الكتابة – الفريضة – الوصية – الموعظة

4 – الكتابة، الفريضة، الوصية، الموعظة

للتعمق في فهم الإسلام والإيمان، ولإعادة وضع النقاط على الحروف في هذين المصطلحين، انطلاقاً من آيات التنزيل الحكيم، لا بد من التفريق بين الصيغ التي جاءت بها التعاليم والتكاليف في التنزيل من أوامر ونواه. إذ لا شك أبداً في قوله تعالى: {كتب عليكم القتال…} ليس مثل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم}.

ولا شك أبداً في أن قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم …} يختلف تماماً عن قوله تعالى: {.. ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر}.

ونعني بالاختلاف عدم تماثل الصيغة، فما يكتبه الله علينا، يختلف وجوباً عما يوصينا به، وعما يفرضه لنا وعلينا، وعما يعظنا به. ولنبدأ بصيغة الكتابة. يقول تعالى:

  • {.. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} النساء 103.
  • {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً …} آل عمران 145.
  • {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام …} البقرة 183.
  • {كتب عليكم القتال وهو كره لكم …} البقرة 216.
  • {كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله …} الحج 4.
  • {وكل شيء أحصيناه كتابا} النبأ 29.

قلنا إن الكتاب مجموعة عناصر اجتمع بعضها مع بعض، لإخراج معنى جديد. فالكتابة والتأليف جمع مفردات في جمل (مسند ومسند إليه) تحت عنوان واحد في كتاب واحد تحمل معنى مفيداً جديداً. لهذا، يسمى سبحانه كل ظواهر الطبيعة كتباً. أي أن كل شيء عبارة عن مجموعة من العناصر المركبة له، فالموت كتاب، والحياة كتاب، والزراعة والصناعة والتجارة كتب، وكذا مليارات الكتب الأخرى كالفلك والولادة والزلازل … الخ.

ولما كانت الطبيعة كتباً تحصل خارج وعينا لها، وظواهر تقع وتحدث بعيداً عن معرفتنا أو جهلنا بها، فقد سمى سبحانه الموت كتاباً مؤجلاً، أي أنه مجموعة من الشروط الموضوعية، إذا اجتمعت حصل الموت. والموت ظاهرة طبيعية، لكنه ضد الفطرة الإنسانية. فالفطرة الغريزية عند الإنسان هي التمسك بالحياة، وحب البقاء، مقاومة الموت.

وهذا ما يميز جميع التكاليف التي وردت في التنزيل الحكيم تحت باب (كتب عليكم). أي أنها ضد الفطرة الإنسانية، وأن على الإنسان أن يكبح فطرته ليقوم بها ولو كان كارهاً لها. ومن هنا تدخل الاستطاعة في التكاليف الواردة تحت باب (كتب عليكم)، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها..}، ولا علاقة لها بالوصية ولا بالفرضية من قريب ولا من بعيد.

في البقرة 216، نلاحظ أنه تعالى يصف القتال بأنه كره، ثم يضيف مباشرة {.. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..}. من الواضح أن الإنسان يكره القتال، ويكره قتل النفس، لكرهه الموت الذي هو ضد الفطرة الإنسانية، ولهذا جاء التكليف تحت باب (كتب عليكم).

أما في النساء 103، فالصلاة عناء ومشقة بوضوئها وقيامها وقعودها والسهر لها في الليل والاستيقاظ لها في الفجر. ولقد وصفها بقوله: {وإنها لكبيرة}، وعلى الإنسان أن يقوم ليؤديها بما يعارض فطرته. ولهذا جاء التكليف بها تحت باب (الكتاب). فمن الخطأ أن نقول: الصلاة فرض، والصحيح أن نقول: الصلاة مكتوبة، لأن للفرض والفرائض معنى آخر تماماً.

وكذلك الأمر في البقرة 183. حيث نلاحظ أن الصوم جاء تحت باب )كتب عليكم)، وذلك لما فيه من تضاد مع الفطرة. فالفطرة أن يأكل الإنسان حين يجوع، ويشرب حين يعطش، ويشتم حين يغضب، لكن الصائم يقهر بالصيام هذه الفطرة البهيمية الأولى.

ولا يخرج الشيطان في الحج 4، عما قلناه من أن ظواهر الطبيعة هي نواميس وقوانين وكتب. فقد ربط تعالى الضلال باتباع الشيطان وجعله وليا، تماماً كما ارتبط المطر بالغيم. ولهذا فقد جاء هذا الناموس الطبيعي تحت باب )كتب عليه أي على الشيطان).

ثمة “كتابات” أخرى، كتبها الله سبحانه على عباده في تنزيله الحكيم، منها قوله تعالى: {.. ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها …} الحديد 27.

فالرهبانية التي كان سبحانه قد كتبها على النصارى ثم نسخها في الرسالة المحمدية، ابتعاد عن ملاذ الحياة، وهجر الزواج، أي أن الرهبانية في جوهرها أيضاً ضد الفطرة الإنسانية، لذا فقد قال إنه )كتبها عليهم).

ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى…} البقرة 178. وقد عرضنا لموضوع القصاص تفصيلاً(1)

وقوله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم …} النساء 66. وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا ربنا لم كتب علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب، قل متاع الدنيا قليل …} النساء 77.

فالقصاص في القتلى، وقتل النفس، والقتال في الآيات الثلاث كره للإنسان، وموت هو ضد الفطرة الإنسانية، ولهذا فقد كتبها الله سبحانه.

ونقف عند آل عمران 66، لنجده سبحانه قد سوى بين قتل النفس والخروج من الديار. ونفهم أن القتال حتى الموت في سبيل الوطن (الديار) كتاب كتبه الله علينا، ونفهم أن القتال نوعان. نوع في سبيل الله وهو الجهاد الذي بحثه تفصيلاً في بحث العباد والعبيد. ونوع من أجل الوطن وعدم الخروج من الديار، وهو ما يجب أن نربي أبناءنا عليه لأنه من أركان الإيمان.

وكذلك في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين} البقرة 180.

هنا أيضاً نفهم أن الوصية تكليف وقد يكون الإنسان كارهاً له وهي من أركان الإيمان لذا قال: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم} البقرة 182.

ولكن، إذا كانت “الكتابة” ناموساً، وتكليفاً ضمن حدود الاستطاعة، ووجهاً من وجوه الإلزام والالتزام، كما أسلفنا، فكيف نفهم قوله تعالى: {.. كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم} الأنعام 54. وقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} المجادلة 21.

كيف يمكن أن يلزم الله نفسه؟ بل كيف يفعل شيئاً ضد طبيعته وفطرته، كتبه هو على نفسه؟ وهل رحمته وغلبته ليست من أصل فطرته وطبيعته حتى يكتبها على نفسه؟

لنفهم هذا، ولنجيب على هذه الأسئلة التي تبدو في ظاهرها كلامية بحتة، لا بد من فهم اسم الرحمن أولاً.

فالرحمن اسم من أسماء الله الحسنى على وزن فعلان، وهو وزن الأضداد في اللسان العربي كقولنا: كسيان / عريان، جوعان / شبعان، ظمآن / رويان. وإذا استعرضنا الأسماء الحسنى نجد فيها أضداداً كقوله: {يعز من يشاء ويذل من يشاء} وقوله: {هو الخافض والرافع}، وهو جبار رحيم. فإذا استعرضنا هذه الأضداد نجد أن الجبار لا يعني الرحيم إطلاقاً، وأن الحليم لا يعني سريع العقاب. ولكن الاسم الوحيد الذي جمع الاثنين معاً هو الرحمن. فالرحمن رحيم جبار، معز مذل، حليم سريع العقاب.

لقد ورد اسم الرحمن في البسملة “بسم الله الرحمن الرحيم”، فبدأت بسم الله، وهو لفظ جلالة لا يأتي في الكتاب إلا مقترناً باسمين من الأسماء الحسنى، كقوله تعالى: {إنه عفو غفور} وقوله: {وهو العلي العظيم}. ولقد ميز تعالى اسمين من الأسماء الحسنى هما: الله والرحمن، بقوله سبحانه وتعالى {قل ادعوا الله وادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى …} الإسراء 110.

ثم يأتي سبحانه بالرحمن بعد لفظ الجلالة في البسملة، فيقع السامع في الحيرة والخوف، حول الصفة التي يريد أن يعاملنا بها، هل هي الرحمة (رحيم) أم هي الجبروت (جبار)، وهل هي المعز أم المذل، وهل هي سريع العقاب أم الحليم؟ ويأتي اسم الرحيم في خاتمة البسملة لتغليب صفة الرحمة في الرحمن على صفة العذاب والجبروت، وكلاهما متضمن في الرحمن، ولعطينا الاطمئنان على أنه رحمن رحيم وليس رحمن جبار أو رحمن سريع العقاب. وهذا ما ورد تماماً في قوله تعالى: {.. قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء …} الأعراف 156.

أما القول بأن الرحمن صفة مبالغة من الرحمة، وأن الرحيم هي من الرحمة، والرحمن هي مبالغة للرحيم، فهذا كلام ليس له أي معنى، لأن الرحيم في البسملة تصبح حشواً وزيادة لا تحمل أي معنى إضافي. فإذا قلنا إن زيداً يملك ألف ليرة، فهذا يعني بالضرورة أنه يملك خمس ليرات، لأن الليرات الخمس متضمنة في الألف. وإذا قلنا أن الرحمن مبالغة للرحيم، فهذا يعني أن الرحيم متضمنة في الرحمن ولا داعي لذكرها. أما إذا قلنا أن الرحيم والجبار متضمنان في الرحمن، وذكر واحدة منها وهي الرحيم، فهذا يعني أنه غلب اسماً على آخر في طريقة تعامله مع خلقه. سبحانه وتعالى عما يصفون.

