هل من تعاطف إنساني؟

هل من تعاطف إنساني؟

يشعر المرء بالأسى لما يعانيه شعب الروهينغا في بورما، من قتل وذبح وتهجير وتشريد، على يد النظام الحاكم وبعض جماعات الرهبان البوذيين، وتتعالى الأصوات في أرجاء العالم منددة بما يعتبر جرائم ضد الإنسانية ترتكب بحق الأبرياء، لكن صدى هذه الأصوات لا يبدو أنه يجدي النفع المفترض به، ولا يتعدى أثره سوى جعجعة لا تكاد تنعكس فعلياً على الأرض، وكما حصل في سوريا فإن العالم يتحرك ببطء شديد، لا يتناسب مع ما يتغنى به من شعارات إنسانية.
والروهينغا أقلية مضطهدة، وربما الأكثر اضطهاداً في العالم، صادف أنها مسلمة، في محيط بوذي يرفضها، ويكيل لها شتى أنواع العذاب، ومحيط آخر مسلم لا يقبلها، وإن كنا لسنا بصدد تفنيد المشكلة وأسبابها وتاريخها، إلا أننا أمام مجموعة من الناس تذوق الأمرين، ونساء وأطفال يشردون ويذبحون {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج 40) ونحن كسوريين ندرك ما يعني ذلك تمام الإدراك، ونعلم أن الإنسان في هذه الحالة بحاجة لكل أنواع الدعم، وأقلها الدعم المعنوي من إخوة له في الإنسانية، يرون ما وقع عليه من ظلم، فقد أخرجوا من ديارهم وقتلوا وذبحوا وقمعت حرياتهم، وهم في معاناتهم هذه يجاهدون في سبيل الله، سبيله في تحقيق حرية الإنسان، كلمة الله التي سبقت لكل أهل الأرض، فالله خلق الإنسان حراً، وطلب منه أن يحافظ على حريته وحرية غيره، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها هي رفض الطغيان بكل أشكاله {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256) فالإيمان بالله يتلازم مع الكفر بالطغيان، والله تعالى استخلف الإنسان على الأرض لا ليفسد فيها ويسفك الدماء، بل ليعيش بسلام مع أقرانه، مسخراً كل ما فيها لخدمته، بحيث يحقق حياة مثالية للجميع على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وعقائدهم، يتدافعون بعضهم مع بعض ولكل طريقه إلى الله {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج 40) فلا يطغى عرق على آخر ولا دين على دين، أما أن يذبح الناس ويشنع بهم ويشردون فهذا يناقض كل القيم الإلهية والقيم الإنسانية، بغض النظر عن كون هؤلاء الناس مسلمون أم غيره، وبالنسبة للعالم فإن أسلمة القضية قد يضرها أكثر مما يفيدها، ولا يتم النظر إليها بحيادية، كما حصل في سوريا تماماً، علماً أن الضحية في الحالتين إنسان قبل أي تصنيف آخر، ومن حقه العيش بأمان، ومن حق هؤلاء الأطفال والنساء الأبرياء أن يجدوا المأوى اللائق دون خوف ورعب، ومن هذا المنطلق فإننا كمسلمين مؤمنين بالرسالة المحمدية يفترض بنا نصرة المستضعفين والمظلومين أينما كانوا.
وعقيدتنا تدفعنا للتعاطف مع الإنسان حتى لو بادرنا العداء {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة 28) وأسوتنا الحسنة برسولنا والعبر التي نأخذها من حروبه مع أعدائه تعلمنا الكثير من القيم العليا {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة 6) فما بالكم بأناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة.
