الفصل الأول: العباد والعبيد
ورد مصطلح العبد على تعدد اشتقاقاته (عبد، عباد، عبيد، عبد، يعبد، عابدون، يعبدون … الخ) 275 مرة في التنزيل الحكيم. ونسأل أنفسنا ونحن نقرأ الذكر المبارك قراءة عصرية معاصرة، بعيدة عن قراءات التراث والتراثيين، مع منتهى الاحترام للتراث وأصحابه: هل المصدر في عبد، يعبد، نعبد، يعبدون، هو العبادة أم العبودية؟ أي بمعنى آخر، هل يختلف الحال حين نجمع عبد على عباد، عن القصد حين نجمع عبد على عبيد؟ وإلى أي مدى ترتبط العبودية لله بمفهوم الرق الذي كان سائداً زمن نزول الوحي الأمين على النبي العربي (ص)؟
لقد رأينا التراث، بأصوله وأدبياته، وما زلنا نراه حتى اليوم، يعتبر العبادة عبودية، والعباد عبيداً، ويسوغ الرق ويبرره انطلاقاً من أن هذا ذاك. ووجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام سؤال أكبر من سابقه: كيف نفهم اليوم هذه الآيات، مع إلغاء الرق الفردي والنخاسة في كل زمان ومكان، ويحوي في الوقت ذاته آيات لم يعد لها حقل توظيف في حياتنا المعاصرة؟
ولكن، هل كان القصد في التنزيل الحكيم، هو ما ذهب إليه التراث؟.
وهل المعنى الذي فهمه أصحاب التراث من آيات العباد والعبيد هو ما عناه سبحانه فعلاً في التنزيل الحكيم؟
ننظر في المعاجم، فنرى أنها تجمع العبد على عبده وعباد وعبد وعباد، وتجمعه على عبيد وأعبد وعبدان، وتأتي بجمع لا مفرد له هو عبابيد، يسميه بعضهم جمع جمع.
وننظر في اللسان العربي، فنرى كأنه يضع فعل عبد بين الأضداد (ابن فارس). فهو يحمل إلى جانب معنى الطاعة، معنى الرفض والعصيان كما في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}
خاصية التضاد المذكورة هذه في فعل عبد، تضعنا أمام أول فرق بين عبد الرق وعبد الله. فبعد الرق طاعته لا عصيان فيها، وخضوعه لا رفض فيه ولا أنفة ولا تكبر. أما عبد الله وعباد الله فيحملون الضدين، ونرى ذلك واضحاً في العديد من الآيات كقوله تعالى:
- {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} الحجر 49.
- {إن الذين تدعون من دون الله عبادك أمثالكم ..} الأعراف 194.
وواضح أن العباد في الآيتين تعني المذنبين والمشركين. وكقوله تعالى:
- {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ..} الزمر 53.
- {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ..} إبراهيم 31.
وواضح أيضاً في الآية الأولى أنه سبحانه يأمر الذين أسرفوا على أنفسهم من العباد بعدم القنوط من الرحمة، وأنه يأمر الذين آمنوا من عباده بإقامة الصلاة. أما حين يتحدث التنزيل عن عباد الله دون أن يخصص شريحة بعينها منهم فيقول:
- {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} الأنعام 18.
- {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ..} البقرة 186.
ونخلص بعد هذا كله إلى القول بأن التنزيل الحكيم حين يذكر العباد والعابدين، فهو إنما يعني العصاة والمطيعين، الرافضين والخاضعين على حد سواء. وذلك واضح في كثير من الآيات، كقوله تعالى:
- {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} غافر 48.
- {والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد ..} ق. 10، 11.
فالعبد (عبد الله) هو الإنسان المخير، الذي تصدر له الأوامر، فإما أن يطيعها أو أن يعصيها. فإن أطاع فهو عبد طائع، وإن عصى فهو عبد عاص، لكنه لا يخرج أبداً عن كونه عبداً لله في الطاعة والمعصية على حدٍ سواء. ولهذا أمر الله تعالى عباده بطاعته وطاعة أوامره بالعبادة، كما في قوله:
- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات 56.
- {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} مريم 36.
- {إياك نعبد وإياك نستعين} الفاتحة 5.
لقد جاء فعل العبادة هنا، وفي الكثير من الآيات الأخرى، بمعنى الطاعة والامتثال للأوامر، مع بقاء إمكانية المعصية موجودة ومفتوحة.
وجاءت رسل الله تعالى تدعو إلى عبادته سبحانه، طبقاً لقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء 25.
فجاءت الآية مجملة لتفصيل الأنبياء والرسل بقوله تعالى:
- {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ..} المؤمنون 23.
- {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله ..} العنكبوت 16.
- {وإلى عاد أخاهم هوداً، قال يا قوم اعبدوا الله ..} الأعراف 65.
