بعد هذا العرض للقراءة المعاصرة للإسلام والذي اصطبر القارئ عليه مشكوراً ظهر لنا جلياً الأمور التالية:

1 – دقة المصطلح في الكتاب وأن المصطلحات الواردة في الكتاب ترقى إلى أدق المستويات العلمية سابقا وحاليا، واعتقد في المستقبل أيضاً.

2 – البرهان على أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان بالتشابه، وأن رسالته صالحة لكل زمان ومكان بالحدود، وبالتالي فإن محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، وأن الإسلام هو دين الفطرة “الطبيعة” ومنسجم مع قوانين الوجود حيث أن الإله الذي أوحى الإسلام هو نفسا لإله الذي خلق الطبيعة، فكان هذا الانسجام الكبير بين الإسلام والطبيعة نظرا لوحدة الناموس بينهما.

وبالتالي ظهر لنا جليا الأمور التالية:

أ‌ – إن رسالته رحمة للعالمين وهذه الرحمة نلمسها الآن ي كل أنحاء العالم، وليس في شبه جزيرة العرب وفي القرن السابع الميلادي فقط أي ظهر لنا جليا مصداقية قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107).

ب‌ – عالمية الرسالة، أي أن رسالته صالحة لكل أهل الأرض وتنسجم معهم ومع فطرتهم، أي ظهر لنا جليا الآن وفي القرن العشرين، مصداقية قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (الأعراف 158).

ت‌ – ظهر لنا جليا مصداقية قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} (الأحزاب 40). وأن أي إنسان بعد محمد صلى الله عليه وسلم يدعي النبوة فقط أو النبوة والرسالة معا ما هو إلا مشعوذ.

من خلال رحلة هذا الكتاب ظهر للقارئ جليا أن أساسيات النظرة الشمولية إلى الوجود بأنواعه “الله، الكون، الإنسان” محتواة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأن العقيدة الإسلامية يجب أن تطرح وتفهم فهما فلسفيا ضمن منطوق القرن العشرين. من هذا الفهم الفلسفي، حوى هذا الكتاب على المواضيع التالية:

المنهج المقترح في معالجة الكتاب والقرآن معالجة علمية، والذي جاء في الباب الأول من هذا الكتاب، والذي بين بشكل جلي الفرق الأساسي بينا لكتاب والقرآن والذكر والفرقان والسبع المثاني وأم الكتاب وتفصيل الكتاب واللوح المحفوظ والإمام المبين. وأن ما طرح على أنه من المترادفات خلال قرون عديدة ظهر أنه من المتغايرات. كما ظهر الفرق الجلي بين النبوة والرسالة وبين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ونبوات ورسالات الرسل قبله. كما ظهر إعجاز القرآن وأنواع التحدي، وفي ضوء هذه المفاهيم تم تحديد قواعد التأويل.

3 – إن أي طرح فلسفي “الله، الكون، الإنسان” يجب أن يستنتج منه الفروع التالية:

أ‌ – نظرية الوجود الإلهي والكوني وهذا ما جاء في الفصل الأول في الباب الثاني، حيث تم تحديد الوجود الإلهي “الحق، والوجود الكوني الحق أيضا” وتم تبيان أن الله أحادي، والكون ثنائي، وتم تحديد قوانين الجدل في الكون، وهي الثنائية التناقضية، والثنائية الزوجية، والثنائية الضدية. وعلى ضوء الثنائية التناقضية تم تعريف قانون تسبيح الأشياء لله. ومن هذه الثنائية واتي يعتبر قانون تغير الصيرورة “التطور، هو العمود الفقري لها، تم استنتاج الصور “الساعة”، البعث، اليوم الآخر، الجنة، النار، وتم استنتاج أن الصور والساعة والبعث لم يحصلوا بعد، وبالتالي فإن الجنة والنار لم توجدا حتى الآن، وإنما ستقومان على أنقاض هذا الكون بعد التسارع في تغير صيرورته “الانفجار الثاني”.

ب‌ – نظرية المعرفة الإنسانية: وقد تم شرح هذه النظرية في الفصل الثاني من الباب الثاني، وتم تحديد مصطلح: الرحمن، الشيطان، إبليس، نشأة اللغة وارتباطها بالفكر. وتم تحديد مستويات الوعي الإنساني بالإدراك الفؤادي المشخص، والفكر والعقل، وتم تحديد النقيضين اللذين يعملان في الفكر الإنساني.

