3 – الميثاق
نحن نرى أن ذلك لا يكفي، فقد تتم صياغة دستور جميل براق، من قبل شخص أو لجنة، ولا يلتزم الناس به. فالدستور عقد، ومواده بنود هذا العقد، والقانون هو آلية تنفيذ هذه البنود ضمن الحياة اليومية المعاشة بكل أبعادها. ولكن، ليتم الالتزام الطوعي بهذا القانون وذلك الدستور، لا بد من أمر أساسي يأتي قبلهما، ورد في التنزيل الحكيم وغفلنا نحن عنه وضيعناه، هو الميثاق. أي أن لدينا:
الميثاق ← الدستور ← القانون
فالميثاق في اللسان العربي من وثق، ومنه جاءت الثقة. فالثقة بين المريض وطبيبه تأتي من أن كلام الطبيب موثق وموثوق عند المريض، ولهذا فهو ينفذ وصاياه وأوامره طواعية، دون أ، تكون هناك قوانين أو دساتير توجب عليه الالتزام. وللثقة دور أساسي، فهي التي تولد الالتزام، ولا التزام بدونها. وهي قبل الدستور وقبل القانون، إذ بانعدامها يصبح الدستور والقانون حبراً على ورق، وكم من دساتير وقوانين مفيدة وإيجابية بقيت حبراً على ورق، لانعدام الثقة بين الدولة والمواطن.
فالميثاق الوطني مثلاً، ليس دستوراً يعطي شرعية أو ينزع شرعية، ولا قانوناً ينص على وجوب السير على اليمين، ويعاقب من يخالفه. بل هو يحدد شروط الإنتساب إلى المجتمع، أو شروط الإنتساب إلى العمل السياسي بغض النظر عن تباين الآراء. أي أن بنود الميثاق ملزمة للرأي والرأي الآخر، والالتزام بها طوعي وليس قسرياً بحكم الدستور أو بقوة القانون. وهو الذي بدونه لا تقوم دولة، ولا يقوم مجتمع، بغض النظر عن الثقافة ووسائل الإنتاج، ودرجة التطور التكنولوجي والعلمي.
ميثاق الإسلام هو المثل العليا للمجتمع الإنساني، وهو ما نقصده بقولنا القانون الأخلاقي، القانون الإنساني العام الذي يخضع له ويدخل فيه الرأي والرأي الآخر، لأنه إنساني غير بهيمي.
الميثاق رباط طوعي يقوم على ثقة وقبول بين طرفين، لكنه في اللحظة التي يتصف فيها بالقسر يتحول إلى وثاق مادي أشار إليه تعالى في قوله:
- {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد} الفجر 25، 26.
- {.. حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ..} محمد 4.
ونحن نرى أن هذا الميثاق هو أركان الإسلام التي سماها تعالى الصراط المستقيم في قوله:
- {وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم} يس 61.
أي أن الصراط المستقيم، الذي يعبد الله بإتباعه، هو بنود هذا الميثاق الذي بدأ بنوح وختم واكتمل بمحمد (ص). فإذا نظرنا في التنزيل الحكيم، نجد أن الميثاق ورد 34 مرة فيه، بينما لم يرد مصطلح العقود إلا مرة واحدة فقط في سورة المائدة 1. وهذا وحده يدلنا على أن المواثيق أهم كثيراً في حياة الناس والمجتمعات من العقود التي يعتبر الدستور أحد أشكالها.
من هنا نفهم أن الميثاق هو الصراط المستقيم، وأن الصراط هو العبادة، وأن العبادة هي الالتزام الطوعي بالمثل العليا والقوانين الأخلاقية المتمثلة بما أنزل الله على أنبيائه ورسله من وصايا. ونفهم أن الميثاق والالتزام الطوعي به هو عبادة الله بالفطرة، وأن من يخالفها فإنما يخالف الفطرة الإنسانية ودين الفطرة الإنسانية ويسفه نفسه.
من هنا نرى كيف أن أركان الإسلام تدخل في الميثاق، ميثاق عبادية الناس الناس لله التي تقوم على الثقة بالله وبأن الناس عباده، وعلى الثقة بأوامره التي بدأت بنوح وانتهت بمحمد (ص) فكانت بنوداً لميثاق عنوانه: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}. أي أن الله هدانا إلى الميثاق بالصراط المستقيم.
وقد وضع سبحانه لهذا الميثاق مقدمة، هي حرية الناس في عبادته بقوله تعالى:
- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} الذاريات 56، 57.
فقد خلق الله الناس أحراراً ليكونوا (عباداً وليس عبيداً) تكمن عباديتهم في حريتهم بالإختيار بين الطاعة (نعم) والمعصية (كلا)، وبين الإسلام والإجرام، فهم أحرار في أن يأتوه مؤمنين أو مجرمين، بدليل قوله تعالى:
- {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا * ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} طه 74، 75.
كما تكمن عباديتهم في حريتهم بالاختيار بين الكفر والإيمان، بمقتضى قوله تعالى:
- {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس 99.
وهكذا نرى الخطأ الفاحش لمصطلح “عبودية الناس لله” الذي ورد في الأدبيات الإسلامية تحت عنوان “هذا هو الإسلام” وعلى ما يطرح هذا الشعار أن يراجع التنزيل الحكيم مرة أخرى ويتدبره، فلا يوجد البتة علاقة عبودية بين الله والناس، وإنما هي علاقة عبادية حرة تخضع للحساب والمساءلة، ولو كانت هناك علاقة عبودية بين الله والناس لما وجدنا في الأرض إنساناً واحداً يعصي الله. وهكذا نفهم معنى {.. إلا ليعبدون}.
لنستعرض الآن كيف ورد الميثاق في التنزيل الحكيم، يقول تعالى:
- {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم} البقرة 256.
وهذه الآية هي أول آيات الميثاق (العروة الوثقى) ومفتاحه، التي تؤكد أن الميثاق التزام طوعي لا إكراه فيه. ولقد ورد مصطلح (العروة الوثقى) في قوله تعالى:
- {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور} لقمان 22.
تتضح في هذه الآية معالم الميثاق، ونفهم أنه الإسلام بأركانه الثلاثة (الإيمان بالله / الإيمان باليوم الآخر / العمل الصالح)، وبذلك يتأكد ما قلناه من أن الميثاق هو أركان الإسلام وهو الصراط المستقيم.
والميثاق هو علاقة ثقة متبادلة بين طرفين، فالله سبحانه أرسل لنا تعليمات وطلب منا أن نثق به، ولهذا سميت تعاليم الإسلام (التي بدأت بنوح وانتهت بمحمد) بالميثاق كما في قوله تعالى:
- {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} آل عمران 81.
وهذا يؤكد ما قلناه من أن التعاليم الواردة في التنزيل الحكيم، جاء قسم منها للرسل قبل محمد (ص) ثم تمت واكتملت به. ففي التنزيل الحكيم أمثلة من بنود ميثاق بني إسرائيل، كما في قوله تعالى:
- {وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} البقرة 83.
وهنا نلاحظ كيف أضاف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى عبادة الله والإحسان للوالدين، ليدلنا على أن الميثاق يجمع بين الإسلام والإيمان. ففي الإسلام عبادة الله وفي الإيمان إقامة الشعائر والمناسك.