- {وإلى ثمود أخاهم صالحاً، قال يا قوم اعبدوا الله ..} هود 61.
- {وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله ..} العنكبوت 36.
- {فلما أتاها نودي يا موسى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ..} طه 11، 14.
- {.. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ..} المائدة 72.
- {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ..} البقرة 133.
إلا أن هؤلاء الرسل أنفسهم، لم يخرجوا في طاعتهم لأوامر الله عن كونهم عباداً يهدون بأمر الله العباد العصاة إلى سواء السبيل. وذلك واضح في قوله تعالى:
- {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد، إنه أواب} ص17.
- {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه ..} ص41.
- {ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد، إنه أواب} ص30.
- {ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا} مريم 2، 3.
- {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} ص45.
- {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ..} الإسراء 1.
وكان من الطبيعي المنطقي، والرسل تدعو أقوامها إلى عبادة الله، وإطاعة أوامره والإنتهاء عن نواهيه، أن يسأل هؤلاء: وكيف نعبد الله؟ وما هي الأوامر والنواهي التي إن خضعنا لها ولم نستكبر عنها، حققنا العبادة المطلوبة منا؟. ونعود إلى التنزيل الحكيم نستقرئ الجواب.
- {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} الفاتحة 5، 6.
- {إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم} آل عمران 51.
- {وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم} يس61.
- {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون} المؤمنون 74.
- {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله ..} الأعراف 86.
ونفهم من الآيات، وكثير غيرها، أن الصراط هو الطريق، وأن الصراط المستقيم هو طريق الله وسبيله، وأن السير فيه وعليه هو العبادة، كما هو واضح في الآيات الثلاث الأولى.
وننقل بعدها مباشرة بحثاً عن هذا الصراط إلى قوله تعالى:
- {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153.
ونفهم من الآية أن الصراط المستقيم هو الوصايا التي بدأت بنوح، وتراكمت على يد الأنبياء والرسل، واكتملت بمحمد (ص). أي بدءاً من قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ..} في الأنعام 151 إلى قوله تعالى: {.. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153.
ونرى واضحاً في التنزيل الحكيم أن الصراط المستقيم، بمعنى الوصايا بما فيها من أوامر ونواه، يأتي متلازماً مع عبادة الله، منذ نوح وحتى محمد (ص). فالصراط المستقيم عند نوح كان التوحيد وبر الوالدين، وعند إبراهيم كان التوحيد وبر الوالدين وشكر النعمة، وعند سليمان كان التوحيد وبر الوالدين وشكر النعمة والعمل الصالح. ثم أضيف إليها الكيل والميزان عند شعيب، واللواط عند لوط، والزنا وقتل النفس عند موسى .. الخ. فإذا أخذنا قوله تعالى المنزل على النبي العربي محمد (ص) في النساء 36.
- واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.
- وبالوالدين إحساناً.
- وبذي القربى.
- واليتامى.
- والمساكين.
- والجار ذي القربى.
- والجار الجنب.
- والصاحب بالجنب.
- وابن السبيل.
- وما ملكت أيمانكم.
- إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا.
رأينا واضحاً فيها عدداً من البنود التي اندرجت تحت قوله: {اعبدوا الله} قد جاءت لرسل قبل محمد (ص) منها 1، 2، 3، 4، 5، 9. ورأينا بنوداً أخرى جاءت إلى محمد (ص) لأول مرة، وعلى رأسها الإحسان إلى {وما ملكت أيمانكم}. مما يدلنا على أمرين: الأول أن الوصايا والأوامر والنواهي، التي هي العبادة، وهي الصراط المستقيم، جاءت مرتبة متراكمة من الناحية التاريخية، وهذا يقودنا إلى الأمر الثاني، وهو أن ملك اليمين لا يعني الرق من قريب ولا من بعيد، لأنه حالة جديدة متأخرة بدأت منذ العصر النبوي، أما الرق فكان معروفاً منذ أيام الرسل السابقين.
نلاحظ أيضاً في آيات الأنعام 151، 152، 153 التي عددت الوصايا، وأطلقتُ عليها وصف صراط الله المستقيم، وفي آية النساء 36، أنه لا يوجد فيها صلاة ولا صوم ولا حج. ونفهم هنا بكل وضوح أن الصلاة والصوم والحج ليست من العبادات، لكن الزكاة منها، باعتبارها إنفاقاً بالقسط، وذلك بدلالة أن الإحسان في البنود الأحد عشر الواردة في النساء 36 له علاقة مباشرة بالإنفاق. الأمر الذي توضحه خاتمة الآية بقوله تعالى: {.. إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا} ثم يشرح في الآيتين اللاحقتين هذا المختال الفخور فيصفه بأنه:
- الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخر.
