بعد صدور عدد من الكتب والمقالات الناقدة، داخل سوية وخارجها، في الرد على “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة” الصادر عام 1990، كان علي أن أختار أحد طريقين. إما الرد على هذه الردود تباعاً، أو الانصراف إلى المزيد من العطاء والتفرغ للنظر في مواضيع التنزيل الحكيم التي لا تنضب ولا تنتهي.
وكنت خلال هذه المدة كلها أميل إلى الطريق الثاني، إلى أن ترسخت هذه القناعة عند ذات يوم، وأنا أسمع الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة وهو يقول: هل نقضي عمرنا في الدفاع عن قيثارتنا، أم في العزف عليها!! ومن يومها قررت أن أقضي العمر في العزف وليس في الدفاع، منطلقاً من قوله: {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} راجياً منه سبحانه أن يكون فيما أصنع نفع للناس ابتغاء مرضاتهن إنه خير سميع وخير مجيب.
لقد تحدثت في مقدمة هذا الكتاب، عن مرض الآبائية، الذي يمكن أن تبتلى به أية أمة من أمم الأرض، والذي هو من الأمراض المستعصية عندنا، خاصة حين نتكلم في علوم الأولين (القرنين الأول والثاني الهجريين) وكأنهم فوق البشر. فعلى كل من يبدي رأيه في أمر منها، أن يذكر المرجع السلفي الذي استقى منه رأيه هذا، وإلا فهو مبتدع، خارج عن مناهجهم وآرائهم.
ولقد لاحظت أن هذه المشكلة، مشكلة المرجعية، هي القاسم المشترك بين كل هذه الكتب والردود، لا أستثني منها سوى مقالة الدكتور نصر حامد أبو زيد، التي رددت عليها بمجلة الهلال المصرية عدد كانون الثاني 192. فأنا وأصحاب الردود على طرفي نقيض، هم يعتبرون المرجعية ومراجع التراث وما قاله السلف سلة واجبة لالتزام بها، وأنا أراها أمراً قابلاً للحوار يجب الوقوف عنده. وأضرب على ذلك مثالاً جرى معي بالذات.
ففي كتابي الأول، انطلقت من مسلمة المرجعية في موضوع الناسخ والمنسوخ، وقلت بالنسخ كما يقولون، دون أن أقف عندها بالنظر والبحث. لكنني بعد أن استقصيت قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيءٍ قدير} البقرة 106. ودرسته انطلاقاً من صدق الخبر القرآني، وجدت أن النسخ لا يمكن أن يكون في آيات التنزيل الحكيم، بل هو بين رسالتين أو رسالات، أي أن النسخ يقع على سلم التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية، وإن تراكم المعلومات والرقي الحضاري يؤدي إلى تطور التشريع.
وفي كتابي الأول أيضاً، اعتمدت الثقة بالتراث، وسرت وراء المسلمات المرجعية في قراءتي لقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} البقرة 179 فوقعت فيما وقعت فيه من اعتبار أن القصاص هو العقوبة، لكنني حين وقفت عندها بالنظر، وصلت إلى فهم آخر مختلف تماماً، أفردت له بحثاً خاصاً في هذا الكتاب.
إن أسلوب تعامل أصحاب الردود وكثير غيرهم مع التراث، يقوم على مبدأ الثقة والمسلمة، لا على مبدأ العلم والبحث والنظر، وهنا يكمن لب المشكلة، فكيف نلتقي ؟؟ وثمة منظومة معرفية في الكتاب، وفي فهم التنزيل الحكيم، تختلف عن المنظومة المعرفية لدى أصحاب الردود في القراءة والفهم، فكيف نتفق؟ وقد حدد الأستاذ جودت سعيد هذه المشكلة في كتابه “حتى يغيروا ما بأنفسهم”(1).
أحد كتب الردود، صاحبه دكتور في الحقوق، تزيد صفحاته عن الخمسمئة، فيها الكثير الكثير من الجدية والجهد، تعرض فيه لشرح قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا ولي الألباب} على أنها نظرية في العقوبات. فإذا كان هو من المختص بحكم دراسته يخلط بين القصاص والعقوبة ويعتبر إحداهما مرادفة للأخرى في الدلالة، فكيف حال من ليس مختصاً، وكيف يفهم الاثنان الفرق بين الكتاب والقرآن والتنزيل والفرقان، علماً أن قولي هذا، لا يعني أبداً التشكيك في ذكائه أو تقواه أو حسن نواياه، فهو ليس محل شك مطلقاً، لكن تطبيق مبدأ الترادف في التنزيل الحكيم، والتزام المنظومة المعرفية للسلف في فهمه، لن ينفع معه ذكاء ولا تقوى ولا حسن نية.