وهكذا نفهم قوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي:

الله الرحمن ===> الرحيم الغفور الحليم

الله الرحمن ===> الجبار المنتقم سريع العقاب

ولقد ورد اسم الرحمن 57 مرة في التنزيل الحكيم، وورد الرحيم 95 مرة. ونلاحظ أن (الغفور الرحيم – غفور رحيم) وردت 57 مرة أيضاً في التنزيل. أي تساوي تماماً عدد المرات التي ورد فيها اسم الرحمن. ونلاحظ أن جمع المرات كلها للأسماء الثلاثة (رحمن / غفور رحيم) يساوي عدد سور الكتاب. كما نلاحظ أن اسم الله الجبار واسم الله المتكبر وردا مرة واحدة في التنزيل الحكيم في سورة الحشر، وذلك من باب الإخبار فقط.

أما قوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي …} فنرى أنه ختمه بقوله: {إن الله قوي عزيز}. وقد شرح ذلك في سورة يوسف بقوله: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. أي أن الله يملك من القوة والعزة، ما لا تستطيع أية قوة أخرى في الوجود أن تغلبها، وأنه أعطى هذه القوة لرسله، الذين ليسوا من الناس بالضرورة، لأنه سمى الملائكة أيضاً رسلاً: {ولما جاءت رسلنا لوطا …} هود 77. {.. جاعل الملائكة رسلاً …} فاطر 1 {إنه لقول رسول كريم} التكوير 19. {.. أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء …} الشورى 51.

وننتقل الآن إلى مفهوم الفريضة التي جاءت من فعل فرض. فإذا استعرضنا الأفعال في اللسان العربي التي تبدأ بحرف الفاء في أولها، نراها تعطي معاني مشتركة، وتعمل في خندق واحد، مع فروقات بين فعل وآخر: فرج، فك، فكر، فخت، فصل، فرق، فج، فرح، فتح. فهذه كلها تشترك في معنى واحد فيه الفتح والانفراج. فإذا أخذنا الأفعال التي تبدأ بالفاء والراء، وتختلف في الصوت الثالث: فرض، فر، فرق، فرج، فرح، فرص، فرك، فرم. نرى أن فيها معاني متقاربة.

فإذا أخذنا الفعلين: فر + فض. نرى أنهما يحتويان على كل أصوات فعل فرض، وأنهما باجتماعهما أقرب المعاني إلى فرض. ففعل فر يعني الانكشاف، وما يقارب الكشف عن الشيء، وفعل فض يعني التفريق والتجزئة، فنقول انفضوا بمعنى ذهبوا فرقاً، والفضفضة سعة الثوب، وكذلك فيض تعني جريان الشيء بسهولة، ومنه نقول فاض الماء، ونقول هناك فيض في الإنتاج.

وهكذا نرى كيف جاء فعل فرض، ليعني عطاء وفرجة، ومن هنا نقول بوجود فرضة في الباب، أي معلم أو ثقب. وجاء معنى من الفرض وهو القرض: فرض / قرض. وكلاهما فيه معنى العطاء والتفريج. ويبدو ما قلناه واضحاً كل الوضوح في قوله تعالى: {.. قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر …} البقرة 68. فالفارض من البقر هي التي حملت وولدت وأعطت حليباً.

كما ورد أيضاً بهذا الوضوح في قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المسنين * وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح …} البقرة 236، 237.

ونلاحظ هنا أن الفريضة جاءت بمعنى العطاء. كأن يعمل إنسان عند آخر فيفرض له ألف ليرة بالشهر مثلاً. والعطاء هنا الصداق، والصداق نحلة، أي عطاء بدون التزام.

وقد وردت الفريضة بمعنى العطاء والمنح في قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليماً حكيما} النساء 24. فالفريضة هنا عطاء من طرف إلى آخر. بل هي أكثر من ذلك، ففيها معنى الفر والفض لإنسان مكبل بعبء ما، ويريد أن يفض هذا العبء ويفر منه، وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة إيمانكم، والله مولاكم، وهو العليم الحكيم} التحريم 2.

هنا جاءت الفريضة من الله مخرجاً من مأزق وقع فيه الإنسان، كأن يقسم يميناً بأن لا يفعل شيئاً حلالاً، ثم يفعله، ولذا قال تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك …} التحريم 1. فقد يقسم الإنسان يميناً بألا يدخل بيت فلان، وألا يأكل فيه. ثم يدخل ويأكل لأن الدخول والأكل ليس من المحرمات، فيقع في هذه الحالة بمأزق، جاءت الآية لتخرجه منه. أي أن الله أراحكم وأخرجكم من مأزق اليمين الذي وقعتم فيه بأن تتحللوا منه. وهذا التحلل جاء في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان …} المائدة 89.

هنا نفهم تماماً معنى الفرض والفريضة. فعندما أنزل الله على نبيه القرآن وأكرمه به قال: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد …} القصص 85.

وبما أن الحج جاء لمن استطاع إليه سبيلا، فهو من الفرائض بالنسبة للمستطيع الذي قرر أن يدفع ويتبرع من ماله لأداء الحج، لهذا قال: {.. فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج …} البقرة 197. أي أن الله طلب الحج من المستطيع بقوله: {.. والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا …} آل عمران 97. أما الحاج الذي وقع عليه التكليف لاستطاعته فيقول: لقد فرض الحج، أي تقدمت وتبرعت بأن أذهب إلى الحج من تلقاء نفسي. فالحج طلب من الله، وفريضة من الإنسان.

لقد سمح الله سبحانه للنبي بأن يتزوج على سنة الأولين، أي دون اعتبار لعدد الزوجات، فكان هذا عطاءً وفرضاً منه سبحانه لنبيه، ورد في قوله تعالى: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له، سنة الله في الذين خلوا من قبل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً} الأحزاب 38.

وكذلك عطاء الزوج للزوجة، فقد سماه التنزيل فريضة في قوله تعالى: {.. قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم لكيلا يكون عليك حرج، وكان الله غفوراً رحيما} الأحزاب 50.

ومن هنا نفهم لماذا سمى سبحانه الصدقات فريضة، في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليك حكيم} التوبة 60. فالمال المدفوع تحت باب الصدقات للبنود الواردة في الآية، عبارة عن عطاء من الله لهؤلاء الناس، وليس عطاء من صاحب المال المانح. فالذين يأخذون الصدقات إنما يأخذون حصة خصصها الله لهم كعطاء منه، وعلى الذين يعطونها، أن يؤدوها دون منه ولا أذى، بغض النظر عن مصدر هذا المال حلالاً كان أم حراماً.

ونأتي إلى قوله تعالى في الإرث {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضا} النساء 7. والنصيب المفروض هنا يعني العطاء والمنحة للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون.

وننتقل إلى قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمة السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين، آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً، فريضة من الله، إن الله كان عليماً حكيما} النساء 11.

ونلاحظ أن الآية بدأت بالوصية {يوصيكم} وانتهت بالفريضة {فريضة من الله} أي أن حال الإرث كحال الصدقات تماماً، منحة من الله أعطاها للورثة مما ترك الوالدان والأقربون. لأن الإنسان قيم على ماله وهو على قيد الحياة، عدا الصدقات، فهي عنده أمانة لأصحاب الحق فيها، أما عندما يموت، فهو يفقد هذه القومية، ولهذا يعطيها الله منحة منه للورثة وليس عطاء من المتوفى. ولهذا لا يوجد مال أحل من مال الإرث ومال الصدقات. لأن الوارث ومستحق الصدقة يأخذ حصته حلالاً مفروضاً له من الله، حتى ولو كان صاحب المال قد جناه الحرام.

فالسارق والغشاش والمرتشي ماله حرام، عدا ما يدفعه للصدقات فهو حلال. أي على مستحق الصدقة والوارث ألا يتحرى إطلاقاً عن مصادر المال بالأصل، ولهذا قال تعالى {فريضة من الله}، فالله أعلم من أين أتى هذا المال من التجارة أم من الغش والسرقة، ولهذا ختم سبحانه الآية بقوله: {والله عليم حكيم} وبقوله: {وكان الله عليماً حكيماً}.

ننتقل الآن إلى قوله تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً} النساء 117، 118. فذكر الشيطان المريد في الآية يعني أن هناك شيطاناً غير مريد. فالمريد جاءت من مرد، ومنه جاء التمرد، فنقول تمرد الجنود في الجيش، أي عصوا الأوامر وتمردوا عليها. وهذا الشيطان المتمرد له نصيب من عباد الله، سيشاركونه بملء إرادتهم في هذا التمرد على الصراط المستقيم (القيم العليا).

وهو نصيب مفروض، أي أنه جاء بملء إرادة هؤلاء العباد المتمردين، لأن الله خلق كل الناس عباداً له في الطاعة والمعصية بملء إرادتهم، فمن أطاعه بملء إرادته فهو عبد صالح، ومن عصاه بملء إرادته فهو عبد عاص، يبقى من عباد الله لكنه أشرك الشيطان المتمرد في الطاعة، وفي هذا قال تعالى {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان …} يس 60.

