2 – النكاح والإلقاح

يعتبر التمييز بين النكاح والإلقاح من الأهمية بمكان، لأننا انطلاقاً منه يمكن أن نعرف: الزواج – ملك اليمين – الزنا – المحارم.

النكاح هو عملية اتصال جنسي بين ذكر وأنثى بالغين جنسياً (رجل وامرأة)، بغض النظر عن كون النكاح بعقد شرعي (زواج) أو بدون عقد شرعي (فاحشة). يسبق هذه العملية ويتخللها، عرض لعواطف الود والحب المتبادلة بين طرفي النكاح. ولهذا، فهو ليس مجرد اتصال جنسي، بل هو اتصال عاطفي أيضاً. وهذا هو الشكل الكامل للنكاح.

فإذا اقتصر النكاح على الاتصال الجنسي الجسدي بموافقة الطرفين فهو فاحشة وإن كان علناً (أربعة شهداء) فهو زنا، وإذا كان مقابل مال أي بدون أي عواطف فهو بغاء، وإذا اقتصر على عواطف الود والحب دون اتصال فهو الحب العذري.

والنكاح بشكله التام حب غير عذري، أي هو حب وعواطف بين ذكر وأنثى بالغين، يبلغ ذروته بالاتصال الجنسي، وهذا من أعظم هبات رب العالمين لعباده، وهو من الطيبات.

أما الإلقاح فعملية تتم حين يقوم الحيوان المنوي المذكر الناضج بتلقيح البيضة الأنثوية الناضجة، فيتشكل الجنين نتيجة لهذا الإلقاح في رحم الأم بشكل آلي، بغض النظر عن طريقة وصول الحيوان المنوي المذكر إلى البيضة الأنثوية، أهي بالنكاح أم بدون نكاح، وبغض النظر عن كون النكاح زواجاً شرعياً أم فاحشة.

التقدم في علوم الجينات (المورثات) والجنين، والمعلومات الطبية لآلية الجنس عند الرجل والمرأة، أعطانا معارف لم تكن متوفرة من قبل عند الفقهاء تمكنا معها من الفصل بين مفهوم النكاح ومفهوم الإلقاح. فنحن نفهم اليوم كيف يمكن أن يحصل الإلقاح دون نكاح، ودون أي اتصال جنسي بين الرجل والمرأة، بل دون أن يعرف أحدهما الآخر. ونفهم أن مسألة المروءة والشهامة وصون العرض، كما هي بشكلها الشائع في المجتمعات العربية والإسلامية، مسألة تتمركز حول النكاح وليس حول الإلقاح.

ونفهم قوله تعالى حين يقول عز من قائل {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} النور 3. فهو إنما يتحدث عن جانب النكاح الجنسي كعملية اتصال جسدي، وليس عن الإلقاح. ونفهم أخيراً أن النكاح، أينما ورد في التنزيل الحكيم، فهو يرد في مقام الجنس والعلاقات الجنسية الجسدية، شرعية بعقد أم غير شرعية بفاحشة. ونستنتج من هذا كله أننا في العلاقات الجنسية أمام ثلاثة احتمالات:

  1. نكاح مع إلقاح.
  2. نكاح دون إلقاح.
  3. إلقاح دون نكاح.

ننتقل الآن لنشرح باختصار آلية الجنس والإلقاح عند الرجل والمرأة من الناحية البيولوجية، لنمضي بعدها في توضيح منعكس هذه العلاقة على الجانب الاجتماعي.

يتألف الجهاز الجنسي عند المرأة من الفرج والمهبل. بينما يتألف الجهاز التناسلي لديها من الرحم والمبيضين. والجهازان منفصلان عند المرأة فصلاً كاملاً. أي أن المرأة التي أجرت عملية جراحية، تم فيها انتزاع المبيضين والرحم بكاملهما، قادرة على الاتصال الجنسي والاستمتاع به، كما لو كانا موجودين.

إن فهمنا اليوم لانفصال الجهاز الجنسي عن الجهاز التناسلي عند المرأة جعلنا نفهم إمكانية الاحتمالات الثلاثة المذكورة أعلاه، وأصبح من الثابت لدينا وجود إلقاح بدون نكاح ونكاح بدون إلقاح، الأمر الذي لم يكن بوسع الأولين أن يفهموه، أو حتى يتصوروه. إذ لما كان الفرج والمهبل الطريق الوحيدة للرحم والمبيضين، أي أن الطريق الوحيدة للإلقاح هي النكاح، فقد كان بوسعهم أن يتصوروا نكاحاً دون إلقاح، لمعرفتهم بالعقم والعقر، أما الإلقاح دون نكاح، فكان خارج حدود تصوراتها ومعارفهم.

آلية الجنس عند المرأة، مرتبطة بجهازها الجنسي، فالشهوة الجنسية عندها مرتبطة بالفرج وبالغدة النخامية في الدماغ. أما آلية التناسل عند المرأة، فمرتبطة بجهازها التناسلي (المبيضين والبوقين والرحم)، الذي يعمل لا إرادياً بعيداً عن الوعي، حيث يقوم المبيضان بتوليد البويضات، وتستبدل قديمهما شهرياً ببويضات جديدة جاهزة للإلقاح.

هذه الحقيقة العلمية التي أصبحنا نعرفها اليوم، جعلتنا نفهم أن الاتصال الجنسي والشهوة الجنسية عند المرأة، تكمن في فرجها ودماغها (في تكوينها الجسمي كأنثى ونضوجها النفسي). ونفهم أن المرأة بالاتصال الجنسي لا تستمتع إلا إذا كانت راغبة بذلك، أي أنها لا يمكن أن تستمتع بالرجل جنسياً إلا إذا دخل في وجدانها، وأن بإمكانها ممارسة الجنس والاتصال الجسدي دون أن تستمتع به (البغاء). ونفهم أخيراً أن هذه الميزة بالخلق، هي من أكبر الأسلحة التي زود بها الخالق سبحانه المرأة، لتحصن فرجها وتحفظ عفتها.

ونستنتج من هذا كله أن الإحصان هو للفروج فقط، وأن المرأة تكون محصنة بإحدى طريقتين:

  1. الإحصان بالنكاح الشرعي، مع رجل يحصن فرجها بنكاحه لها (الاحصان الموضوعي).
  2. الاحصان بالإرادة، وهو الذي نسميه اليوم “العفة” (الاحصان الذاتي).

تعمل آلية الجنس عند الرجل بشكل أوتوماتيكي لا إرادي بين الغدة النخامية والخصيتين لتوليد الحيوانات المنوية (البذور) آلياً وتخزنها في الحويصل المنوي. فحين تمتلئ هذه الحويصلة، تتولد الحاجة إلى تفريغها، مما ينتج عنه الهيجان الجنسي والانتصاب بأمر آلي من الغدة النخامية نتيجة زيادة التروية الدموية في الجهاز التناسلي عند الرجل (عضو الذكورة).

والذكر في حالة الهيجان هذه يفقد السيطرة على نفسه، ولا يهمه إلا اللقاء مع أنثى، أي أنثى، يفرغ عندها مخزونه، أي أن الرجل يتمتع بالاتصال الجنسي مع أي أنثى أحبها أم لم يحبها حلالاً أم حراماً عن طريق البغاء أو الحب. فإذا لم يتح له ذلك، تم التفريع بطرق أخرى (الاحتلام أو الاستمناء)، ولا علاقة لإرادته الواعية بذلك. نقول هذا، ونحن نتذكر بعض ما تتناقله العجائز في مجالسهن “حين يأتي المسا .. تتساوى كل النسا” و”حين يشتعل في الرجل الجمر .. تتساوى عنده القرعاء مع أم الشعر”. بينما هذه غير موجودة عند المرأة، فعند المرأة لا تتساوى الذكور حتى لو طلبت الجنس.