- ويكتمون ما آتاهم الله من فضله.
- والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس.
- ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
من هنا نرى أن كل من أصدر كتاباً بعنوان “فقه العبادات” شرح فيه أركان الوضوء والصلاة والصوم والحج، مخالف للتنزيل الحكيم، خارج عن فهم آياته نصاً وروحاً.
لقد فصل التنزيل فصلاً واضحاً بين العبادة والصلاة، وكنا قد لاحظنا في الصفحات السابقة كيف عرفت العبادة بأنها التوحيد والصراط المستقيم في طاعة الأوامر والانتهاء عن النواهي، والإحسان والعمل الصالح وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فإذا قرأنا قوله تعالى:
- {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} طه 14.
- {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..} البقرة 114.
- {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ..} الحج 77.
- {فاستجدوا لله واعبدوا} النجم 53.
- {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون ..} التوبة 112.
- {الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} الأعراف 206.
نجد الفصل واضحاً كما قلنا بين الصلاة والعبادة، فإذا حلا لأصحاب التخريجات للغوية أن يكابروا، فيزعموا أن الصلاة في الآية الأولى جزء من العبادة، وأن موقعها هو من باب عطف الجزء على الكل، جاءت الآية الثانية لتضع العبادة {اعبدوا ربكم} معطوفة على الركوع والسجود، ليصبح الكل جزءاً والجزء كلاً والمعطوف معطوفاً عليه والمعطوف عليه معطوفاً. وهذه كلها تخريجات لمغالطة أساسية وقعت فيها الأدبيات الإسلامية حين جعلت من الصلاة والصوم والحج عبادات، وضعتها في أركان الإسلام، بينما هي في الحقيقة من تكاليف الإيمان.
فإذا نظرنا في الصلاة والصوم والحج كتكاليف، وجدناها تأتي تحت عنوان تقوى الإيمان التي تخضع لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم ..} {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ..} أما تقوى الإسلام وعلى رأسها الالتزام بالوصايا والعمل الصالح فتقع في باب {.. اتقوا الله حق تقاته ..}.
يقول تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين} المائدة 93.
ونقف في الآية أمام ثلاثة أمور، أولها: أن فيها إيمانين:
- إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. وهذا هو الإسلام. أي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً. وعلى رأسه التوحيد. وأصحابه هم المسلمون.
- ثم اتقوا وآمنوا. وهذا هو الإيمان. أي الإيمان بسالة محمد (ص) وبما أنزل عليه من ربه. وأصحابه هم المؤمنون.
ثانيهما: أن التقوى وردت فيها ثلاث مرات:
- إذا ما اتقوا وآمنوا. وهذه هي تقوى الإسلام {حق تقاته}.
- ثم اتقوا وآمنوا. وهذه هي تقوى الإيمان {ما استطعتم}.
- ثم اتقوا وأحسنوا. وهذه هي تقوى الإحسان التي تجمع تقوى الإيمان إلى تقوى الإسلام.
من هنا نفهم أنه لا صلاة ولا صوم ولا حج (وهذه كلها من التقوى 2) بدون تقوى الإسلام. أي أن تقوى الإسلام أولاً (صراط مستقيم / عبادة / وصايا) ثم تقوى الإيمان ثانياً، وليس العكس. ونفهم أننا حين نتكلم عن فقه العبادات، علينا أن نتكلم عن أسس التوحيد وفقه معاملة اليتيم، وفقه الإمتناع عن قتل النفس والتجسس على الآخرين، وفقه العدل بالإنفاق وعدم التبذير والتقتير. وفقه الحنث باليمين وشهادة الزور والعفة والوفاء بالعهود والعقود والقضاء العادل والتفسح في المجالس. فهذه هي العبادات التي تحتاج إلى فقه بحسب مفهوم التنزيل الحكيم كما رأينا.
ومن خلال الإلتزام بها نقول إن الناس يعبدون ربهم أو لا يعبدون، وليس عن أي طريق آخر.
ثالثها: توظيف الإيمان بنوعيه، والتقوى بأنواعها الثلاثة ضمن حقل تحت عنوان (فيما طعموا)، ونقف طويلاً أمام فعل طعم. فالطعام في اللسان العربي وفي التنزيل الحكيم، ليس مجرد الأكل، بل هو الشراب أيضاً، كما في قوله تعالى:
- {ليس لهم طعام إلا من ضريع} الغاشية 6. والضريع من الشاة والناقة هو الذي يحلب اللبن، واللبن يشرب ولا يؤكل.
- {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً..} الأنعام 145. والدم المسفوح يشرب ولا يؤكل.
والطعام هو التذوق كما في قوله تعالى:
- {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ..} البقرة 249.
