحكيم، وفيما استشهد به من أخبار تراثية تشير إلى انحراف في دلالة هاتين المفردتين عن دلالتهما القرآنية الأصلية، يثير عند المتأمل المنصف كثيراً من التساؤلات، ويقود إلى عدد من الاستنتاجات، ويضع مايظنه البعض من المسلّمات على طاولة البحث لإعادة النظر إليها بعين التحفظ والحذر. ولعل أكبر واهم هذه التساؤلات هو: هل مصطلح الولاء والبراء المتداول اليوم عند بعض أهل الشيعة وبعض أهل السنة والجماعة هو ذات الولاء الوارد في قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} المائدة 55، 56؟ وهل هو ذات البراء الوارد في قوله تعالى {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله..} التوبة 3؟ للجواب على هذا السؤال ننظر في الفقرات التالية:
1 – “لما كانت أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض. وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح مايدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك، فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله وأدلة ذلك كثيرة في الكتاب والسنة¨ أ هـ.
2 – “لما قام رسول الله (ص) ينذر المشركين عن الشرك ويأمرهم بضده وهو التوحيد لم يكرهوا واستحسنوا وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرّح بسبّ دينهم وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة. فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لايستقيم له إسلام – ولو وحّد الله وترك الشرك – إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض كما قال تعالى في الآية 22 من سورة المجادلة، فإذا فهمت هذا جيداً عرفت أن كثيراً من الذين يدّعون الدين لا يعرفونها – أي لا إله إلا الله – وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر والعذاب والأسر، والهجرة إلى الحبشة، مع أنه (ص) أرحم الناس ولو وجد لهم رخصة لرخص لهم¨ أ هـ (انظر مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب وغيرهم، نشر دار الفكر بالقاهرة ص 19).
3 – “إن انزلاق هؤلاء العلماء (يقصد عبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده وعباس محمود العقاد وطه حسين) وغيرهم في قضية موالاة الكفار والتساهل معهم في بعض الأمور بغير دليل شرعي أمر يرفضه الإسلام ويأباه، لأن موضع القدوة لنا هو رسول الله (ص) وصحابته الأجلاء وسلفنا الصالح وكفى¨ أ هـ. (انظر الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني ص 399).
4 – “الهجرة مرتبطة بالولاء والبراء بل هي من أهم تكاليفهما، والحديث فيها متشعب ولذلك سأقسمها إلى قسمين:
آ – إقامة في دار الكفر.
ب – هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
قال: (ص): أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وقال: لاتنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولاتنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
وقال الحسن بن صالح كما في أحكام القرآن للجصاص: إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام.¨ أ هـ (انظر المرجع السابق ص 270 ومابعدها).
أما في الفقرة الأولى، فنحن أمام قفزة ثلاثية على الصعيد اللغوي في مجال الدلالة، وعلى صعيد الاستنباط الفقهي في مجال تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تنتهي إلى الجزم بأن الولاء والبراء من لوازم التوحيد، انطلاقاً من قوله تعالى {لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء..} آل عمران 28، وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم والله لايهدي القوم الظالمين} المائدة 51. وانطلاقاً من جملة أحاديث نبوية، أولها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله (ص) بايعه على أن “تنصح لكل مسلم وتبرأ من الكافر. والثاني ما أخرجه الطبراني في المعجم الصغير عن عبد الله بن مسعود، وفي المعجم الأوسط عن أبي سعيد الخدري، وفي المعجم الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) لأبي ذر: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله.
يبدأ الشيخ عبد اللطيف قفزته الثلاثية بخطوة تنقل الولاء إلى موالاة، أي تنقل الاسم إلى مصدر، تمهيداً للخطة والثانية التي تنقل البراء إلى معاداة. لتأتي بعدهما خطوة ثالثة تنقل الموالاة إلى حب والمعاداة إلى بغض، يخلص بعدها محمد القحطاني في ضوء هذا الدليل الباهر إلى أن الولاء والبراء من لوازم شهادة لا إله إلا الله. وهذا إن جاز في ملاعب الرياضة بمباريات القفز الطويل والثلاثي، فهو لا يجوز قطعاً في حقول الدين والعقائد. يجوز أن يتحول الولاء إلى موالاة، لأنه لايخرج في الحالتين عن معنى النصرة والاتباع. ويجوز أن يتحول العداء إلى معاداة وإلى عدوان واعتداء، لأنه لايخرج فيها جميعاً عن معنى تجاوز حدود العلاقات الطبيعية الودية إلى علاقات عدوانية عدائية، لكن الذي لا يجوز هو أن يتحول البراء إلى معاداة، فيخرج بذلك عن شرطي البراء المذكورين سالفاً في تفسير قوله تعالى {وماكان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} التوبة 114، وهما الرحمة والحلم، وكلاهما خلاف العدوان والاعتداء.