من هذا كله، نصل إلى تمييز الحالات التالية عند الرجل:

  1. القدرة على النكاح والإلقاح. وهي حالة اكتمال الجهازين الجنسي والتناسلي، واكتمال عملهما بعيداً عن كل علة أو طارئ أو مرض.
  2. القدرة على النكاح دون الإلقاح. وهي حالة اكتمال الجهاز التناسلي، وإصابة الجهاز التناسلي المولد للحيوانات المنوية بمرض ما، كأن تكون الحيوانات المنوية ضعيفة غير قادرة على الإخصاب لأسباب مرضية عديدة، فالرجل هنا قادر على النكاح، عاجز عن الإلقاح والإنجاب. أو هي حالة الرجل المخصي بعد سن البلوغ والنضج الجنسي.
  3. القدرة على الإلقاح دون نكاح. وهي عكس الحالة السابقة، أي حالة اكتمال الجهاز التناسلي، وإصابة الجهاز الجنسي بمرض أو طارئ. كأن تعمل الخصيتان بشكل سليم في انتاج البذور، مع وجود ما يمنع الانتصاب في عضو الذكورة، مما ينفي القدرة على الجماع، وبالتالي وصول الحيوانات المنوية إلى حيث يجب أن تصل. وهذا حال العنين. أو مع عدم وجود عضو ذكورة على الإطلاق، وهذا حال المجبوب.
  4. العجز عن النكاح والإلقاح. وهي حالة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل.

وننتقل بعدها إلى تمييز الحالات التالية عند المرأة:

  1. القدرة على النكاح والإلقاح.
  2. القدرة على النكاح دون الإلقاح. وهي اكتمال الجهاز الجنسي (الفرج) وإصابة أحد قسمي الجهاز التناسلي، أو كليهما، بمرض أو طارئ (المبيضين والبوقين والرحم)، ونميز هنا فروعاً أربعة.

أ – إصابة المبيضين، وفقدانها القدرة على توليد البويضات التي تحتضن الحيوان المنوي المذكر، مع سلامة الرحم.

ب – إصابة الرحم، وفقدان القدرة على احتضان الجنين، مع سلامة المبيضين.

ج – إصابة الأقنية (البوقين) مع سلامة المبيضين والمرحم.

د – إصابة المبيضين والرحم معاً.

وننظر في الفروع الأربعة، فإذا كانت الإصابة قابلة للشفاء، فالمرأة عاقر. وإذا كانت غير قابلة للشفاء، فالمرأة عقيم. واقرأ معي قوله تعالى:

  • {قل رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً ..} مريم 8.
  • {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ..} الأنبياء 90.
  • {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم} الذاريات 29.
  • {قالت يا ويلتي أالد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله ..} هود 72، 73.

فزكريا يدعو ربه يطلب ولداً يرثه، لكن امرأته عاقر، أي فيها عارض من مرض أو غيره يمنعها الإنجاب، ثم نفهم أن هذا العارض قابل للشفاء بدليل قوله تعالى بعد أن يستجيب له {.. وأصلحنا له زوجه ..}.

أما امرأة إبراهيم فقد وصفت نفسها بالعجوز العقيم. ونفهم أن السن له علاقة بالعقم، ولا علاقة له بالعقر، فنحن لا نقول عجوز عاقر. ونفهم أن العقر قابل للشفاء، أما العقم بسبب السن أو غيره فليس قابلاً للشفاء، ومن هنا أتى عجب امرأة إبراهيم. فالعقم بسبب العجز والشيخوخة قانون طبيعي مبرم، وعجيب عندها أن تلد وهذا القانون قائم سار، فجاء جواب الرسل شافياً كافياً مقنعاً {أتعجبن من أمر الله}، أي تعجبين ممن خلق الزمن أن يوقفه .. وممن خلق القوانين أن يعطلها .. وممن خلق الخلق أن يعيده كما كان أول مرة؟

كانت امرأة زكريا في سن ما زالت فيه تستطيع الإنجاب، وما زال لديها دورة طمث شهرية، وأمورها طبيعية، لكنها عاقر تحتاج إلى علاج، فأصلحها له تعالى: أما امرأة إبراهيم فقد تجاوزت سن الحيض وتوليد البويضات، وأعقمت مبايضها الشيخوخة التي طالت حتى رفيقها في الإخصاب {وهذا بعلي شيخاً}، فهي عقيم لا ينفع فيها علاج ولا إصلاح، ولا بد لها من “أمر إلهي” يخرج بها من قانونية الوجود.

ونفهم أن المرأة العاقر قابلة للنكاح، لكن لديها ما يمنع الإلقاح. وأن المرأة العقيم قابلة للنكاح، غير قابلة للإلقاح البتة. ونستنتج من هذا كله أن العقر هو عدم الإنجاب المؤقت، وأن العقم هو عدم الإنجاب النهائي. وأن المرأة التي تبيض لكن رحمها لا يحمل الجنين عاقر، وأن المرأة التي لا تبيض عقيم ولو كان رحمها سليماً.

بعد هذه المقدمة في آلية الجنس والتناسل عند الرجل والمرأة، نأتي لتعريف نكاح الزواج.

النكاح عملية اتصال جنسي لها غايتان. الأولى إرواء الشهوة والتماس المتعة، والثانية المحافظة على النوع. فإذا التقى رجل وامرأة في عملية نكاح، توفرت فيها الغايتان (المتعة والإنجاب)، فهذا هو الزواج الذي يلزمه ميثاق زوجية وعقد نكاح.

وميثاق الزوجية وعقد النكاح ميثاق وعقد لهما طرفان، زوج (رجل ذكر بالغ) وزوجة (امرأة أنثى بالغة). ينظم العلاقة بين هذين الطرفين اللذين عقدا النية على العيش معاً، محققين غايتين، الإحصان بإرواء الشهوات وتشكيل أسرة بالإنجاب. فيصبح نكاحهما، أي اتصالهما الجنسي الجسدي، شرعياً. ولقد أطلق التنزيل الحكيم مصطلح “زوج” على الذكر والأنثى، وأطلق مصطلح “الأزواج” على الذكور والإناث في قوله تعالى:

  • {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ..} البقرة 35.
  • {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ..} الأعراف 189.
  • {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن ..} التحريم 5.
  • {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ..} البقرة 232.

وهذا العقد لا يصح، أي لا يسري مفعوله، إلا بحصول النكاح، ولو لم يحصل الإلقاح. ويبقى العقد سارياً طالما أن طرفيه في عافية جنسية والنكاح قائم، ولو لم يحصل إلقاح. أما إذا لم يقع نكاح مطلقاً، سقط العقد ولم يعد له أي معنى.

ينعقد ميثاق الزوجية وعقد النكاح كما قلنا، بين طرفين يرغبان بتشكيل أسرة معاً (زوجين) ثم (والدين)، وهدفه النكاح مع نية النسب والصهر. فإذا تبين بعد ذلك عدم قدرة أحد طرفي العقد، أو كليهما أحياناً، على الإلقاح والإنجاب، مع القدرة على النكاح، أتى التبني ليحل عدداً من المشاكل دفعة واحدة. فهو يحفظ روابطح الود والمحبة بين الزوجين، ويجنب الزوج تبعات الطلاق، ويحفظ الروابط متينة بين أسرتي الزوج والزوجة، التي قد تتأثر أو تنفصم بالطلاق، ويحقق للزوجين المتحابين حلم تشكيل عائلة وأسرة. ويبقى الهدف الأول للتبني (القائم على فصل النكاح عن الإلقاح)، هو إتاحة الفرصة أمام الزوجين لتشكيل عائلة وأسرة.

قلنا أن أساس العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة (الزوج والزوجة) هو:

  1. النكاح (الجنس).
  2. الود والرحمة (الحب).

فإذا اختل أحد هذين الشرطين، كان ذلك مبرراً كافياً للطلاق. ونفهم أن الطلاق مبرر في حال التوقف عن النكاح بين الزوجين لسبب طارئ قبل سن الشيخوخة (مرض / سجن / فقدان)، أو عدم وقوعه أصلاً، وأنه مبرر في حال انعدام الود والرحمة والحب بينهما، أما في حال عدم قدرة أحد الطرفين على الإنجاب، فالطلاق ليس مبرراً أبداً. وهنا قبل اللجوء إلى التبني، يتم فصل النكاح عن الإلقاح، في الحالات التالية، مع ملاحظة أننا نستخدم هنا لفظ “الزوجة” و”الزوج” وليس “المرأة” و”الرجل” لأن الحديث يجري عن زوجين يهدفان أساساً لتكوين أسرة:

1 – إذا كان المبيضان عند الزوجة قادرين معلى إنتاج البيضة، لكن رحمها غير قادر على الحمل. تؤخذ البيضة وتلقح خارج رحم الزوجة بإلقاح الزوج (طفل الأنابيب)، ثم يتم استئجار امرأة تقبل أن تحمل الجنين في رحمها. ورغم أن المرأة المستأجرة لم تتعرض لنكاح ولا لإلقاح، إلا أن التنزيل الحكيم يعتبرها أماً حاضنة للجنين، وذلك في قوله تعالى: {.. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ..} النجم 32.