نأتي بعد هذا الكلام عن الفرائض إلى سورة النور، التي تبدأ بقوله تعالى: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} النور 1.

أي أن سورة النور تحتوي على أحكام (أم كتاب ورسالة) وعلى آيات بينات (قرآن). وأن كل الأحكام التي وردت فيها هي فرائض، فرضها الله على عباده لكي يخفف عنهم العنت والحرج والضيق، ولكي يريحهم. ومن هذا الباب نستعرض أحكام سورة النور.

تبدأ السورة بعقوبة الزنا في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين * الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} النور 2، 3.

تتحدد هنا عقوبة كل من الزانية والزاني بمئة جلدة. وقد يسأل سائل ساخراً: وهل في الجلدات المئة فرج وراحة وعطاء؟ أقول: نعم. إنها في شروط إقامة هذا الحد، التي تنص على وجود أربعة شهداء حضوريين (انظر بحث الشهيد والشاهد(، وهذا شبه مستحيل. فإذا وجد ثلاثة شهداء يقسمون على رؤيتهم فعل الفاحشة بين الرجل والمرأة عيناً، ولم يوجد رابع معهم، تم جلد الثلاثة ثمانين جلدة تحت باب قذف الأعراض. أي أن الفريضة هنا، هي في تغليب الشكل على المضمون، لا بل في إسقاط لقب الزنا ولو حصلت الفاحشة فعلاً، فقصرت العقوبة على الفاحشة العلنية، علماً أنه في قتل النفس يكفي شهيد واحد أو شاهد واحد.

أي أن ارتكاب الفاحشة بين ذكر وأنثى لا يسمى زنا إلا إذا توفر الشهداء الأربعة، أي لدينا التعريف التالي:

علاقة جماع غير شرعية بين رجل وامرأة = فاحشة

علاقة جماع غير شرعية بين رجل وامرأة + أربعة شهداء = زنا

أي لا يجوز إطلاق لقب الزاني والزانية إلا على رجل وامرأة ارتكبا الفاحشة بتوفر أربعة شهود، لأنه بمجرد إطلاق هذا اللقب وجب إقامة العقوبة لذا قال: {.. ولا تأخذكم بها رأفة …} وأضاف بنداً آخر إلى الزنا مضافاً إلى الفاحشة وهو سوء السبيل {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}.

الزنا = فاحشة + أربعة شعود ===> إقامة حد الجلد (ساء سبيلا)

أي انتقلت الفاحشة من بند الذنوب مع الله عندما لم تكن علنية إلى بند السيئات مع الناس بعلنيتها فاستحقت عقوبة المجتمع بالجلد لأنها أساءت إليه.

إن فعل نكح في اللسان العربي يعني معنى واحداً هو العملية الجنسية، وتقوم هذه العملية إما (بميثاق الزوجية أو بعقد ملك يمين) فهو نكاح حلال (انظر بحث العباد والعبيد(، كما في قوله تعالى: {.. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} “فانكحوا” يعني القيام بعملية الجنس بميثاق أ عقد، لهذا نقول عقد نكاح، لأنه إذا تم العقد ولم يحصل النكاح، سقط العقد تلقائياً، إذ النكاح شرط من شروط نفاذ العقد.

فالزاني الذي يضاجع زانية بغير عقد مع توفر الشهود، إنما يمارس النكاح فعلاً بمعناه الجنسي. ولا يريد من الزانية أصلاً إلا هذا الفعل، لا أكثر ولا أقل. وهذه النقطة بالذات هي التي تجعل من نكاحه فاحشة حراماً، وتجعل من نكاح الزوج أو ملك اليمين حلالاً، وإذا حصلت الفاحشة علناً {أربعة شهداء} فتصبح زنا.

انظر معي كيف أن السارق يقوم بفعل هو السرقة فيسمى سارقاً، والقاتل يقوم بالقتل فيسمى قائلاً، لنرى أن الاسم اشتق من الفعل، وكذلك الكاتب من كتب والكاذب من كذب. فإذا نظرنا في قوله تعالى: {.. وليكتب بينكم كاتب بالعدل …} البقرة 282. نجد أن الكاتب فيها لا يعني الإنسان غير الأمي بالخط، بل يشير إلى التكرار أو ما يسمى بالمهنة.

فأي إنسان يعرف الكتابة لا يسمى كاتباً إلا إذا كانت هذه مهنته، كقولنا (اتحاد الكتاب العرب)، وكذلك النجار والسارق لا يسمى نجاراً أو سارقاً إلا إذا غدت النجارة أو السرقة مهنته. ولهذا وضع العقوبة القصوى للسارق في قطع اليد، لكن سرقة واحدة لا تكفي لقطع اليد، لأنها لو كانت تكفي لقال: {ومن يسرق فاقطعوا يده} لكنه قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما …} المائدة 38.

أما في القتل، فإن جريمة واحدة كافية لأن تعرض مرتكبها لحكم الإعدام، وذلك لأنه سبحانه قال: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم …} النساء 93.

نعود إلى آية النور لنجد أن الزاني فيها لا يشتق من فعل نكح، ولنجد أن الاسم جاء على وزن فاعل شأن السارق والكاتب. ونفهم أنه اشتق من زن، كقولنا: زن الزنبو. وعكسها نز في الصوت والمعنى. وهذا يعني أن الشهوة زنت على الزاني حتى أنه تجاوز الخوف من الله والخوف من المجتمع.

ففي تجاوز الخوف من الله ارتكب الفاحشة، وفي تجاوز الخوف من المجتمع قام بها علناً. ولهذا يكون الزنا = الفاحشة العلنية، ويأخذ المجتمع حقه من الزاني والزانية بالجلد.

وهنا نلاحظ دقة التنزيل الحكيم، حين يحدثنا عن يوسف، بأنه صرف عنه الفحشاء، ولم يقل صرف عنه الزنا، لأنه كان مع امرأة العزيز وحدهما ولا يوجد شهداء.

قد يقول قائل: إن هناك ملايين من حالات الفاحشة، تحدث يومياً في العالم بين الرجال والنساء، لا يقام عليها حد. أقول: لأنها فاحشة وليست زنا. وفي هذه الحالة يطلب الله من مرتكبيها التوبة والاستغفار، كما في قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله …} آل عمران 135.

هذا بالنسبة للزانية والزاني، عندما تحدث العملية الجنسية {الفاحشة} من رجل أو امرأة بدون زواج أو ملك يمين فهما زان وزانية (أي الممارسة العلنية للجنس). فمن هنا المشرك والمشركة؟

الفعل في الآية هو فعل النكاح، الذي ذكرت له الآية أربعة أطراف هي: الزاني والمشرك والزانية والمشركة. بينهم علاقة نكاح بين ذكر وأنثى لا هي باللواط ولا هي بالسحاق. مما يضعنا أمام أربعة احتمالات:

1 – زاني ينكح زانية ===> فاحشة علنية.

2 – مشرك ينكح مشركة.

3 – زاني ينكح مشركة.

4 – مشرك ينكح زانية.

فكيف نفرق بين الزاني والمشرك وبين الزانية والمشركة؟

لقد عرفنا الزانية والزاني فيما سبق، فإذا عرفنا المشرك والمشركة نكون قد وضعنا الأمور في نصابها، ونقرأ قوله تعالى:

  • {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم} لقمان 13.
  • {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه …} البقرة 221.
  • {أشدد به أزري * وأشركه في أمري} طه 31، 32.
  • {.. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث …} النساء 12.
  • {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء …} الأنعام 139.
  • {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم، هل لكم من ما ملكت إيمانكم من شركاء في ما رزقناكم …} الروم 28.
  • {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً مسلماً لرجل هل يستويان مثلاً …} الزمر 29.

فالإشراك في الآية الأولى هو الإشراك بالله، والمشركة والمشرك في الآية الثانية مشركان بالله أيضاً وغير مؤمنين به. أما الآية الثالثة فالإشراك فيها إشراك بالأمر، أمر الرسالة وتبليغها، والإشراك في الآية الرابعة شركة في الإرث، وفي الخامسة شركة بما في بطون الأنعام، وفي السادسة شركة بالرزق، وفي السابعة شركة في الملكية.

يتضح لنا مما سبق من آيات، أن الشرك عند المشرك والمشركة، قد يعني إشراك طرف أو أطراف أخرى مع الله بألوهيته وربوبيته، وهذا هو الشرك بالله، وقد يعني إشراك طرف من طرف آخر في الأمر أو التجارة أو الإرث أو الملكية.

والمشرك في آية النور زوج أشرك غير امرأته في فراش الزوجية، وأشرك امرأة أخرى غير زوجته في نكاحه وفرجه. والمشركة زوجة أشركت غير زوجها في فراشها وفرجها. ولا يمكن أن يكون الشرك هنا شرك بالله كما يذهب البعض، إذ لو فهمنا الشرك في آية النور بمعنى الشرك بالله أو الكفر به، لاستحال تطبيق أحكام الآية على صعيد الواقع العملي، أما إذا فهمناه بالمعنى الذي أسلفناه، لوجدنا أنفسنا أمام خمسة حالات:

1- زان + زانية

فاحشة علنية بين عازب وعازبة.

2- مشرك + مشركة

متزوج ومتزوجة، وبدون شهود.