كما لا يجوز أيضاً أن يتحول الولاء حسب مدلوله القرآني – إلى حب، وأن يتحول البراء – حسب مدلوله القرآني – إلى بغض، لأن الولاء والبراء من تكاليف الإيمان التي فرضها تعالى على العقلاء من خلقه، أما الحب والبغض فمن المشاعر العاطفية التي لايصح أن تكون معياراً للتكليف بدلالة قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون} البقرة 216، وقوله تعالى {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} النساء 19.
قد يقول قائل محتجاً: لقد ورد الحب والبغض في الحديث النبوي الشريف عند الطبراني، نقول: الحكم في مسائل العقيدة عندنا هو التنزيل الحكيم، فإن تعارض حديث نبوي مع نص قرآني ضربنا بالحديث عرض الحائط لعلمنا المؤكد أن النبي (ص) لا يحدث بما يتعارض مع ما نزل به الوحي الأمين، وهذه واحدة، ثم أن علماء اللغة تركوا الاستشهاد بالحديث النبوي في كتبهم لأسباب فصلوها في مظانها، فلا جناح علينا إن نحن تركنا الاحتكام إليها في مسائل العقيدة، وهذه ثانية. ولقد نظرنا في كلمة البغض التي وردت في الحديث فوجدناها وردت في خمسة مواضع من التنزيل الحكيم بلفظ (البغضاء) ووصفت في أحد المواضع بأنها من عمل الشيطان {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء..} المائدة 91. وفي الثاني من عمل الكفار والمشركين {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} آل عمران 118، وفي الثالث بأنها عقاب لمن نسي ميثاقه من النصارى {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} المائدة 14. ولا يعقل أن يكون البغض بعد ذلك كله هو أوثق عرى الإيمان عند النبي (ص) وهذه ثالثة. والرابعة والأخيرة هي أن الله وصف نبيه الكريم – من مقام الرسالة والنبوة – فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107، وقال: {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيرا} الفرقان 56. ووضعه من مقام البشرية الإنسانية فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} القلم 4، وقال: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} آل عمران 159. ووصفه من مقام الرسالة فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن توالوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت..} التوبة 128، 129. والبغض خلاف ذلك كله، فهو يحجب الرحمة ويقتل الرأفة ويغلق أبواب الدعوة إلى الهدى عند الآخرين ويغرس بذور الفظاظة وغلظة القلب عند صاحبه. فإن صاح بنا مكابر مستنكراً: تلك صفاته في التعامل مع المؤمنين حصراً، أما من عداهم فليس لهم إلا العداوة والبغض، قلنا له: فانظر معنا في آية التوبة 129، أليس واو الجماعة في قوله {فإن تولوا} عائدة على المشركين المعرضين عن الهدى؟ وهل في الآية أمر ببغضهم وبعداوتهم وبإعلان هذه العداوة وذلك البغض صراحة؟ والجواب في الآية هو {فقل حسبي الله}.