والميثاق أهم من والمعاهدة، ويأتي قبله، ونرى ذلك في قوله تعالى:
- {.. وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ..} البقرة 26، 27.
وفي قوله تعالى:
- {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} الرعد 25.
أما عند ذوي الألباب الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فالميثاق والعهد كحل واحد لا يتجزأ، أو هما على الأقل في مرتبة واحدة، بدلالة قوله تعالى:
- {.. إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقانهم سراً وعلانية ..} الرعد 19، 22.
ومرة أخرى نلاحظ كيف يفرد تعالى بنداً خاصاً لإقامة الصلاة، والإنفاق في السر والعلانية الذي تدخل فيه الزكاة، ليدلنا على أنها ليست من العبادات، وأنها من أركان الإيمان، وأن الميثاق يجمع بين أركان الإسلام وأركان الإيمان.
والميثاق يقوم على الثقة المتبادلة والالتزام الطوعي، وذلك واضح في قوله تعالى:
- {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} النساء 20، 21.
ولتأكيد أن الثقة بين الطرفين أهم من العقود، فقد قال تعالى:
- {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} يوسف 66.
وقال تعالى:
- {فلما استيئسوا منه خلصوا نجيباً، قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فطرتم في يوسف، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي أبي أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين} يوسف 80.
الحياة إما ميثاق وإما وثاق. فالميثاق التزام وارتباط طوعي يتم بملء اختيار الإنسان وحريته، فإذا خالطه إكراه وتقسر تحول إلى وثاق، ومن هنا جاء مفهوم العقوبة بحجز الحرية في السجن ومفهوم القيود والأغلال. وهذه الحرية الطوعية في إعطاء الميثاق وأخذه، واضحة في قوله تعالى:
- {قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله. } يوسف 66.
- {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ..} المائدة 7.
- {… وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم مثاق ..} الأنفال 72.
والحياة الإنسانية لا تقوم بدون مواثيق تتألف من بنود، يتم القسم على الالتزام بها، فتتحول إلى عهود بين العباد الذين أقسموا عليها والله. أي: الميثاق + القسم = عهد الله. لكن تبقى الحرية وطوعية الالتزام هي السمة البارزة المميزة لهذه المواثيق جميعاً. وعلى هذا الأساس تتم المساءلة والثواب والعقاب، ثم يأتي بعد ذلك المفهوم التعاقدي لينظم آلية عمل المواثيق في الحياة، حيث يظهر مفهوم الدستور والقانون.
ويأتي الميثاق بالإنساني على رأس المواثيق جميعاً، وهو ما سميناه ميثاق الإسلام، الذي يبدأ من الإيمان بالله واليوم الآخر تسليماً، ليشمل المثل العليا الإنسانية والمثل العليا الأخلاقية. ثم يليه الميثاق الإيماني الذي يبدأ بشهادة أن محمداً رسول الله، ليشمل الشعائر والطاعات والذكر. ثم تليهما مواثيق أخرى، كميثاق المواطنة، وميثاق الزوجية: وغيرهما. ولقد فصلنا القول في ميثاق الإسلام وأركانه، وفي ميثاق الإيمان وأركانه. فانظره في مكانه من هذا الكتاب.
والميثاق يصبح عهداً لله، كما قلنا، إذا تم القسم عليه (وبعهد الله أوفوا) والالتزام بالميثاق في هذه الحالة التزام بعهد الله، والوفاء به ونقضه وفاء بالميثاق ونقض له، تماماً كما في قوله تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} الرعد 20. ونفهم أن عدم الوفاء بعهد الله = نقض الميثاق. وننتقل إلى قوله تعالى:
- {إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} آل عمران 77.
ونلاحظ كيف تربط الآية بين عهد الله والإيمان، مشيراً إلى القسم الذي يحلفه من اختار الالتزام بالميثاق. ولعلنا لم نجد عقوبة صريحة شديدة قاسية في التنزيل الحكيم أكثر من عقوبة نقض عهد الله وميثاقه الواردة في هذه الآية.
فالزوجية ميثاق، تتلى بنوده علانية أمام الزوجين، فيعلنان القبول والالتزام بها، ثم يقسمان على ذلك ليصبح عهداً لله في عنقيهما، ثم يتم بعد ذلك كله تنظيم عقد الزواج، بمواده وشروطه من مؤخر صداق وغيره. ومن هنا نفهم أن عقد الزواج دون عهد وميثاق، ودون التزام طوعي حر بهذا العهد وهذا الميثاق، هو عملية بيع وشراء متخلفة بدوية.
لقد سمى التنزيل الحكيم رباط الزوجية ميثاقاً غليظاً، فما هو الميثاق الغليظ؟ لقد ورد هذا المصطلح ثلاث مرات في التنزيل الحكيم بقوله تعالى:
- {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} النساء 21.
- {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} النساء 154.
- {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} الأحزاب 7.
والغليظ باللسان العربي، في العهود والإيمان والمواثيق، هو المشدد المؤكد.
فإذا نظرنا في الآيات الثلاث التي ورد فيها الميثاق الغليظ، نجد أنها تتحدث عن ثلاثة أنواع من المواثيق:
- ميثاق الزوجية في الآية الأولى.
- ميثاق أهل الكتاب والتوراة في الآية الثانية.
- ميثاق النبوة في الآية الثالثة.
وما يهمنا في بحثنا هذا هو الميثاق الغليظ في آية النساء 21، الذي يشير بكل وضوح إلى وجود ميثاق للزوجية، له بنود قبل طرفا الزواج الالتزام بها طواعية، وعاهدا الله على الوفاء بهذا الالتزام. ولا ندري لماذا تم إغفال هذا الجانب الأساسي في موضوع الزواج، ولماذا تم اعتبار الزواج مجرد عقد، لا يهتم بأكثر من الوجه الجنسي (النكاح) والوجه الاقتصادي (الصداق) وقد يشمل بعض شروط الردع أحياناً ومواد التغريم النقدي أحياناً أخرى تحت عنوان رضا الطرفين المتعاقدين.
فإذا ما قارنا عقود النكاح وعقود الزواج المبرمة اليوم، مع أي عقد لبيع دراجة، فلن نجد بينها اختلافاً كبيراً. والغريب المدهش أننا بحيز الوكالة في عقد النكاح تماماً كما نجيزها في عقود البيع الأخرى، وهذا في رأينا إهانة كبيرة لقدسية الزواج ولعهد الله في ميثاق الزوجية. إضافة إلى المادية في عقد الزواج، لكننا لا نفهم أبداً كيف يلتزم نيابة عنه بعهد الله وبالميثاق المؤكد الغليظ.
والطريف أن النصارى أتباع المسيح رسول الله وكلمته، قد انتبهوا لهذه النقطة، فأعطوها حقها في كنائسهم، أكثر مما أعطيناها نحن المؤمنين، أتباع محمد (ص). فتراهم يقرأون بنود ميثاق الزوجية علناً على الخاطبين، ويطلبون منها القبول علناً بهذا الميثاق، بعدها يتم إعلانهما كزوجين، وتستكمل باقي الطقوس. وكان الأحرى بنا نحن، وقد ورد هذا الميثاق صراحة في الرسالة المحمدية، (النساء 21) أن نرسخه ونعمل به.