وحكم الأم الحاضنة في هذه الحالة كحكم الأم المرضعة: فالمرضعة أم بحسب التنزيل الحكيم في قوله تعالى: {.. وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} النساء 23 تدخل في دائرة المحارم، لكنها لا تدخل في الإرث والبر. وتتقاضى أجراً كالمرضعة تماماً وعلى الطفل الذي حملته أن يتعرف عليها بعد أن يكبر، ليعي أنها من محارمه، وأن أولادها إخوته وأخواته، وأن إخوتها أخواله. وهذا يقتضي أن تكون الأم الحاضنة معروفة غير مجهولة، كالأم المرضعة تماماً.

وذلك ميسور محقق، باعتبارها تحتاج إلى مستشفى وإجراءات من السهل ضبطها وتسجيلها. حتى أن التعرف على الأم الحاضنة، في ضوء ما ذكرنا، أسهل كثيراً من التعرف على الأم المرضعة. فإذا توفيت الزوجة صاحبة البيضة، خلال فترة الحمل والوضع لسبب ما، واستمرت الأم الحاضنة في رعاية الوليد بعد ولادته، بحيث وعاها الطفل بعد سن الفصال كأم، صارت هي الأم ودخلت دائرة المحارم وإبداء الزينة والإرث والبر.

ونفهم من هذا كله، أن الأم الحاملة الحاضنة للجنين، يمكن أن تكون أي امرأة أخرى لا على التعيين، حتى لو كانت من أقارب الزوج (أمه أو أخته)

أو من أقارب الزوجة (أمها أو أختها)، طالما أن حمل الجنين في الرحم لم يرافقه نكاح ولا إلقاح.

فالأم: هي المرأة التي وعى الطفل أنها أمه، عندما تشكلت لديه دائرة الوعي. وهي الوارثة والمحرمة وصاحبة الحق بالبر حية وميتة، بغض النظر أخرج من رحمها وليداً أم لم يخرج، أي بغض النظر عن أنها والدته.

والأب: هو الذكر الذي وعى الطفل أنه أبوه، عندما تشكلت لديه دائرة الوعي. وهو الوارث وصاحب الحق بالبر حياً أو ميتاً، بغض النظر أكان الوليد من بذرته أم لم يكن، أي بغض النظر عن أنه والده.

فوعي الطفل هو صاحب الحق الوحيد في تحديد الأب والأم، ولم يعط سبحانه هذا الحق لأحد غير الطفل، صاحب العلاقة المباشر، لا للكبار، ولا للفقهاء، ولا حتى للرسول الأعظم نفسه (انظر قصة زيد بن حارثة).

2 – إذا كان رحم الزوجة قادراً على حمل الجنين، لكن مبيضيها لا يعملان، أو أنها تعمل وتعطي بيضات ضعيفة. في هذه الحالة يمكن الحصول على البيضة من امرأة أخرى. ولكن ليس من أية امرأة أخرى لا على التعيين.

هناك نوعان من المحارم وجدتهما في التنزيل الحكيم. الأول محارم نكاح وإلقاح، كالأم الوالدة والأم الحاضنة والأم المرضعة، أي أن كل امرأة وصفها التنزيل الحكيم بالأم، فهي محرمة نكاحاً وإلقاحاً. فالمحارم المذكورين في (النساء 23) محارم نكاح وإلقاح، ولا يجوز للزوجة أخذ بيضة منهن، تلقحها من زوجها، ثم تحمل الإلقاح في رحمها.

أي يجب أن تكون صاحبة البيضة غريبة خارج هؤلاء الأقارب. وقد عرفنا الآن، بفضل علم هندسة المورثات، الأهمية الكبرى لذلك، لما له من أثر في الجينات الوراثية وتشوه النسل. في هذه الحالة، صاحبة البيضة ليست أماً، لأنها لم تحمل ولم ترب ولم ترضع، وليس لها حرمة ولا بر ولا إرث. وسيان عرفت بعد ذلك أم لم تعرف.

3 – إذا كان رحم الزوجة عاجزاً، ومبيضاها عاجزين، بسبب المرض أو السن أو أي سبب آخر. فليس من حل لهذه الحالة إلا بالتبني (اتخاذ الولد). ولا مانع يمنع الزوجين في الحالتين الأولى والثانية من اللجوء إلى التبني، والإعراض عن استئجار الأرحام واستعارة البيضات، فهذا أمر يتبع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي يعيشها الزوجان.

أما في حالة أن الزوج (الرجل) هو السبب في عدم الإنجاب، كأن يكون قادراً على النكاح، عاجزاً عن الإلقاح، مع وجود حب وود بينه وبين زوجته، ونية صادقة لتشكيل أسرة، فلدينا الحلول التالية:

  1. التبني (اتخاذ الولد)، وقد شرحنا شروطه.
  2. أن يؤخذ حيوان منوي من ذكر مجهول غريب، يشترط فيه ألا يكون من محارم النكاح والإلقاح بالنسبة للزوجة. كأن يكون أخوها أو أبوها أو عمها، أو أي ممن ذكرت آية النساء 23.

قد يسأل سائل عن معنى قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا} النساء 22. نقول إن هذه الآية هي التي تدعونا إلى التفريق بين النكاح والإلقاح. فقد فصلها تعالى عن سياق ما بعدها من تحريم النكاح والإلقاح في آية مستقلة، ليذكر صراحة أن النساء اللواتي نكحهن الآباء، هن محارم نكاح حصراً. وتذكرنا ألفاظ خاتمة الآية بالزنا في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} الإسراء 32. ونفهم أنه تعالى يعتبر الزنا عموماً فاحشة، ويعتبر الزنا نكح الآباء من النساء فاحشة ومقتاً.

حتى أننا نستنتج من الآية، عمومية النكاح، سواء أكان شرعياً بعقد، أم زنا بدون عقد. ونفهم أن الأب الذي يزني بامرأة، يرتكب فاحشة الزنا، أما الابن الذي يزني بامرأة نكحها أبوه، نكاحاً شرعياً أم غير شرعي، فيرتكب الفاحشة الممقوتة.

لهذا، ورد التحريم مطلقاً في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم .. الآية} النساء 23، ليشمل التحريم الإلقاح مع النكاح، ولم يخص النكاح كما خصه في الآية التي سبقت.

ولا بد هنا من التنويه، بأن أي حل يتم اختياره، يحفظ للزوجين ودهما وحبهما، ويوفر لهما فرصة تشكيل أسرة، يجب أن تيم عن تراض بينهما معاً. فالتراضي أساس الإسلام. على أن يأخذا باعتبارهما، ما أمكن، الأعراف الاجتماعية والحالة الاقتصادية. ولكن إذا تبين أن الأعراف الاجتماعية تحرم ما لم يحرمه الله، فنبذها أولى، لتفادي تحطيم علاقة الود والرحمة بين زوجين، يتوقان إلى تشكيل أسرة وعائلة.

في الحالة الطبيعية، عندما يكون الزوجان قادرين على النكاح والإلقاح، يقع البعض في ترك الحبل على الغارب بالإنجاب. وهنا يجب تحديد النسل، وعقلنة الإنجاب.

ولما كانت مسؤولية الأبوين المادية والمعنوية، كبيرة جداً في تربية الأولاد، وكانت الزيادة غير المعقولة في عدد الأولاد تمنع الأبوين من استكمال العديد من الجوانب الأساسية للتربية، كالغذاء، والدواء واللباس، فإن من الطبيعي أن يتم البحث عن وسائل لتحديد النسل، التي تتلخص بموانع الحمل والإجهاض.

أما موانع الحمل، فوسيلة لا تقبل سلامتها النقاش، من حيث الحلال والحرام. فمنع الحمل بالعزل أو بطرق أخرى، أمر يخص الزوجين، فيقررانه ويختاران أفضل الحلول له، ولا داعي لسؤال أحد عن حلية ذلك أو حرمته.