وأما في الفقرة الثانية فنحن أمام جملة مسائل. أولها أن المشركين لم يكرهوا إنذار رسول الله (ص) لهم بترك الشرك، بل استحسنوا ذلك وحدثوا أنفسهم بالدخول فيما يدعوهم إليه. ونحن لا ندري من أين استقى صاحب الفقرة معلومته الغريبة هذه، الذي ندريه أن المشركين كرهوا دعوة النبي (ص) لهم وإنذاره إياهم منذ أول يوم اعتلى فيه الصفا وراح ينادي بيوتات قريش كلاً باسمه، ولم نعلم أن أحداً منهم حدّث نفسه بالدخول فيما يدعو إليه هذا الصابئ الخارج على معتقدات أسلافه ومعبوداتهم، وانظر في خبر أبي طالب كما تورده كتب السيرة وكتب التاريخ حين دعاه النبي (ص) إلى الهدى فقال: يا ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما حييت. أ هـ. وإذا كان موقف أبر الناس بالنبي (ص) وأشدهم نصرة له، فما بالك بغيره. ثانيها أنهم ظلوا على استحسانهم هذا إلى أن صرّح النبي (ص) بسبب دينهم وتجهيل علمائهم. ومرة أخرى نقر بجهلنا وبأننا لا ندري من أين جاء قائل العبارة بهذه المعلومة الخطيرة التي نرفضها أياً كان مصدرها، لكونها تتهم النبي (ص) بأنه كان البادئ بسب دينهم وتجهيل علمائهم فكان ذلك سبباً دافعاً لأن يشمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة. إن أول من نسب السب والشتم إلى النبي (ص) هم المشركون في خبرٍ أوردته كتب السيرة من أن رجالاً من أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب وفيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا. ثم مشوا إليه مرة أخرى فقالوا: إنا والله لا نصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا. ولعل الكاتب قصد هذا في عبارته، إنما فاته أن يشير إليه بعبارة واضحة لا تقبل اللبس. ثالثها قوله إن الإنسان لا يستقيم له إسلام – ولو وحد الله وترك الشرك – إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض كما قال تعالى في الآية 22 من سورة المجادلة. نقول: أولاً هذا الحكم – في أحسن أحواله – حكم فقيه اجتهد فأخطأ فله أجر على اجتهاده رغم خطئه، لكنه ليس حكماً قرآنيا. فالإسلام في القرآن يستقيم للإنسان مهما كانت ملته بثلاث:
1 – الإسلام بوحدانية الله إيماناً يستدعي لزوماً ترك الشرك..
2 – الاعتقاد بأن اليوم الآخر آت لاريب فيه.
3 – ثم يعمل صالحاً يجسد هذا الاعتقاد وذلك الإيمان..
بدلالة قوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون} البقرة 62.
ثانياً، لقد نظرنا في آية المجادلة 22 فوجدناها تقول: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} وبحثنا عن الأمر بالتصريح بعداوة المشركين وبغضهم – الذي لا يستقيم إسلام بدونه حسب زعم صاحب العبارة – فلم نجده. إننا نفهم من الآية أن الله تعالى ينهى المؤمنين به – بصيغة الإخبار – عن تبادل الود مع كل من يحارب الله ورسوله حتى ولو كان من أقرب المقربين. ونفهم أن تبادل المودة مع هؤلاء شيء – وعداوتهم وبغضهم شيء ثان، والتصريح بهذه العداوة والبغضاء بداية وقبل أي حوار شيء ثالث، ونفهم أنه لا علاقة تربط بين هذه الأشياء جميعاً.
إن مبادهة الآخرين بالعداوة والبغضاء سلوك يتعارض عمودياً مع قوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة ولموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل 125. وهذا أمر إلهي موجه في ظاهره للنبي (ص) لكنه يشمل كل أفراد أمته والمؤمنين به في كل زمان ومكان.