إن كل ما فعله الدكتور صاحب الرد، هو أنه أتعب نفسه وبذل جهداً كبيراً في تبني المقولات الموروثة، وأخرجها في حلة أنيقة حديثة، أي أنه قام بأقصى ما يستطيع أن يقوم به إنسان مصاب بداء المرجعية، فأخذ النظم المعرفية المرجعية للسلف كمسلمات ثابتة، وغسلها وكواها، ثم ألبسها ثوباً قشيباً. هذا وإن كان جهداً يشكر عليه، إلا أنه لا يفيد، ولا يضيف جديداً مفيداً.
الحقيقة المعرفية، هي العلاقة بين نظم المعرفة وموضوعاتها، وبين المعارف وموادها، فنحن نعيد صياغة المعارف دائماً بحسب أدواتها، التي من شأنها حين تتغير أن تؤدي إلى تغيير المفاهيم وفصل الالتباس بين الحقيقة والوهم، في مسيرة لا تتوقف أبداً. ومن هنا فنحن حين نعيد النظر بمفاهيم السلف في ضوء النظم المعرفية الحديثة التي بين أدينا، فذلك لا يعني أبداً التشكيك بذكائهم أو بتقواهم أو بحسن نواياهم، أضف إلى هذا كله أخيراً أننا ندرك تماماً أن التراث الذي أمامنا اليوم، ليس كل تراث السلف.
ومن هنا، يمكن تقسيم كتب ومقالات الردود إلى الفئات التالية:
- فئة تفتقر إلى الجدية العلمية، تحكمها العواطف والعبارات الرنانة الخطابية، توحي بأن صاحبها قرأ ولم يفهم شيئاً.
- فئة تجاهل العارف جوهر المنهج، واكتفت بالتعليق على الشكل.
- فئة ذات طابع جدي وجهد مشكور.
لكنها تشترك كلها كما قلت في قاسم واحد هو خلافها معي في المنهج، أي النظام المعرفي المتبع، الذي انطلقت منه وما زالت، والذي يتلخص في النقاط التالية:
1 – لا يمكن فهم أي نص لغوي إلا على نحو يقتضيه العقل.
2 – الألفاظ خدم للمعاني، فالمعاني هي المالكة سياستها المتحكمة فيها. ووظيفة اللغة هي نقل ما يريده متكلم إلى سامع.
3 – حين يخاطب المتكلم سامعاً، فهو لا يقصد إفهامه معنى الكلمات المفردة، لذات فالثقافة المعجمية غير كافية لفهم أي نص لغوي، فما بالك إذا كان النص هو التنزيل الحكيم.
والمعاني موجودة في النظم، وليس في الألفاظ كل على حده. وحين نقول إن الولد أكل تفاحة حمراء، فنحن نعني ضمناً أن هناك تفاحاً بألوان أخرى، ولو لم نقل ذلك لفظاً بالنص.
4 – اللغة حاملة للفكر، وتتطور معه. وهناك تلازم لا ينفصم بين اللغة ووظيفة التفكير عند الإنسان، حتى الأحلام التي يراها النائم، يراها ضمن نظام لغوي.
5 – اللغة حاملة للفكر الإنساني، لكن الفكر الإنساني يمكن أن يكون صادقاً، ويمكن أن يكون كاذباً، وهذا يعني أن توفر الرباط المنطقي، وصحة الشكل اللغوي في النص لا يعني بالضرورة أنه حقيقي، وجمال التركيب اللغوي ومتانته في النص لا يعني بالضرورة أنه صادق. لذا قالت العرب أن “أجمل الشعر أكذبه”.