لكننا اكتفينا للأسف بالعقود التي لا تختلف عن عقود البيع والشراء، واهتممنا بشروط الصداق مقدمة ومؤخرة، غافلين عن البنود الأهم في رباط الزوجية، بنود الميثاق، مما جعل الطلاق بالتالي أمراً سهلاً معياره الجانب المالي والشروط الجزائية الأخرى. ناسين عهد الله الذي قام ميثاق الزوجية عليه أساساً، والذي هو أهم من الصداق ومؤخر الصداق وكل الشروط الجزائية الأخرى.
فإذا أردنا أن نفصل بنود ميثاق الزوجية، فما علينا إلا أن نذكر أن الزواج أسرة وأولاد وصهر ونسب وإحصان للرجل والمرأة ومسؤولية في جميع الأحوال والظروف. ومن هنا كان ميثاق الزوجية ميثاقاً غليظاً، وهو الذي يعلن بالتزام بنوده الرجل والمرأة زوجين، وليس مقدم الصداق ومؤخره، فالصداق ليس أكثر من هدية يهديها الرجل للمرأة، تكريماً لها على موافقتها على الزواج به، قد تكون باقة ورد أو خاتماً من حديد، لا ترتب أي التزام.
إن بنود ميثاق الزوجية، هي بنود لحماية الأسرة والمجتمع، يعاهد كل من الزوجين الله على الالتزام بها علناً أمام الناس:
- أن يكون الزوج صادقاً مع زوجته فلا يكذب عليها في حال من الأحوال.
- وأن يرعاها في السراء والضراء والفقر والغنى والصحة والمرض، ويحافظ لها على مالها.
- أن لا يرتكب فاحشة بعد زواجه منها.
- أن يرعى أولادها ويبذل جهده وماله في رعايتهم والإنفاق عليها وعليهم ويحافظ على رباط الأسرة.
- ألا يتكلم عن خصوصياتها معه أمام الغير في حالي الغضب والرضا، أو في حال الطلاق وبعده. ثم يقسم كل من الزوجين على هذه البنود علناً أمام الحضور الشهود، ثم يقدم الرجل هديته لزوجته (الصداق)، ثم يتم بعد ذلك كله إعلانهما زوجاً وزوجة أمام الله والناس.
فإذا نظرنا إلى هذه البنود، كعهد لله في عنق الزوجين، رأينا أنها ميثاق غليظ، لا يستطيع الوفاء به والالتزام بحمله إلا من كان مؤهلاً لذلك. وهذا يقودنا من جهة أولى إلى عدم جواز الوكالة في ميثاق الزوجية وفي عهد الله بالالتزام به، ومن جهة ثانية إلى شرعية الطلاق، كمخرج وحيد في حال تعذر الوفاء بعهد الله على أحد الزوجين. ويقودنا من جهة ثالثة إلى أن طلب الطلاق حق للزوج وللزوجة على حد سواء، باعتبارهما طرفين متساويين في عهد واحد.
فالزوج أو الزوجة الذي أعطى عهد الله وأقسم على الالتزام بميثاق الزوجية، سيحسب ألف حساب وحساب وهو يقرأ قوله تعالى عن عقوبة الناكث بعهود الله وبالإيمان:
- {إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} آل عمران 77.
وإذا كان ميثاق الزوجية يحمي الأسرة والفرد في الأسرة، فإن ميثاق الوطن والمواطنة والعمل السياسي لا يقل أهمية في حمايته للوطن والمجتمع والفرد.
فميثاق بالعمل السياسي والوطني، شأنه شأن المواثيق الأخرى، لا يخرج أبداً عن المنطلق الأساسي لكل المواطنين المتمثل في الميثاق الإنساني (ميثاق الإسلام} القائم على عمود واحد لا ثاني له هو حرية الناس في الإختيار باعتبارهم عباداً لله تعالى:
نعود الآن، بعد أن شرحنا العبد والعباد، والعبادة والعبودية، إلى قوله تعالى:
- {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين * وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 105، 106، 107.
لقد قلنا إن الميثاق الإنساني هو المثل العليا التي يلتزم بها الناس، كل الناس، على صراط مستقيم قائم على أساس الثقة بالله {.. اعبدوا الله مالكم من إله غيره .. } وهو تعاليم الإسلام كدين ارتضاه الله لعباده ولا يقبل منهم غيره. وكان شرحنا كله ينصب على جانبين: علاقة العباد بالله، وعلاقة العباد بالعباد. فماذا عن علاقة العباد بالطبيعة؟
ثمة عالم مادي موضوعي يتجلى في حقول مختلفة هي الزراعة، والأنعام، وعلوم الفيزياء والكيمياء، والصناعة … الخ. وثمة علاقة للإنسان بهذا العالم استثماراً وتسخيراً، وهذا جانب يقوده الشهداء من العباد. أما الصالحون فهم الذين يستثمرون ما أنتجه الشهداء لصلاح أمورهم. فالمثل العليا لا تكفي في هذا العالم المادي رغم أنها لازمة. ولا بد من إضافة بند إليها هو بند الصالحين. إذ لا تستطيع المثل العليا بكل ما فيها أن تقاوم قنبلة نووية، أو أن تنتج سيارة أو طائرة، أو أن تزرع قمحاً وتصنع رغيفاً. لأنها ذاتية تخص الإنسان والعلاقات الإنسانية، ولا بد من أن نضيف إليها القوانين الموضوعية للطبيعة، لنصبح مؤهلين لوراثة الأرض.
إن المجتمع المؤلف من صالحين، مجتمع مادي قوي لكنه جزار متوحش لا مكان فيه لإنسانية الإنسان. والمجتمع المؤلف من عابدين، مجتمع طوباوي روحاني لطيف، لكنه هش متخلف يمكن قهره بسهولة. ومن هنا يبلغنا الله في الآية بشكل حازم جازم (لبلاغا) أن الأخلاق الفاضلة والمثل العليا (العابدين) لا تكفي لوراثة الأرض وامتلاكها، بل يجب إضافة بند آخر إليه، هو (الصالحون)، الذين ورد ذكرهم مع الشهداء في قوله تعالى:
- {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا} النساء 69.
وبهذا نكون سادة الأرض في عمارتها وفي علاقاتنا الإنسانية بعضنا مع بعض. ونعود إلى قوله تعالى:
- {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} البقرة 221.
ونلاحظ أن الآية تنهى عن الزواج بالمشركين إلا أن يؤمنوا. ونتذكر أن التنزيل الحكيم فرق بين المشركين وبين أهل الكتاب في قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} البينة 1. ونفهم أن النهي في الآية عن نكاح المشركين لا يعني أبداً أهل الكتاب من يهود أو نصارى، بل يعني الوثنيين. فآية البينة فرقت بوضوح بين أهل الكتاب بالرسالة المحمدية، وبين من قاتل الرسول الأعظم وكذبه، وتحالف مع المشركين ضده. من هنا نرى أن المشركين شيء وأهل الكتاب شيء آخر (انظر “الذنب والسيئة” من هذا الكتاب).
