تسببت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 بهزة عنيفة في نظرة كثير من الناس في العالم للإسلام كدين، مع أن الذي دفع إلى هذه الأحداث هو الإسلام كثقافة موروثة صنعها البشر ابتداء من عصر التدوين. لذا فإنني وضعت عنوان كتابي هذا (تجفيف منابع الإرهاب).

فالثقافة الإسلامية الموروثة ربطت بين القتال والقتل والغزو والشهادة والشهيد، وكذلك قللت من قيمة الحياة والحرص عليها وطلبت ممن يحب الحياة ويكره الموت أن يشعر بالذنب، وأن الذي يُقتل في سبيل الله سيدخل الجنة مباشرة بدون انتظار. وشجع الناس على الموت، ورُبطت الشهادة بالموت بالمعركة. وكذلك الفقه الإسلامي الموروث لم ينبس بكلمة عن احترام حرية الناس في اختيار عقائدهم وشعائرهم وحرية الكلمة وحرية الضمير حيث بدأ هذا الفقه في عصر الاستبداد ابتداء من نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فكان لا مجال إطلاقاً – إرضاء للسلطة – الفصل بين الشهادة والموت والقتال وحرية الناس في اختيار عقائدهم، فتم ترسيخ قتل المرتد وجعله من ثوابت الدين الإسلامي وطاعة السلطان وإن كان ظالماً هو من طاعة الله ورسوله.

وكذلك كانت الحروب على أساس أممي (أمة إسلامية / أمة الكفر) و (دار الإسلام / دار الكفر) مع أن الهدف الأساسي – ابتداء من العصر الأموي – هو الفتوحات لكسب وجمع الجزية وإبعاد المعارضة.

وسار التاريخ وأتى عصر جديد صارت فيه الحروب لكسب المصالح وللاحتلال وللدفاع عن المصالح، أي أصبحت الحروب بين مجموعات من الناس تعيش في دول، وهذه المجموعات هي الشعوب. فتحولت الحرب من أساس أممي إلى أساس وطني ومصلحي، وبقي التقسيم السابق على ما هو عليه.

إن مفهوم الوسطية والمناداة بها كشعار إسلامي ما هو إلا تخريجة للخروج من مأزق أحداث سبتمبر وما تلاها، شأنها شأن كثير من التخريجات خلال تاريخنا الطويل كتخريجات فقه الأقليات وفقه الأولويات، حيث لم يتقنها أحد كما أتقنها علماؤنا الأفاضل، فاخترعوا الناسخ والمنسوخ لتلافي التضاد الظاهري بين بعض الآيات وخاصة لحل التناقض بين آيات القتال، وخاصة في سورة التوبة وبقية آيات القتال، وبين آيات {لا إكراه في الدين} و {وقل الحق من ربكم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} و {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} وبهذا أصبحت الثقافة الإسلامية انتقائية، فمن يريد القتال يورد آيات القتال، ومن يريد السلم يورد آيات السلم. وقد تم حل هذه المشكلة في كتابنا هذا دون اللجوء إلى الناسخ والمنسوخ. وكذلك لجأ الدعاة إلى استعمال مصطلح (مقاصد الشريعة) لتبرير كثير من الأمور والإفتاءات تحت هذا الشعار.

كتابنا هذا يتألف من المواضيع التالية:

1 – الجهاد والقتال: حيث تم الفصل بين هذين الموضوعين، وتم تبيان أن هناك جهاداً وقتالاً في سبيل الله، وآخر ليس في سبيل الله وقد يكون مشروعاً. وتم تحديد تعريف الإرهاب على أنه عندما يتحول القتال إلى قتل من طرف واحد. وأوضحنا أن الشهادة والشهيد لا علاقة لهما بالموت والقتال والقتل. وأن الشهيد لا يمكن أن يأخذ هذا اللقب إلا وهو على قيد الحياة، ولا يوجد شيء اسمه عمليات استشهادية، بل هي عمليات انتحارية بامتياز.

2 – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تم شرح أن المحرمات هي حصراً ما ورد في كتاب الله. وأن ما ورد عن النبي (ص) هو نهي وليس تحريماً. وقد فرقنا بين الحرام حيث هو شمولي أبدي وهو إلهي حصراً، وبين النهي وهو ظرفي. فالله سبحانه يحلل ويحرم ويأمر وينهى، والرسول (ص) يأمر وينهى فقط، وكذلك السلطة تأمر وتنهى فقط. وحددنا أن هيئات المجتمع المدني تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لا يحتوي على أي إكراه، والدولة تمنع لأن الأساس في الحياة هو السماح. فالطبيب ينهى عن التدخين، والسلطة تمنع التدخين في الأماكن العامة. أما من يفتي بأن التدخين حرام فهو لا يدري بأنه سنّ بهذا أمراً إلى أن تقوم الساعة وينطبق على كل سكان الأرض. ومن يملك الحق بذلك هو الله وحده سبحانه. فكل إفتاءات التحريم خارج التنزيل الحكيم التي وردت خلال تاريخنا باطلة ويجب أن نرمي بها عرض الحائط.