والطعام هو الرزق عموماً من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، كما في قوله تعالى:
- {ما أريد منهم من رزق وما أريد أ، يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} الذاريات 57، 58.
والطعام هو العلاقات والصلات مع الآخرين. ففي اللسان العربي: أطعمت الغصن: وصلت به غصناً من شجرته فقبل الوصل(1).
والطعام هو التذوق والإشتهاء، ففي اللسان العربي “تطعَّم تطعم” أي تذوق فتشتهي فتأكل*.
لكن بعض المفسرين اكتفى من هذا كله بمعنى الأكل حصراً، مما اضطره إلى البحث عن مفعول به لفعل {فيما طعموا} الوارد في الآية، فوجده قبلها بآيتين فقال: فيما أكلوا من الخمر والميسر (الدر المنثور للسيوطي).
إن الطعام، بمعنى الأكل، حقل صغير من حقول الحياة وحركتها، سواء بمعناه الحسي الحقيقي (المضغ والبلع والأكل) أم بمعناه المجازي (أكل الحق والأموال بالباطل والربا)، ولا يلزمه أن يوظف له تعالى ويحشد من أجله الإسلام والإيمان، وتقوى الإسلام وتقوى الإيمان وتقوى الإحسان.
أما حين نترك هذا الفهم المسطح المحدود، إلى فهم أكثر عمقاً وشمولاً، ونفهم أنه تعالى حين قال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ..}، فهو يعني:
- فيما أكلوا من طعام وشربوا من شراب ولبسوا من لباس،
- وفيما كسبوا من رزق في تجارة أو صيد أو زراعة أو عمل،
- وفيما تذوقوا واشتهوا من ذلك كله.
- وفيما أقاموا من علاقات وصلات اقتصادية واجتماعية مع الآخرين، في الجوار والصحبة والعمل والزواج.
يصبح الأمر جديراً أن يحكمه الإسلام وتقوى الإسلام (الوصايا والأوامر والنواهي والصراط المستقيم) والإيمان وتقوى الإيمان (التصديق بالرسالة المحمدية وإقامة الصلاة والصوم والحج والزكاة بحسب الوسع والإستطاعة) والإحسان وتقوى الإحسان (الجمع بين تقوى الإسلام وتقوى الإيمان)، وهذا يعني أن (فيما طعموا) تشمل كل النشاطات العامة والخاصة للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية.
وعلينا أن نفهم أخيراً، أنه تعالى حين يقصد في آياته أمراً بعينه دون غيره، فهو يعرفه ويصفه ويحدده. واقرأ معي قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ..} الأحزاب 53.
في هذه الآية لا يستطيع القارئ العاقل أن يسحب المعنى في قوله تعالى: {فإذا طعمتم} على اللباس والرزق والسكن والإشتهاء والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، لأن هذه كلها لا ينطبق عليها وصف (غير ناظرين إناه).
وحين قصد تعالى في الآية الطعام الذي يؤكل، فقد أتى بوصف يحدد القصد، فلا يخرج معه إلى غيره، مشيراً إلى أن الطعام المقصود هنا، هو الطعام الذي ينتظر الإنسان نضجه حتى يأكله.
ونصل بعد ذلك كله إلى أن نستنتج ما يلي:
1 – إن إبليس ليس له مكان في المساجد. بل مكانة في الأسواق، وفي جمع الحقول الأخرى التي تطبق فيها عبادة الله وعلى رأسها الصراط المستقيم كما عرفناه.
بدليل قوله تعالى:
- {.. لأقعدن لهم صراط المستقيم} الأعراف 16.
- {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ..} الأعراف 17.
وإن حقل الشيطان، ليس في الركوع والسجود والصيام والحج فقط، فهذا أصغر الحقول وأبسطها، بل هو في جميع حقول العبادات، وإذا أردتم البحث عن إبليس، فلا تبحثوا عنه في المساجد وأماكن الحج حصراً، بل ابحثوا عنه في الغش وأكل مال اليتيم والربا، وابحثوا عنه في تطفيف المكاييل والموازين وحفظ العهود والوفاء بالإيمان. باختصار ابحثوا عنه حيث يعبد الله(2).
2 – إن قوانين ربوبية الله للوجود ليست محل تكليف أصلا. فإبليس ذاته لم يعص الله في ربوبيته، بدليل قوله تعالى:
- {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} الحجر 36-39.
فالربوبية سيادة وملكية قائمة لم يطلب الله من أحد أن يعترف بها، بل طلب العبادة من عباده، والطاعة لأوامره ونواهيه، باعتبارهم عباداً مختارين وليس باعتبارهم عبيداً لا يقدرون على شيء.