وهنا لعل موضوع آخر يطرح نفسه، هو موقف بعض “شيوخ المسلمين” وبعض “المسلمين” من الكوارث الطبيعية التي أصابت سواحل أميركا الوسطى، وما فيه من تشفي على اعتبار أن الله قد انتقم من هؤلاء الناس “الكفار”، في أحكام مطلقة جائرة توزع هنا وهناك، قاسية لا ترحم أحداً ولا تنظر بعين الرأفة لمصائب من حولها، وكلها حقد وغل، دون منطق أو وجه حق، علماً أن أكثر المتضررين من هذه الكوارث عادة هم الفقراء الذين لا يطيقون تحمل النتائج، ولا يملكون ما يساعدهم على تخطي آثارها، وترى أحد المتشفين يعيش في أوروبا مثلاً وينعم بخيراتها، لكنه لا يخفي فرحه مما أصاب أميركا، على اعتبار أهلها أهل الفسق والفجور، ولا يتورع بالطبع عن تبرير حوادث التفجير والدهس التي ينفذها مسلمون ضد البلد التي يسكنها، متذرعاً بالسبب ذاته، ولا يسأل نفسه وأمثاله لماذا يتركون بلاد الفضيلة والتقى ويهاجرون إلى الغرب الكافر؟ وترى آخرين يدعون الله أن ينقذ المسلمين فقط ويهلك اليهود والنصارى وكأن الكارثة ستسأل سكان المناطق المتضررة عن دينهم قبل مهاجمتهم، وآخرين يجدون أن ما يحصل هو غضب من الله على بلاد الكفر، ويتناسون أن تسونامي أصاب أندونيسيا المسلمة الفقيرة منذ أعوام ودمر سواحلها وهجر الآلاف من بيوتهم، وإن كان الله تعالى قد أصاب أقوام معينة في غابر الزمان لا يعني أن كل ما يحصل سببه غضب من الله، وثمة من طرح سؤال في مكانه “إذا كان “إيرما” جند من جنود الله فهل من دمر سوريا هو جندي من جنود الله أيضاً؟ ” والله تعالى خلق الوجود ووضع قوانين الكون من حياة وموت وصحة ومرض ورياح وزلازل وأعاصير وفصول، ووضع قوانين التاريخ، وتركنا نقضي وفق معرفتنا، فيمكننا دراسة أسباب الزلازل وإنشاء مباني تقاومها، ودراسة الأمراض واكتشاف علاجات لها، لكن ثمة قوانين هنا لا يمكننا تغييرها كالموت مثلاً، ودوران الأرض، والليل والنهار، وهلاك القرى أو عذابها، فالمجتمع الأحادي ذو الطيف الواحد زائل لا محالة، بينما المجتمعات التعددية هي التي تنعم بالاستقرار والرفاه، وهذا لا يمنع تعرضها لكوارث طبيعية بين حين وآخر، فالظروف الموضوعية تفرض نفسها.
وقد لا يقتصر التشفي على المسلمين، فنحن لسنا بدعة من البشر، لكن يجدر بنا أن نتمتع بأخلاق تربأ بنا عن سلوك شائن، ولعل مساجد أميركا قدمت مثالاً يحتذى بالإنسانية عندما فتحت أبوابها للمشردين وقدمت لهم المأوى، في صورة حقيقية لبيوت الله التي تجمع عباده، بغض النظر عن دينهم ولونهم وجنسهم، ورغم كثرة المسيئين للإسلام فإن نوره لا بد أن يظهر، سيما وأنه قائم على القيم العليا {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 112) فأن تسلم وجهك لله يعني أن تؤمن بحرية الآخرين، وتدافع عنها، حتى لو كانت حريتهم تتعارض مع ما تؤمن به، وأن ترجح الرحمة في تعاملك معهم، وأن تكون “محسناً” يعني أنك ملتزم بالصراط المستقيم، فلا تسيء للناس وستجد الأجر عند الله، وكل حسنة بعشرة أمثالها {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأنعام 160) ولا يضيرك إن أساء غيرك، فكون أتباع الملل الأخرى يسيئون لك أو لغيرك لا يبرر أن تكون مسيئاً، وكون البوذيين يضطهدون مسلمين لا يعني أن كل البوذيين أشرار، وكون حكومات الغرب سعت لمصالحها في بلادك لا يعني أن شعوبها أعدائك، وليكن شعارك {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 34) فما بالك إذا لم يكن بينك وبينه عداوة، ولا تعرفه أصلاً، فلماذا تدعو عليه؟ ومن أعطاك الصلاحية لتوقع عن الله وتفصل بين من يستحق العقاب ومن لا يستحق؟ فلا تكونوا غليظي القلوب ولتكن لكم في رسول الله أسوة حسنة، ولتتعاطفوا مع ضحايا المذابح وضحايا الأعاصير من منطلق إنساني قبل أي منطلق آخر.

الرابط على موقع السوري الجديد

(2) تعليقات

اترك تعليقاً