أما في الفقرة الثالثة، فهي امتداد للنقطة الثانية في مسألة العداوة والبغضاء التي انتقلت – كمنطلق عقائدي يرسم السلوك – من الأساتذة الأئمة إلى طلابهم ومريديهم، واتسعت حتى لم تعد مقصورة على الكفار بل تعدتهم إلى الموالين لهم من أبناء الأمة ورجالاتها. ويستوقفنا في الفقرة أمران، الأول يتلخص في عدة أسئلة، منها: ما هو المعيار المعتمد في تصنيف إنسان ما في حقل الموالين للكفار؟ وهل التساهل مع الكفار يدخل تحت عنوان الموالاة؟ وهل هناك تساهل مسموح به بدليل شرعي، وتساهل مرفوض في الإسلام إن لم يدعمه دليل شرعي؟ وهل عدم التصريح علناً بعداوة الكفار والمشركين وبغضهم يعتبر موالاة لهم؟ والثاني هو قول الكاتب: إن موضع القدوة لنا هو رسول الله (ص) وصحابته الأجلاء وسلفنا الصالح وكفى. ونسي هنا أن يخبرنا أيضاً أن تارك الصلاة وهو من أتباع محمد (ص) هو كافر ولو كان يعيش بيننا، ويمكن أن يكون أماً أو أباً أو ابناً أو فماذا نفعل معه؟ وما هو أصلاً تعريف الكافر؟ ومن هو؟
هل لابد لنا من الإجابة على أسئلة الأمر الأول؟ أم أن الإجابة واضحة عند كل متأمل منصف؟ ففي ضوء ما قلناه من أن مسألة العداوة والبغضاء مسألة فقهية لا أصل لها في التنزيل الحكيم، ولا اثر لها في السلوك النبوي. وفي ضوء مافصلناه من أن الولاء والبراء – كمصطلح يضم تحته السب والشتم واللعن والتكفير على المنابر – لم يسمع بهما النبي (ص) في حياته المباركة كلها، بل وُلِدا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وترعرعت بذرتهما لتصبح شجرة زقوم يذبح تحتها قوله تعالى {..وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} الحجرات 13. لانجد حاجة للإجابة.
لقد خطر لنا أن نستشهد في هذه المسألة بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى عليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا.} النساء 94. لولا أن أحد الفضلاء نصحنا ألا نفعل، فإن للإمام محمد بن عبد الوهاب رداً على هذا الشاهد أورده على ص 40 من كتابه “كشف الشبهات¨ يقول فيه: “معلوم أن الرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه مايخالف ذلك كما قال تعالى في آية النساء 94، أي فتثبتوا. فدلت الآية على وجوب الكف حتى يتثبت منه، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: {فتبينوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى. وأيضاً أمره (ص) بقتل الخوارج (صحيح مسلم حديث 1064) “أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد¨ مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وقد تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم (لا غلبة إلا لله) ولا كثرة العبادة ولا إدعاء الإسلام لما ظهر منهم من مخالفة الشريعة¨ أ هـ.
وبعد الإطلاع قررنا أن نضع الشاهد والرد بين يدي القارئ ليرى فيه رأيه.
1 – في الآية أمر ونهي. أما الأمر فقوله تعالى {فتبينوا}، وأما النهي فقوله تعالى {ولا تقولوا}، والإمام نظر في الأمر ولم ينظر في النهي،.
2 – الضرب في سبيل الله يكون – كما قال عدد من المفسرين أحدهم الرازي في التفسير الكبير – إما للتجارة إن كان الضرب في سبيل الله رزق ، أو للجهاد إن كان الضرب في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه. وفي كلا الحالين لا علاقة للآية بقتال ولا بقتل انطلق الإمام منهما في فهم الآية حين اعتبرها آية في القتال. ونحن نرجح أن الضرب في سبيل الله في الآية هو للسفر والتجارة بدلالة أنه سبحانه استعمل الأداة (إذا)، ولو كان يقصد القتال لاستعمل كلمة (إن) باعتبار أنه عارض قد يحصل وقد لا يحصل.
3 – السّلَم في الآية هو السلام، بدلالة أنه قرئ كذلك عند البعض. وللسلام عند المفسرين معنيان: الأول بمعنى التحية، والثاني بمعنى المسالمة، لكنه في كلا الحالين لا علاقة له بالإسلام الذي ذهب عليه الإمام.
4 – ثمة ترابط لزومي باللفظ والمعنى بين الأمر بالتبيين والتثبت وبين النهي عن قول لست مؤمناً في الآية. تمثله واو المعية العاطفة في عبارة {ولا تقولوا}، التي تربط بين المعطوف والمعطوف عليه برباط المعية فلا ينفصل أحدهما عن الآخر في القصد والدلالة، والتي لم يقف عندها الإمام حين نظر في الأمر وترك النظر في النهي.
5 – الآية تنهى – كما فهمناها – عن تصنيف الخلق بحسب عقائدهم، ثم اعتماد هذا التصنيف معياراً في التعامل معهم، وهذا – في رأينا – ما دفع الإمام إلى تجاهل النهي في الآية، لأنه لو فعل لتهاوت دعوته إلى إعلان العداوة والتصريح بالبغضاء كمحور رئيسي عنده.