3 – إن مصطلح عبد وأمة في التنزيل الحكيم لا يعني إطلاقاً الرق، ومصطلح عبد الله في التنزيل لا يعني رق الله الذي ينفذ الأوامر فقط، ولا عمل له سوى تنفيذ الأوامر. فإذا قرأنا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ..} البقرة 178. وجدناه لا يعني الحر الذي لا يباع ولا يشترى ولا العبد الرق الذي يباع ويشترى، بل يعني شيئاً آخر مختلفاً تماماً.
لقد عرفنا العبد فيما سلف، بأنه الذي يتلقى الأوامر، فيطيعها أو يعصيها، لكنه يبقى عبداً في طاعته، عبداً في عصيانه.
أما الحر فهو الذي يصدر الأوامر والنواهي لمن حوله من العباد، سواء أكانوا موظفين أو عساكر أو خدم. وهذا ما نراه في قوله تعالى:
- {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ..} آل عمران 79.
أي أنه لا يمكن أبداً لرسل يرسله الله بأوامره للناس، أن يقول لهم كونوا عباداً لي من دون الله، لأن ذلك أولاً ليس موجوداً في رسالته، ولأنه ثانياً مخالف لما جاء به في رسالته.
فإذا كان العبد هو من صدرت له الأوامر فأطاعها أو عصاها، فيجب بالضرورة أن يكون هناك من أصدر هذه الأوامر، وهذا ما عناه تعالى بقوله: {الحر بالحر}، وهو موجود في كل أنحاء العالم مدون استثناء.
الحر ← الآمر
العبد ← المأمور الذي ينفذ الأوامر (عبد مأمور).
ونلاحظ أنه سبحانه أتبع ذلك بقوله: {والأنثى بالأنثى}، ولو كان معنى {لعبد بالعبد} هو الرق كما يذهب البعض، لكان حقه أن يقول {والأمة بالأمة}. لكنه قال: {الأنثى بالأنثى}، وفي ذلك تكريم للجنس، فالأنثى تقابلها أنثى أمة كانت أم حرة (آمرة أو مأمورة).
لقد فرقنا بين عبادة العباد، وبين الصلاة والصوم والحج، وقلنا إن الشيطان لا وجود له في المساجد، لأن الإنسان الذي نوى الصلاة وأقامها ليس للشيطان عليه سلطان أبداً. ونقرأ قوله تعالى:
- {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين} يس 60.
- {وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم} يس 61.
فهل عبادة الشيطان هنا تعني الصلاة والصوم والحج له؟ وهل هناك لبس في أن العبادة هي الصراط المستقيم بدلالة الآية الثانية؟
يقول تعالى:
- {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة} البينة 5.
هنا يظهر لنا الفرق بين العبادة (اعبدوا الله) وبين إقامة الصلاة. فالعبادة عمل وظيفي بحت، أي حالة وظيفية (سلوك)، أما الصلاة فحالة وجدانية بحتة، تعبر عن ذكر الله {.. فاعبدني وأقم الصلاة لذكري}. ونضرب لها مثلاً، تعالى الله عن المثل والشبيه:
إذا قبل زيد أن يعمل مستخدماً عند عمرو، فعليه أن يطيع أوامره، لكن ذلك لا يعني أن عمرواً دخل وجدان زيد. ولا يعني أن زيداً يحب عمرواً. وهذا ما قصدناه بأن الصلاة حالة وجدانية. فالله سبحانه في عقولنا (نعبده) وفي وجداننا (نقيم له الصلاة) أي: طاعة + حب.
هذه الحالة نرى شبيهاً لها في العلاقة الزوجية، فقد تطيع المرأة زوجها، وفي وجدانها رجل آخر، وقد يكرم الرجل زوجته، وفي وجدانه امرأة أخرى، لكن أسمى أنواع الزواج، هو عندما يكون الزوج في وجدان زوجته (تحبه) وعندما تكون الزوجة في وجدان زوجها (يحبها).
من هنا نرى أن إقامة الصلاة لذكر الله {وأقم الصلاة لذكري}، رغم أنها كتاب (أي أمر وتكليف)، فإن في إقامتها شيئاً خاصاً مميزاً، أكثر من مجرد تنفيذ أمر الله وطاعته، شيئاً يسمو بصاحبه عن مجرد الرغبة بالجنة أو الرهبة من النار، شيئاً هو وجدانية الحب أو محبة الوجدان.
قد نلتزم العدل في أحكامنا بقصد توطيد أركان ملكنا فالعدل أساس الملك، وقد نصدق في تعاملنا مع الناس طعماً بكسب ثقتهم وجعلهم زبائن لنا، وقد نفي بالعقود خوفاً من البنود الجزائية فيها، وقد نكرم الضيف والجار على أمل أن نكرم نحن بالمقابل.
أما في إقامة الصلاة لذكر الله، فنحن نقيمها لا خوفاً ولا طعماً ولا قصداً لغاية، بل لأنها الطريقة للتعبير عن أن الله في وجداننا، وأننا نحبه.