وأما الإجهاض، فمسألة اجتماعية بحتة، لأن إجهاض الجنين قبل اكتمال نموه، أمر لا ينطبق عليه قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ..} وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ..} وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}. والمتأمل في الآيات، يجد الجواب واضحاً، فالولد لا يكون ولداً إلا بعد الولادة، والنفس لا تصير نفساً إلا بعد أن تتنفس. ومن هنا نرى جواز الإجهاض قبل اكتمال الجهاز العصبي لدى الجنين (الدماغ) مع مراعاة الوضع الصحي طبياً للحامل.

أما القول بأن موانع الحمل والإجهاض حرام، من باب أن الله هو الرزاق، فهذا ليس عندنا بشيء، لأنه سبحانه لم يشترط رزق عباده بعدد أولادهم. فمن يكتفي بولدين له رزق ولدين، ومن عنده عشرون فله رزق عشرين. وبمعنى آخر، إن الله تعالى لم يربط الرزق بتحديد النسل وإطلاقه، ولم يفتح باب الرزق لمن يفتح باب الإنجاب على مصراعيه، ولم يغلقه في وجه من يرغب تحديد النسل والإنجاب.

فقوانين الرزق الصارمة التي أقام نواميسها الخالق الأعظم، تربط الرزق بالعمل والانتاج والكفاءة، ورسوله الكريم يأمرنا انطلاقاً من هذه القوانين بأن نعقل ثم نتوكل، وتحديد النسل كما نراه ليس إلا “عقلنة للإنجاب”.

ننتقل بعد هذا إلى قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لها جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} الإسراء 23، 24. ونقف بالتحديد عند قوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما}.

يذهب البعض في فهم هذه العبارة من الآية، إلى أن الإنسان مأمور ببر والديه معاً إن بلغا عنده الكبر، وببر أحدهما إن كان الآخر متوفى. وهذا عندنا ليس بشيء، لأن الإنسان مأمور ببر والديه وأبويه أمواتاً وأحياء. والدعاء لهما بالمغفرة والرحمة خمس مرات يومياً في كل قعود أخير من كل صلاة، خير دليل على هذا البر، في الحياة وبعد الممات، كما أن في صلة الرحم وجهاً واضحاً من وجوه بر الوالدين والأبوين بعد وفاتهما.

نحن نرى في العبارة إشارة إلى احتمال وجود أب فقط دون أم، أو إلى وجود أم فقط دون أب، وهذا ليس مستحيلاً في الواقع. ونرى أن هاتين الحالتين لا تظهران إلا مع التبني.

1 – حالة الأب (الوالد) فقط. وهذه حالة رجل لديه تمنعه من النكاح (العنين والمجبوب) وتمنعه من الإلقاح (المخصي). ولقد عرف الطب أشكالاً عديدة، منها الخصية المهاجرة، وضمور عضو الذكورة داخل أربطة البطن. حيث يتم اللجوء إلى العمل الجراحي لتحريرها، وليستعيد بعدها الإنسان قدرته على النكاح والإلقاح.

فلنتصور رجلاً من هذا النوع يتوق إلى تشكيل أسرة (دون زواج طبعاً لأنه لا يستطيعه)، قام بتبني لقيط دون الثانية من عمره. ثم كبر الوليد ودخل الرجل في دائرة وعيه كأب. في هذه الحالة يدخل الأب دائرة المحارم والإرث والبر، ويصبح له حكم الوالد الذي تنص عليه آية الإسراء 23.

وهذا يختلف تمام الاختلاف عن الوليد الذي كبر، وفي دائرة وعيه والد متوفى، فهذا لا يتبنى.

2 – حالة الأم (الوالدة) فقط. وهذه حالة امرأة عانس لم تتزوج، أو أرملة أو مطلقة لم تنجب أولاداً، ثم بلغت سن اليأس، وفاتها الحيض نهائياً وهي بدون ولد. بمعنى آخر، هذه حالة امرأة وحيدة قادرة على النكاح وغير قادرة على الإلقاح.

فلنتصور امرأة من هذا النوع، قررت أن تشكل أسرة دون زواج، فقامت بتبني لقيط دون الثانية من العمر، وتكفلت بتربيته وتنشئته. ثم كبر الوليد ودخلت المرأة في دائرة وعيه كأم. في هذه الحالة تدخل دائرة محارم الوليد وإرثه وبره، وتصبح مشمولة بقوله تعالى في الإسراء 23، 24.

3 – أما المرأة غير القادرة على النكاح، فقد أفرد لها سبحانه آية خاصة بها في قوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ..} النور 60.

هذه الحالة هي حالة المرأة غير القادرة على النكاح، ولا علاقة أبداً للسن بالقدرة على النكاح. فانقطاع الحيض بداعي السن له علاقة بالإلقاح، لكنه لا يمنع النكاح. فقد يمنع النكاح شلل نصفي مثلاً، عند شابة لم تبلغ سن اليأس. فهذه من اللاتي لا يرجون نكاحاً، ليس لأنها لا تريد، بل لأنها لا تستطيع. ولها إن كانت قدراتها المالية تساعدها، أن تتبنى طفلاً دون الثانية من العمر، تدخل دائرته ويدخل دائرتها في الإرث والحرمة والبر.

وهكذا نرى كيف أعطى الله سبحانه كل المجالات والإمكانيات للإنسان الراغب في تربية الأولاد، والتواق إلى تشكيل أسرة، أن يحقق رغباته بالتبني. وكيف أنه سبحانه لم يمنع أحداً أو يفرض على أحد أن يعيش وحيداً محروماً من الأبوة والأمومة، فتبارك الله رب العالمين.

إن من المنطقي بعد استكملت بحث الإلقاح دون نكاح، أن ننتقل إلى الشق الآخر المقابل، وهو جانب النكاح دون إلقاح. غير أننا نتوقف لنلقي الضوء على مفهوم الأخ والأخت والابن والابنة والأبناء والبنين والبنات في التنزيل الحكيم.

3 – الأخ والأخت

الأخ: الواو والخاء والحرف المعتل، كلمة تدل على سير وقصد. وهذا وخي فلان، أي سمته (ابن فارس ج6، ص95). ونمسك بهذا الخيط لنصل إلى أن التوخي هو البحث والالتزام بالحقيقة في الأمور والظواهر، أي هو القصد الواعي. ونرى أن الأخ والأخت لا يخرجان عن هذا المعنى. فقد ورد مفهوم الأخوة في التنزيل الحكيم بمعناه الواسع العام بقوله تعالى:

  • {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ..} الحجرات 10.
  • {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ..} الإسراء 27.
  • {.. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ..} الحجرات 12.
  • {.. فأصبحتم بنعمته إخواناً ..} آل عمران 103.
  • {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين} الحجر 47.

ونلاحظ في هذه الآيات أن مفهوم الإخوة والإخوان لا يعني أبداً جمع الأخ المحرم أو الأخ الذي يرث، أي أنه لم يرد بالمعنى الأسروي للأخ والأخت، إنما بمعنى أن الإخوة يتوخى بعضهم بعضاً في الحسن كقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} أو في القبيح كقوله تعالى: {إخوان الشياطين}.

كما وردت كلمة أخ في التنزيل الحكيم بمعنى التوخي والقصد في الهوى والإيمان بقوله تعالى:

  • {وعاد وفرعون وإخوان لوط} ق 13.
  • {.. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ..} الحشر 10.
  • {.. وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ..} الأعراف 65.

وكذلك وردت كلمة الإخوان بمعنى القصد في التربية دون التبني، في قوله تعالى: {.. فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين..} الأحزاب 5. وأشار التنزيل الحكيم إلى الأيتام فوصفهم بالإخوان في قوله تعالى: {.. ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم..} البقرة 220. وانظر في قوله تعالى عن القصاص في القتلى: {.. فمن معفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ..} البقرة 178.

ونخلص إلى وجوب التمييز بين الأخ بمعناها الواسع العام، وبين الأخ بمعناها الضيق الذي يقتصر على أخوة النسب وأخوة الولادة. حيث نجد الكلمة بمعناها المحدود الثاني في قوله تعالى:

  • {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ..} يوسف 77.
  • {قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ..} يوسف 5.
  • {واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي} طه 29، 30.
  • {.. وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني ..} الأعراف 150.
  • {.. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ..} النساء 176.
  • {.. وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ..} النساء 176.
  • {لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ..} الأحزاب 55.

