دعتني مجلة “مقدمات” المغربية إلى محاضرة في ندوة أقامتها المجلة بتاريخ 7-12-1995 في الدار البيضاء، تحت عنوان “الثقافة والأخلاق والديمقراطية في ضوء الحداثة”.
واخترت أن أجعل من محاضرتي تلك توطئة وتمهيداً، وجزءاً من القسم الأول لكتابي هذا.
يعتبر هذا الموضوع من أعقد وأهم ما يطرح الآن على الساحة العالمية والعربية، وبخاصة بعد التحولات التي شهدها القرن العشرين في ثمانيناته وتسعيناته، وأدت إلى خلل كبير في موازين القوى العالمية، وإلى خلل أكبر في الطروحات الثقافية والسياسية، وعلى رأسها الأخلاق والديمقراطية، من حيث ارتباطها بالثقافات من جهة، وبالحداثة من جهة أخرى.
ما هي الثقافة .. وما هي الأخلاق .. وما هي الديمقراطية؟ وما المقصود بتحديث الثقافة والأخلاق؟ وهل ثمة ثقافة تراثية وأخلاق تراثية لم تعد تعمل وتجدي في عصرنا هذا، والمطلوب تحديثها؟ .. وكيف؟ .. وهل المقصود بتحديث الثقافة إعادة صياغتها؟ أم نبذ الموروث وبناء ثقافة حديثة على هذا النهج أو ذاك؟ وإذا جاز هذا في عصر من العصور، عند أمة من الأمم، فهل يجوز اليوم؟ وعند الأمة العربية؟
لعلنا في سطورنا هذه، لن ندعي الإجابة على هذه الأسئلة كلها، ولن نعود إلى ترديد التعاريف التنظيرية، التي اعتاد كل من يكتب في الثقافة والأخلاق والديمقراطية أن يكررها، فربط الثقافة والأخلاق بالديمقراطية من جهة، وبالحداثة من جهة أخرى، يحتاج إلى إبداع واقعي، أكثر مما يحتاج إلى تنظير طوباوي، يجري خلف جمهورية أفلاطون، أو مدينة الفارابي الفاضلة.
قلنا إن خللاً كبيراً حدث في القرن العشرين وتسعيناته خاصة، قاد كثيراً من المفكرين في مختلف أنحاء العالم، إلى إعادة النظر في العديد من المنطلقات السائدة، فأخذت شكل تيارات يمكن تصنيفها كما يلي:
1 – تيار يدعم سيطرة الثقافة الغربية بكل أبعادها، ويزعم أنها الثقافة النهائية التي يتمحور حولها سير التاريخ، وعلى رأس هذا التيار الكاتب الأمريكي “فوكو ياما” في كتابه “نهاية التاريخ”.
2 – تيار ماركسي ينقسم في اتجاهين:
أ – اتجاه يعتبر تجربة الاتحاد السوفياتي فاشلة لعدد من الأسباب، لكن الفكر الماركسي يبقى عنده فكراً جديراً بالاعتبار والتبني.
ب – اتجاه مثالي طوباوي، لم يستفد من تجربة الاتحاد السوفياتي، يعتبر أن ما حصل ليس أكثر من مؤامرة امبريالية أمريكية صهيونية نجحت، وأن الطروحات اللينينية صحيحة، صحة تكاد أن تكون مطلقة.
3 – تيار سلفي ديني، ليس مقتصراً على عالمنا العربي والإسلامي كما يحلو للبعض أن يتصور ويصور، بل هو عالمي شامل أيضاً (السيخ في الهند، والأصولية الأرثوذكسية في روسيا..)(1).
وما يهمنا هنا بالذات، هو التيار في الوطن العربي حصراً، وما هو المطلوب منا تجاه الأحداث العالمية، التي تؤثر فينا سلباً أو إيجاباً، وأين هو موقع الحداثة في الوطن العربي، وبخاصة حين ينظر الكثيرون إلى مشروع الحداثة نظرتهم إلى مشروع خان وعوده.
فإذا ما نظرنا إلى ما طرحته هذه التيارات في الوطن العربي من مشاريع حداثة، نجد أنه ينقسم إلى قسمين:
1 – قسم مجدد بزعامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، حاول دفع الإسلام إلى ما اعتقد أنه مواكبة للوضع الحضاري العالمي السائد آنذاك، لكنه انطلق من مسلمات ووردت في التراث الديني، وتم ترسيخها كشكل وحيد مطلق من أشكال فهم الأصليين العظيمين في الإسلام: التنزيل والسيرة النبوية الشريفة.