وهذه الحقيقة أكدها التنزيل الحكيم في وصفه للشعراء بأنهم {يقولون ما لا يفعلون}، فهم يستعملون تراكيب لغوية خيالية غير قابلة للتحقق في عالم الواقع، كقول الشاعر:
وصرت إذا أصابتني سهامٌ تكسرت النصال على النصال
فالصورة البلاغية والخيال المجنح في الشعر هو الذي يجعل منه كاذباً لا يمت إلى عالم الحقيقة بصلة، ومن هنا لا يمكن الاقتصار على إعجاز التنزيل بالقول أنه استعمل مختلف أدوات وأساليب البلاغة والبيان التي عرفها العرب، بل يجب بالإضافة إلى ذلك الإيمان بأن الخبر القرآن صادق وحقيقي، ومن هذا المنطلق الأساسي شرحت الناسخ والمنسوخ في الآية 106 من سورة البقرة.
ولما كانت البلاغة هي إيصال ما يريده المتكلم إلى السامع، ولو بالإشارة دون كلام، فقد صح أن نقول إن التنزيل الحكيم استعمل أعلى مستويات البلاغة التي لا يمكن تجاوزها أو الاتيان بمثلها في أداء المعنى وتوصيله إلى السامع.
لقد كان يعنيني كثيراً صدق الخبر في النص القرآني، وواقعية التشريع في آيات الأحكام أكثر مما يعنيني جمال التركيب والصياغة ولا أشك أنه يعني أيضاً أصحاب الردود، لكنهم كانوا يعنون به من حيث الشكل وسلامة العقيدة وليس تطبيقاً عملياً على الآيات. فالقول بالنسخ في التنزيل، يقتضي وجوباً وجود الناسخ والمنسوخ ويقتضي أن يكون الناسخ مثل المنسوخ أو خيراً منه في نفس مجاله وموضوعه، لكنني لم أجده صدقاً وحقاً كذلك.
ولتحقيق الصدق في الخبر القرآني، فقد قلت بأن النسخ ليس في الرسالة الواحدة، بل في الرسالات على مدى مسيرة التاريخ والتطور، ولم يعد يهمني هل قال أحد من قبل بذلك أم لا، وهل ينطبق ما وصلت إليه مع إجماع العلماء أم لا، ومع إجماع الجمهور أم لا، فصدق الخبر الإلهي عندي أهم من تصديق المراجع كائناً من كان مؤلفها.
6 – لو تفحصنا كتاباً في الطب أو في الهندسة، بأية لغة من لغات الدنيا، نرى أن ظاهرة الترادف غير موجودة، فإذا اختلفت خلية عن خلية أخرى ولو اختلافاً بسيطاً جداً، نجد المؤلف يعطيها إسماً جديداً لتمييزها، وإذا اختلف حد مجهول في الرياضيات عن حد آخر، ولو اختلافاً تافهاً جداً، رأينا المؤلف يعطيها أرقاماً مميزة عن بعضها (س1، س2، س3)، وذلك تحقيقاً للدقة العلمية، ونصر من جانب آخر، على أن كل السينات واحدة في كتاب الله، الذي يصف الكون بمخلوقاته وقوانينه، وأن العهود عنده هي المواثيق وهي العقود وهي الإيمان، وأن الرسول هو النبي وهو الرجل وهو البشر وهو الإنسان، وأن الكتاب هو الرسالة وهو الذكر وهو القرآن وهو الفرقان !!
كيف يمكن أن يكون المخلوق في تعابيره أدق من الخالق في تنزيله؟
7 – لقد خلق الله الوجود وصاغ التنزيل، فلزم أن نرى فيهما وحدة الخالق الصائغ، التي تجلت في أنه خلق لكل شيء عملاً ووظيفة، فلا شيء في الدنيا لا لزوم له أو لا معنى له، ولهذا فقد صاغ التنزيل بالمثل، خالياً من الحشوية، لا يمكن حذف كلمة منه دون أن يختل المعنى، ولا يمكن من جهة ثانية تقديم أو تأخير أي من كلماته وألفاظه، دون أن يفسد النظم الحامل للمعنى، وليس مجرد خلل في جمالية الشكل أو الوقع الموسيقي. واقرأ معي {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} النور 56.
فإذا وضعناها بالشكل التالي {وأطيعوا الرسول وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لعلكم ترحمون} لتغير المعنى تماماً رغم أن الأوامر الثلاثة في الآية بقيت هي نفسها: إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الرسول.