في سياق النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات، كل المشركين والمشركات، ورد في الآية ذكر العبد والأمة. ولا يخطر لعاقل في رأينا، أن يفهم العبد والأمة في هذا السياق بمفهوم الرق والعبودية، فالشرك والإيمان معتقد لا علاقة له البتة بالمركز الاجتماعي أو بالوضع الطبقي. لأن المشرك قد يكون أميراً وقد يكون راعياً للغنم بالأجرة، والمؤمن قد يكون نجاراً أو قائد للجيوش. والعبد هنا مفرد عباد، والأمة هنا مفرد إماء، كما وردت في قوله تعالى:
- {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم} النور 32.
لا يسع القارئ العاقل في هذه الآية أبداً، أن يفهم العباد والإماء بمعنى الرق والعبودية. فالآية تخاطب المؤمنين (انظر خاتمة الآية 31) وتأمرهم بالزواج من الأرامل ومن الصالحين من عبادهم وإمائهم. وليس ثمة أي قاسم مشترك يربط بين الأرملة والرق، يسمح بعطف ثانيهما على أولهما، فالمقامات، بحسب التعبير الرياضي، ليست موحدة بينهما، بمعنى أن الأيمى الأرملة قد تكون عبدة رقيقة ولا تكون، والأمة قد تكون أرملة وقد لا تكون.
لكن النقاط تتوضع على حروفها، والإنسجام يشمل الآية، حين ننظر في القسم الأوسط منها، الذي يتحدث عن الفقر، وحين نفهم أن العباد والإماء في القسم الأول هم المأمورون والأتباع والموظفون والعمال. فالفقر هو القاسم المشترك.
وينتج لدينا أن الآية تأمر المؤمنين بالزواج من الأرامل الفقيرات اللواتي فقدن المعيل والسند، وبخاصة إن كان لدين أولاد، وبالزواج من العاملين الصالحين لديهم، وتأمرهم بألا يمنعهم فقر هؤلاء من الزواج بهم. كما ينتج لدينا أننا بدلالة القسم الأوسط من الآية، لا يسعنا بتاتاً اعتبار العباد والإماء رقيقاً، لأن الفقر والغنى أموال وملكيات، والعبيد الأرقاء مملوكون لا يملكون أبداً، أي ليس هناك عبيد فقراء وعبيد أغنياء.
ونفهم أخيراً كيف فضل الله تعالى في الآية العلاقة الإنسانية على العلاقة المالية في الزواج. فإذا كان هناك رب عمل عنده عامل صالح، عليه ألا يمانع في زواجه من أخته أو ابنته، أو كان عنده عاملة صالحة، عليه ألا يمانع في زواجها منه أو من ابنه. ومن هنا نفهم زواج السيدة خديجة بالرسول الأعظم، ومن هنا نرجح صحة قوله (ص): “إذ جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه”.
والغريب أننا كثيراً ما نسمع السادة العلماء الأفاضل، يرددون هذا الحديث النبوي في مناسبات عقد القران، لكننا لم نسمع أحداً منهم أبداً يقرأ قوله تعالى في آية النور 32، ربما لأنهم يعتبرونها جاءت لعصر الرق، ولا علاقة لنا بها الآن.
هذا كله يقودنا إلى استنتاج هام، قد يكون له علاقة بما نبحثه الآن، هو ما يسمى في كتب الفقه بلباس الحرة ولباس الأمة. فإذا كان المنطلق في الفهم واحد، أي إذا كان المقصود بلباس الحرة هي التي لا تباع وتشترى، وبلباس الأمة هي العبدة الرقيقة، فهذا يعني أن لباس المرأة مفهوم اجتماعي ساد في عصر يضم أحراراً وعبيداً، وجاء للتمييز بين الحرة والأمة الرقيقة، وأنه لا علاقة له البتة بالإسلام من قريب ولا من بعيد، ومع ذلك يصر علماؤنا الأفاضل على اعتباره حجاباً شرعياً ولباساً إسلامياً مفروضاً على المرأة اليوم، في مجتمعات لم يعد فيها رق ولم يعد فيها عبودية وإماء.
ونقف أخيراً عند مصطلح “تحرير رقبة” الذي ورد في ستة مواضع من التنزيل الحكيم هي:
- {.. ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ..} النساء 93.
- {.. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ..} النساء 92.
- {.. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ..} النساء 92.
- {.. من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ..} المائدة 89.
- {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ..} المجادلة 3.
- {وما أدراك ما العقبة * فك رقبة} البلد 12، 13.
وأول ما نلاحظه أن بعض المفسرين وكتب التراث، اعتبرت تحرير الرقبة في المواضع الستة بمعنى الإعتاق من الرق. لكننا نلاحظ أمراً هاماً في آية النساء 92، هو وصف الرقبة المحررة بأنها مؤمنة، وهذا وصف لا نجده في الآيات الثلاث الأخرى.
ونتذكر ونحن نتأمل أن الرقبة مفرد رقاب، وأن الرقاب وردت ثلاث مرات في التنزيل الحكيم بقوله تعالى:
- {.. وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ..} البقرة 177.
- {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ..} التوبة 60.
- {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب .. } محمد 4.
ونبدأ بتحرير الرقبة المؤمنة، كما وردت في سورة النساء. ففي الآية نحن أمام حالة قتل وقعت خطأ. القتيل فيها مؤمن والقاتل فيها مؤمن. والمطلوب من هذا القاتل المؤمن تحرير رقبة مؤمنة. وهذا مستحيل !! لأنه إذا جازت عبودية الرق المؤمن لسيد غير مؤمن، فهي لا تجوز لسيد مؤمن، فإيمان العبد الرق عند مالكه المؤمن كاف لتحرير رقبته.
وننتقل إلى تحرير الرقبة كما ورد في المائدة والمجادلة والبلد، لنجد أن البلد 13، تنص على فك الرقبة وليس تحريرها، وننتبه إلى آيتي البقرة والتوبة لم تذكر تحرير الرقاب أو فكها كبند من بنود الإنفاق والصدقات، الأمر الذي يجعلنا نميل إلى القول بأن المقصود في هذه الآيات كلها ليس عتق الرق حصراً، بل يمتد مجازاً ليشمل كل ما يغل العنق ويستعبد الإنسان من عقود والتزامات مادية.
أي أن الرق وعتقه أحد أبواب الرقاب وفكها، لكنه ليس كل شيء فيها كما يذهب البعض، وقد وصلنا في الصفحات السابقة إلى فهم عبادكم وإمائكم بأنهم العاملون والموظفون عندكم، وبناء عليه فإن من الوارد أن يعمل شخص عند شخص آخر مقابل دين أو دية، لكونه معسراً بالأساس، فهو كالمغلولة عنقه. والتحرير هنا صدقة وزكاة وقربان من الله تعالى.
قلنا إن الله خلق الناس أحراراً (عباداً) يعصونه بملء إرادتهم، ويعطونه بملء إرادتهم، وهذه هي كلمة الله العليا في الخلق .. الحرية. وهذه هي الكلمة التي سبقت من ربك، بأن يكون الناس أحراراً في اختيار قراراتهم وسلوكياتهم، وهي المرتكز الأساسي لمبدأ الثواب والعقاب، إذ لا حساب ولا مساءلة إلا مع الحرية.