وننتهي أخيراً إلى أهم سؤال يخطر على البال، إذ كان العباد، كما نقول، من العبادة وقد أسلفنا شرحها تفصيلاً، وإذا كان مفردها (عبد)، كما قلنا، لا علاقة له بالرق مطلقاً .. فمن هم العبيد والإماء؟ بمعنى آخر، هل جاء التنزيل الحكيم على ذكر العبيد والإماء؟ وما هو موقف التنزيل من الرق والنخاسة والعبودية؟
نبدأ القول بأن مصطلح (عباد) كما ورد في التنزيل الحكيم يشمل الذكر والأنثى، ولا يقتصر على الذكور فقط. وذلك واضح في قوله تعالى:
- {.. وما الله يريد ظلماً للعباد} غافر 31.
- {إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} المائجة 118.
- {.. ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} الحجر 39، 40.
- {.. وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيرا} الإسراء 17.
وعلى ألا ننسى ما سبق أن قلناه، من أن العباد في جميع هذه الآيات هم العصاة والطائعون من ذكور وإناث.
ثم ننتقل إلى قوله تعالى:
- {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادك وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم} النور 32.
- {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم..} البقرة 221.
ونلاحظ أن الإماء {إمائكم} في الآية الأولى جاءت بعد العباد {عبادكم}، أي أن الآية تتحدث عن الذكور من العباد، وعن الإناث من العباد (الإماء). والذي اقتضى ذلك، هو أن الآية تتحدث عن النكاح، والنكاح فيه طرفان ذكر وأنثى. وقوله: {من عبادكم وإمائكم} يعني المستخدمين لديكم المؤتمرين بأوامركم من ذكور وإناث. ولا يعني أبداً العبودية والرق.
ونسأل مرة أخرى: فأين الرق والعبودية إذن في التنزيل الحكيم؟ ونعود إلى التنزيل لنجده يتحدث في آية وحيدة فقط عن الرق والعبد المملوك في قوله تعالى:
- {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً، هل يستوون، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون} النحل 75.
لقد وصف تعالى العبد المملوك بأنه الذي لا يقدر على شيء، أي الذي فقد القدرة على الاختيار بين نعم وكلا. وقارنه بمن رزقه فأنفق، أي بمن ملك القيومية على رزقه، وملك الحرية بالتصرف في إنفاقه بالوجوه التي يختارها.
وذك ليؤكد أن الله خلق العباد أحراراً، وأن العبودية والرق من صنع الناس. ومن هنا نفهم أن التنزيل الحكيم لم يقر الرق والعبودية، ولم يعترف به، كما يحلو للبعض أن يتوهم، إذ من الواضح في الآية أن العبد المملوك موضع سخرية وذم، وأن درجته في المنزلة أدنى وأسفل وهذا تعبير عن مراحل تطور التاريخ الإنساني، الذي هو من صنع الإنسان.
لقد رأينا التنزيل الحكيم يجمع عبد على عباد، ورأيناه يعني بذلك الذكور والإناث الطائعين والعصاة، فكيف جمع التنزيل العبد المملوك ذكراً وأنثى؟ ويجيبنا التنزيل نفسه عن السؤال: الجمع هو العبيد. ونقرؤ قوله تعالى:
- {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} آل عمران 182 والأنفال 51.
- {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} الحج 10.
- {من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد} فصلت 46.
- {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} ق29.
لقد ورد مصطلح العبيد (جمع عبد مملوك وأمة مملوكة) خمس مرات في خمس آيات من التنزيل الحكيم، هي الواردة أعلاه. فلننظر في سباق هذه الآيات الخمس.
- {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} آل عمران 181.
- {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} الأنفال 50.
- {ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} الحج 9.
- {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب} فصلت 45.
- {قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد} ق28.
ونلاحظ ما يلي:
- ذوقوا عذاب الحريق ← وأن الله ليس بظلام للعبيد
- وذوقوا عذاب الحريق ← وأن الله ليس بظلام للعبيد
- ونذيقه عذاب الحريق ← وأن الله ليس بظلام للعبيد
- من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها ← وما ربك بظلام للعبيد
- قال لا تختصموا لدي .. وما يبدل القول لدي ← وما أنا بظلام للعبيد
إن أول ما نلاحظه في ترتيل الآيات، أنها تتحدث عن يوم الحساب ويوم القيامة ومرحلة ما بعد الموت، ونفهم في ضوء هذه الملاحظة الأمور التالية:
1 – الناس عباد لله في الدنيا، عبيد لله في الآخرة.
2 – يفقد الإنسان بموته القدرة على الاختيار، فيصبح عبداً مملوكاً لله لا يقدر على شيء {الملك يومئذ لله}.