والأخت في التنزيل كالأخ والإخوان، وردت بمعنى الأخت في النسب، كما في قوله تعالى:

  • {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ..} طه 40.
  • {.. وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ..} النساء 12.

ووردت بمعنى الأخت في العقيدة والسلوك بقوله تعالى:

  • {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها ..} الزخرف 48.

كما وردت بمعنى الكبر والحجم والمدلول بقوله تعالى:

  • {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ..} الزخرف 48.

ونلاحظ أن الأخ والأخت والإخوة والأخوات والإخوان، في آيات محارم النكاح ومحارم إبداء الزينة والإرث، تعني كلها النسب.

  • {يوم يفر المرء من أخيه} عبس 34.

فقد يظن البعض أن الأخ والأخت مقتصران على النسب، فيسأل: كيف يفر المرء من أخيه، إن كان وحيداً، أو لم يكن له أخ؟

وهذا صحيح، لو سحب معنى الإخوة في آيات محارم النكاح والزينة والإرث على جميع آيات التنزيل الحكيم التي تضمنت هذه الكلمة، وقصره على أخوة النسب. ولكننا لا نجد أي إشكال بعد أن فصّلنا آنفاً كيف استعمل التنزيل مصطلح الأخ والأخت والإخوة في غير معنى النسب. فالمرء قد يعيش وحيداً لوالديه دون أخ أو أخت، لكنه لا يمكن أن يعيش وحيداً دون إخوة وأخوات بالمعنى الواسع العام.

ولقد وقع أحد المستشرقين الألمان، في وهم الخلط بين الأخ والأخت بالنسب، والأخ والأخت في الدين والسلوك والقصد، حين قرأ قوله تعالى:

  • {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} مريم 28.

فأعلن أن القرآن لا يوجد فيه دقة تاريخية. فهارون أخو موسى من أمه، والمسافة الزمنية بينهما وبين مريم تبلغ حوالي ألف عام، وعليه فإن القرآن أخطأ في النسب (ينطلق المستشرق طبعاً من أن القرآن من تأليف محمد). ونقول نحن لهذا المستشرق:

إن اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية تسمي رجل الدين أباً، وتسمي الراهبة أختاً، فهل يفهم مستشرقنا من هذا أن راعي الكنيسة نكح أمهات الناس، فولدن له الناس وصار أباهم، وهل يفهم من هذا أن الراهبة قد ولدتها أمه فأصبحت أخته؟

لقد أوضحنا في صفحاتنا السابقة أن الوالد شيء، والأب شيء آخر، وأن الأخ والأخت في النسب شيء، وفي العقيدة والسلوك والقصد شيء آخر، فإن اعتقد مستشرقنا أن هذا هذا، فذلك شأنه.

ولكن، إن كانت مريم في التنزيل الحكيم ليست أخت هارون بالنسب، فأخته بماذا؟ قد يقول قائل: أخت بالإنسانية، أو أخته بالإيمان بالله. نقول: فلماذا هارون بالذات؟ لماذا لم يقل يا أخت موسى، وهو الأدق الأقرب إلى معارف الناس؟

إن تحديد هارون بالذات، يدلنا على أن ثمة “توخياً” في هارون، وتماثلاً في السلوك والقصد يجمع بينه وبين مريم .. فما هو؟

إذا عدنا إلى التنزيل الحكيم، ودأب منهجنا دائماً العودة إليه دون غيره، نجده يرصد خبر موسى، بدءاً من الولادة، في قوله تعالى:

  • {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ..} القصص 7. ثم يتبعه في نشأته:
  • {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً ..} القصص 14.

ثم يروي خبر قتله رجلاً ممن عدوه، وتوجهه إلى مدين هارباً، وزواجه ثم سيره بأهله بعد انقضاء الأجل، ورؤيته للنار، ونزول الرسالة عليه، وتكليم ربه له.

لكننا نجد التنزيل يقدم هارون كأخ لموسى من أمه، بعد نزول الرسالة إلى موسى، أما قبل ذلك فلا ذكر له، كما نفهم من قوله تعالى:

  • – ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون ..} يونس 75.
  • {وأوحينا إلى موسى وأخيه ..} يونس 87.
  • {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} مريم 53.
  • {واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي} طه 29، 30.

ونجد التنزيل الحكيم يذكر أم موسى، لكنه لا يذكر مطلقاً أباه، أو والده، كما يذكر أن له أختاً، وذلك في قوله تعالى:

  • {وقالت لأخته قصية فبصرت به عن جنب ..} القصص 11.

ونمضي مع التنزيل الحكيم، لنجد أن موسى وهارون ولدا في وقت كان فيه آل فرعون يستحيون نساء بني إسرائيل ويقتلون أبناءهم. وهذا سبب خوف أم موسى على وليدها. ونفهم أن سبب عدم خوف أم موسى على ابنتها، نابع من أن التقتيل كان يطال أبناء بني إسرائيل وليس بناتهم. لكننا لا نفهم أبداً سبب عدم خوف أم موسى على ابنها الثاني هارون!!

هنا ننتبه إلى أن التنزيل الحكيم ذكر صراحة أن هارون هو أخو موسى من أمه. وهذا يوضح لنا الأساس عند اليهود في اعتبار النسب للأم وليس للأب.

وحين ننطلق في إثبات من رحم الأم وليس من صلب الوالد، يتساوى لدينا الابن الشرعي والابن غير الشرعي طالما الأم واحدة، ويتساوى لدينا وليد الزواج ووليد الزنا. وكان هذا أمراً وارداً عند بني إسرائيل قبل موسى. فالزنا ونكاح المحارم جرى حظره ومنعه أول مرة في رسالة موسى، وكان متروكاً للأعراف. إضافة إلى أن النسب للأب تقدم في سلم الحضارة، فاليتيم هو فاقد الأب في المجتمع المتحضر، وهو فاقد الأم في المجتمعات البهيمية أو المتخلفة حضارياً.

من هنا نستنتج أن أم موسى تعرضت لاستحياء واحد من آل فرعون، وجاء هارون نتيجة لهذا الاستحياء (1). أما موسى فهو ابن أمه من واحد من بني إسرائيل.

وهذا يفسر لنا سبب خوفها على موسى وعدم خوفها على هارون. ويفسر لنا خوفها من قومها وهجرها لهم. وقدومها على آل فرعون مطمئنة على وليدها هارون.

هذا ما حصل تماماً مع مريم وابنها عيسى المسيح. يوم جاءت قومها تحمله. فالقوم يعلمون أنها نقية عذراء لم تتزوج، وكان أول ما خطر ببالهم، أنهم تذكروا ظهور أم موسى وهي تحمل هارون. وهذا سبب وصفهم لها بأخت هارون.

قد يقول قائل: لو أن الأمر هكذا، لكان الأجدر بهم توجيه الخطاب والصفة إلى عيسى المسيح، فهو أخو هارون من هذه الزاوية. نقول: وهل كان قوم مريم يعلمون سلفاً أن المسيح يتكلم في المهد، وأنه سيجيبهم عن سؤالهم المستنكر، إلا بعد أن أشارت إليه، وقال إني عبد الله؟

وهذا يفسر لنا قولهم لها {ما كان أبوك امرأ سوء} أي ما كان مغتصباً يستحيي النساء كما استحيا أم هارون. وقولهم {وما كانت أمك بغيا}. أي أنهم يعتقدون أن عملية بغاء قد حصلت، ولد نتيجتها عيسى.

وهذا يفسر أيضاً سبب رغبة موسى، في أن يشد الله أزره بأخيه هارون، لما له من مركز عند آل فرعون ودالة عليهم باعتباره منهم. كما يفسر لنا سبب استهداف فرعون لموسى وحده باللوم دون هارون، علماً أننا نتصور أن المتكلم الداعي في مجالس فرعون هو هارون وليس موسى، لقوله تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي رداءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون} القصص 34. ثم لقوله تعالى: {قال قد أوتيت سؤالك يا موسى} طه 36.