فعندما يكره شخص شخصاً آخر على إقامة الصلاة، فقد تعدى على حاكمية الله وعلى كلمته التي سبقت، ونصب نفسه قيما على الصلاة، وأكره الناس على أدائها، وحول الخلق من عباد الله، إلى عبيد له شخصياً.
وعندما يكره شخص شخصاً آخر على ترك الصلاة، فحكمه كالأول تماماً، قد ألغى مبدأ أن تكون كلمة الله هي العليا، وقيد حريات الناس في الإختيار، وعطل بالتالي مبدأ الثواب والعقاب القائم على حرية اختيار القرار.
من هنا نفهم أن الثواب والفلاح يأتي من الله إن الإنسان الذي قبل تعاليم رب العالمين وأوامره طائعاً مختاراً، رغم أنها تحد من حريته، والتزم بأدائها دون إكراه، وهذا هو ميثاق الإسلام، أي السير طوعاً على الصراط المستقيم الذي هو عبادة الله.
وقلنا إن الله سبحانه لا يعبد في المساجد ولا في الكنائس ولا في البيع ولا في الأديرة، فهذه كلها بيوت وأماكن أذن الله أن تبنى ليذكر فيها اسمه، وليس ليعبد فيها. فعبادة الله هي اتباع الصراط المستقيم والوصايا خارج هذه البيوت وليس داخلها.
لقد جاء مفهوم عبادة الله باتباع الصراط المستقيم، في فاتحة الكتاب بشكل لا لبس فيه، حين قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}. ويثور السؤال في فكر السامع حين يسمع هذا القول: وكيف نعبده سبحانه؟ وكيف نستعين به؟ ويأتي الجواب مباشرة موضحاً: {إهدنا الصراط المستقيم}. وتتوالى بعدها الآيات لتزيد الأمور وضوحاً في ذهن السامع، فالكتاب، أي التنزيل الحكيم، هو الهدى المشار إليه في الفاتحة كما تنص البقرة 2.
والمهتدون به هم المتقون المفلحون، الذين يؤمنون بالله ويوقنون بالآخرة ويؤمنون بما أنزل إلى محمد (ص) وإلى من سبقه ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله (البقرة 2،3،4،5). ولا يحتاج المتأمل إلى وقوف طويل ليدرك أن هذا الهدى يجمع الإسلام وأركانه والإيمان وأركانه كما سبق تفصيلهما في بحث “الإسلام والإيمان”.
ولا يكاد يجاب على سؤال كيف نعبد الله، حتى يثور سؤال كيف نستعين به، وهذا شأن التنزيل الحكيم في مخاطبة ذوي العقول والألباب، وفي التوجه إلى الذين يعقلون والذين يتفكرون. ويأتي الجواب في قوله تعالى:
- {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} البقرة 45.
- {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين} البقرة 153.
ونتذكر أن “المعين” و”الصبور” من أسماء الله الحسنى، ونلاحظ أن الله يدلنا كيف نعبده، وكيف نستعين به. ونفهم أن للاستعانة شقين هما الصبر والصلاة، يتعلقان بالإنسان شخصياً كفرد، أما العبادة فعلاقتها بالمجتمع الإنساني كله. كما نلاحظ كيف أن العبادة جاءت قبل الصلاة لأنها من أركان الإسلام، أما الصلاة فمن أركان الإيمان، أي أننا نؤمن بالله أولاً كمسلمين ونعبده {إياك نعبد}، ثم نستعين به كمؤمنين ثانياً ونقيم الصلاة {وإياك نستعين}. وهكذا نرى أن كل أو معظم الناس حين يقعون في ضائقة أو مأزق فإنهم يلوذون إلى الله ويصبرون بعد أن يستنفذوا كل الإمكانيات المادية الإنسانية المتوفرة لديهم، أي علينا أن نساعد أنفسنا ونطلب من الله المساعدة.
ونقف عند قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} ونحن نسأل: من هم الذين أنعم الله عليهم؟ ويأتي الجواب في قوله تعالى:
- {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً} النساء 69.
وهكذا نرى أن عبادة الله تتجلى في تعاليم الإسلام ووصاياه التي بدأت بنوح وختمت بمحمد، وفي الالتزام الطوعي الإختياري بمثله العليا الإنسانية. ومن هنا نشأ مفهوم الالتزام بالقانون طاعة ومعصية، ولا يتعارض هذا مع هذا. فحرية العباد في اختيار الطاعة والمعصية، يقودهم يوم الحساب إلى الثواب والعقاب، وحرية المواطنين في طاعة ومعصية القوانين يقودهم إلى محاكمة تبريء الملتزم منهم وتوقع على المخالف العاصي العقاب الرادع.
فإذا ألقينا نظرة على تعاليم الإسلام هذه، نجد في مقدمتها التعليم رقم (1):
أن لا تشركوا به شيئاً ← شهادة أن لا إله إلا الله ← التوحيد رأس الإسلام
وإذا تصفحنا أخبار الأنبياء والمرسلين جميعاً في التنزيل الحكيم، لا نجد أحداً منهم جاء ليقول للناس: إن الله موجود، بل جاءوا جميعاً ليقولوا: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} “التوحيد”. ذلك لأن الله سبحانه خلق الإنسان والله موجود في فطرته، ولا يحتاج لمن يقول له إنه موجود.
من هنا جاءت عقوبة الإجرام والمجرمين (الإلحاد وإنكار وجود الله) صارمة جداً في التنزيل الحكيم، لأنهم بإجرامهم وإنكارهم خالفوا الفطرة التي فطروا عليها. ومن هنا يمكن القول إن أهل الأرض قاطبة يولدون مسلمين، وإن وجود الله في الذهن الإنساني لا يحتاج إلى رسل وأنبياء، إذ هو فطرة جبل الله خلقه عليها، كما في قوله تعالى:
- {فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذك الدين القيم ..} الروم 30.
فإذا انتقلنا إلى التعليم رقم (2) من تعاليم الإسلام(1)، نراه في بر الوالدين. فكيف يمكن أن يكون ثمة بر بالوالدين إن لم تكن هناك أسرة، وكيف تكون الأسرة دون زواج، وكيف يكون الزواج دون أسس وأركان مادية يقوم بها، من بيت وأثاث وثياب .. الخ.
فإذا انتقلنا إلى البند الثالث من هذه التعاليم الإسلامية، نجده ينهى عن قتل الأولاد بداعي الفقر. فكيف نطبق هذا البند إذا لم يكن هناك مجتمع، ولم تكن هناك أزمات اقتصادية.
وإذا أخذنا البند الرابع، وهو النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فكيف نطبقه إذا لم يكن هناك جنس ورغبات جنسية، والرجل لا يرى المرأة إطلاقاً، بل لا يرى إلا محارمه. وكيف يمكن تطبيقه على اللواط والسحاق إذا لم يكن هناك جوع جنسي في مجتمع أغلق أبوابه على رجال لوحدهم ونساء لوحدهن خلف أسواره العالية.