فإن نحن انتقلنا على النصف الثاني من الفقرة، أي إلى مسألة الخوارج والأمر النبوي الوارد في صحيح مسلم بقتلهم أينما كانوا استوقفتنا فيه عدة أمور. أولها أن الخوارج عند الإمام هم مخالفو الشريعة، وهذا كلام غائم فضفاض يدخل تحت عنوانه أشياء وأشياء، ثانيها أنه لا يفرق بين الخوارج على علي بن أبي طالب في مسألة التحكيم وبين الخوارج على الأمويين في مسألة جواز قتال السلطان الجائر، ولاندري إن كان يعتبر – في فقرته هذه على الأقل – عائشة والزبير وطلحة وسعيد بن جبير من الخوارج، كما أنه لا يفرق أيضاً بين الشريعة النبوية والشريعة العلوية والشريعة الأموية والعباسية، وبين كل من هذه وتلك خلافات واختلافات علمها من علم وجهلها من جهل. ثالثها أنه يعتبر قتل المخالفين في الرأي منهجاً نبوياً وهذا يتعارض مع عشرات الآيات القرآنية التي ذكرنا بعضها آنفاً فلا نعيد. رابعها أنه لا يفرق بين علم النبوة وعلم الغيب. فالإنذار بيوم القيامة – مثلاً – من علوم النبوة الموحاة، أما العلم بما سيقع من أحداث بتفاصيلها وأسماء أصحابها فهو من علوم الغيب التي نفاها سبحانه عن نبيه الكريم في قوله {..ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ومامسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} الأعراف 188. والأرجح عندنا أن هذا الحديث من وضع الوضاعين بعد العصر النبوي لتبرير ماكان يقوم به أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وواليه على مكة خالد بن عبد الله القسري كما تم وضع أسماء العشرة المبشرين بالجنة وأصحابي كالنجوم.
وأما في الفقرة الرابعة، فيجري تكريس مسألة التصريح بعداوة المشركين والكفار وبغضهم على المستوى الجغرافي حين يقسم الفقهاء الكون إلى دارين: دار حرب وكفر، ودار إسلام وسلام. والقائل بالمسألة الأولى لابد له لزوماً من القول بهذا التقسيم.
إن أهم وأبرز مايستوقف المتأمل في هذه الفقرة هو حشر مسألة الهجرة فيها، والاستشهاد بأحاديث نبوية متعارضة في ظاهرها إلى حد لايمكن معه التوفيق بينها، والاستناد إلى أحكام فقهية تعتبر المهاجر مرتداً وإن لم يرتد في عقيدته عن الإسلام. نقول: إن من المفروغ منه بلا خلاف أن الأمر بالهجرة في حال وقوع الظلم والاضطهاد في النفس والمال والعقيدة نزل قبل الأمر بالقتال، بدليل أمره (ص) أصحابه بالهجرة إلى الحبشة. تلك هي الهجرة العامة التي أشار إليها قوله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} النساء 97. والتي تستوي فيها أرض المهجر إسلامية كانت أم غير ذلك.
ثم بعد عشر سنوات من البعثة، نزل الأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة، وتلك هي الهجرة الخاصة التي انتهت دوافعها وأسبابها بفتح مكة، من هنا فإن كل حديث نبوي يمنع الهجرة أو يقيدها، كقوله: (ص): لاهجرة بعد الفتح، إنما يعني الهجرة الخاصة من مكة إلى المدينة، لكنه لايعني مطلقاً الهجرة العامة، وبهذا يرتفع التعارض الظاهري بين الأحاديث النبوية. وإذا صح مانقول – وهو عندنا صحيح – سقط قول من يقول إن الهجرة من أهم تكاليف الولاء والبراء وسقط معه قول من يقول إن المهاجر إلى دار الكفر مرتد لتركه دار الإسلام.