3- زان + مشركة

يعتبر العازب الذي يرتكب الفاحشة مع متزوجة زانياً ولو لم يتوفر شهود. ويكفي إقامة البينة عليها ليجلد.

4- مشرك + زانية

تعتبر العازبة مع المتزوج هنا زانية ولو لم يتوفر شهود بل ببينات أخرى.

5- مشرك زان + مشركة زانية

حال ارتكاب الفاحشة العلنية من قبل رجل متزوج وامرأة متزوجة، فينطبق عليهما لقب الزنا والشرك معاً.

وهذه هي الحالات التي تنطبق على كل أهل الأرض، ولا سادس لها، ويتضح لنا صدق الخبر في التنزيل الحكيم.

لقد نصت الآية على عقوبة الزاني والزانية، وحددتها بمئة جلدة، فما هي عقوبة المشرك والمشركة، أي المتزوج المحصن والمتزوجة المحصنة في حال ارتكابهما الفاحشة أو الزنا (الفاحشة العلنية)؟

يقول أصحاب الفقه: هي الرجم حتى الموت. ونقول نحن: هذا غير صحيح !! لأن رجم الزاني المحصن والزانية المحصنة ورد في شريعة موسى ثم ألغاه التنزيل الحكيم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا أخذنا بما يقول الفقهاء بأن عقوبة زنا المحصن هي الرجم حتى الموت، فكيف نطبق قوله تعالى: {.. فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب …} النساء 25. وهل هناك نصف إعدام أو نصف موت؟

نقول لقد وردت عقوبة المشرك والمشركة، كما نفهمها في سورة النور، ولا جلد فيها ولا إعدام، في آيتين من التنزيل الحكيم:

  • {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة …} الطلاق 1. والعقوبة هنا هي الطلاق الفوري دون إحصاء عدة، والإخراج الفوري من البيت. وهذا واضح في الآية التي تتحدث عن الطلاق. وهل تطلق إلا المتزوجة؟ ثم يقول تعالى {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وفاحشة المتزوجة هنا هي الإشراك (الخيانة الزوجية).
  • {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة …} النساء 19.

والعقوبة هنا هي الحرمان من الحقوق المالية والاجتماعية، لتصبح كامل العقوبة في الآيتين: الطلاق والإخراج الفوري والحرمان من الحقوق المالية والاجتماعية ويتساوى في هذه العقوبة الزوج المشرك والزوجة المشركة.

وتكون الفاحشة مبينة، أي ثابتة واضحة:

1 – بالملاعنة من قبل طرف إلى آخر، ويتساوى في ذلك الزوج والزوجة إذا ضبط أحدهما الآخر في حالة فاحشة.

2 – بإثبات الفاحشة بطرق أخرى كالتصوير والحمل، وما إلى ذلك من وسائل الإثبات التي زودنا بها التقدم العلمي، وذلك في حالة عدم الضبط المباشر، أي حالة الشك، وتحويل الشك إلى يقين، أو إلغاؤه.

وفي الحالتين يتم الطلاق وفقدان الحقوق لارتكاب الفاحشة فقط دون أربعة شهود، أما الطرف الآخر فإن كان عازباً فهو زان وزانية وإن كان متزوجاً فهو مشرك أو مشركة وتنطبق عقوبة الزنا على الطرف الآخر.

3 – إثبات الفاحشة بين متزوج ومتزوجة (مشرك ومشركة) ففي هذه الحالة يتم الطلاق الفوري مع فقدان الحقوق كاملة مضافاً إلى ذلك حد الزنا (الجلد) لأنه انطبق عليهما لقب زان مشرك وزانية مشركة معاً.

هنا نفهم معنى الفريضة وكيف سهل الله على الناس الخروج من مآزق يقعون فيها. وبما أن للفاحشة علاقة بالجنس، والجنس غريزة، ومن الطيبات، وضبطها صعب جداً، وعلاقتها مع الله سبحانه وتعالى، فقد فتح الله فيها باب التوبة على مصراعيه بقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} آل عمران 135.

فوق ذلك كله، لا يجوز اتهام أحد بالزنا أو بالشرك (عدا الزوج والزوجة في الملاعنة)، وقد توعد سبحانه من يفعل ذلك بقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} النور 23.

بعد أن أنهت سورة النور الأحكام (الفرائض) المتعلقة بالجنس، انتقلت إلى الفرائض التالية:

  • {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} النور 27.
  • {فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم، والله بما تعملون عليم} النور 28.
  • {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} النور 29.

هذه الآيات هي من المثل العليا، جاءت بعد المحافظة على العفة من الزنا والإشراك، وخفف الله فيها الإحراج عن الناس في بيوتهم. فمنع الناس من دخول بيوت الآخرين حتى يتأكدوا من وجود أحد فيها، وأنها غير خالية، ثم إبداء السلام لأهل هذه البيوت، أي الدخول كأصدقاء وبشكل مهذب لبق، وليس بشكل عدواني كأعداء. وهذه فريضة تتيح للناس الحفاظ على خصوصيتهم المنزلية، وترفع عنهم الحرج.

فإذا كان لا يوجد أحد في البيوت، فلا يدخل إليها {.. حتى يؤذن لكم …} إلا مع قدوم صاحب البيت أو جيرانه أو من ينوب عنه. وكذلك في حالة أتى أحدنا بيتاً بدون موعد، وصاحبه في وضع لا يمكنه من استقبال الضيوف، فقد رفع تعالى الحرج عن صاحب البيت بأن يأمر القادم بالرجوع وعدم استقباله.

ثم رفع سبحانه الجناح عمن يريد دخول بيوت غير مسكونة، له فيها متاع كأمانة أو نسيان، وهذا أيضاً فريضة من الله سبحانه لرفع الحرج.

ثم جاءت الفرائض في اللباس، لرفع الحرج عن الناس لا لإعناتهم. فعلينا أن نعلم عندما نتعامل مع التنزيل الحكيم أنه جاء لأهل الأرض جميعاً، وأن آياته أكبر بكثير من شيء اسمه أسباب النزول، يزعم أصحابه إن الآية 31 من سورة النور، نزلت في امرأة اسمها أسماء بنت مرثد، استقبحت دخول النساء عليها غير مؤتزرات، باديات الصدور والذوائب.

فالله سبحانه أكبر من أن يتبع بآياته مزاج أسماء أو غير أسماء. والآيات جاءت لأهل الأرض، ولا علاقة لأسماء ولا لغيرها في ذلك. وسيان علمنا أنها نزلت في أسماء أم لم نعلم. فحكم الآية قطعي الثبوت من الله سبحانه، أما الأسباب فظنية، ولا يخضع القطعي للظني.

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون} النور 30.

هذه الآية تعطي الحد الأدنى للباس الرجل. ونلاحظ كيف أتبع تعالى قوله: {يغضوا من أبصارهم} بقوله: {ويحفظوا فروجهم}. فقد جاء الغض من البصر عن الفروج بالنسبة للرجال، وبما أن الأحوال الجوية مختلفة عند أهل الأرض، من الحر الشديد إلى البرد القارس، فقد جاء الحد الأدنى للباس الرجل في تغطية الفرج (مايوه سباحة). وهذه فريضة للرجال (منع أن يراه الآخرون عارياً تماماً)، أي يستطيع الرجل أن يسبح بمايوه سباحة فقط.

{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمورهن على جيوبهن …} النور 31.

ولقد تم مشرح هذه الآية تفصيلاً في “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة” مع بيان المقصود بالجيوب والزينة. إلا أننا نلاحظ أنها فريضة للمرأة كيلا تحرج أمام الآخرين. ونلاحظ أنها بدأت كالآية السابقة بقوله تعالى: {يغضضن من أبصارهن} وتبعها بقوله: {ويحفظن فروجهن}، ثم ينتقل إلى ضرب الخمر على الجيوب، التي قد تكون هي الفرج الذي يحفظ من أبصار الآخرين، عدا من ورد ذكرهم في الآية ومن بينهم بعولتهن وما ملكت إيمانهن.

فإذا رجعنا إلى سورة (المؤمنون)، نراها تقول: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين} المؤمنون 5، 6. ونرى طبقاً لهذه الآية، بشكل لا لبس فيه، أنها تستثني من حفظ الفرج الزوج وملك اليمين. فالمرأة لا تحفظ فرجها أمام زوجها أو أمام ملك يمينها، وكذلك الرجل. فآية النور تذكر {أو ما ملكت إيمانهن} وهذا يعني أن ملك اليمين يرى مالكته عارية تماماً فلا تحفظ فرجها عنه.

أما الآيتان 32، 33 من سورة النور، وهما من الفرائض، فقد تم شرحهما في بحث العباد والعبيد، فانظرهما هناك.

نصل بعدها إلى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت إيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن، طوافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات، والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، كذلك يبين الله لكم آياته، والله عليم حكيم} النور 58، 59.

يعلمنا الله في هذه الآية أدب الدخول إلى غرف النوم. أي على سكان البيت من الأطفال أن يستأذنوا عند دخول غرف النوم على الوالدين، وهذه فريضة جاءت لترفع الحرج عن الوالدين.

  • {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً …} النور 60.

وفي هذه الآية أعطى الله فريضة (منحة وعطاء) للنساء المقعدات اللاتي لا أمل لهن بالنكاح (زواج / ملك يمين)، وبحاجة إلى عناية. وبما أنهن فقدن الأمل في النكاح فكل أهل الأرض بالنسبة إليهن في حكم الأب و الأخ، ولا حرج عليهن بوضع ثيابهن، وهذه فريضة (هبة) من الله.