وكيف نطبق البند الخامس في النهي عن قتل النفس، إذا لم يكن هناك مجتمع فيه صراعات وثارات وضغائن وأحقاد شخصية (مجتمع حي).
وكيف نأتمر بعدم الإقتراب من مال اليتيم، إذا لم يكن هناك حب للمال في داخلنا، ولم يكن هناك مجتمع يسود فيه مفهوم إكرام اليتيم.
وكيف نوفي الكيل والميزان ونقيمهما بالقسط، إذا لم يوجد مجتمع فيه تبادل تجاري وصناعة وزراعة، تتطلب كلها مقاييس ومواصفات.
وكيف يمكن تطبيق بند {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} إلا في مجتمع إنساني حي فيه معاملات وأناس يختصمون.
وكيف نلتزم بالوفاء بعهد الله، إذا لم يكن هناك دولة ومجتمع ومهن وزواج، ومواثيق تقوم عليها الأحزاب والجمعيات.
وكيف نطبق مبدأ (ولا تجسسوا) إلا في مجتمع تتوفر فيه إمكانيات التجسس، وقابلية التجسس.
وكيف نلتزم بدخول البيوت من أبوابها، إلا في وجود مدن وقرى وشوارع وبيوت لها أبواب.
من هذه الأمثلة وغيرها كثير، يتبين لنا أن التعاليم الإسلام، تطبيقاً والتزاماً، حقلاً واحداً تنصب فيه هو الحياة المعاشة بكل أبعادها. والإنسان الذي يحيا أبعاد هذه الحياة، هو الإنسان الذي يحتاج أن يكون مسلماً. لأنها هي حقل توظيف تعاليم الإسلام، وفيها ومن خلالها يعبد الله فيطاع أو يعصى بملء الإرادة والإختيار. أي أننا لا نعبد الله إلا إذا عشنا الحياة الدنيا بكل أبعادها، إذ لا يمكن أن يثاب الإنسان في الآخرة أو يعاقب، إلا إذا عاش الحياة الدنيا، واختار فيها بملء إرادته أن يعمل صالحاً أو أن يعمل صالحا. فالآخرة كما قلنا ليس فيها عبادة وليس فيها تكاليف، بل فيها حساب وثواب أو عقاب.
من هنا نقول إن الزهد وهجر الدنيا تحت أي اسم وعنوان رفض صريح لعبادة الله كما نفهمها. فإذا قال قائل إن الحياة الدنيا جسر ومعبر قصير إلى الآخرة، قلنا وهل يحدد مصير الإنسان في تلك الآخرة إلا عبادته لله في هذه الدنيا، هذه العبادة التي لا تكون إلا بأن يعيش الحياة الدنيا بكل أبعادها.
ون هنا نقول إن على المسلم العابد لله فعلاً، أن يطلب الدنيا كاملة ليعبد الله من خلالها، ولكي يطلب الدنيا عليه أن يفهم ويعي قوانينها، (قوانين الوجود الكوني والاجتماعي)، فعبادة الله والالتزام بمثل الإسلام العليا لا تتحقق إلا بهذا الفهم والوعي.
لقد عرف سبحانه الحياة الدنيا في تنزيله الحكيم تعريف وصف جامع مانع، لا ظل فيه للذم أو القدح كما يذهب البعض، ليعلمنا ما هي الحقول التي نوظف فيها تعاليمه لنعبده من خلالها، ونسير طائعين مختارين على الصراط المستقيم الذي رسمته لنا هذه التعاليم، فقال سبحانه:
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} الحديد 20.
نبدأ بفعل لعب. فاللام والعين والباء كلمتان منهما يتفرع كلمات. فاللعب معروف، والملعب مكان اللعب، واللعبة اللون من اللعب، واللعبة اسم المرة. والثانية اللعاب وهو ما يسيل من الفم (ابن فارس ج5).
وننتقل إلى فعل لهو. فاللام والهاء والحرف المعتل أصلان صحيحان، أحدهما يعني الشغل بشيء عن شيء، والآخر نبذ شيء من اليد. ومن الأموال اللهو، وهو كل شيء شغلك عن شيء وألهاك، ولهوت من اللهو، ولهيت عن الشيء إذا تركته لغيره. ويقولون إذا استأثر الله بشيء فاله عنه، أي اتركه ولا تشتغل به. وفي هذا قال تعالى {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} الأنبياء 17.
أما الأصل الآخر فهو اللهوة، وهو ما يطرحه الطاحن في ثقب الرحى بيده والجمع لهى. وبذلك سمي العطاء لهوة (ابن فارس ج5).
وأما الزينة فهي كل ما يتزين به الناس من أشياء وأماكن، والزينة تدخل في الشهوات.
فخر: الفاء والخاء والراء أصل صحيح يدل على عظم وقدم. يقولون في العبارة عن الفخر هو عد القديم. قال أبو يزيد فخرت الرجل على صاحبه أفخره فخر أي فضلته عليه. والفخير الذي يفاخرك بوزن الحطيم. والفخير الكثير الفخر. والفاخر الشيء الجيد. والتفخر التعظم. والناقة الفخور العظيمة الضرع القليلة الدر. (ابن فارس ج4، ص481).
ونأتي الآن على شرح آية الحديد 20.
1 – يقول تعالى إن الحياة الدنيا لعب، أي أنها لعبة لكل إنسان دور فيها، كبيراً كان هذا الدور أم صغيراً. وأن هذه الحياة تعاش مرة واحدة، فهي كاللعبة التي لا تلعب إلا مرة واحدة. وعلى الإنسان أن يحرص على أن يلعبها ويؤدي دوره فيها.
2 – ويقول تعالى إن الحياة الدنيا لهو. واللهو كما نفهمه من أصل معانيه واشتقاقاته، هو المعبر عن حركية الحياة الدنيا، وهو البند الأول لكي يلعب الإنسان دوره، فينتقل (يلهو) من وجه من وجوه الحياة إلى وجه من وجوه الحياة إلى وجه آخر. فالإستيقاظ يلهي الإنسان عن النوم، والأكل يلهيه عن كرة القدم، والخروج من البيت يلهيه عن الموت المكوث فيه، والسفر يليه عن اجترار الأحزان، والحزب يلهي عن الإستمتاع بروائح الزهور، وكلما زادت بنود اللهو عند الإنسان زادت حركية الحياة عنده والعكس صحيح، فكلما كان اللهو عنده أكثر، كانت حياته ديناميكية أكثر.
ولهذا نسمي مدينة الملاهي بهذا الاسم، لما فيها من ألعاب تلهي كل منها عن الأخرى، وتلهي بمجموعها عن الأرق والإنقباض والتقوقع. وكذلك يقال في الموسيقى والغناء. أي أن اللهو هو بنود الحياة ذاتها بعجرها وبجرها، وكلما زادت هذه البنود كانت الحياة مليئة أكثر. من هنا فإن أقل الناس لهواً في الحياة هو السجين الذي يحيا داخل جدران أربعة. فبنود الحياة تقلصت عنده إلى حدها الأدنى، والذي لا يلهو هو الذي لا يفعل شيئاً، وهو الذي لا يحيا بنود الحياة، وهذا الوضع أسوأ من وضع البهائم.