لقد أثبت التنزيل الحكيم براءة أنبياء وغير أنبياء، ممن اصطفى من عباده نذكر منهم يوسف ومريم وعائشة، من الفاحشة التي اتهمهم بها أقوامهم. لكننا نلاحظ أن براءة يوسف ومريم كانت براءة رحمانية مادية دامغة، بينما كانت براءة عائشة إلهية نزلت وحياً وإخباراً من السماء. فما هي البراءة الرحمانية وما هي البراءة الإلهية؟

ونستعين بالله، ونقرأ قوله تعالى:

  • {فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا} مريم 22.
  • {فاجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} مريم 23.
  • {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} مريم 24.
  • {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا} مريم 25.
  • {فكلي واشربي وقري عيناً، فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا} مريم 26.
  • {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا} مريم 27.
  • {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} مريم 28.
  • {فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} مريم 29.
  • {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} مريم 30.

وكنا قد قرأنا قبلها في خبر يوسف قوله تعالى:

  • {قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدَّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} يوسف ب26.
  • {وإن كان قميصه قدَّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} يوسف 28.

ونفهم أن القميص المقدود من دبر، هو الدليل المادي الرحماني على براءة يوسف، فلننظر في براءة مريم بدليلها المادي الرحماني.

نحن مع سورة مريم في الآيات السالفة أمام خبر تفصيلي كامل يمضي بنا خطوة خطوة مع مريم. في حملها .. ثم ابتعادها عن أعين الناس حين شعرت ببوادر المخاض .. ثم لجوئها إلى نخلة تمسك بها تعينها على آلام المخاض. . ثم وضعها .. ونداء وليدها من تحتها .. يطمئنها أن ربها قد قطع عنها ما يسيل من دماء وسوائل عقب الولادة .. وينصحها بهز النخلة لتأكل وترتاح وتشرب وتقر عيناً .. ثم يأمرها بألا تكلم أحداً من الناس نذراً للرحمن .. ثم قدومها على قومها تحمله .. وتأنيب قومها لها واتهامها بالسوء والبغاء.. وإشرتها إلى وليدها .. وغضب القوم من استغفالها لهم .. ثم كلام المسيح معهم مبرئاً أمه مريم.

هنا مع نذر الصوم للرحمن بعدم الكلام مع أحد، نتذكر قوله تعالى:

  • {.. وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} طه 108.
  • {يوميئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} طه 109.
  • {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفاً، لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} النبأ 37، 38.

ونقف عند الملاحظة التالية:

إني نذرت للرحمن صوماً ← فلن أكلم اليوم انسيا

وخضعت الأصوات للرحمن ← فلا تسمع إلا همسا

رب السموات والأرض والرحمن ← لا يملكون منه خطابا

لقد حصلت البراءة المادية الرحمانية، حين أنطق الرحمن الوليد المسيح عيسى، ليبرئ أمه مريم قائلاً لقومها إنه عبد الله ونبيه. وهذا هو البرهان الدامغ بالفعل لا بالقول الذي نسميه برهان (الشهيد دون الشاهد)، وهو برهان ما زال موجوداً حتى يومنا ذا. فإذا ما صمم مهندس جسراً مثلاً، وكان تصميمه خاطئاً، لكنه أصر عليه ونفذه، فانهيار الجسر هو البرهان الرحماني على خطأ التنفيذ، دون أن يفتح أحد فمنه بكلمة. ومع مجرد انهيار الجسر تسقط كل دعاوى وبراهين صحة التصميم، وقس هذا على كل مجالات الحياة. فالنجاح الفعلي لأي نظرية أو فكرة أو الفشل الفعلي لها، هو البرهان الرحماني على صحة النظرية أو على خطئها.

من هنا نفهم أن المخبر في العلوم الكونية (الآفاق) وفي النفس الحية (الأنفس)، هو الحياة الإنسانية ذاتها، وأنها الحقل الوحيد الذي يتم فيه البرهان على صحة الصح وخطأ الخطأ. ولقد أعطانا سبحانه هذه القاعدة لأن الوحي انقطع، وبقي الوجه الثاني الذي لا يكلم أحداً بالقول أو بالاخبار بل بالفعل المغني عن ك كلام. لهذا فإن الإتجاه الرحماني في العلوم هو التجربة والممارسة على حقل الواقع، للتمييز بين الخطأ والصواب، والحق وبالباطل. وهذه الممارسة على حقل الواقع، هي التي تكسب الإنسان الخبرة إلى جانب العلم وتجعل منه شهيداً يستغني عن الوحي.

وقفة صغيرة لا بد منها نقفها عند قوله تعالى: {فناداها من تحتها} وقوله تعالى: {فأشارت إليه}. فقد ذهب السيوطي وآخرون إلى أن فاعل ناداها، هو جبريل، ونحن نرى أنه المسيح عيسى نفسه، بل لا يمكن أن يكون إلا المسيح نفسه !!

ونعود إلى الآيات مرة أخرى، نأخذ بيدنا خطوة خطوة مع مريم، وقد أتت قومها تحمل وليدها، فينهالون عليها تقريعاً هو أقرب للسباب، خاتمين شتائمهم بأنهم لا يرون فيها إلا عاهرة تذكرهم بأخت هارون .. وتفهم مريم، كما نفهم نحن، أنه الحكم بالموت رجماً بالحجارة، لكنها لا تفعل أكثر من أن تشير إليه .. بكل ثقة وثبات أشارت إليه .. فمن أين جاءتا هذه الثقة وهذا الثبات؟

قد يقول قائل: بأنها ثقة الإيمان بالله وثبات التصديق النابع من صوت جبريل وهو يناديها من تحتها. نقول: أليس عجيباً أن يناديها جبريل ثم تشير هي لابنها ثم ما الذي يجعلها واثقة من أن الوليد سيتكلم حين تشير إليه، لو لم يكن قد تكلم قبلها وهو تحتها؟ وأخيراً .. لقد كان إبراهيم الخلي مؤمناً واثقاً بربه ثابت التصديق به، ومع ذلك طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى، دون أن ينقص ذلك من إيمانه شيئاً. فالإيمان والتصديق شيء، والبرهان الرحماني المادي الدامغ شيء آخر، وخاصة في موقف دقيق خطير، يواجه في المرء حكماً بالموت.

لقد أذن الرحمن للوليد فنادى أمه من تحتها، يخبرها بثلاثة أمور ظاهرة، ورابع مضمر:

1 – أن الله حفظ لها صحتها بعد الولادة.

2 – أن تهز النخلة لتأكل وتشرب وترتاح.

3 – أن تمتنع عن الكلام صوماً للرحمن إن خاطبها أحد.

أما المضمر الرابع بهو:

4 – أن تترك أمر الإجابة والكلام.

وفهمت مريم المراد المقصود، فأشارت إليه حين كلمها قومها !! وهنا نفهم نحن، لماذا لم يجرؤ أحد من القوم على تنفيذ حكم الإعدام رجماً بالحجارة بالزانية المزعومة، لا بل على مجرد المطالبة به.

وننتقل إلى تفصيل البراءة الإلهية عند عائشة. فقد برأها سبحانه وحياً بالقول عن طريق الإخبار، وهذه براءة الشاهد. بينما براءة مريم ويوسف بالفعل، وهذه براءة الشهيد، براءة الفعل المادي الرحماني الدامغ الملموس المتمثل في قميص يوسف المقدود، وفي وليد مريم المتكلم بالمهد. ولو أراد الله أن يبرئ عائشة براءة رحمانية لفعل، فأنطق فرجها أو ثوبها مثلاً، لكنه سبحانه أرادها براءة إلهية يعلمنا بها ألا نطلق الأحكام إلا بوجود أربعة شهداء.

فاتهام المحصنات العفيفات موجود في كل زمان ومكان، فلو ربط سبحانه برهان البراءة بالدليل الرحماني، لاقتضى ذلك أن تنطق الفروج والثياب وأن تتكلم الأجنة فور ولادتها، وهذا مما اختص تعالى به الصفوة من عباده. لهذا فثبوت هذه التهمة انحصر بأربعة شهداء، ولا حاجة بعد مريم لأن ينطق الفرج أو يتكلم الوليد في المهد.

إن من المهم جداً أن نميز البراءة الرحمانية عند مريم ويوسف والنبراءة الإلهية عند عائشة. لما فيهما من إشارة واضحة إلى الشهيد والشاهد. فقد جاءت البراءة الرحمانية لمريم ويوسف، وهي براءة شهيد، والشهيد فيهما هو القميص عند يوسف، والوليد المتكلم عند مريم. ثم جاءت البراءة الإلهية لعائشة، وهي براءة شاهد، والشاهد فيها هو الوحي. وهذا يعطينا قاعدة هامة جداً، هي أن الشهيد هو الذي يجعل الناس بعده شاهدين.