2 – قسم طرح الحداثة والتجديد تحت شعارات قومية وماركسية، واستعار منطلقاته من ثقافات شعوب قائمة بأنظمتها، بغض النظر عن بنيتها الثقافية والاقتصادية والسياسية.
ونشم بوضوح روائح الاستبداد تعبق في طروحات القسمين سواء بسواء، فكل منها يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة، لا مجال لديه للحوار، ولا مكان عنده للرأي الآخر. الثورة عند كليهما جاءت لتقضي على الآخر وليس للاعتراف به، وجاءت لتستبدل مستبداً بمستبد آخر وبخاصة أن تم القضاء، بالكامل، على الليبرالية البورجوازية الوطنية، التي نشأت مع بدايات القرن العشرين، حيث حل محلها برجوازية ريعية غير وطنية في بعض الأقطار العربية.
لقد استبعد أصحاب القسم الثاني الدين من مشروعات الحداثة باعتباره تراثاً رجعياً، يعرقل بل ويناقض مسيرة التحديث. لكنهم لم ينتبهوا إلى أنهم باستبعاد الدين، استبعدوا الأخلاق. وغفلوا عن أن القانون الأخلاقي جزء لا يتجزأ من الدين، وأن الأخلاق قوانين كونية لا علاقة لها بعرب أو عجم.
والتقى أصحاب القسم مع أصحاب القسم الثاني، بالمحصلة، في استبعاد الأخلاق من مشاريع التجديد والتحديث لديهم، بل مضوا إلى أكثر من ذلك، فاستبعدوا الاحسان والعمل الصالح من أركان الإسلام وأركان الإيمان التي تم تأسيسها كما يلي:
أركان الإسلام: يبنى الإسلام عند أصحاب التيار السلفي، على خمس:
- شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
- إقامة الصلاة.
- إيتاء الزكاة.
- صوم رمضان.
- حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. (وقد يتقدم الحج على الصوم في كتب أو يتأخر عنه في كتب أخرى).
أركان الإيمان: ويبنى الإيمان عندهم على خمس:
- الإيمان بالله.
- وملائكته.
- وكتبه ورسله.
- واليوم الآخر.
- والقضاء والقدر خيره وشره.
وإذا كنا لا نعجب من عمل أصحاب القسم الثاني، ولا نستنكره، ونرى طبيعياً أن يدعوا إلى فصل الدين عن الدولة بل وعن الحياة، وأن يروا في الدين أفيوناً، وتراثاً متخلفاً يستوجب الخجل منه، طالما أنهم ينطقون في مشروعات التحديث من خارج الثقافة العربية الإسلامية، ويفترضون أن العربي المسلم إنسان بلا ثقافة ولا أرضية، وعليه أن يقدم له مباشرة، وإلا فهو رجعي أصولي متخلف، ومتدين متشنج حاقد.
نقول إذا كنا لا نعجب أو نستنكر فعل هؤلاء، ونحن نرى ونعي منطلقهم وأرضيتهم، فنحن نعجب ونستنكر ما فعله أصحاب القسم الأول، باسم الدين وباسم التنزيل الحكيم وباسم السيرة النبوية، التي يزعمون أنهم ملكوا الحقيقة المطلقة فيها فهماً وتطبيقاً.
لقد قامت الطروحات السلفية عند أصحاب القسم الأول، على الاختزالات التالية:
- اختزال التاريخ.
- اختزال الجغرافيا.
- اختزال سكان العالم.
- اختزال مشاكل سكان العالم وحولها.
فما تم في شبه جزيرة العرب بالقرن السابع الميلادي هو الإسلام إلى أن تقوم الساعة. وعليه يقاس كل شيء حتى الأخلاق والأعراف.
وما تم تاريخياً في يثرب خلال عشر سنوات، ينسحب على كل قارات الكرة الأرضية من القطب إلى القطب.
والبشر منذ أن بعث الرسول (ص) إلى أن تقوم الساعة هم سكان شبه جزيرة العرب في فترة البعثة النبوية.
ومشاكل البشر الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي ذاتها مشاكل أهل شبه جزيرة العرب في فترة البعثة النبوية، والحل في هذه هو ذات الحل في تلك، باعتباره الحل الشرعي الإسلامي الأوحد.