3 – لا عبادة يوم القيامة، وبالتالي فالناس يوم الحساب ليسوا عباداً، بل عبيداً، لأن العبادة مطلوبة من العباد في الدنيا.
4 – في الدنيا هناك هدى وخيار في الطاعة والمعصية، أما في الآخرة فهناك سوق فقط لا خيار فيه بدليل قوله تعالى:
- {إلى ربك يومئذ المساق} القيامة 30.
- {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ..} الزمر 71.
- {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً ..} الزمر 73.
5 – يوم القيامة هو يوم الحساب {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} وليس فيه تكاليف ولا أوامر تطاع وتعصى، وليس فيه صلاة ولا صوم.
فإذا فهمنا هذا كله فهمنا أن العباد في الدنيا القادرين على الإختيار بين الطاعة والمعصية، هم عبيد في الآخرة لأنهم لا يقدرون على شيء، ولا يحتاجون إلا إلى محاكمة عادلة، فجاءت الآيات تطمئنهم إلى عدل الله المطلق الذي لا يظلم العبيد أمامه مثقال ذرة مما عملوا في الدنيا باختيارهم وهم عباد.
هنا نستطيع أن نقارب بين قوله تعالى عن العباد في الدنيا:
- { .. وما الله يريد ظلماً للعباد} غافر 31.
وقوله تعالى عن العبيد في الآخرة:
- {.. وأن الله ليس بظلام للعبيد} آل عمران 182، الأنفال 51.
ونستطيع أن نستنتج أن الحكم والمحاكمة يوم الحساب لا تكون إلا لعباد أحرار مختارين بملء إرادتهم، وليس لعبيد مسوقين لا يقدرون على شيء، وإلا فالمحاكمة لا معنى لها، وذلك بدلالة قوله تعالى: {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} غافر 48.
يوم المحاكمة والحساب يتحول الناس من عباد إلى عبيد، فتجزى كل نفس ما كسبت، ويجدون ما علموا حاضراً، ثم يصدر الحكم، فيساق الجميع إلى حيث حكم الله، الذين كفروا إلى جهنم، والذين اتقوا ربهم إلى الجنة. بعد ذلك كله يتحول أصحاب الجنة من عبيد إلى عباد، ولكن بدون أوامر وتكاليف. وهذا واضح في وصف التنزيل الحكيم لأهل الجنة:
- {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} الإنسان 6.
- {لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون} يس 57.
- {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} ق 35.
- {إن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون} المرسلات 41، 42.
ونفهم أن الحرية، حرية الاختيار، هي النعمة الكبرى التي أنعمها الله على الإنسان وكرمه بها، وليس لأحد الحق بأن ينتزعها منه، ونفهم أن الله طلب من الناس أن يعبدوه دون غيره، وأن يكونوا عباداً له دون غيره، يعصونه إن اختاروا العصيان، ويطيعونه إن قرروا الطاعة بملء إرادتهم، ويبقون في الحالين عباده، وقد بدأ آدم بالتعبير عن عباديته لله في المعصية لا في الطاعة.
ومن هنا جاء التأكيد من جمع الرسل والأنبياء أولاً وقبل أي شيء آخر على التوحيد، وعلى عدم إشراك شيء مع الله الذي منحنا هذه الحرية بالخلق، طاعة ومعصية، لأننا بهذه الحالة نكون قد جسدنا الله بآخرين، وهذا هو الشرك، فإذا قلنا أن زيداً منح الحياة للناس، نكون قد جسدنا الله في زيد، وإذا قلنا أن عمرواً منح الحرية للناس، نكون قد جسدنا الله في عمرو، سبحانه وتعالى عما يصفون. ومن هنا قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..} النساء 48، 116. ومن هنا أيضاً، من مفهوم العبادة كطاعة مطلقة، جاء قول قوم نوح:
- {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} المؤمنون 34.
وجاء قول فرعون وملئه:
- {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} المؤمنون 47.
أما العبودية فلا تكون، في الحياة الدنيا، إلا لغير الله لأنها لا تكون إلا باتجاه واحد. وتعني القسرية وانعدام حرية الاختيار وفقد إمكانية (نعم / كلا)، فيصبح الناس مستبعدين لا يقدرون على شيء ولو لم يكونوا أرقاء. ولقد وصف تعالى الناس في هذه الحالة بالفاسقين، الذين فقدوا القدرة على كلا وبقيت قدراتهم محصورة بـ نعم، فقدوا بذلك كرامتهم وحريتهم، يقول تعالى عن فرعون:
- {فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين} الزخرف 54.