  • {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً، فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون} النور 61.

ونلاحظ في الآية ثلاثة أنواع من الحرج: حرج الأعمى، وحرج الأعرج، وحرج المريض. وكل منها يختلف عن الآخر. فالأعرج من فعل عرج، وتعني المسافر الذي يعرج في طريقه على بيت من البيوت، بعد أن تتعطل السيارة، ويطلب منهم الأكل ولو كانوا غرباء تماماً بالنسبة إليه. وهذا تماماً ما حصل مع موسى والرجل الصالح في قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما …} الكهف 77.

هنا تنطبق على موسى والرجل الصالح حالة الأعرج، أما الأعرج في المشي لعله في إحدى قدميه فلا نرى لها مكاناً في هذا السياق.

هناك ثلاثة إحراجات يختلف بعضها عن بعض عند الأعمى والأعرج والمريض تتعلق كلها بدخول البيوت والأكل فيها. فعددت الآية البيوت التي سمح الله لنا أن نأكل فيها بدون استئذان، أي أن علينا في غيرها من البيوت أن نستأذن إذا أردنا الأكل، ولا يحق لنا الذهاب إلى المطبخ وفتح الثلاجة، أو الجلوس على طعام أهل البيت إلا بإذنهم، أي أنه سبحانه فرض علينا أمراً، هو بذاته فريضة للناس وعطاء منه لرفع الحرج عنهم. واستثنى من كل ذلك الأعمى والأعرج والمريض. لكنه اشترط على الجميع عند دخول البيوت أن يدخلوا مسالمين لا عدوانيين. فقال: {فسلموا على أنفسكم}.

وهذا لا يعني أبداً أن نلقي التحية على أنفسنا عند الدخول إلى بيوت غير مسكونة، لأننا ممنوعين أصلاً من دخول هذه البيوت إلا إذا كان فيها متاع لنا (النور 29).

أما الوصية، فقد أتت من فعل وصى. والواو والصاد والحرف المعتل أصل يدل على وصل شيء بشيء. ووصيت الشيء وصلته. ويقال وطئنا أرضاً واصية، أي أن نبتها متصل قد امتلأت منه. ووصيت الليل بالنهار وصلتهما، وذلك في عمل تعلمه. والوصية في هذا القياس كأنها كلام يوصى أن يوصل وفيه التواصل.

هكذا نفهم أن الوصية والوصايا في التنزيل الحكيم تعليمات تحمل معنى التواصل، أي لا تحمل المفهوم الموضعي الزماني والمكاني. وتحمل معنى الشمول. فعندما تأتي الوصية، يعمل بها في حينها، وتحمل صفة التواصل بعد ذلك. ولهذا نرى أن الوصايا حملت معنى التراكم التاريخي.

فالوفاء بالكيل والميزان جاء لشعيب، وهو من الوصايا، لكنه تواصل وانتشر زماناً ومكاناً، ويعمل به حتى اليوم. والوصايا من أركان الإسلام، وهي التعاليم المشتركة بين كل الرسالات والنبوات من حيث أنها كلها إسلام. وهذا واضح لا لبس فيه بقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه …} الشورى 13.

ونلاحظ ما يلي:

  1. شرع الله من الدين.
  2. ما وصى به نوحاً.
  3. وما أوحى إلى محمد (ص).
  4. وما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.

ونفهم أن الدين المشروع من الله هو التنزيل الحكيم بما فيه من وصايا وصى بها سبحانه الرسل المذكورين. ونفهم أن الوصايا جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي الذي بدأ بنوح واكتمل بمحمد (ص). ونفهم أنها القاسم المشترك الذي يوجد بين أتباع محمد وعيسى وموسى، إضافة إلى بقية الناس التي تؤمن بالله واليوم الآخر، بغض النظر عن الاسم الذي يطلق عليها.

لهذا نرى أن الوصايا العشر تأتي على رأس الوصايا المشار إليها في الآية. وقد أطلق عليها التنزيل الحكيم مصطلح الفرقان، فوردت في الأنعام 151، 152، 153، ونرى فيها مثلاً عليا إضافية. جاءت إلى محمد (ص) ليكتمل بها الإسلام (إما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

  1. التوحيد: جاء إلى كل الرسل من نوح إلى محمد (ص) {ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} الزمر 65.
  2. بر الوالدين: جاءت إلى نوح وإبراهيم وموسى.
  3. ولا تقتلوا أولادكم
  4. ولا تقربوا الفواحش اللواط جاء للوط، أضيف إليه الزنا عند موسى، وانتهى بالسحاق عند محمد (ص).
  5. قتل النفس: جاء لموسى.
  6. ولا تقربوا مال اليتيم
  7. وأوفوا الكيل والميزان
  8. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى
  9. وبعهد الله أوفوا
  10. اتباع هذه الوصايا كاملة غير منقوصة، وهذا هو الصراط المستقيم (الفرقان) الذي جاء إلى موسى، وهو الصراط المستقيم الذي جاء إلى محمد (ص) مع تعاليم إضافية فيها يعبد الله {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} يس 61.

فلننظر كيف جاءت الوصية في التنزيل الحكيم. فقد وردت في 32 موضعاً منه، في 21 آية:

– 132 البقرة / 13 الشورى / 144، 151، 152، 153 الأنعام / 11، 12، 131 النساء / 8 العنكبوت / 14 لقمان / 53 الذاريات / 15 الأحقاق / 31 مريم / 17 البلد / 106 المائدة / 3 العصر / 180، 182، 240 البقرة / 50 يس.

ونقف عند قوله تعالى:

  • {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132.

وتذكرنا خاتمة الآية بقوله تعالى:

  • {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102.

ونربط بين الآيتين، وبين قوله تعالى:

  • {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم …} الشورى 13.

ولنستنتج أن الوصايا هي الجزء الأساسي من الإسلام، وعلى رأسها التوحيد. وأن التقوى موجودة فيها، متحققة في الأخذ بها. ونفهم أن كل ما جاء تحت عنوان “اعبدوا الله” وتحت عنوان “اتقوا الله” هو من الوصايا، ولهذا أتبع البقرة 132 بقوله:

  • {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} البقرة 133.

إلا أن المتأمل في آيات الوصية، يجدها تنقسم إلى قسمين، قسم الفاعل الموصي فيها هو الله، وقسم آخر الفاعل الموصي هو العباد. فالله يوصي بالتوحيد وبالمثل العليا وبالتقوى وبالوالدين وبالصلاة والزكاة وبالأولاد.

أما العباد فقسمان، العباد المصطفون (أي الأنبياء والرسل)، وهم الذين نقلوا ما أوصى الله به إلى الناس، كالوصية بالتوحيد وبعبادة الله التي أوصى إبراهيم ويعقوب بينهم بها (البقرة 132). والقسم الثاني هو بقية العباد من الخلق، العاصين الذين يتواصون بتكذيب الرسل، والمطيعين الذين يتواصون بالرحمة والحق والصبر، والذي كتب الله عليهم الوصية في النساء 11، 12 وفي البقرة 180، 182، 240 وفي المائدة 106. وهذا القسم الأخير هو هدف بحثنا الآن.

يقول تعالى:

  • {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} البقرة 180. ونفهم أن الوصية التي كتبها الله على من يحضره الموت هي حق على المتقين.

وهذا منسوخ بزعمهم بآية الميراث وبمبدأ لا وصية لوارث.

  • {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم} البقرة 182. (الميل والإنحراف عن الحق = إثم أي بأن لا يوصي). المفسرون: إذا زاد عن الثلث.
  • {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف، والله عزيز حكيم} البقرة 240.

الوصية منسوخة بآية الميراث، وتربص الحول منسوخ بآية أربعة أشهر.

  • {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، من بعد وصية يوصي بها أو دين، آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً، فريضة من الله، إن الله كان عليماً حكيماً} النساء 11.

السيوطي: يوصيكم يأمركم. إذا اجتمعتا معه فلهما النصف وله النصف. وإن كانت واحدة فله الثلثان ولها الثلث، فإن كانتا اثنتين فللكل الثلث بموجب النساء 176. وألحق بالولد ولد الإبن والأب الجد.

  • {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم، من بعد وصية توصون بها أو دين، وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار، وصية من الله، والله عليم حليم} النساء 12.

وخصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق. انظر الأخوة والأخوات من الأم أو من الأب أو من كليهما ومشاكلها كثيرة.

  • {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت …} المائدة 106.

فإذا تأملنا في مفهوم الوصية في آيات الإرث نجد أنها أمر من الله يحمل صيغة التواصل. والوصايا أصلاً لا تكون إلا للأحياء. فالحي يوصي ويوصى. ووصايا رب العالمين جاءت للأحياء فقط وليس للأموات، لأن الأموات غير مطلوب منهم التوحيد وبر الوالدين والوفاء بالعقود والعهود وإقامة الكيل والميزان بالقسط، فهذا كله مطلوب من الأحياء فقط.