الأمر الذي تحول معه اللباس ومعيار النظافة في ذلك الوقت إلى شرع، واندمجت الأعراف والتقاليد بالحرام والحلال، وتحولت الثقافة برمتها إلى دين.
هذه الاختزالات عكسها محمد بن ادريس الشافعي في كتابه “الرسالة”، الذي حدد فيه أصول الفقه الإسلام، وما زالت هذه الأصول هي المعتمدة عندنا. وإلغاء هذه الاختزالات يجعل أصول الفقه التي وضعها الشافعي بحاجة إلى إعادة نظر.
ولكن ما دامت هذه الأصول قائمة، فستبقى أطروحة “باب الاجتهاد المفتوح” شعاراً وهمياً، يطلق على المنابر للتسويق والدعاية الجماهيرية، دون أي مجال تطبيقي.
وارتبطت هذه الاختزالات كلها عندهم بتقديس النص التراثي(2)، وبتقديس أصحاب النصوص التراثية، منطلقين من أهل القرون الأولى، لم يتركوا للناس حتى قيام الساعة ما يقولونه، فهم الأتقى والأفقه إطلاقاً. ومن هنا فهم يعتبرون المرجعية الأساس الوحيد لكل من يريد أن يقول شيئاً. حتى أن المرء لا يحق له عندهم أن يقول، إلا إذا كان أحد “المقدسين” سبقه إليه، وإلا فهو مبتدع عميل مرتد يحاول كذا ويستهدف كذا.
ولكن إذا كان يحق لأبي الهول أن يسأل الداخلين إلى المدينة، ويلتهمهم إن لم يجيبوا، كما تقول الأسطورة، أفلا يحق لنا نحن أن نسأل أبا الفقه (الشافعي)، من أين جاء بما جاء به؟ علماً بأننا لا نضع تحت التساؤل حسن النوايا والتقوى والعبقرية.
إذا كانت خطورة الطروحات الماركسية، عند أصحاب القسم الثاني، تنبع من أنها جاءت مستعارة من خارج الثقافة العربية الإسلامية، ومن أنها استبعدت الدين، بما فيه جانبه الأخلاقي، فإن الطروحات المرجعية السلفية أشد خطراً على الفكر العربي الإسلامي، لزعمها أنها تأتي من داخل ثقافة هذا الفكر، ولأنها حافظت على الدين بشكله، وبشعائره، فاستبعدت بجبريتها المتطرفة العمل الصالح، ووضعت القانون الأخلاقي في مرتبة ثانوية من سلم الأولويات.
نحن لا نجد مبرراً لنسأل أصحاب القسم الثاني عن سبب فعلهم هذا، طالما أن أصول الثقافة ليست موحدة بيننا وبينهم، علماً بأننا لا نشكك إطلاقاً في نواياهم المخلصة ووطنيتهم الصادقة، ولا نقول بأن كل ما طرحوه يقع في هامش الخطأ والباطل. فهناك الكثير من الإيجابيات في طروحاتهم، ومع ذلك لم تأت أكلها وثمارها، لأنها جاءت من خارج الثقافة العربية الإسلامية.
فمن الواضح المسلم به، أن الطروحات القومية ما زالت أساسية لنا نحن العرب، وأنا واحد من المتمسكين بعروبتهم، إلا أن الطروحات القومية بحاجة إلى تجديد، فنظرياتها الغائبة عن الساحة أقرب إلى الرومانسية منها إلى العلمية. نحن نقول إن الوحدة العربية هدف سياسي أساسي لكل عربي، ولكننا نضيف إن الإطار الرومانسي الذي طرحت من خلاله في الخمسينات من هذا القرن، يحتاج إلى تأسيس نظري أعمق وأشمل.
أما بالنسبة لأصحاب القسم الأول، فإن لدينا أكثر من مبرر لنسألهم من أين جاؤوا بما جاؤوا به، طالما أننا وأنهم نطلق من أساس الأسس، وأصل الأصول، التنزيل الحكيم والسيرة النبوية.
الأصول بيننا وبين أصحاب القسم الأول واحدة، لكننا نختلف عنهم بأننا نزعنا عن عيوننا نظارة الشافعي-رضي الله عنه- وسمحنا لأنفسنا بأن ننظر إلى التنزيل الحكيم بعيون معاصرة، لا بعيون مستعارة، دون مساعدة أحد أو تأطير مسبق من أحد.