فنحن نفهم من الآية في شكلها الثاني بعد التقديم والتأخير، أن الله يأمرنا بطاعة الرسول إطلاقاً، ويأمرنا بإقامة صلاة وإيتاء زكاة نعرف كيف نقيمها وكيف نؤتيها. فإذا طبقنا هذا الفهم على التنزيل لجاء الخبر في الآية كاذباً، حاشا الله وتعالى، إذ لا نجد في آيات التنزيل كلها شرحاً للصلاة لقيامها وقعودها وركوعها وسجودها، ولا شرحاً للزكاة بنسبتها ومقاديرها ومواعيد إخراجها واستحقاقها. ومن هنا نفهم لتحقيق صدق الخبر القرآني أن الله يأمرنا بطاعة الرسول في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، التي يعرف سبحانه سلفاً أنه لم يشرحهما في تنزيله.
8 – التنزيل الحكيم خالٍ من العبث، وخالٍ من الأخبار غير المهمة والمعروفة عند الناس، فهو سبحانه لا يحتاج إلى وحي ليقول للناس، مثلاً، إن الجرة تنكسر إذا وقعت على أرض صلبة من ارتفاع عال. لكننا إذا قرأنا قوله تعالى: {.. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة .. الآية} البقرة 196. وسلّمنا بما ورد في التفاسير بشأنها، رأينا الله يعلّم الناس في الآية أن 3 + 7 = 10، وهذا خبر يعرفه كل الناس، عالمهم وجاهلهم، ولا يحتاجون إلى وحي لمعرفته.
وهذا غير معقول في ضوء خلو التنزيل من العبث. فإذا حذفنا كلمة {كاملة} من النص، لم يتأثر المعنى الذي ذهب إليه المفسرون وهو أن الله يعلم الناس الجمع والحساب. وهذا أيضاً غير معقول في ضوء خلو التنزيل من الحشوية.
ما هو إذن تفسير الآية الذي يحقق كل الفرضيات ولا يخل بواحدة منها، ويغطي: صدق الخبر القرآني، وخلوه من الحشو، وبعده عن العبث في سوق المعارف المألوفة عند الناس؟
نقول هو التفسير الذي ينتبه إلى وجود أكثر من نظام واحد للعد عند الناس. فهناك النظام العَشّري والنظام السباعي والنظام الاثني عشري والنظام الست عشري، فالعشرة في النظام الاثني عشري مثلاً ناقصة نعبر عنها بالشكل التالي 12/10، أما العشرة في النظام العَشْري فهي عشرة كاملة، وقوله تعالى: {كاملة} في الآية إشارة إلى نوع نظام العد الذي جاء آية الحج عن أساسه.
وهذه النقطة بالذات، نقطة خلو التنزيل الحكيم من العبث، ومن الأخبار المعروفة عند الناس، هي التي جعلت العرب تدعو مسيلمة بالكذاب، حين ساق إليهم آيات من صياغته ادعى أنها من عند الله، محاولاً تقليد القرآن، كل ما فيها أن الفيل خرطومه طويل!! ونستمع للدكتور جواد علي في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” ج6، ص91 و92 دار العلم للملايين 1970 يروي آيات مزعومة لمسيلمة الكذاب هذا:
والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمقتر فآووه، والباغي فناوئوه.
فإذا نظرنا في هذا النص، نجد أن صياغته عربية، ولم يرتكب من الناحية اللغوية أية خطيئة، واستعمل السجع والكنايات وأدوات البلاغة، كل ذلك مع صدق في الخبر، فلماذا اتهمه الناس بالكذاب؟
نقول: لأن آياته كانت عبثية، قال فيها للناس، إنكم تزرعون القمح، ثم تحصدونه وتطحنونه وتخبزونه وتثردونه بعد وضع السمن فيه، ثم اتبع ذلك بمكارم يعرفها الجميع .. ولو أنه قال لهم ذلك دون أن يسميه وحياً من عند الله لما كذبه أحد. ومن هنا نفهم قوله تعالى في صفات المتقين أنهم {الذين يؤمنون بالغيب} أي أن أخبار التنزيل صادقة، قد لا يعرفها السامع، فهي غيب بالنسبة له، كما نفهم أن كلام مسيلمة الكذاب لا توجد فيه غيبيات.