ونفهم أن الله سبحانه حين يوصينا في أولادنا بأن للذكر مثل حظ الأنثيين، فهي وصية من حي إلى أحياء، ومضمون الوصية يفترض أن يعمل به الأحياء الذين نزلت إليهم الوصية وليس للأموات، لسبب بسيط واضح، هو أن الأموات ليس لهم قيومية على ما لهم بعد الوفاة. لكننا رأينا فقه المواريث ينظر إلى مضمون الوصية في مطلع النساء 11، فيطبقها ويعمل بها بعد الوفاة!!

من هنا فنحن نتساءل: هل كان القصد من وصية {للذكر مثل حظ الأنثيين} هو الإرث والتركة كما ذهب الفقهاء؟ وهل لنا أن نسحب قوله تعالى: {.. فلهن ثلثا ما ترك …} على مطلع الآية؟

إننا نلاحظ أن التنزيل الحكيم يستخدم عدداً من المصطلحات في هذا الباب هي: الحظ والنصيب والتركة، ويضعها مرة تحت عنوان الفريضة ومرة تحت عنوان الوصية. ولا شك أبداً في أن الحظ شيء والنصيب شيء والتركة شيء ثالث، أي أن بينها فروقاً لا يمكن معها اعتبارها شيئاً واحداً.

يقول تعالى:

  • {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر، نصيباً مفروضا} النساء 7.

ونلاحظ هنا أمرين: الأول، أن الآية جاءت بعد آية تتحدث عن اليتامى القاصرين الذين لم يبلغوا أشدهم، وورثوا ما آل إليهم من تركة أبيهم. فجاءت هذه الآية تكمل الصورة، في بيان أن ثمة حصة للرجال والنساء الذين بلغوا أشدهم في ما يتركه الوالدان والأقربون، وأن هذه الحصة عطاء وفريضة وهبة. والثاني أن هذه الحصة (النصيب) جزء من تركة المتوفى.

ويقول تعالى:

  • {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين …} النساء 11.

ونقف عند قوله: {حظ} ونتتبع هذا اللفظ في التنزيل الحكيم، لنجده يتكرر سبع مرات في سبع آيات هي:

  • {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين …} النساء 11.
  • {.. وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين …} النساء 176.
  • {.. يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم} القصص 79.
  • {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} فصلت 35.
  • {يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، ولهم عذاب عظيم} آل عمران 176.
  • {.. يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به …} المائدة 13.
  • {.. أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به …} المائدة 14.

ويتضح أمامنا أن الحظ شيء لا علاقة له بالإرث ولا بالتركة، قد يقترب أحياناً في معناه من “القِسْم” كما في الآيتين الأخيرتين، لكن له عمومية نراها واضحة في الآيات تشمل: القسم من الوصية (النساء 11، 176) والغنى والثروة (القصص 79) والصبر والتقوى (فصلت 35) والحصة الكريمة من الثواب (آل عمران 76) القسم من الذكر (المائدة 13، 14).

أما النصيب الوارد في النساء 7، فهو نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، أي هو الحصة من التركة.

ونفهم من هذا كله، أنه سبحانه حين يوصينا في أولادنا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن طاعتنا تكون في تنفيذ وصيته هذه ونحن أحياء بكامل قوانا العقلية والبدنية. ونفهم أن قوله للذكر مثل حظ الأنثيين، هو الحد الذي لا يجوز أن نتجاوزه في تنفيذنا لهذه الوصية، وهذا يعني أن لنا أن نميز في الإنفاق ونحن أحياء على أولادنا ضمن حدود للذكر مثل حظ الأنثيين، أما بعد الوفاة وفي حالة {مما ترك الوالدان والأقربون} فيتم حساب التركة وتقسم بين الذكور والإناث بالتساوي.

ونفهم أخيراً أن استخدامنا لمعيار وضعه الله تعالى لنا في أمر دنيوي ونحن أحياء، كأساس لتوزيع التركة بموجبه بعد الممات، أمر غير صحيح. وأن كل توزيع للتركات تم حتى يومنا هذا، على أساس أن للذكر مثل حظ الأنثيين توزيع مغلوط، لم يطبق فيه حكم التنزيل الحكيم.

فإذا سأل سائل: وكيف عرفت أن حكم التنزيل هو تقسيم التركة بالتساوي بين الذكور والإناث. أقول: من قراءة قوله تعالى:

  • {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، يبين الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء عليم} النساء 176.

ونلاحظ أن الآية هي آخر آية في سورة النساء، ويقول البراء بن عازب إنها آخر آية نزلت في الفرائض. ونلاحظ أنها الآية الوحيدة من آيات الإرث التي نص تعالى فيها صراحة على أن للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو أن مبدأ “للذكر مثل حظ الأنثيين” هو المقصود اعتماداً وتطبيقاً في التركة بجميع حالاتها لما ذكرها هنا في الكلالة حصراً.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن مبدأ “للذكر مثل حظ الأنثيين” الوارد في مطلع آية النساء 11، لا علاقة له بتركة ولا بإرث، فهمنا أن القسمة في التركة بين الأولاد متساوية في الأصل، الذكر كالأنثى. لأنه في حالة وجود ولد للمتوفى، عامل الأب كالأم بالتساوي، وفي حال عدم وجود الولد أعطى للأب ضعف الأم كحدود.

نعود إلى النساء 11، لننظر لفي تتمة الآية المتعلقة بالتركة والإرث: {.. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف..}. ونلاحظ أن آية الكلالة، تقر مبدأ “للذكر مثل حظ الأنثيين” في حالة كان إخوة المتوفى رجالاً ونساء. أما في النساء 11 فالحديث عن المتوفى الذي يترك وراءه أولاداً نساء. أي أن هذا التقسيم {ثلثا ما ترك} و {النصف} يخص حالة المتوفى عن أولاد إناث نساء.

  • فإن كن نساء.
  • العدد اثنتان.
  • العدد فوق اثنتين والقسمة ثلثا ما ترك.
  • العدد واحدة والقسمة نصف ما ترك.

وتواجهنا أسئلة هي:

  1. من يأخذ الثلث من التركة، في حالة “نساء فوق اثنتين”؟
  2. من يأخذ النصف بالثاني في حالة “إن كانت واحدة”؟
  3. كيف نقسم التركة في حالة “كانتا اثنتين”، وهي حالة غير منصوص عنها في هذه الآية؟

لقد أجاب الفقهاء على السؤال الثلث، اتكاء على ما ورد في آية الكلالة “فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك”!!

ونحن نسأل هي يجوز تطبيق قسمة وردت في حالة عدم وجود أولاد، وتخص الأختين، على حالة يوجد فيها أولاد نساء، وتخص الإبنتين؟ وهل المهم هو إيجاد عدد {اثنتين}، أينما وقع، ومهما كانت الحالة، لا فرق إن كانتا ابنتين أو أختين؟

ونرى أنه لو كان المقصود هو ما ذهب إليه الفقهاء، لما كان عسيراً عليه سبحانه أن يقول “فإن كن نساء فوق واحدة فلهن ثلثا ما ترك”، لكنه سبحانه قال: {.. فإن كن نساء فوق اثنتين …} وهو يعني بوضوح أن ثمة حالات يكون فيها للمتوفى ابنتان امرأتان لا تأخذان ثلثي ما ترك، فإذا تبين لنا إمكان وجود حالات من هذا النوع، وضحت لنا الدقة المتناهية في التنزيل الحكيم التي لا تفوقها دقة في الكون، وثبت لدينا أن حالة الابنتين غير حالة الأختين. ولكي نفهم ذلك لا بد من الحديث عن مفهوم المجموعات والزمر، وعن المنتمي واللامنتمي، في الرياضيات الحديثة.

لدينا مجموعة A، تتألف من عناصر متجانسة في التعريف، ولدينا مجموعة B، تتألف من عناصر متجانسة في التعريف، لكن هذا التعريف لا ينطبق على كل عناصر المجموعة A، بل ينطبق على جزء منها فقط. وهذا يعني أن:

كل عناصر المجموعة B موجودة حكماً ضمن المجموعة A، وتشكل جزءاً منها بالضرورة (زمرة)، لكن العكس غير صحيح، فعناصر المجموعة A غير موجودة ضمن المجموعة B. أي أن المجموعة A تتألف من زمرتين: الزمرة C والزمرة D.

مجموعة B (تنتمي) إلى المجموعة A

زمرة C في مجموعة A (تنتمي) إلى المجموعة B

زمرة D في مجموعة A (لا تنتمي) إلى المجموعة B

وفي حالتنا هذه، المجموعة A هي الإناث جمع أنثى، وتعني الجنس الذي يتحدد لحظة لقاح الحيوان المنوي للبويضة، بغض لنظر عن العمر أكان يوماً واحداً أم ستين سنة، وبغض النظر عن الوضع الإجتماعي عازبة كانت أم متزوجة. فالتنزيل الحكيم حين يذكر الذكور والإناث، فهو يعني الجنس، كما في قوله تعالى:

  • {لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكراناً وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير} الشورى 49، 50.
  • {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} النحل 58.

أما بعد أن تبلغ الأنثى سن النضوج الجنسي، فتدخل في المجموعة B، بالإضافة إلى وجودها في المجموعة A. أي تدخل في الزمرة C من المجموعة A. أي أنها أنثى (المجموعة A) + امرأة ناضجة (المجموعة B التي هي الزمرة C من المجموعة A). وينتج لدينا أن: كل امرأة أنثى، لكن العكس غير صحيح، فليست كل أنثى امرأة.