وبما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحمل الإكراه، فإن مؤسسات المجتمع المدني هي خير من يمارس هذا الأمر وهو ليس وقفاً على أتباع الرسالة المحمدية، ويمكن أن يتوسع ليشمل كل أبناء الوطن حيث أن ممارسة الشعائر لا تدخل أصلاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 – الولاء والبراء: تم وضع هذا المفهوم طبقاً للتقسيم الأممي (أمة الإسلام / أمة الكفر)، فأصبح المسلم في حيرة من أمره في الولاء والبراء: هل هو لبلده وشعبه؟ أم هو لأمته؟ فالباكستاني المسلم الحاصل على الجنسية البريطانية، قوميته باكستاني وهو من أمة محمد (ص) وهو مواطن بريطاني أي هو فرد من الشعب البريطاني. فهل ولاؤه لقوميته؟ أم لأمته؟ أم لشعبه ودولته؟ هذه الناحية أوقعت الحيرة بين المسلمين المؤمنين أينما عاشوا أكثرية كانوا أم أقلية.

وكذلك مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل هو للفرد أم للمجتمع أم للدولة؟ وما دور كل طرف في ممارسة هذا الأمر؟ وماهي أحسن صيغة توصل إليها الإنسان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بها جاء من الله سبحانه؟ ولم يتم تحديد آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي تتبع ما توصل إليه الإنسان من تطوير آليات الممارسة. وكذلك الشورى جاءت كأمر، علينا أن نؤمن به، ولكن لم يتم تحديد آليات الممارسة لأنها تخضع للتطور التاريخي للمجتمعات والنظم السياسية.

4 – مسألة الردة: حيث تم ترسيخ حكم الإعدام للمرتد، وهو لا علاقة له بالتنزيل الحكيم وهو لأسباب سياسية بحتة هدفها القضاء على المعارضة في دولة تحكم باسم الدين وتأخذ شرعيتها منه.

5 – وكذلك تم التعليق على مقاصد الشريعة كما وردت في التراث، وأوردنا مفاهيم جديدة لهذه المقاصد كما نراها من خلال منهجنا.

يبقى السؤال الهام: لماذا هذا العنوان (تجفيف منابع الاستبداد والإرهاب في الثقافة الإسلامية)؟

انتقينا هذا العنوان لقناعتنا بأن الحل الأمني في معالجة ظاهرة الإرهاب المنتشرة في العالم لا يكفي، وإنما هي مرتبطة بأمرين اثنين وهما:

آ – الثقافة المنتشرة في مجتمع ما، والثقافة المنتشرة في وعينا الجمعي هي الثقافة الإسلامية الموروثة. لذا استعملت مصطلح الثقافة الإسلامية، ولم أستعمل مصطلح الدين الإسلامي والمفاهيم الثقافية مثل الولاء والبراء وغيره.

ب – الاستبداد حيث من طبيعته إرهاب الناس واحتقارهم وعدم احترام خياراتهم، لذا لابد من ربط هاتين الظاهرتين، الثقافة السائدة والنظام السائد. علماً بأن لكل ظاهرة منهما رجالها وسدنتها.

رُبّ سائل يسأل: بما أنك تستعمل التنزيل الحكيم كمرجع، فهل مصطلح الإرهاب الشائع حالياً في العالم، والذي هو ترجمة كلمة (Terror) بالإنكليزية له وجود في التنزيل الحكيم؟ أقول: نعم له وجود، ولكن ليس بهذا المعنى. ففي التنزيل الحكيم يوجد مصطلحان وهما: الإرهاب، من فعل (رهب)، والإرعاب من فعل (رعب)، فما معناهما؟ وما الفروق بينهما؟

1 – فعل رهب: تقول رهِبْت الشيءَ رُهْباً ورَهَباً ورَهْبَة. والترهّب: التعبّد. ومن الباب الإِرهاب، وهو قَدْع الإِبل من الحوض (ابن فارس ج2 ص447).

2 – فعل رعب: وله أصولٌ ثلاثة صحيحة: الخوف ومنه جاء الرّعْب، والثاني المَلْء كقولهم: سيلٌ راعبٌ، إذا مَلأَ الواديَ، والقَطْع كقولهم للشّيء المقَطّع: مُرَعّب. (ابن فارس ج2 ص409).