لقد حاولنا في القسم الأول من هذا الكتاب أن نلقي الضوء على الإسلام والإيمان، كما وردا في آيات التنزيل الحكيم، وعلاقتهما بالأخلاق والديمقراطية. فأردنا الفصل الأول منه لشرح أركان الإسلام وأركان الإيمان، وللتفريق بين المسلمين والمؤمنين، كما فرقت بينهم آيات التنزيل الحكيم، ولتعريف الإحسان والعمل الصالح، وتوصلنا إلى منظومة القيم والمثل العليا (القانون الأخلاقي) وعلاقتها بالديمقراطية والثقافة. واكتشفنا خلال ذلك كله، أن ما تم تقديمه لنا على أنه أركان الإسلام غير صحيح، ولا يتطابق البتة مع التنزيل الحكيم. وأن الركن الصحيح من بينها هو ركن الشهادة الأولى (شهادة أن لا إله إلا الله)، أما الشهادة بأن محمداً رسول الله، وأما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فهي من أركان الإيمان وليس من أركان الإسلام.
إن إعادة تسمية الأشياء بأسمائها، وتبيان أركان الإسلام وأركان الإيمان كما أوردها التنزيل الحكيم، جعلنا نفهم بوضوح كيف أن الإسلام بدأ بنوح وختم بمحمد (ص)، مروراً بإبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى. وأنه هو الدين السماوي الوحيد الذي عرفته البشرية وجاء به الرسل على اختلاف رسالاتهم. فالمسلمون من عهد نوح، هم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فمن آمن منهم بعد ذلك بملة إبراهيم كان حنيفاً، ومن آمن بموسى كان من الذين هادوا، ومن آمن بعيسى كان من النصارى، ومن آمن بمحمد (ص) كان من المؤمنين.
ومن هنا نفهم كما قلنا، كيف أن الإسلام بدأ بنوح وختم بالرسول الكريم (ص)، وخضع للتطور والتراكم المعرفي والإنتاجي عند الإنسان، فبدأ التوحيد مشخصاً ليتطور إلى مجرد. وبدأت القيم العليا الأخلاقية بـ {رب اغفر لي ولوالدي} لتشمل مع خاتم الأنبياء والرسل جميع مناحي الحياة، وتوصلنا إلى القول بأن الإسلام فطرة، والإيمان تكليف.
لقد قادنا النظر في أركان الإسلام، كما وردت في التنزيل الحكيم، إلى أن نرى بوضوح كيف تم استبعاد العمل الصالح منها، وقادنا النظر في أركان الإيمان، إلى أن نرى بوضوح كيف تم إغفال الإحسان فيها. وتبين لنا أن هناك تكاليف للإيمان غير واردة في أركان الإيمان التي سميت خطأ أركان الإسلام، وهي الشورى والقتال في سبيل الحرية والوطن، لأنها أيضاً تكليف مخالف للفطرة.
ثم شرحنا مفهوم المجرمين، وتبين لنا أن معظم أهل الأرض مسلمين، وأن الدين الإسلامي لا علاقة له بالقومية، وإنما الإنسانية ككل، بغض النظر عن التسميات التي نطلقها على المجموعات الإنسانية ذات الملل المختلفة. فالإسلام دين عالمي ينسجم مع العرب والعجم، بغض النظر عن القومية والعرق، أو أي تصنيف آخر. والعرب معظمهم مسلمون مؤمنون، من أتباع محمد (ص)، ومنهم نصارى، من أتباع عيسى، ومنهم يهود، من أتباع موسى، وكلهم عرب. وهناك مسلمون مؤمنون من غير العرب، لا يضرهم ذلك في شيء، ويعيشون في دول أخرى غير الدول العربية، ذلك لأن الإسلام ميثاق الإنسانية (المثل العليا)، وأبرز أساساته حقوق الإنسان وعلى رأسها الحرية.
ثم شرحنا مفهوم الكتاب والوصية والفريضة والموعظة، وأضفنا إلى موضوع الإرث بعض التفصيلات، واقترحنا فقهاً جديداً للإرث، وتم جدولة أركان الإسلام وأركان الإيمان في نهاية هذا القسم، وتبين لنا أن (فعل الخير) من أركان الإسلام، وأن الزكاة من أركان الإيمان، وهناك تقاطعات فيما بينها.