وهذه هي صفة النظم الاستبدادية على مر التاريخ، فهي وإن تغيرت في الشكل، إلا أنها هي ذاتها في المحتوى. لذا فنحن نرى أن أنسب النظم القائمة اليوم لتحقيق عبادية الناس لله هو النظام الديمقراطي، القائم على التعددية الحزبية، وحرية نعم / كلا، والرأي والرأي الآخر، فالشعب في النظام الديمقراطي ينتخب سلطاته بنفسه، ويحكم نفسه بنفسه، ويشرع لنفسه وأفراد الشعب في النظام الديمقراطي كلهم عباد، يملكون حرية التعبد والعبادة، وحرية الإختيار.
كلهم متساوون مسؤولون كعباد أمام الله، وكمواطنين عباد في الدولة أمام القانون، ويخضعون جميعاً للمساءلة والمحاكمة في الدنيا، كما في الآخرة، ويحق لهم بالمقابل أن يتوفر لهم القضاء العادل والدفاع عن النفس.
في المجتمع الديمقراطي يصبح القتال من أجل تحقيق العبادية لله وحده من المثل العليا الإنسانية (الإسلام)، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الناس أحراراً، فالحرية هي عين العبادية لله وحده، والقتال من أجل حريات الناس في اختياراتهم وآرائهم، هو القتال في سبيل الله، وفي سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، وفي سبيل رفع كل ظلم ينتج من الإشراك بالله في الطاعة لأوامره التي هي المثل العليا الإنسانية مضافة إلى التوحيد.
وذلك واضح في قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم} الأنعام 115. وفي المأثور عن الرسول الأعظم: “من قاتل لتكون كلمة الله من العليا فهو في سبيل الله”.
ونحن لا نجد قتالاً في سبيل الله، إلا في القتال من أجل العدل والحرية. العدل هو كلمة الله العليا، والحرية للناس. فعندما تتحقق الحرية لكل الناس بدون استثناء، أي حرية الرأي والرأي الآخر وحرية تبين الرشد من الغي، للمؤمن والكافر والمسلم والمجرم والمطيع والعاصي في كل مجالات الحياة، عندها فقط يتحقق القول {لا إكراه في الدين}. أي أن الإنسان يطيع الله بملء اختياره ويعصيه بملء اختياره. محققاً بذلك عباديته لله في الطاعة والمعصية، ليستحق بعد محاكمته الثواب والعقاب.
أما أن نزعم أن كلمة الله العليا، هي في تطبيق الفقه الموروث، وفتاوى الفقهاء وأوامرهم ونواهيهم تحت شعار هكذا أجمع الجمهور، وتحت شعار بخاري ومسلم، فهو استخفاف بكلمة الله، وهو العبودية بعينها.
أما أن نزعم أن العبادية لله تتمثل في الذل والخنوع، وتهديل الأكتاف وإمالة الرأس، والإكتفاء بإقامة الشعائر، فهذه ليست عبادية ونحن لسنا عبيداً في الدنيا بل عباد فيها، عبيد في الآخرة، عباد في الجنة.
وهذا لا يتحقق إلا في المجتمع الديمقراطي، المجتمع الذي تصان فيه الحريات بكل أنواعها، ويتم فيه الإلتزام بالقوانين، ولا نقول طاعة القوانين. إذ الإلتزام شيء والطاعة شيء آخر. فالطاعة والعصيان لا تكون لغير العاقل، وهي إما أن تكون لله، أو أن تكون لعاقل غير الله، فإن كانت لغير الله في وجه واحد هو النعم دائماً كانت هي الاستعباد والاستبداد (العبودية)، أما الإلتزام بالقانون فلا يكون إلا طواعية وبملء الإرادة، ضمن نظام شوري فيه نواب منتخبون، يشرعون القوانين التي تمثل إرادة الملتزمين بها، ويشرعون العقوبات التي تطبق بحق المخالفين لهذه القوانين.
لكن تصويت الأكثرية لصالح قانون لا يعني أبداً أن الأقلية لن تطبق هذا القانون حال نفاذه، أو تخالفه، فالنظام الشوري هو التزام الأقلية برأي الأكثرية في التشريع، مع بقاء حق المخالفة في الرأي وحق التعبير عنه بطريق الصحافة ودور النشر، مؤيداً بالبينات. وهذا لا يكون إلا ضمن حالة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، تنظمها بنود الدستور التي تعطي الشرعية للمؤسسات الثلاث، وصلاحية ممارستها للسلطات المخولة لها. ولكن هل يكفي الدستور والقانون للالتزام؟
(1) أساس البلاغة للزمخشري، ص280.
(2) لمزيد من التفاصيل، انظر “أين يبعد الله” في مكانه من هذا الكتاب.
(1) تعليقات
عارف
حاولوا تدارك الأخطاء في الكتابة خاصة كتابة الأيات القرآنية مثل:
{فاستجدوا لله واعبدوا} النجم 53.