ونلاحظ أن العبادة، عبادة الله طاعة ومعصية، واضحة في بنود اللهو وبنود الحياة وفي تنوع هذه البنود. فإذا انتقل الإنسان من حالة الخمول والكسل ليتلهى عنها بالعمل، فهو يعبد الله طاعة لآمره تعالى {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ..} التوبة 105. وإذا أكل وشرب وتحرى الحلال الطيب في مأكله ومشربه، فهو يعبد الله طاعة لآمره في قوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم .. } طه 81. وإذا أنفق فأسرف، فهو يعبد الله معصية لأوامره، وكذلك إذا غش بالمواصفات ولم يقسط في الكيل والميزان، فهو يعبد الله عاصياً لأوامره. ولهذا نقول كلما زادت بنود اللهو (حركية الحياة) كبرت إمكانية عبادة الله في الطاعة والمعصية، وأصبحت إمكانية إتباع الصراط المستقيم واقعية موضوعية.
حين يقول تعالى {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} الأنبياء 17. فهو يعني أن خلقه لنا ليس لهواً له، يشغله عن أمور أخرى، إذ اللهو بمعنى الإنتقال والإنشغال بشيء عن شيء لا ينطبق عليه، سبحانه وتعالى عما يصفون.
ثمة دور ولهو سيء يمكن أن يتفرغ له الإنسان، ورد في قوله تعالى:
- {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين} لقمان 6.
هنا يتوعد سبحانه بالعذاب المهين، الذين يتفرغون ويجعلون دورهم في الحياة الدنيا تفرغا ليضلوا الناس على سبيل الله، ويهزأون من سبيل الله وصراطه، كأن يفرغ الإنسان نفسه وحياته لنشر الفاحشة والدعوة إليها، ولنشر الغش والجريمة قائلاً بسخرية: وماذا أفاد الناس من استقامتهم وصدقهم؟. أما ا يذهب إليه البعض في فهم (لهو الحديث)
أنه الغناء والموسيقى والرقص وأنواع الفنون الأخرى، فهو ليس عندنا بشيء.
وبما أن عبادة الله لا تكون إلا خارج المساجد والكنائس والبيع والصلوات، فنحن نفهم أن المساجد والصلاة لذكر الله، وهي لهذا لا تدخل ضمن بنود اللهو، ولهذا فصلها تعالى عن بنود اللهو الأخرى في الحياة بقوله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ..} الجمعة 9.
- {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين} الجمعة 11.
3 – ويقول تعالى إن الحياة الدنيا زينة. ولقد شرحت في (الكتاب والقرآن) مفهوم الزينة في بند الشهوات. فقد وردت الزينة في قوله تعالى:
- {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب} آل عمران 14.
- {.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن ..} النور 31.
وقلنا إن النساء في آية آل عمران 14 تعني ما تأخر واستجد من الأشياء وليس جمع امرأة، فالمرأة ليست شيئاً وليست من متاع الدنيا. وأن البنين هي الأبنية وليس الأبناء، فالأبناء ليسوا أشياء ومتاع، وقلنا إن الزينة في آ]ة النور 31 هي الزينة المكانية الظاهرة والمخفية. وإن النساء في الآية (أو نسائهن) هم النسل المستجد المتأخر لمن ذكر في الآية كالأحفاد وأبناء الأحفاد.
وهنا نرى أن بنود الزينة هي آلية اللهو، وهي المواضيع المادية المباشرة التي يقع عليها اللهو. فالنوم يحتاج إلى منزل وغرف نوم وفرش وأغطية، واللهو عن النوم بالأكل يحتاج إلى أنعام (لحم، حليب، بيض ..) وإلى خبز يحتاج بدوره إلى زراعة وأدوات زراعية، وهكذا. أي أن الزينة هي الممارسة المادية لبنود اللهو التي يعبد الله طاعة ومعصية من خلالها. وكلما كثرت بنود الزينة تاق الإنسان أكثر إلى مزيد، وزادت بنود اللهو، وبالتالي زادت إمكانية عبادة الله وزادت حركية الحياة.
4 – ويقول تعالى إن الحياة الدنيا تفاخر بين الناس. وهذا ما نراه موضوعياً إذا نظرنا إلى كل أهل الأرض، من الجانب الإيجابي الشيء الجيد هو الفاخر، فنقول لباس فاخر ومنزل فاخر. وفي الصناعة نقول إن المرسيدس فخر صناعة السيارات الألمانية، والإلكترونيات فخر الصناعة اليابانية. أما نحن العرب فليس لدينا سوى التخلف والإستبداد بجميع أنواعه وحجاب المرأة وذكورية المجتمع نفخر بها على الناس كافة. لولا أنه في التخلف يعبد الشيطان وليس الله، لأن مواد اللهو المفيد عندنا شبه معدومة، ومن هنا نقول إننا أقل عباد الله عبادة لله بعد أن ضيقنا على أنفسنا المجالات الحيوية لهذه العبادة.
إن المعنى الإيجابي للتفاخر الذي رسمه تعالى بنداً من بنود تعريفه للحياة الدنيا، هو التفاخر بالإنتاج وبالإستهلاك فهو أساسيات الحياة الدنيا ومن متطلباتها، وعلينا أن نسعى إليه ونطمح دائماً، طموحنا إلى حياة أفخر وأفضل، وهو من نعم الله على عباده مكمل لنعمة الحياة ونعمة الحرية ونعمة العقل.
من التفاخر بالزينة كبنود للهو، تظهر بنود المثل العليا (الصراط المستقيم) وفيها المجال الموضوعي لعبادة الله طاعة (باتباع الصراط المستقيم) ومعصية (بتركه وانتهاج سبيل آخر غيره).
5 – ويقول تعالى إن الحياة الدنيا تكاثر بالأموال والأولاد. فإذا نظرنا إلى أهل الأرض، نجد أن التناسل والإنجاب وجمع الثروة هو القاسم المشترك بينهم جميعاً. فلا يوجد شعب من الشعوب ولا أمة من الأمم كانت أو كائنة أو ستكون إلا وجمع المال والإنجاب أساس الأسس عند أفرادها وجماعاتها. فلولا المال لما كان هناك أمانة وسرقة وغش، ولما كان هناك ظلم في الأحكام وشهادة زور، ولولا الأولاد لما كانت هناك أسرة وزواج وعقود ومهور ونفقة وطلاق وميراث، ولما كان هناك حقول يتم صرف المال فيها. بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور إنساناً في كهف بدائي، ومعه مليون قطعة ذهبية، ونقول هذه هي الحياة الدنيا.
لقد ذهب الكثيرون إلى فهم وصفه تعالى للحياة الدنيا في آية الحديد 20، بأنه سبحانه يذمها ويحط من قدرها، لكننا لا نجد في الآية أكثر من وصف دقيق لها لإمكان فيه لذ أو قدح.