إننا لاندري في ضوء هذا الحصار، ماذا يفعل المظلوم المقموع المصادر في ظل أنظمة تقتل وتنهب وتغتال الحريات، فلا هو يستطيع الصبر، ولا هو يستطيع الهجرة، أمامه أمران أحلاهما مر، إما أن يسكت فيتحول إلى شيطان أخرس أو يموت حزناً وقهراً، أو يموت أو أن يصرخ فيتحول إلى خارجي كافر لا حول له ولا قوة إلا بالله.
ونحن لانستغرب كتابات محمد بن عبد الوهاب حول الولاء والبراء لأنه عاش في القرن الثامن عشر وكان في منطقة نجد وهي منطقة شبه معزولة عن العالم في ذاك الوقت. ولو أراد أن يكتب حول الولاء والبراء الآن لغيّر كثيراً من آرائه.
كيف نفهم الولاء والبراء الآن؟
على ضوء ماذكرنا آنفاً حول الآراء التي تطورت حول الولاء والبراء، وكيف تحولت من مصطلح في التنزيل الحكيم له دلالاته، إلى مصطلح فقهي سياسي مختلف تماماً عما ورد في التنزيل الحكيم.
وبما أن الولاء والبراء هو من صفات المجتمعات الإنسانية الواعية، فهذه التجمعات تحمل المصطلحات التالية: الأسرة – العشيرة – القبيلة – الأمة – القومية – الشعب – المذهب – الطائفة – الحزب السياسي – الطبقة.
ولكن نؤكد أولاً المصطلحات التي يشترك بها معظم سكان الأرض بغض النظر عن القومية والأمة والشعب وهي: الأسرة – الأمة – القومية – الشعب.
1 – الأسرة: فنرى أن الولاء والبراء في الأسرة هو التراحم والتعاطف والود بين أفرادها ومساعدة بعضهم بعضاً بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والسياسية. والبراء هو الدفاع عن أفراد الأسرة عندما تتعرض لظلم أو عدوان من قبل الآخرين والدفاع بحسب الوسائل المتاحة في الصحافة والقضاء والكلمة الطيبة حتى السب والشتم، وكذلك تقديم المساعدات المادية لأفراد الأسرة بعضهم لبعض، وهو ما نسميه بصلة الرحم. حتى إبراهيم (ع) لم يمنعه التبرؤ من أبيه من الحزن عليه والحفاظ على علاقات الود معه. في الولاء الأسري يتساوى الناس جميعاً.
2 – الأمة: لقد عرفنا الأمة بأنها مجموعة من الناس لهم سلوك موحد، لذا فإن المسلمين المؤمنين هم أمة محمد. والولاء والبراء في الإيمان وأركانه لله ولرسوله وللذين آمنوا. وبالنسبة للإيمان وأركانه فإن المؤمنين ملة، واليهود ملة، والنصارى ملة. وفي أمور الإيمان (لن ترض عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم).
ولكن في أركان الإسلام والمثل العليا ففيها الشيء المشترك الكثير بين المؤمنين ومعظم سكان الأرض، لأنها قيم إنسانية عامة. والغريب أن المثل العليا والعمل الصالح من أركان الإسلام الحقيقية، لايوجد فيها قيم إنسانية أو أخلاق، مما جعلنا أمة معزولة عن العالم والقيم الإنسانية..
والأمة هي وحدة السلوك – كما عرفناها سابقاً – التي تجمع مجموعة من الناس بعضهم إلى بعض، فأتباع محمد (ص) هم أمة محمد لهم قبلة واحدة. وكل شيء يخص أتباع محمد (ص) بالسلوك يدخل ضمن مفهوم الأمة، ونرى الحُجاج ومقيمي الصلاة ومؤدي الزكاة، وصلاة الجنازة هي من مقومات سلوك أمة محمد التي تميزها عن غيرها. وفيها الولاية لله ورسوله والمؤمنين، ولا يوجد فيه أي ولاية للآخرين، ولا علاقة للحكام بذلك لذا قال تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. حتى المؤمنون الذين يعيشون في أمريكا وأوربا والصين وروسيا ولايتهم في أمور الإيمان لله ورسوله والذين آمنوا. وفي المفهوم الواسع الآن هي الثقافة بشكل عام. ونرى أنه يمكن للأمة أن تعيش في دولة واحدة أو في عدة دول. فأمة محمد (ص) تعيش في 57 دولة اسمها الدول الإسلامية. وفي دول أخرى، أيضاً هناك مجموعات تنتسب إلى أمة محمد (ص)، وأينما وجدت فولاؤها في أركان الإيمان لله ورسوله والذين آمنوا، ولا علاقة لأي سلطة بهذا الولاء والبراء لأنه لايصطدم مع أية سلطة، إلا إذا كانت سلطة غايتها تفكيك الدين بما فيه الشعائر. أما الولاء في حقل العمل الصالح فهو لمن يقوم به من أمة محمد (ص) أم من غيرهم. فولاؤها في العمل لمن يتقن عمله ولا يمارس الغش كائناً من كان. وولاؤنا في القضاء للقضاء النزيه بغض النظر من هو القاضي، وكذلك ولاؤنا للطب للطبيب الكفؤ كائناً من كان ومن أي ملة كان.