ونفتح التنزيل الحكيم، فنراه استعمل لفظ النساء (جمع امرأة) للدلالة على الإناث الناضجات جنسياً، عازبة كانت أم متزوجة، ففي حالة العازبة قال تعالى:

  • {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع …} النساء 3.

ولو كانت النساء هنا جمع أنثى، لأمكن نكاح التي عمرها شهر واحد، وهذا محال. أما في حالة المرأة المتزوجة، فقد قال تعالى:

  • {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء …} الطلاق 1.

وهل تطلق إلا المرأة المتزوجة التي مورس معها النكاح؟ وهل يمكن أن تتزوج الأنثى بعمر شهر مثلاً ثم تطلق؟

وعن الصداق قال تعالى:

  • {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة …} النساء 4.

وعن حقوق الزوجة قال تعالى:

  • {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها …} النساء 19.

وعن علاقة بني إسرائيل بفرعون قال لهم تعالى:

  • {.. يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} الأعراف 141.

أي أن الفراعنة كانوا يقتلون الأولاد الذكور ويبقون على الإناث، حتى إذا بلغن مبلغ النساء استحيوهن.

من هنا نفهم أن الآية 3 من سورة النساء، تحكي عن التعددية الزوجية، وتشترط أن تكون الزوجة الثانية أرملة عندها أيتام، فالشرط وجوابه واضحان في الآية.

أما ما يقوله البعض من أن “يتامى النساء” تعني “اليتامى من النساء” أو “النساء اليتيمات” فأمر يبعث العجب والضحك في آن واحد. يقول تعالى:

  • {ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط، وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} النساء 127.

لقد قلنا إن النساء هنا جمع امرأة، والمرأة هي الأنثى الناضجة جنسياً، عازبة كانت أم متزوجة، بغض النظر عن العمر، وهذا يخرجها من دائرة اليتيم التي شرحها تعالى بقوله:

  • {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم …} النساء 6.

يحدد تعالى في هذه الآية حدود نهاية دائرة اليتيم، بأنها بلوغ النكاح، فالقاصر اليتيم الذي يبلغ النكاح والرشد يمكنه أن يتصرف في أمواله، فلا يعود يتيما. من هنا نفهم أنه لا وجود شيء اسمه نساء يتيمات”، وإلا اقتضى ذلك وجود رجال أيتام، ولسملت حالة معظم أهل الأرض.

نحن لا نعجب من أن يذهب الإمام السيوطي في تفسيره، نقلاً عمن سبقه، إلى أن يتامى النساء تعني النساء اليتيمات، فيصبح لزاماً عليه أن يوظف الآية في باب الإرث، لافتقار أرضيته العلمية آنذاك إلى علم المجموعات والزمر الذي أشرنا إليه من جهة، ولنظرته التقديسية إلى ما قاله السلف بغض النظر عن خطئه وصوابه من جهة أخرى، ولكننا نعجب ونضحك في آن واحد، من أن يعتمد هذا الفهم في عصرنا هذا، مؤلف يزعم أنه من أساطين القانون والتشريع واللغة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

نعود إلى قوله تعالى: {.. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف}.

بعد أن أوضحنا:

1 – أن مبدأ “للذكر مثل حظ الأنثيين” وصية نطبقها ونحن أحياء على أولادنا في الحياة الدنيا. أما بعد الممات فهي تركة تقسم مرة واحدة بالتساوي الذكر كالأنثى، عدا الحالات الاستثنائية التي ذكرها تعالى.

2 – الآية تحكي عن حالة استثنائية، تقسم فيها تركة المتوفى بين أولاده الإناث.

لقد تساءلنا: فلمن يذهب الثلث الثالث والنصف الباقي؟. ورأينا الفقهاء يعطونها للأقارب، حين اعتبروا الأنثى امرأة والإمرأة أنثى. ولكننا لو فرقنا بينهما في ضوء ما أسلفنا، لوضح لنا ما أراده تعالى بقوله، ولزال الالتباس.

تعالوا مرة أخرى ننظر في قوله تعالى: {.. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك..}. نجد أنه يتحدث عن التأنيث في فعل {كن} وعن التأنيث في لفظة {اثنتين} وعن التأنيث في {فلهن} فما فائدة قوله: {نساء} إن كان القصد هو التأنيث فقط؟ ألا تصبح اللفظة هنا حشواً لا لزوم له مع هذا الحشد من أدلة التأنيث قبلها وبعدها؟ إذا اعتبرنا أن النساء هن الإناث، ألا يمكن في ضوء ذلك حذف كلمة النساء دون أن ينقص المعنى شعرة واحدة؟

أما حين نفهم أن النساء تعني الإناث البالغات سن النكاح، هنا يصبح للكلمة دور لا يصح المعنى بدونه، يعطي شرطاً إضافياً يجب أن تتمتع به الإناث ليصح استحقاقهن للنصيب الوارد في الآية، وهو بلوغ سن الرشد. ونفهم من هذا أن التنزيل الحكيم ميز بدقة في حالة الإناث بين البالغ والقاصر، هنا يتبين لنا أين يذهب الثلث الثالث والنصف الثاني. ويتبين لنا لماذا بدأ الآية 13 من النساء بقوله: {تلك حدود الله …} بعد أن شرح في الآيتين 11 و12 ما شاء من حالات، وبين لكل حالة ما شاء من أنصبة في حدودها العليا. أي أنه إذا ترك المتوفى إناثاً نساء فوق اثنتين (3، 4، 5، 6 …) فلا يجوز لهن أكثر من ثلثي التركة في حال وجود أنثى قاصرة.

البنات بغض النظر عن العمر

إناث قاصرات

إناث بالغات

النصيب من الإرث أو التركة

1

تأخذ كل التركة

2

1

1

تأخذان التركة مناصفة بالتساوي {.. وإن كانت واحدة فلها النصف..}

2

2

2

2

3

3

بالتساوي لعدم وجود بالغات نساء.

3

3

بالتساوي لعدم وجود إناث قاصرات.

3

1

2

للقاصر النصف، ولكل من البالغتين الربع. {.. وإن كانت واحدة فلها النصف..}

3

2

1

بالتساوي، لأ القاصرتين أخذتا الثلثين، وبقي للبالغ الثلث.

4

4

بالتساوي، لكل أنثى قاصر الربع.

4

4

بالتساوي، لكل امرأة بالغة الربع.

4

2

2

بالتساوي، فحصة البالغتين لم تزد بمجموعها عن النصف (حدود).

4

3

1

بالتساوي، فحصة البالغ لم تزد عن الربع.

4

1

3

للقاصر الثلث، ويقسم الثلثان على البالغات الثلاث(1).

5

5

بالتساوي لكل واحدة الخمس

5

5

5

4

1

5

1

4

القاصر الثلث، والثلثان للبالغات الأربع (تمييز العناصر) وحد حصة البالغات بحيث لا تزيد عن الثلثين بأي حال.

5

2

3

بالتساوي، فحصة البالغات 3/5 أو 60% وهي أقل من 2/3 أو 66.6%.

5

3

2

بالتساوي، فحصة البالغين 2/5 وهي أقل من 2/3.

6

6

بالتساوي، لكل واحدة السدس.

6

6

بالتساوي، لكل واحدة السدس.

6

1

5

للقاصر الثلث، والثلثان للبالغات الخمس.

6

5

1

بالتساوي، فحصة البالغة السدس.

6

3

3

بالتساوي، فحصص البالغات 3/6 وهي أقل من 2/3.

6

2

4

بالتساوي، فحصص البالغات 4/6 أي 2/3 وهو الحد الأعلى.

6

4

2

بالتساوي، فحصتا البالغتين 2/6 وهي أقل من 2/3.

ونلاحظ الملاحظات التالية:

1 – إننا لا نحتاج إلى إنقاص حصة البالغات إلا إذا كن فوق اثنتين.

2 – في حالة اثنتين بالغتين (نساء) مع وجود قاصر واحدة, فحصتهما النصف, وهي أقل من الثلثين بالضرورة في حال التوزيع بالتساوي.

3 – إن التنزيل الحكيم ميز القاصر عن البالغ, في وجود عدد كبير من البالغات, وعدد صغير من القاصرات.

4 – يتم تطبيق الحد الأعلى الوارد في قولة تعالى {فلهن ثلثا ما ترك} في حال:

4 = 1 قاصر + 3 بالغات نساء

5 = 1 قاصر + 4 بالغات نساء

6 = 1 قاصر + 5 بالغات نساء

7 = 1 قاصر + 6 بالغات نساء

7 = 2 قاصر + 5 بالغات نساء

8 = 1 قاصر + 7 بالغات نساء

8 = 2 قاصر + 6 بالغات نساء

9 = 1 قاصر + 8 بالغات نساء

9 = 2 قاصر + 7 بالغات نساء

10= 1 قاصر + 9 بالغات نساء

10= 2 قاصر + 8 بالغات نساء

10= 3 قاصرات + 7 بالغات نساء

وهكذا دواليك .. أما بقية الحالات فالتوزيع بالتساوي، وهذا يعني أن من أنجب أولاداً إناثاً، ترثه بناته، وليس للأعمام أو الأخوال شيء.

لقد رأينا وسمعنا كيف أعطى الفقهاء، نصف التركة لإبنه المتوفى الوحيدة ووزعوا الباقي على أعمامها. وكيف أعطوا ثلثي التركة لإبنتي المتوفى، ووزعوا الثلث الثالث على الأقارب.