إذ يكفي أن يصعد أحدنا إلى الفضاء، ثم يرى حضورياً بأم عينه أن الأرض كروية، ويصورها، ثم يعود إلينا ليجعل منا شاهدين على كروية الأرض، انطلاقاً من شهيديته الحضورية. وهذا يقودنا بدوره إلى أمر هام، هو أننا يجب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن نتبادل المعارف والخبرات مع الأمم والشعوب الأخرى، وأن نفهم أنه لا داعي لاختراع السيارة والطائرة من جديد، ولا مبرر لرفض نظرية كروية الأرض، لمجرد أننا نشهد كرويتها حضورياً. وهذا ينطبق على العلوم الإنسانية، انطباقه على العلوم الكونية، فعلينا أن ندرس التاريخ وأحداثه، كشاهدين وليس كشهداء، وإلا اقتضى أن نعيشه مرة أخرى.

4 – الزواج وملك اليمين

لقد عرفنا النكاح بأنه عملية جنسية بين ذكر وأنثى. وعندما يكون الهدف من النكاح تشكيل أسرة إضافية إلى إرواء الشهوة، يصبح النكاح زواجاً وينظم به عقد يسبغ على هذه الممارسة الشكل العلني المشروع. ويسمى كل طرف من أطراف العقد زوجاً. فالأنثى زوجة من الناحية الاجتماعية إضافة إلى الناحية الطبيعية، والذكر زوج من الناحية الاجتماعية إضافة إلى الناحية الطبيعية. والعلاقة بينهما في هذه الحالة علاقة نكاح واجتماع، أي علاقة بيولوجية واجتماعية. ولكل منهما على الآخر حقوق، وإذا ما رغب أحدهما بالافتراق عن الآخر، كان ذلك هو الطلاق.

وإذا مارس أحدهما الجنس مع شخص آخر غير زوجه في عقد النكاح، سمي ذلك بالخيانة الزوجية (الإشراك)، والحق بالطلاق، أو عقدة النكاح كما يسميها التنزيل الحكيم، أو العصمة كما نسميها اليوم، يمكن أن تكون بيد الرجل أو بيد المرأة، أو بيديهما معاً، وتحديد ذلك يتبع الأعراف الاجتماعية، ولا علاقة له بالحلال والحرام.

أم ملك اليمين، فهو من الناحية التاريخية العبد والأمة. أي الرق الذي كان طبيعياً في عصور سادت فيها الحروب، ولم تكن ثمة اتفاقيات تنظم معاملة أسرى الحرب. وكان الشائع أن الشعوب المهزومة تدخل في العبودية برجالها ونسائها وأطفالها. وكان السبب الاقتصادي أساس هذه العملية، لتأمين يد عاملة رخيصة (مجانية)، كما كان الرق في ذلك الوقت أساس علاقات الانتاج.

وكان لا بد أن تعكس الناحية الاجتماعية الفروق بين العبد المملوك(2) والحر، وبين الأمة المملوكة والحرة، فكان اللباس من أبرز جوانب الناحية الاجتماعية التي انعكست عليها الفروقات. فعورة الأمة من السرة إلى الركبة، كالرجل تماماً، بينما عورة الحرة تشمل كل جسدها عدا الوجه والكفين. وهذا يبين لنا أن مفهوم الحجاب الشرعي الذي يطرح الآن، مفهوم اجتماعي في اللباس. كان سائداً عند العرب للتفريق بين الأمة والحرة.

ومن هذا مفهوم أن الأمة المملوكة تباع وتشترى، وتنكح بدون عقد، وعليه فليس مهماً أن يرى الناس ثدييها ورأسها (Topless). ولهذا جاء مفهوم اللباس الخارجي للمرأة الحرة في التنزيل الحكيم بشكل تعليمات وليس بشكل تشريعات، في قوله تعالى:

  • {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما} الأحزاب 59.

لقد شرحت هذه الآية في بحث المرأة من “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة”، وقلت إنه لباس خارجي حسب الأعراف، لكي لا تؤذى المرأة. وأضيف هنا أن هذه الآية تعليمية، ورد فيها تحديد لباس الحرة مرحلياً زمن النبي، بدليل قوله تعالى: {قل لأزواجك}. أي أن ملك اليمين لا علاقة له بهذه الآية. ولما كان مفهوم ملك اليمين وقتها يقتصر على الأمة المملوكة، فقد تم تمييز الحرة عنها في اللباس. ولكن بما أنه لا يوجد الآن أمة مملوكة، تبقى هذه الآية تعليمية لا تشريعية.

أي تلبس المرأة لباساً خارجياً حسب الأعراف الاجتماعية السائدة، بحيث لا تعرض نفسها للأذى الاجتماعي، شريطة عدم ظهور الجيوب. لنؤكد مرة أخرى أن ما يطلق عليه اسم الحجاب الشرعي اليوم، هو لباس الحرة في القرن السابع الميلادي، وهو لباس اجتماعي بحت له علاقة بالأعراف، أي لباس عروبي، المرأة العربية الحرة (لباس المرأة البدوية الآن).

هل يوجد الآن مفهوم معاصر لملك اليمين، استناداً لقراءة معاصرة لآيات ملك اليمين، آخذين بعين الاعتبار أنه لا يوجد الآن عبودية، ولا يوجد عبد ولا أمة للبيع والشراء؟

لنأخذ قوله تعالى في سورة المؤمنون. فقد بدأ بقوله: {قد أفلح المؤمنون} والمؤمنون هنا تشمل الذكور والإناث، ثم تابع بقوله: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} والصلاة هنا بالألف وليس بالواو، أي هي الصلة وليس بالركوع والسجود، ولهذا فالكلام هنا ليس عن أتباع محمد (ص) بل عن جميع المؤمنين بالله واليوم الآخر، إلى أن يصل سبحانه ليقول {والذين هم لفروجهم حافظون}. وهذه حالة عامة تؤكد ما ذهبنا إليه، لأن الفواحش من محرمات الإسلام(3).

ثم يتابع سبحانه بقوله: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وبقوله: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}

إن ما يهم بحثنا هذا في الزواج وملك اليمين، في ضوء الآيات السالفة، أمور ثلاثة:

  1. حفظ المؤمنين لفروجهم.
  2. استثناء الزوج وملك اليمين من هذا الحفظ.
  3. اعتبار أن المتجاوز لهذه الحدود معتدياً على حرمات الله.

لكن ثمة أمرين، علينا أن نضعهما بالاعتبار، ونحن نحاول فهم الآيات السالفة، هما:

  1. المؤمنون هم المؤمنون بالله واليوم الآخر عموماً، وليس أتباع محمد (ص) حصراً.
  2. المؤمنون تشمل الذكور والإناث.

فإذا لم نعتبر الأمر الأول، لم يعد ثمة معنى لقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ..} التحريم 11.

وإذا لم نعتبر الثاني، أخرجنا نصف البشر على الأقل من دائرة الفلاح كإناث. وتعارض ذلك مع اصطفائه سبحانه لمريم بفضل إحصانها لفرجها.

إن حفظ الفروج عند المؤمنين والمؤمنات بالله واليوم الآخر، باب من أبواب الفلاح. مثله في ذلك مثل التواضع والسماحة في الصلات، والإعراض عن اللغو، وأداء الزكاة، ورعاية الأمانات والعهود، والدوام على إقامة الصلوات. ولقد ورد الأمر به في أكثر من آية من آيات التنزيل الحكيم:

  • {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظون فروجهم ..} النور 30.
  • {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ..} النور 31.
  • {.. والحافظين فروجهم والحافظات ..} الأحزاب 35.

لكن أبرز هذه الآيات وأقربها شبهاً بما ورد في سورة المؤمنون، هو في سورة المعارج (الآيات 23 – 34).

  • {والذين هم لفروجهم حافظون} المعارج 29.

وإذا كان الحفظ في الآيات عاماً شاملاً، وكانت الفروج تشمل العين والأذن واللسان والفرج، فإن الاحصان حفظ من نوع خاص أقوى، يختص بالفرج عيناً دون سائر الفروج الأخرى. فنحن نجد أن اللسان العربي لحظ ذلك فقالوا: الحاء والصاد والنون أصل واحد منقاس. وهو الحفظ والحياطة والحرز. فالحصن معروف والجمع حصون. والحاضن والحصان المرأة المتعففة الحاصنة فروجها. والفعل من هذا حصن. قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهي محصنة ومحصنة وكل امرأة متزوجة فهي محصنة لا غير. ويقال لكل ممنوع محصن. (ابن فارس ج2، ص69).