وإذا استعرضنا آيات التنزيل الحكيم نرى أن فعل (رهب) ورد مع مشتقاته (12) مرة، وفي كل الآيات التي ورد فيها لا يوجد فيها قتال ولا قتل، وأمثلة ذلك قوله تعالى:

{وَقَالَ اللّهُ لَا تَتّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} النحل 51.

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} الأعراف 116.

نلاحظ أنه سبحانه وتعالى طلب من الموحدين أن يكون لله رهبة عندهم بأنه القادر على كل شيء والرحيم. ولا يوجد أي معنى للقتال أو الحرب، وكذلك السحرة زرعوا الرهبة في قلوب المشاهدين لهم، ولم يمارسوا أي قتال أو قتل. وكذلك يدعو الناس الله رغبةً في رحمته ورهبة من عقابه، ولا مجال هنا لوجود أي قتال كقوله تعالى: {إِنّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} الأنبياء 90، وكذلك قوله تعالى: {اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ} التوبة 31، فالرهبان والرهبانية لا يمكن أن تحوي على حرب أو قتل أو قتال. لذا عندما قال تعالى: {وَأَعِدّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} الأنفال 60، جاءت هذه الآية لإعداد العدة لمنع الحرب والقتال والحفاظ على السلم، وهو ما يسمى الآن بالقوة الرادعة. فالأسلحة النووية منعت حرباً عالميةً مدمرة. وكلما كنت قوياً وتملك قوة ردع، زرعت الرهبة في قلوب أعدائك، فلا يهددونك بحرب وقتال. فهنا القوة الرادعة لإرهاب الآخر وليس للمغامرة بحروب. وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} فإن كل دولة تعد القوة لردع أعداء معلنين لها، ولكن لها أيضاً أعداء غير معلنين يظهرون لها الود والصداقة ويضمرون لها العداء والتحالف مع أعدائها. لذا فإن إعداد القوة الرادعة يردع هؤلاء حين يتحالفون مع أعدائها للهجوم عليها.

وهكذا نرى أن الرهبة والرهبانية هي من مفردات التنزيل الحكيم ومن اشتقاقاتها الإرهاب وهي لا تعني إطلاقاً الحرب والقتال ومعانيها ليست في هذا المجال.

أما في حال الحرب والقتال، فقد استعمل التنزيل الحكيم مصطلح (الرعب) ونرى أن مصطلح الرعب هو الترجمة الحرفية للمصطلح الإنكليزي (Terror) ومنه الإرعاب (Terrorism) والمرعّب (Terrorist).

ونرى أن التنزيل الحكيم استعمل هذا المصطلح في مواقع منها:

1 – {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ….. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الأنفال 12.

2 – {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ….. {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} الأحزاب 26.

3 – {فَأَتَاهُمْ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الحشر 2. هنا انتهت الآية بقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} لبيان أن الأحداث التي تعطيها هذه الآيات في سورة الحشر تتبع القصص المحمدي، وتؤخذ منها العبرة كبقية القَصص ولا يوجد فيها أحكام.

وكذلك أي منظر تقشعر منه الأبدان نتيجة لعنف أو لظاهرة طبيعية مخيفة يلقي الرعب عندما يشاهده الإنسان أو يعلم به وفي هذا قال تعالى: {لَوْ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} الكهف 18. وقد يسأل سائل ما هو الرعب الذي يولده منظر الفتية وهم في الكهف في قوله تعالى {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} الكهف 11، أي كانوا كالنائم ولا ينطبق عليهم قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ} البقرة 259، أي لم يموتوا، وبالتالي على مر السنين نمت شعورهم وأظافرهم حتى أصبحوا في منظر مرعب والله أعلم.

والطغيان والطاغوت أيضاً ورد في التنزيل الحكيم وهو ضد حرية الاختيار حيث ذكر الطاغوت، وقال {لا إكراه في الدين}. ومصطلح الاستبداد غير موجود في التنزيل الحكيم.

ولو أننا أردنا أن نضع عنواناً لكتابنا حسب مصطلحات التنزيل الحكيم لكان عنوانه: {نحو تجفيف منابع الطغيان والإرعاب في الثقافة الإسلامية).

ولكن سنبقي على مصطلح (الاستبداد والإرهاب) لتعوّد القارئ على هذين المصطلحين الشائعين. فالمستبد هو الطاغية، والإرهابي هو المُرَعّب، أي الذي يقوم بعمليات قتل من طرف واحد ترعب الناس. ومن صفاته أنه يقتل أناساً مع سبق الإصرار وهدفه قتل أكبر عدد ممكن من طرف لا على التعيين غير مقاتل، وبث الرعب في الأحياء بغض النظر عن النية.

 

اترك تعليقاً