9 – عند دراسة أي نص لغوي، مهما كان نوعه، لدينا الأركان التالية:
المؤلف – النص – القارئ أو السامع.
فالقارئ يتعرف على المؤلف من خلال النص وقراءاته له، وليس ضرورياً أن يذهب القارئ إلى المؤلف ويجلس معه ليفهم منه ماذا يريد بكتابه. فإذا فهم القارئ النص مئة بالمئة كما أراده المؤلف، فهذا يعني أنه دخل إلى عقل المؤلف وصار مثله في المعارف الواردة في النص. وعندما يقرأ القارئ النص فإنه يوظف معلوماته المكتسبة تلقائياً ليفهمه، فإذا لم يفعل ذلك فإنه يعطل فكره ولا يفهم شيئاً، وهذا ما يحصل مع شديد الأسف عند الكثير من الناس حين يقرؤون آي الذكر الحكيم.
ففي التنزيل الحكيم، ولله المثل الأعلى، المؤلف هو الله مطلق المعرفة، والنص هو التنزيل الموحى، والسامع هو الناس محدود المعرفة من زمن التنزيل إلى أن تقوم الساعة، بمختلف مداركهم ومعارفهم المتطورة دائماً والمتقدمة دائماً. لهذا، لا يمكن لإنسان واحد، أو لمجموعة من البشر في جيل واحد، أن يفهم النص القرآني بشكل كامل مطلق كما أراده صائغه، وإلا أصبح شريكاً لله في المعرفة، بدلالة قوله تعالى: {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} الأنعام 67.
ولما كان ذلك كذلكن وأنه لا وحي ولا تنزيل بعد محمد (ص) الخاتم، يضع الأنباء في مستقرها، فقد أخذ المؤلف باعتباره اختلاف القارئ في الأرضية المعرفية وفي المدركات، فجاء تنزيله يحمل ظاهرة التشابه، أي ثبات النص وحركة المحتوى، وجاءت الأحكام في هذا التنزيل حنيفية، تحمل مرونة التطابق مع المتغيرات الزمانية والمكانية، في تحركها بين حدود الله الدنيا والعليا، تاركة للمجتمع وللأرضية المعرفية في المجتمع صنع المعاني، واختيار النقطة الملائمة لها، ضمن هذه الحدود حصراً، لتقف عليها وتأخذ بها.
10 – لا يمكن فهم التنزيل الحكيم، من خلال فهم الشعر الجاهلي ومفرداته، فللجاهليين أرضيتهم العلمية، التي جاءت مفردات شعرهم عاكسة لها ومعبرة عنها ومقيدة بها، ونحن لا نجد كلمات أو مفردات عند العرب وقتها، تدل على الجاذبية الأرضية أو على كرويتها، لأنهم لم يعرفوها أصلاً. ولو حصرنا فهم التنزيل الحكيم بها، لما حق لنا أن نقول إن المكتشفات الحديثة العلمية أكدت مصداقية القرآن.
ومن هنا قلنا إن المجتمعات هي التي تشارك في صنع المعاني حسب تطور معارفها، لكن هذه التطورات نفسها محسوبة في التنزيل، بحيث مهما امتدت واتسعت، فسيجد الإنسان أنها منسجمة مع النص القرآني، مصدقة له، ودائرة في فلكه.
11 – إضافة إلى ما ورد في الفقرة السابقة، فقد جاء التنزيل يحمل في ذاته تطويراً لغوياً لم يعرفه الجاهليون في لسانهم قبله. ففيه مفردات أتى بها من لغات أخرى غير العربية، وفيه أسلوب متميز بالنظم يخرجه كلية من دائرة الشعر أو الخطابة التي عرفها العرب قبله، وفيه مصطلحات مستحدثة انفرد بها، لم تكن موجودة قبله، وهذا وأشباهه كثير كثير، يؤكد استحالة اعتبار مفردات الجاهلية كافية بذاتها لفهم التنزيل الحكيم.
هذه النقاط كمرتكزات للمنهج، هي التي انطلقت منها في محاولة فهم النص القرآني، على حين انطلق أصحاب الردود من مرتكزات أخرى مختلفة تماماً:
1 – لقد اعتمد أصحاب الردود النظرية البنيوية في اللغة. ففصلوا الشكل عن المضمون، واعتبروا المحمول بعيداً عن الموضوع ومسلوخاً عنه، وارتكزوا على الجانب النحوي في اللغة تاركين جانب البلاغة والإبلاغ، ولا غرابة في ذلك، فمرتكزهم هذا استمرار لظاهرة تاريخية بدأها الفقهاء والمتصوفة.