فالاحصان إذن نوعان: إحصان بالنكاح، وإحصان بالعفة. ولقد سبق لنا الحديث عن الإحصان بنكاح الزواج. فقلنا إن الزوج محصن لفرج زوجه طالما دام بينهما النكاح.

ولكن هل هناك نكاح آخر، غير نكاح الزواج، يحصن الفرج، تماماً كما يحصنه نكاح الزواج. بمعنى آخر هل هناك إحصان ثالث للفرج، غير الإحصان بالزواج والإحصان بالعفة اللذين أشرنا إليهما ونقول: نعم .. إنه ملك اليمين.

من هنا، فإن القول بأن نكاح الزواج حصراً هو الحلال، وكل ما عداه حرام وزنا، قول خاطئ، فهناك نكاح ملك اليمين. وهذا ما أشارت إليه آيات سورة المؤمنون وآيات سورة المعارج، وآيات عديدة أخرى من التنزيل الحكيم، حين أخرجت الأزواج وملك اليمين من دائرة حفظ الفرج، واقرأ معي قوله تعالى:

  • {.. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم ..} النساء 3.
  • {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم ..} النساء 24.
  • {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} المؤمنون 6 المعارج 30.
  • {.. أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ..} النور 31.
  • {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم..} الأحزاب 50.
  • {.. ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك ..} الأحزاب 52.
  • {.. ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك ..} الأحزاب 52.
  • {.. ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن ..} الأحزاب 55.

فلقد أخرجت الآية الأولى ملك اليمين من دائرة العدل. وأخرجته الآية الثانية من دائرة محارم النكاح. وأخرجته الثالثة من دائرة حفظ الفروج واللوم. والرابعة من دائرة محارم إبداء الزينة (الحجاب). والخامسة أخرجته من الحرج وسوت بينه وبين الزوج. والسادسة أخرجته من دائرة التحريم. والسابعة من الجناح.

إن من الأهمية بمكان، حين نتحدث عن الإحصان، أن نميز ما إذا كان إحصاناً ذاتياً بالعفة، وهو ما ينطبق على مريم بنت عمران، أم إحصاناً يستمد من الغير بالنكاح، سواء فيه نكاح الزوج الذي ينطبق على قوله تعالى: {إلا على أزواجهم} أو نكاح ملك اليمين الذي ينطبق على قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم}.

فحين نقرأ قوله تعالى:

  • {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ..} النساء 24.
  • {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ..} النساء 25.
  • {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ..} النور 4.
  • {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} النور 23.

علينا أن نميز بين الإحصان بالزواج في الآية الأولى، والإحصان المطلق بأشكاله الثلاثة في باقي الآيات أعلاه.

فالمحصنات من النساء في الآية 24 من سورة النساء، داخلات في دائرة التحريم التي بدأها سبحانه في الآية 23 بقوله: {حرمت عليكم}. ونفهم أن نكاحهن بدون عقد لأنه زنا. كما نفهم إن الإحصان هنا إحصان خاص بالزواج، فإذا فهمناه بغير هذا الشكل، وأطلقناه تعميماً، يغدو نكاح العفيفات والزواج بهن حرام، وهذا غير معقول.

أما المحصنات المؤمنات في الآية الثانية، النساء 25، فيستحيل أن تعني الاحصان بالزواج. فقد انتهى سبحانه في الآية التي سبقت، إلى تحريم نكاح المحصنات بالزواج، يبقى أن الإحصان في هذه الآية إحصان عفة أو إحصان ملك يمين.

وكذلك الأمر في الآية الثالثة والرابعة، النور 4، 23، اللتين تحددان حد القذف (رمي المحصنات) وحكمه. إذ يستحيل أن يكون الإحصان فيهما محصوراً بالزواج، لأن العازبة العفيفة قد تقذف وتتهم. ولهذا فنحن نفهم أن الإحصان في الآيتين مطلق عام يشمل الوجوه الثلاثة.

(1) الاستحياء كما نفهمه هو الاغتصاب وليس الزنا. فالاستحياء اغتصاب جنسي يتم دون رغبة أو طلب من الطرف الأنثوي. أما الزنا فهو عملية جماع رضائية بين طرفين. لكن الحمل والحبل وارد في الحالتين.

(2) العبد المملوك والأمة المملوكة جمعهما عبيد، أما العبد فجمعها عباد. فالرق هو العبد المملوك والأمة المملوكة أم مصطلح العبد والأمة فلا علاقة له بالرق (انظر فصل العباد والعبيد).

(3) انظر لمزيد من الإيضاح “الإسلام والإيمان” في مكانه من هذا الكتاب.

(6) تعليقات
  1. الشكر الجزيل للدكتور محمد شحرور لتوضيح الكثير من المسائل العالقه واللبس الذي تسبب به الاخوه الفقهاء خلطا بين ما هو اجتماعي عرفي وبين ما هو تشريعي وحدي.
    انا بصراحه عندي قصه شخصيه واود مشاركة حضرتكم بها، سؤالي هو كيف يكون تواصلي معكم.

  2. السلام عليكم ورحمة الله
    ماهى الشروط اللازمه للزواج الشرعى السليم
    وفى حالة ان شخصا ما يحب فتاه و هى تحبه و يريدان الزواج وهى ليست قاصر ولكن والدها على قيد الحياه !!
    فهل تستطيع هى التصرف و تزويج نفسها بنفسها ؟؟
    بمعنى اذا كان الرضا و القبول موجود بينهما ثم قالا ديباجة الزواج (زوجتك نفسى …… الخ) و النيه أيضا متجهه للزواج الصحيح فهل يجوز ذلك أم ان هناك شبهة ما ؟
    برجاء الافاده


    الأخ أسامة
    الزواج ميثاق بين طرفين، يلتزم كل منهما اتجاه الآخر بالعيش المشترك، بما يحمله من مودة ورحمة ورعاية في السراء والضراء، تشكيل أسرة مع صهر ونسب وأولاد وإرث.
    والأنثى البالغة الراشدة لا تحتاج لولي لتتزوج.
    أما إذا كانت العلاقة بينهما تقتصر على الجنس فهذا عقد ملك يمين، يتبع لقوانين المجتمع.

  3. السلام عليكم الا يمكن ان تكون معنى ملك اليمن هي الخالات والعمات والاخوات والبنات وما ذالك ….للحفاظ على عدم رؤية الفرج جهرا وعلنا بغير غير عذر اي حفظ العورات بين المقربين من نفس دائرة الاسرة



    الأخت لبنى
    ملك يمينك أي من تستطيعين دفع أجرته مقابل عقد ما، فهو عقد بالتراضي بين طرفين أحد أشكاله العلاقة الجنسية، فقد يكون عقد خدمة، فالعمال في معمل ما هم ملك يمين صاحب العمل ضمن ساعات العمل.
    وهذا لا ينطبق على القريبات اللاتي ذكرتهن.

  4. أستاذي قلتم (فالولد لا يكون ولداً إلا بعد الولادة) ثم قلتم (الوالدة هي صاحبة البويضة وقد تكون الوالدة أماً وقد لا تكون).ألا ترو معي أن هناك تناقضا.تحياتي


    الأخ السائل
    الوالدة أم على جميع الأحوال، وقد تكون هناك الأم الحاملة للجنين (حالات استئجار الرحم)، والأم المرضعة والأم المربية (المتبنية)، وفي الحالات الأكثر شيوعاً تكون كل أولئك واحدة، هي الوالدة والأم.

  5. أستاذي شحرور في نقاط محددة ماهي أركان وشروط صحة الزواج الشرعي وهل توثيقه شرط وجوب وصحة? مع كامل إحتراماتي وتقديري.


    الأخ السائل
    الزواج ميثاق، يقوم على المودة والرحمة والرعاية وإنشاء أسرة بما يتضمن ذلك من أولاد ونسب وصهر وإرث، والتوثيق يدخل في نطاق القانون والمجتمع ولا يدخل في نطاق الحرام والحلال.

اترك تعليقاً