ويمكن أن تكون في بعض الحالات العلاقات بين الأمم علاقات غير ودية، ولكن ليس بالضرورة عدائية أو عدوانية كالبراءة من المشركين.
القومية: كما عرفناها سابقاً هي مجموعة من الناس العاقلين تجمعهم وحدة اللسان، كأن تقول القومية العربية، أي أن العربية لسان بغض النظر من أية أمة كان منتسبوها فهناك مؤمنون عرب ونصارى عرب ومؤمنون أتراك ومؤمنون فرس، وهكذا والولاء للقومية هي أولاً الاعتناء باللسان القومي ونشر الثقافة فيه وترجمة الكتب من لغات أخرى إلى اللغة الأم. أي أن القومية لا تتعارض مع الأمة. فالأمة الواحدة فيها قوميات والقومية الواحدة فيها أمم، والولاء فيها لا يتعارض مع مفهوم الولاء في الأمة، إذ أن لكل واحد منهما حقله الخاص به ومفهومه الإيجابي الخاص به. والولاء في القومية يحفظ اللغة من الانقراض. والعلاقات بين القوميات هي علاقات تبادل ثقافي، لا علاقات فرض لغة على أخرى. والولاء أيضاً هو نشر المراكز الثقافية والمدارس التي تعلم اللغات المختلفة.
الشعب: وقد شرحناه في الصفحات السابقة وهو التجمع الذي يقوم على أساس تجمع مصالح في نظام سياسي، بمساحة يعيش فيها هي الوطن. ونرى أن الشعب هو مصطلح ورد في التنزيل الحكيم مع محمد (ص) حيث وصلت البشرية إلى مرحلة تشكيل الشعب. ولم يرد مصطلح الشعب في التنزيل الحكيم قبل محمد (ص).
والشعب هو التجمع الإنساني الأكثر رقياً إذ يأتي في مرتبة فوق الأمة وفوق القومية والفرد فيه هو المواطن. وأول مرة تشكل شعب في شبه جزيرة العرب هو بعد الهجرة النبوية. فعندما وصل الرسول (ص) إلى يثرب كتب الصحيفة مع اليهود وكتب فيها أولاً أن المؤمنين أمة، واليهود أمة وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات وأن السلطة فيها للنبي وللمؤمنين.
هنا نلاحظ أمراً مهماً جداً هو أنه سمى أتباعه أمة وسمى اليهود أمة، وهم يعيشون في مكان واحد هو يثرب وسوى بينهم في الحقوق والواجبات، لذا فقد تشكل أول شعب في بقعة هي يثرب، وقد تم معاقبة اليهود هذا العقاب الشديد لأنهم خانوا الوطن والمواطَنَة وتآمروا على الوطن، فأُخرجوا من أوطانهم، بينما هذا العهد لم يكن بين المؤمنين والمشركين من قريش، بل كانت هناك هدنة فقط.
ونرى أن مفهوم الشعب والمواطنة لا يتناقض مع مفهوم الأمة والقومية والأسرة.
لنأخذ مثالاً سكان الولايات المتحدة الأمريكية.
1 – هناك مجموعة من المسلمين المؤمنين هم من أمة محمد وليهم في أركان الإيمان الله ورسوله والذين آمنوا.
2 – جزء من هؤلاء قوميتهم عربية، ويتكلم العربية في بيته، والإنكليزية في عمله، ولا تعارض في ذلك. وولاؤه في البيت للغته الأم. وجزء آخر تركي وآخر فارسي.