جاء الفصل الأول من القسم الثاني تحت عنوان “العباد والعبيد”، بحثاً مستفيضاً حول الحرية الإنسانية، والحرية والرق، والثواب والعقاب، واستنتجنا أن التنزيل الحكيم لم يعترف بالرق، بل سخر منه ووضع من شأنه، وأن الحرية الإنسانية في التنزيل تكمن في “عبادية” الإنسان لله، أما الرق فهو “العبودية” لغير الله في الحياة الدنيا. وشرحنا مفهوم الميثاق، وميزناه عن الدستور والقانون، وأن كلمة الله التي سبقت لكل الناس هي الحرية. وأن الإسلام ميثاق بين الله والناس، ومثل عليا لكل مجتمع إنساني متحضر وعلى رأسها الحرية. واستنتجنا أن العبادات من أركان الإسلام، وأن إقامة الصلاة وصوم رمضان وحج البيت هي شعائر من أركان الإيمان لا علاقة لها بالعبادات.
ثم بينا تحت عنوان “أين يعبد الله”، أن العبادات لا تكون في المساجد والكنائس والبيع، فهذه بيوت لذكر الله، وإقامة الصلوات، أما عبادة الله فلا تكون إلا خارجها.
بحثنا في الفصل الثاني مفهوم الشاهد والشهيد، وتبين لنا أن هذا المفهوم له علاقة بنظرية المعرفة الإنسانية، وبمناهج المعرفة ونظمها، وأن مصطلح الشهيد لا علاقة له بالأصل، بالذين يقتلون في الحرب في سبيل الله أو في سبيل غير الله، وأن هذا المصطلح استعمل كشعار سياسي لسوق الناس إلى القتال، ولا علاقة لذلك بالتنزيل الحكيم.
أما الفصل الثالث فقد خصصناه لبحث مفهوم الأبوين والوالدين، طبقاً لما جاء في التنزيل الحكيم، وطبقاً لمعارفنا المعاصرة، وتبين لنا أن التبني مباح، وأن التنزيل الحكيم حدد شروط صحته وبطلانه، مما يؤثر على ما بين أيدينا مطبقاً من قوانين الإرث والتبني، ويفتح المجال لوضع تشريعات جديدة في الإرث والتبني.
وشرحنا في الفصل الرابع الذنب والسيئة، وفرقنا بينهما من واقع فهمنا لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء …} النساء 116 وقوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106. وتم في هذا الفصل شرح تطور التوحيد على مر التاريخ من المشخص إلى المجرد. وأن إبراهيم أبو المسلمين لأنه أول من توصل إلى الإله الواحد المجرد غير المجسد (خالق السموات والأرض) وأن ما عداه متغير غير ثابت (حنيف) وأنه الباقي وحده وليس كمثله شيء.
وقدمنا في الفصل الخامس مفهوم الإسلام والسياسة، وهل الإسلام قابل للتسييس، وتبين لنا أن الإسلام غير قابل للتسييس، وعندما نفعل ذلك، نضيع الإسلام والسياسة معاً.
لذا فإني أرجو القارئ الكريم، أن لا يتسرع في الحكم على هذا الكتاب، إلا بعد قراءته، آملاً أن يأتي الكتاب مساهمة متواضعة في فهم التنزيل الحكيم، ونحن شهداء العقد الأخير من القرن العشرين، شاهدي المعلومات التي توصلت إليها الإنسانية.
وأرجو أن أكون قد وضحت بشكل أفضل، مشكلة المعرفة والأخلاق والحرية والحداثة، كي يتسنى لنا نحن العرب دخول القرن الحادي والعشرين، مالكين لوعي معرفي واجتماعي وسياسي أفضل. وأن يكون القرن القادم قرن حرية العرب ووحدتهم، كي يشغلوا موقعاً أفضل في صنع الحضارة الإنسانية، ويشاركوا في صنع القرار السياسي العالمي.
والحمد لله رب العالمين.
(1) انظر كتاب (يوم الله-الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث) لمؤلفه جيل كيبل، طبعة 1992، دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث.
(2) أينما وردت كلمة التراث عندنا، فنحن لا نعني بها التنزيل الحكيم، لأن التنزيل عندنا وحي وليس نصاً تراثياً، فالتراث صنع إنساني بشري أما التنزيل فمن عند الله.