ونحن لسنا بصدد تفصيل أنصبة الإرث كما نراها من واقع التنزيل الحكيم، فلهذا موضع آخر، ودراسة مستفيضة، هي قيد الإتمام، لكننا نشير إلى أنه سبحانه قال في سياق آيات الإرث من سورة النساء:

“يرجى مراجعة قسم الوصية والميراث في كتاب فقه المرأة”

  • {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيرا} النساء 10.

ونشير إلى ما وجدناه في آيات التنزيل الحكيم واضحاً، فهو لا يذكر الإخوة (إخوة المتوفى) إلا في حال عدم وجود أولاد (ذكور وإناث) بتاتاً. كما وجدنا أن الوارثين هم دائماً:

  1. الأولاد، ذكور أم إناثاً، أم ذكوراً وإناثاً، بغض النظر عن العدد.
  2. الآباء، وهذا يشمل الجد صعوداً.
  3. الأبناء، وهذا يشمل الحفيد نزولاً.
  4. الزوج (الزوج والزوجة).

ولم نجد ذكراً لآخرين البتة إلا في حال عدم وجود أولاد، أما مع وجود أولاد ذكور أو إناث مهما كان العدد، قاصرين أو بالغين، فلا طريق البتة لأي شخص آخر غير من ذكر أعلاه.

استكمالاً للقول في الوصية، الذي بسطناه في الصفحات السابقة، فقد لاحظنا ورود هذا اللفظ في قوله تعالى:

  • {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف، والله عزيز حكيم} البقرة 240.

إلا أننا لاحظنا أيضاً، إن القائلين بالنسخ اعتبروا الآية منسوخة، نسختها الآية 234 من سورة البقرة، وهي قوله تعالى:

  • {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والله بما تعملون خبير} البقرة 234.

ونحن نرى أنه لا ناسخ ولا منسوخ ضمن أحكام الشريعة الواحدة، بل يقع النسخ بين الشرائع المتوالية المتعاقبة، فالمسيح جاء ليحل بعض ما حرم على بني إسرائيل في رسالة موسى. وانطلاقاً من هذه الرؤية، فإننا نجد أن للآية المنسوخة حقلاً ومجالاً يختلف عن حقل ومجال الآية الناسخة، مما يجعل القول بالنسخ لا محل له. أضف إلى أنه لا يعقل أن تنسخ آية سابقة آية لاحقة.

تتحدث الآية 234 عن عدة المرأة التي يتوفى عنها زوجها، فتحددها بأربعة أشهر وعشر ليال. وهي آية عامة تنظم سلوك النساء الأرامل، فلا خطبة ولا زواج ولا حتى عزم أو نية على زواج، قبل انتهاء فترة العدة المحددة. وقد تتدخل الأعراف الاجتماعية، فتضيف شروطاً على المرأة في فترة عدتها، كأن تلبس كذا، وأن لا تفعل كذا، إنما يبقى ذلك عرفاً اجتماعياً، تتعرض مخالفته للنقد فقط، ولا علاقة له البتة بالحلال والحرام.

أما الآية 240، المزعوم نسخها، فهي تتحدث عن وصية يوصي بها المتوفى لزوجته من بعده بنفقة وكسوة لمدة عام كامل، طالما هي لم تخرج من مسكنها. فإن خرجت فلا نفقة ولا كسوة ولا وصية. وتصبح خاضعة لأحكام الآية 234 في فترة العدة المحددة.

ونفهم أن الآية تعطي الحق للزوج المتوفى، بأن يوصي لزوجته، إضافة إلى نصيبها من الإرث، بنفقة وكسوة حول كامل، مشروطة بما ذكرت الآية. وكذلك إذا أخذنا موضوع الكلالة، الوارد في الآية 12 من سورة النساء، وهو الكلالة المتزوج أو المتزوجة ولكن بدون آباء وأبناء، فنرى أن الزوجة في هذه الحالة تأخذ ¼ (25%) من التركة والأخوة جميعاً يأخذون 1/3 (33.3%) من التركة، ففي هذه الحالة المجموع هو ¼+1/3=7/12 أو 58.3%.

لذا قال: {غير مضار} أي عليه أن يعطي الاخوة 1/3، ولكن هذه الوصية تجعل من عدة الزوجة سنة كاملة شمسية عوضاً عن أربع أشهر وعشرة أيام، فإذا تزوجت خلال هذه السنة فتسقط الوصية. هنا نلاحظ كيف أمر الله سبحانه وتعالى الزوج الوحيد أن يبر ويعتني بزوجته الوحيدة حتى بعد وفاته وذلك بإعطائها قيمة أكبر من حصتها الواردة في الآية وهذا أيضاً يؤكد طرحنا حول نظرية الحدود في الإرث.

في حقيقة الأمر، إن النسخ في زعم القائلين به أتى من القول الفقهي “لا وصية لوارث”. علماً بأن هذا القول ليس من التنزيل الحكيم وليس أكثر من حديث منقطع.

والموضوع كما نراه أكبر من مجرد نصيب في إرث، وأكبر من نفقة أو كسوة أو مسكن. نحن نرى في الموضوع خرقاً لحرية الإنسان، وإنكاراً لحقه في التصرف والاختيار.

لقد حفظ التنزيل الحكيم للإنسان حريته من أول آية فيه إلى آخر آية، واحترم اختياره وإرادته، حتى في مجال الكفر والإيمان، وأعطاه الحق في أن يسلك أي سبيل يراه، على أن يستعد للسؤال والجواب والثواب والعقاب يوم الحساب. فهل يعقل أن يقول الرسول الأعظم، وهو نعم ناقل وحامل لهذا التنزيل، ما يمس هذه الحرية، وهذا الاختيار؟

المشكلة ليست أبداً فيما قاله الرسول الأعظم، عليه أفضل الصلاة، وليست أبداً فيما نقل عنه وأثر، بل هي فينا نحن، وفي فهمنا وتوظيفنا لهذا القول والنقل، وإعطائه صيغة المطلق.

جاءت الموعظة من فعل وعظ. والوعظ هو التخويف، والعظة الاسم منه. قال الخليل هو التذكير بالخير وما يرق له قلبه.

ولقد ورد اللفظ بمختلف اشتقاقاته في التنزيل الحكيم 25 مرة، نستعرضها في آياته تعالى:

– البقرة 231، 232، 66، 275. آل عمران 138. المائدة 46. النساء 58، 63، 34، 66. الأعراف 164، 145. يونس 57. هود 46، 120. النحل 90، 125 17، 24. الشعراء 136. لقمان 13. سبأ 46. المجادلة 3. الطلاق 2.

ونحن نرى أن الموعظة هي التخويف والإنذار وهي التذكير بالخير وما يرق له القلب. أما الشق الثاني، شق التذكير بالخير، فقد ورد في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة …} النحل 125، وفي قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون} النحل 90. وفي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيرا} النساء 58.

وأما الشق الأول، شق التخويف والإنذار، فقد ورد في قوله تعالى: {وكلاً نقص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} هو 120. فإذا تصفحنا سورة هود، المشار إليها بكلمة {هذه} في الآية، وجدناها تتحدث عن القصص التاريخي، وكيف أهلك الله قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط، فجاء وصفها بالموعظة مطابقاً لما فيها من تذكير وإنذار، ومن هنا نقول إن التاريخ أكبر واعظ للإنسان، وأكبر معلم للخير والشر على حد سواء، باعتباره تراكم خبرات الشعوب السابقة.

وورد التذكير والإنذار في قوله تعالى حين قال نوح لقومه {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} فأجابه قومه {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين} الشعراء 135، 136. وورد أيضاً بهذا المعنى في قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، ما بصاحبكم من جنة، إن هو إلا نذير لكم مبين يدي عذاب شديد} سبأ 46.

ولكي يبين سبحانه أن المواعظ كلها تدخل في الإسلام، فقد قال عز من قائل:

  • {وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله …} لقمان 13.
  • {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين} النور 17.

فرأس الوعظ عند لقمان في الآية الأولى، الإيمان بوحدانية الله وترك الشرك به، والعظة في الآية الثانية تنبع أيضاً من الإيمان {إن كنتم مؤمنين}، فتنذر وتخوف من يعود من المؤمنين إلى قذف المحصنات المؤمنات العاقلات عشوائياً دون تقديم أربعة شهداء.

وتمضي الآيات متنقلة بين العظة الحسنة الإيجابية، كما في قوله تعالى: {.. واللاتي تخافون نشورهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع …} النساء 34. وبين العظة المنذرة السلبية كما في قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر …} البقرة 232.

لكنه سبحانه يبين أن المواعظ من الإسلام، فيقول {وكتبا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء …} الأعراف 145، ونفهم أن الموعظة جاءت من الإسلام لما قبل محمد (ص)، وجاءت من الإسلام لمحمد وأتباعه في قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} يونس 57.

كما جاءت من قبله لعيسى مصدقة لما جاء لموسى في قوله تعالى: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} المائدة 46.

(1) “دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع” دار الأهالي – دمشق 1994، ص301-309.

(2) هنا نلاحظ أن حصة النساء البالغات لا تنقص عن القسمة المتساوية إلا إذا كان عددهن فوق اثنتين، لأنه لو تم التوزيع بالتساوي لأخذت البالغ الربع فيصبح المجموع 4/3 وهو أكبر من 3/2 الحد الأعلى الذي نصت عليه الآية.

اترك تعليقاً