3 – هؤلاء جميعهم مواطنون في أمريكا وهم جزء من الشعب الأمريكي، وولاؤهم السياسي والمصلحي للولايات المتحدة الأمريكية، لأن مصلحة شعب أمريكا عندهم فوق مصلحة أي شعب آخر. ونرى أنه لا تناقض أبداً بين هذه الولاءات الثلاثة. وقس على هذا في كل دولة من دول العالم.
إن العلاقات بين الشعوب هي علاقات مصالح، والولاء فيها للمصالح. والبراء من هذه المصالح. وليس بالضرورة أن يكون عدوانياً، حيث يمكن أن تكون هناك علاقات غير ودية وقد تكون هذه العلاقات غير الودية بين شعوب تنتسب إلى أمة واحدة، لكن أساس العلاقات بين الشعوب هي المصالح المتبادلة والسلام والحرب هي حالة شاذة وليست قاعدة للعلاقات.
نأتي الآن إلى بعض أنواع الولاء الضيق الفكر، وهو الولاء للطائفة أو المذهب أو الحزب. فهذا النوع موجود في الدول المتخلفة وهو ولاء متخلف جداً استئصالي. والعلاقات بين هذه الولاءات غير ودية، وقد تكون حالات عدوانية وقد حصل هذا تاريخياً ومازال. ففي هذه الحالة تصبح الطائفة أو المذهب فوق القومية وفوق الشعب. ومن أسوأ أنواع الولاء سوءاً في الأرض هو عندما يجتمع الولاء للمذهب والحزب معاً أي مذهبي وسياسي (كالإخوان المسلمون عند السنة وحزب الله عند الشيعة). هذا الولاء لا ينتج عنه – إن وصل للسلطة – إلا دولة اقصائية استبدادية بامتياز.
وكذلك عرف التاريخ الولاء للطبقة وهو ولاء استئصالي بحت. فالاتحاد السوفياتي قام على أساس الولاء الطبقي، فركب السلطة أشخاص باسم طبقة العمال والفلاحين، ولكن عملياً أصبحوا الأغنياء الجدد، فالولاء الطبقي هو أن تحل طبقة مكان أخرى في الامتيازات، ولا علاقة لشعار المساواة بذلك. فكل الحركات التي سمت نفسها ثورية في القرن العشرين تحت اسم الطبقة لم يكن هدفها المساواة إطلاقاً، وإن كان هناك مساواة فعلاً فهي المساواة في الفقر والاضطهاد، والحقيقة أن مجموعة حلّت في السلطة مكان مجموعة، لذا فهي بالضرورة استبدادية بامتياز. وقد أعطت لنفسها الصفة العالمية على أساس أن في العالم كله يوجد عمال وفلاحون.
لذا فإننا نرى أن أسوأ أنواع الولاء والبراء هو في الحركات الدينية السياسية، وفي الحركات الطبقية التي تسمي نفسها ثورية، لأنها تشترك في صفة أساسية هي إدعاء تمثيل الناس بالقوة رغم أنوفهم حيث تعرض الوصاية عليهم باسم الشرعية الثورية أو باسم حاكمية الله، استبدادية بطبيعة إيديولوجيتها.
خاتمة
بعد أن انتهى بحث الولاء والبراء يتم طرح سؤال هام جداً وهو: الجهاد والقتال، ما هو مفهوم الجهاد والقتال في مصطلح الأمة وفي مصطلح القومية وفي مصطلح الشعب؟؟
أي متى يجاهد الإنسان على أنه فرد من أمة؟ ومتى يجاهد على أنه فرد في قومية؟ ومتى يجاهد على أنه فرد من شعب؟ وهذا ما أسميه العقيدة القتالية للأفراد.
ومتى يقاتل الناس في مجموعات تشكل الجيش أي ما نسميه العقيدة القتالية للجيوش؟
وهل هناك بالضرورة تطابق بين العقيدة الفردية والعقيدة الجماعية في الجهاد والقتال؟ أي في عقيدة الأفراد وعقيدة الجيوش؟
لقد أجبنا على هذه الأسئلة في الفصل الثالث (الجهاد والقتال).