لكن اللغة ليست مجرد علاقات داخلية قائمة بذاتها ولذاتها، كالذرة مثلاً، التي تقوم منفصلة عن الإنسان ببروتوناتها والكتروناتها وأوتارها الفائقة، إذ أن اللغة وظيفة إبلاغية بين متكلم وسامع، وثمة علاقة تلازمية بين المحمول في اللغة والموضوع، إذا تركناها أو أهملناها، يصبح الخبر عبثاً لا معنى له. وإذا أنكرنا دور السامع في صياغة المعاني، نتجت لدينا نصوص لغوية منفصلة عن المجتمع ولا علاقة لها بالواقع، والتعقيد والإعراب وضبط الشكل، إن كان يعين على فهم النص، إلا نه لا يقيم فهماً مطلقاً بذاته.
2 – انطلق أصحاب الردود من أن السلف فهم التنزيل فهماً مطلقاً، طبقاً لمعايير اللغة في العصر الجاهلي، ولكن ذلك إن كان صحيحاً، فإنه يعني تجميد التاريخ ووقف الزمن وتطور المجتمعات إلى أن تقوم الساعة، وهذا مع الأسف ما تتبناه مدرسة السلفية، التي تريد للتاريخ أن يقف عند مرحلة السلف، وتحكم بالضلال على كل من يخرج عنها من مجتمعات أهل الأرض، ومن هذا المنطلق تم التركيز على الحديث النبوي وجعله مطلقاً.
3 – أصر أصحاب الردود على أن خير القرون هي القرون الثلاثة الأولى الهجرية في فهم التنزيل، ثم يقف الفهم عند أهل هذه القرون. وكأن قوله تعالى: {لقوم يعقلون} و {لقوم يفقهون} و {لقوم يتفكرون} جاء وقفاً على أهل هذه القرون، وكأن كل الناس بعدها تولد وتعيش وتموت دون عقل ودون فقه ودون فكر.
4 – لم يفرق أصحاب الردود بين آيات القرآن والتفسير، وآيات الأحكام وفقه الفقهاء، فهي عندهم في مقام واحد، لكنهم غفلوا عن أن الأسس العقائدية والتشريعية في آيات القرآن والأحكام هي (المثال)، وأن التفسير والتطبيق المقهي هو (الواقع)، فالمثال من الله المطلق، والواقع من الإنسان النسبي، لا يمكن تطابقهما. فالتطابق معرفي نسبي تاريخي، ولهذا لا يحق لنا أن نقدم كتب الفقه والتفاسير على أنها الإسلام، وإنما هي علوم إسلامية تحمل صفة التاريخية (الواقع)، وعلنيا تطويرها بأنفسنا، لأنفسنا وللأجيال القادمة، وكذلك الأجيال من بعدنا.
5 – أغفل أصحاب الردود التطور الهائل الذي حصل في القرون الثلاثة الأخيرة بعلوم الفيزياء والكيمياء واللغة. فعلوم اللسانيات، ونشوء اللغات، وارتباط اللغة بالفكر ونشوئه، تنامت واتسعت وتعمقت، وعلينا الأخذ بها وعدم إغفالها، لما لها من أثر في آليات القراءة وإشكاليات التأويل، إذ تربط بين اللغة والفلسفة وتهتم بشكل رئيسي بعلم الدلالات الذي أهملته مدارس الترادف، وقضت عليه مدارس الظاهر. التي ينتمي إليها أصحاب الردود.
فرأيناهم يهتمون بفصل الشكل عن المضمون، ولا يهمهم أن يصل الناس من جراء هذا الفصل إلى حالة العدمية في تعاملهم مع اللغة. والعدمية هي أن تفقد الدالات مدلولاتها، فنصل إلى أن نقرأ النص قراءة ليس لها ما يقابلها في الواقع، ودون أن نكترث بصدق الخبر وانطباقه على الوجود، طالما أنه لا يخرج عما يسمى (قواعد تفسير النصوص). وليس أوضح للحالة العدمية من فهمنا لمقولة: كان الله ولا شيء معه. فأصحاب الردود يفهمونها بأن الله خلق الكون من العدم، الذي هو اللاشيء عندهم!
