التنزيل الحكيم والناسخ والمنسوخ
يعتبر التنزيل الحكيم كتاب “المسلمين” الذي أرسله الله لهم، ولا يقبلون بالطبع ما يشكك بقدسيته، ويعادون أي طرح يضعه تحت مجهر التمحيص أو البحث، حتى أنهم لا يمسون الورق الذي طبع عليه ما لم يكونوا بكامل طهرهم، ويزينون بنسخه مكتبات بيوتهم، ويتفاخرون بتوزيعه في الأفراح والأحزان، وقد تبدو هذه الأمور كلها محمودة، علماً أن وضعه موضع التمحيص لا يقلل من شأنه بل على العكس يثبت مصداقيته، لكن كل هذا التكريم الشكلي الذي يعبر عن احترامهم لهذا الكتاب، يتناقض مع اعتمادهم قواعد وعلوم تشكل الحجر الأساس للفقه الموروث برمته، كأطروحة الناسخ والمنسوخ مثلاً، أو “علم أسباب النزول”.
فالمسلمون لا يجدون حرجاً في اعتبار أن الله تعالى قد بدل رأيه (حاشاه) وأعطاهم في كتاب واحد حكم ونقيضه، إذ يرون مثلاً أن قوله تعالى {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام 106) أو قوله {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (النساء 92) قد نسختهما الآية {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة 5)، وبالتالي بموجب فهم مغلوط وعدم تمييز بين النبأ والخبر وبين القصص القرآني التاريخي والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، حولوا رسالة الرحمة إلى رسالة قتل وذبح، والأمثلة كثيرة، ولم يجدوا حرجاً في القول أن هناك آيات برمتها قد ألغيت “نسخت لفظاً وحكماً” كآية لا وجود لها هي “والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله”، أو آية رضاعة الكبير التي أكلها الداجن ضمن ما أكل من آيات، أو “آية” الغرانيق التي وفق زعمهم هي “زيادة في سورة النجم لم يلفظها الرسول لكنها وصلت إلى مسامعهم”، وكل هذا فيه من الإساءة لكتاب الله ما لا يغتفر، إذ لا يمكن لدستور إنساني أن تقبل بوجود تناقض ضمن مواده، أو القول بحذف مواد منه وبقاء حكمها، فكيف بكتاب من الله تعالى {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت 42)؟
والأنكى من ذلك أن الفقه الموروث جعل السنة النبوية ناسخة لأحكام الكتاب فقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180) نسخه حديث “لا وصية لوارث”، واعتمدوا قاعدة أن “السنة موازية للقرآن” إن لم تطغى عليه في بعض الأحيان، على اعتبار أن الرسول {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 3 -4) فلم يفرقوا بين القول والنطق، و بين القائل والناطق، فالقائل في التنزيل الحكيم هو الله تعالى والناطق هو الرسول، وآيتا (النجم 3 – 4) خاصتان بكتاب الله حصراً، وإلا لاستطعنا القول “قال رسول الله: والضحى والليل إذا سجى”، وتحول كل ما قاله الرسول خلال حياته أمام أصحابه وزوجاته إلى وحي علينا اتباعه، فلا يمكننا هنا إلا أن نقرأ قوله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116).
وثمة سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارىء هو وماذا عن قوله تعالى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة 106)؟ نقول أن معنى الإنساء تاريخي بحت، وشريعة محمد (ص) نسخت ما جاء في شريعة موسى من أحكام، وهذا ما أعطى رسالة محمد صفات الرحمة والعالمية والخاتمية، والنسخ والإنساء في الأحكام حصراً، إذ لا يمكن أن ينسخ الله تعالى الليل والنهار في عالمنا هذا ولا الشمس والرياح والبحار والبهائم، ولا قوانين الكون كدوران الأرض والصحة والمرض والموت والولادة، والأحكام مقارنة بالشرائع السابقة إما نسأت لصالح خير منها كحد الزنا مثلاً (الجلد بدل الرجم)، ومحرمات الطعام (أصبحت أقل)، أو بقيت كما هي {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (المائدة 45) آخذة بالاعتبار التطور الحضاري للإنسانية الذي سينحو نحو أحكاماً تبتعد عن الإعدام تدريجياً، فالرسالة المحمدية حدودية بينما الشرائع السابقة لها حدية، ولا يوجد ناسخ ومنسوخ في الرسالة الواحدة، وإنما هو بين الرسالات فقط.
وثمة أمر آخر يجب علينا ملاحظته عند دراسة التنزيل الحكيم هو التمييز بين ما هو تاريخي وما هو أبدي، فالتعليمات الواردة للنبي ليطبقها في عصره في مناسبات معينة هي أنباء نأخذ منها العبر فقط، وينطبق عليها ما ينطبق على القصص القرآني كله، والتشريعات التي اجتهد فيها الرسول كمشرع أول وولي أمر وفق ظروف عصره ومقتضياته (طاعة منفصلة) تشكل أسوة لنا من حيث الاجتهاد بما يناسب عصورنا، أما الأحكام الأبدية فالله تعالى حصرها في المحرمات التي لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وتعتبر مرجعية أخلاقية لأهل الأرض حتى قيام الساعة، وهي معدودة يمكننا الالتزام بها دون أن تتحول حياتنا لمجموعة من الممنوعات والذنوب ولا تحيلنا إلى غريبي أطوار ولا إلى مجرمين يتفادى العالم شرهم.
عودوا إلى كتاب الله ولا تلصقوا به ما لا يليق.