ولو أننا جردنا الحياة الدنيا مما يزعم أنه محط ذم، فماذا يبقى منها؟ تصوروا معي حياة دنيا ليس فيها دور للإنسان (لعب) وليس فيها شيء يشغله عن شيء آخر (لهو) وليس فيها بيوت وأنعام وذهب وفضة (زينة) وليس فيها تكاثر بالأموال والأولاد.. فماذا يبقى من مجالات نعبد الله فيها؟ وهل يطاع الله في لا شيء أو يعصى في لا شيء؟ وهل تكون حرية الإختيار في لا شيء، ويأتي الثواب والعقاب يوم الحساب على لا شيء؟
باختصار، حين نقرر أن هذه الصفات التي وصفها تعالى للحياة الدنيا هي محل ذم، وندعو إلى تركها والزهد فيها، فنحن نقرر ألا نعبد الله لا طاعة ولا معصية بعد أن حذفنا كل المجالات التي يطاع فيها ويعصى (يعبد).
لهذا، فالإنسان الذي يؤمن بأن تكون كلمة الله هي العليا، هو الذي يطلب الدنيا ويعيشها بكل أبعادها، لأنها لا تتاح له إلا مرة واحدة، وهو الذي يحيا الحياة عابداً الله طاعة ومعصية، يريد أن يختبر مصداقية المثل الإسلامية العليا (الصراط المستقيم). أما إذا كان الأمر غير ذلك، فلا معنى للحساب والجنة والنار، ومعناه أن الله خلقنا عبثاً، تعالى الله عما يصفون.
من هنا فإن أول بند من بنود هذه الحياة، التي نحياها مرة واحدة، هو أن نحرص عليها. وأن طموح مشروع وهبه له الله.
ينتقل تعالى في الآية بعد ذلك كله، إلى تشبيه الحياة الدنيا ولهوها وزينتها بالغيث يخرج نباتاً يهيج ثم يصفر ثم يصبح حطاماً. ونفهم أنه تعالى يشير إلى قانون {كل شيء هالك إلا وجهه} كنهاية لهذه اللعبة واللهو والزينة. وأنه تعالى يذكرنا بأن البيت الفاخر والثوب الفاخر يبلى مع الزمن، وأن على الإنسان ألا ينسى وهو يلعب لعبة الحياة هذه حراً في طاعته ومعصيته، أن السعادة نسبية، وأن كل ما يقوم به الإنسان يبلى ويمكن تجاوزه، ما عدا المثل العليا المتمثلة بالصراط المستقيم فهي ثابتة باقية. إذ هي التي يتعبد بها الإنسان سواء كان في خيمة أو في قصر، على جمل أو في صاروخ.
ولولا أن كل شيء يبلى ويمكن تجاوزه، أي لولا قانون كل شيء هالك إلا وجهه، لمات الأمل والطموح، واندثرت الجامعات ومعاهد البحث العلمي، ولتوقفت الصناعة والتجارة والزراعة والخدمات، لأن الهلاك فيه ديناميكية الحياة نفسها. ونلاحظ أنه تعالى يشبه الحياة الدنيا بالغيث، والغيث لا يرد في التنزيل الحكيم إلا في مجال الرحمة، أما المطر ففي مجال السخط والعذاب. كما نلاحظ كيف رسم في صورة النبات قانون التطور والهلاك الذي هو أساس الطموح في هذه الحياة الدنيا، وعصبها ومحركها الأساسي.
ثم تأتي نهاية الآية بقوله تعالى: {.. وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان .. }، لتربط لنا بوضوح هذه الصورة والوصف للحياة الدنيا بحرية الإنسان فيها بأن يعصى فله في الآخرة العذاب الشديد، وبأن يطيع فيفوز بمغفرة الله ورضوانه. فإذا عشنا الحياة الدنيا بكل ما فيها من لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، وعبدنا الله مختارين الطاعة والمعصية بملء إرادتنا، وصلنا إلى الآخرة حيث الثواب والعقاب بعد الحساب.
ويختم تعالى الآية بقوله: {.. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}. وذلك ليؤكد على أن الحياة الدنيا بكل ما سبق من وصفها لا يمكن أن تصل إلى الكمال، بل هي في تطور من حال إلى حال، وانتقال من طموح إلى طموح تال. فإذا بلغ التطور والطموح حد الكمال مات الأمل كما قلنا، وتوقفت عبادة الله طاعة ومعصية. وهذا سر الشهوة الأول عند الإنسان للمستجدات من كل شيء (النساء).
فالغرور في الآية هو عدم النضوج والإنتهاء إلى الكمال، وما دامت كذلك فستظل تسير من حال إلى حال أحسن. فليس في الحياة الدنيا نهاية مطاف، بل جيل يتجاوزه جيل، وصناعة تتجاوزها صناعة، وثياب جميلة تحل محلها ثياب أجمل .. وهنا تكمن لذة الحياة والعمل والطموح، وهنا يعبد الله سبحانه طاعة ومعصية، وهكذا نفهم قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} الحجر 99، حيث لا تنتهي العبادة إلا بالموت، هنا لا بد من التنويه بأنه إذا عبد الله في الحياة الدنيا (البنود المذكورة أعلاه) طاعة دون معصية فهذا يعني أن الإنسان يذكر الله (لم ينسه البتة) في ذاكرته وفي عقله، لهذا ختم الوصايا الخمس الأولى في سورة الأنعام بقوله: {.. لعلكم تعقلون} والأربع التي تليها بقوله: {.. لعلكم تذكرون} والوصية العاشرة ذكر فيها {.. لعلكم تتقون} تقوى التوحيد والعمل الصالح.
وهكذا نفهم قوله تعالى من أن ذكر الله أكبر من الصلاة {.. وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون} العنكبوت 45. فهذه الآية جمعت بين الله في الوجدان (الصلاة) والله في الذاكرة والعقل (العبادة)، ولذا أمرنا الله تعالى بعد صلاة الجمعة أن نذكره كثيراً بقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} الجمعة 10.
وكذلك يمكن الآن أن نربط بين قوله تعالى في سورة المائدة {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين} المائدة 93. وبين قوله تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلى متاع الغرور} الحديد 20. أي أن المجال الذي يتحقق فيه “طعموا” هو الحياة الدنيا بكل بنودها المتتالية التي شرحت أعلاه، لعب ولهو وزينة وتفاخر (منافسة) وتكاثر في الأموال والأولاد.
(1) نحن نتحدث عن الإسلام وتعاليمه المكتملة بالرسالة المحمدية، وليس عن الإسلام من زاوية التراكم التاريخي على يد الأنبياء والرسل.
(2) تعليقات
Maha Grain
العلامة الدكتور محمد الشحرور
فتح الله عليك فتحاً مبينا ً ،، لقد انشرحت صدورنا بفهم القرآن بعد ان تابعنا تآويل معانيه في صفحتكم المباركة
اختلف معك في بعض النقاط ولكنني لا اود ان اشتت تفكير الذين يتابعونك لذا سأكتب اليك علي بريدك الخاص حول تلك النقاط فربما توضحت الرؤية اكثر بالنسبة لي دون الحاجة الى اشغال تفكير الآخرين وصرف انتباههم.
نفعكم الله بعلمكم ونفعنا معكم
والسلام
سعد
بارك الله فيك وأطال في عمرك ونفع بك