لكن قولنا إن اللاشيء هو العدم، تعريف لا معنى له مطلقاً. ونحن نرى أن الكون قبل أن يصير شيئاً، كان موجوداً فيعلم الله، وهذا ليس عدماً. ويرى أن الخلق كله كان مدلولات مجردة في علم الله، ثم صارت أشياء لهم دالات نطابقها في الواقع، وهذا أيضاً ليس عدماً.
ونضرب مثالاً سماه أصحاب الردود مآخذ، على تفسيرنا {البنون} بأنه البنيان في قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيراً أملاً} الكهف 46.
فإذا أخذنا بفهم السيوطي في الدر المنثور، وهو مقدس عند أصحاب الردود، نتج لدينا أن معنى الآية: إن المال والذكور من الأولاد زينة الحياة الدنيا، وإن “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” خير عند ربك ثواباً وخير أملاً. وتظهر فوراً أمامنا التساؤلات التالية:
أ – إن كان معنى البنون في الآية هو الأولاد الذكور، فأين البنات؟ وهل يعقل أن يتناقض سبحانه مع ذاته، حاشاه، وهو القائل {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذن قسمة ضيزى} النجم 21، 22، معيباً على الجاهليين تفريقهم وتفضيلهم. أم يعقل أنه ألغى التساوي، حاشاه، بين الذكر والأنثى في آيات تنزيله: آل عمران 195 والنساء 124 والنمل 97 و غافر 40 والحجرات 13، وغيرها كثير كثير.
ب – ما هي العلاقة التي تربط المال والأولاد الذكور من جهة، بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، من جهة ثانية؟ وما هو الخبر القرآن المنطقي الصادق الذي يجب أن يفهمه السامع والقارئ من هذا القول ولو بعد مئة ألف عام؟
جـ – ما هو موضوع محمول الآية؟ أي ما هو الجانب الذي تتلبسه هذه المفردات في الواقع الذي إن بحثنا عنه وجدناه؟
وإنطلاقاً، كما قلنا، من حتمية صدق الخبر القرآني، ومن انتفاء الحشوية والعبثية عنه، ومن انسجامه مع الأخبار القرآنية الأخرى، فقد ذهبنا ممسكين بالخيط الرفيع اللغوي الذي لا يجوز تركه، في تفسير البنون على أنها من بَنَنَ – بنى، وعلى أنها جمع جمع للبنيان. وذهبنا إلى أن الباقيات الصالحات في الآية هي الصدقات. ولم نكن نقصد فيما ذهبنا إليه، مجرد مخالفة الإمام السيوطي حباً في الظهور، بل كان تجنب الوقوع في العدمية. فصار معنى الآية كما رأيناه: المال والأبنية، أي الأملاك المنقولة وغير المنقولة، زينة الحياة الدنيا، لكن ذلك كله زائل، فلا يبقى من العمل الصالح إلا الصدقات التي تنفع الناس، فهي خير عند ربك من تلك الزينة وبهارج الحياة الدنيا.
من هنا فقد أصبحنا نفهم بوضوح أكر، قول الفقراء من المسلمين للرسول (ص): ذهب أهل الدثور بالأجر. فإذا كانت الباقيات الصالحات هي الصدقات التي يستطيعها أهل الدثور من الموسعين، فأين أجر غير القادرين على الصدقة. ونفهم جوابه (ص): قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تصبحوا مثلهم.
ثمة مثال آخر فيه كما أرى فائدة كبيرة، جاءني ذات يوم من يقول: أنت ضد المعجمية في اللغة، فلماذا؟ قلت أنا لست ضد المعاجم كعلم لتصنيف الألفاظ، لكنني ضد الأطرف المعجمية التي يظن الكثيرون معها أنها جمدت اللغة والمعاني ضمن حدود لا خروج منها ولا تجديد فيها. قال: أعطني مثالاً. قلت: ما معنى قوله تعالى “وقصرٍ مشيد” الحج 45؟ فقال باستغراب: أي قصر عالي البناء. قلت: وهل هناك قصر في الدنيا غير مشيد، إلا إذا أطلق على أرض تخلو من كل بناء؟ قال: كذا وردت عند السيوطي في الدر المنثور. قلت: ما لك وله {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون}، ألم تقرأ قوله تعالى: {.. تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً ..} الأعراف 74.
فإذا اعتبرنا القصور هنا العالي من الأبنية، رأينا في الآية تكراراً وتضاداً، أو في أحسن الأحوال عدم انسجام. لكن القصور في الأساس هي قطع الأراضي المسوّرة التي تحددها صكوك ملكية أي أن الله سبحانه وتعالى يعطينا خبراً هاماً في هذه الآية وهو ظهور الملكية الخاصة في الأرض، والتي من معناها هذا جاء قوله تعالى: {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}، ومن معناها هذا جاءت تسمية الغرف الصغيرة في حمام السوق “مقاصير”.
من هذا كله نصل إلى خلاصة القول، بأن ثمة منهجين مختلفين، بيني وبين أصحاب الردود، فلا عجب أن نجد اختلافاً في الاستنتاجات. وبأن المشكلة ليست مشكلة ذكاء أو تقوى أو حسن نية، بل هي مشكلة اختلاف النظام المعرفي المطبق.
ثمة من قال بأن في الكتاب خطأ وصواباً، ونقول إن الخطأ والصواب يحتاجان في تفريقهما إلى معيار، فما هو معيارهم في الفرز؟ ونرى أن الأفضل استخدام مصطلح ملائم وغير ملائم بدلاً من خطأ وصواب. فليس ثمة خطأ مطلق، أو صواب مطلق، ونحن حين نكتشف اليوم عند ابن كثير في تفسيره أو عند السيوطي في دره، أغلاطاً وأخطاءً، في ضوء تطور المعارف وتقدم العلوم، فإنما نكتشفها في ضوء التطور والتقدم، أما لو كنا معاصرين لهما، لحملنا آراءهما، وكان ميزانياً وقتئذ هو ميزانهما نفسه.
فقرة أخيرة أختم بها ردي على الردود وأصحابها، أقتبسها من كتاب “اغتيال العقل” لبرهان غليون ص361:
“إن كل ثورة فكرية تبدأ من تحرير المفاهيم من سياقاتها الماضية، ودمجها في سياقات وإشكاليات جديدة، فنتخلص من مدلولاتها السابقة المرتبطة بخبرة زائلة، وتصبح مركزاً لبلورة وتخزين خبرة جديدة.
فليس هناك مفاهيم أو مقومات ثابتة المعنى وأبدية، إنما تأخذ دلالات ومعاني جديدة ومتجددة، كلياً أو جزئياً، حسب المناخ الاجتماعي الذي يحيط بها، والحقل المعرفي التي توظف فيه والمنظومة الفكرية التي تستوعبها، وتجدد الأفكار والمفاهيم نابع من تجدد الإشكاليات والمسائل النظرية”.
والحمد لله رب العالمين
دمشق 28 نيسان 1994م
17 ذي القعدة 1414هـ
الدكتور المهندس محمد شحرور
(1) وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر آخر، وهو القدرة على التمييز، بين ما نقبله على أساس الثقة، وما نقبله على أساس التعامل مع السنة. فإن من أدرك كيفية التعامل مع السنة، لا يعود يبالي بالثقة من جهة الناقل – فيما يمكن اختباره على أساس السنة – سواء كان الناقل موثوقاً به، أو ليس كذلك، لأن الموضوع بهذه الحالة، يحمل دليله معه. فكل من عرف التعامل مع السنن، لا يمكن أن يخدعه صديق، أو يغره عدو، سواء كان قاصداً أو غير قاصد. أما من لا يعرف التعامل مع السنة، وإنما يقبل الموضوع على أساس الثقة فقط، فهو معرض للوقوع في الخطأ، ولا سيما إذا كان، في قبول التفسير ما ينقل عن المعصوم، صلى الله عليه وسلم. وهذا التعرض للخطأ يكون على وجهين: حين نقبل خطأ من نثق به. وحين نرفض صواب من لا نثق به.
وأسلوب أخذ المسلمين، العلوم الاجتماعية والنفسية، مبني على أساس الثقة، فلهذا لا قدرة لنا على التعامل مباشرة مع السنن، وإعطائها ما تستحق من العناية. (ص158، 159).