وفي ضوء هذه النظرية تم تحديد قانون الكم والكيف، والقدر والمقدار، والدائم والباقي، والقلم، والعلق، وتم تأويل ىيات آدم، أي ما يسمى بالحلقة المفقودة، التي انتقل بها البش إلى إنسان. وفي هذا الفصل تم تعريف القضاء والقدر، والحرية، وعلم الله، وأسس العقل الرحماني، والعقل الشيطاني. كما تم البرهان على أن الأعمار والأرزاق والأعمال غير مكتوبة سلفا على أحد، وأن مفهوم الجبرية هو مفهوم دخيل على العقيدة الإسلامية الأصيلة.

ت‌ – نظرية التشريع “أم الكتاب” والتي تم تحديدها بحدود الله، والتي جاءت في الفصل الأول من الباب الثالث، حيث بينا أن الشرع الإسلامي هو شرع حدودي لا حدي، وأن الله أعطى للناس في أم الكتاب حدود التشريع، لا عين التشريع، ومن هنا كانت الرسالة عالمية، وصالحة لكل زمان ومكان، وهي الرسالة الخاتم، علما بأن التشريع الحدودي لم يعط إلى أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا تميزت رسالته عن الرسالات التي قبله، لذا فهو الرسول الخاتم.

ث‌ – نظرية الأخلاق: وقد جاءت في الفصل الثاني من الباب الثلاث، تحت مصطلح الفرقان العام “الوصايا العشر” وهو الأخلاق المشتركة لكل أهل الأرض، وقد جاء لكل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، مع وجود فرقان خاص جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم.

كما تم بحث المفاهيما لتالية في هذا الباب، وهي العبادات والمعروف والمنكر والتعليمات التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي ليست تشريعات. كما تم إفراد بحث خاص للسنة النبوية، حيث خلصنا إلى مفهوم معاصر للسنة النبوية، ولقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.

وفي نهاية هذا الباب تم اقتراح منهج جديد للتشريع الإسلامي يقوم على الحدود، والترعيف المعاصر للسنة، وإلى مفاهيم معاصرة للقياس والإجماع، وتم تطبيق هذا المنهج في التشريع على بحث الإسلام والمرأة. حيث تم بحث وضع المرأة في الكتاب على ضوء الحدود. وتم بحث موضوع التعددية الزوجية، ولباس المرأة، وممارسة المرأة للعمل والحياة العامة، وبحث الأحوال الشخصية وذلك في الفصول 3-5، كما تم بحث فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات.

ج‌ – نظرية الاقتصاد: تم استنتاج الأسس العامة للنشاط الاقتصادي المطروح في القرآن، والذي يقوم على أساس الشهوات. وتبين أن أساس الاقتصاد هو التجديد في السلع، ووسائل الإنتاج والمردود المادي وذلك في الفصل الأول من الباب الرابع.

ح‌ – نظرية الجمال: تم تحديد مفاهيما لجمال، وتطور مواضيع الجمال خلال التاريخ. وتم بحث عناصر الجمال “الغناء، الرقص، الموسيقى، الأدب، الشعر، المسرح”. وتم تحديد موقف الإسلام من الجمال وذلك في الفصل الأول من الباب الرابع.

خ‌ – التطور التاريخي أو خط سير التاريخ: والذي جاء في القصص القرآني، حيث بينا أن القصص القرآني يعطي خط تطور التاريخ الإنساني من حيث المعارف والتشريع. وقد أعطينا نموذجا عن هذا الخط في ترتيل قصة نوح وقصة هود وذلك في الفصل الثاني من الباب الرابع.

وننتقل الآن إلى ذكر بعض النتائج التي يمكن استخلاصها مما تم عرضه في أبواب الكتاب وفصوله.

أولاً – تعريف الإسلام:

تم في الأبواب السابقة شرح مركبات الكتاب من النبوة والرسالة، وتم شرح قوانين الجدل المادي وجدل الإنسان في النبوة ووضع أسس التشريع والأخلاق في الرسالة “أم الكتاب”.

فما علينا الآن إلا أن نعرف الدين الإسلامي ضمن المنظور المطروح في الأبواب السابقة، وبالتالي نشرح قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} (آل عمران 19).

{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران 85).

أولا لنشرح كلمة “الدين”، فالدين جاءت من الأصل “دين” وهو جنس من الانقياد والذل، فالدين الطاعة ومنها جاءت المدينة والمدنية، وسميت المدينة لأنها تقام فيها طاعة ذوي الأمر ومن هذا الباب جاء الدين لأن فيه طاعة المدين للدائن مقابل أخذ وعطاء.

فمن باب الحكم جاء قوله تعالى: {مالك يوم الدين} أي يوم الحكم، وقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} (يوسف 76) أي في طاعته وحكمه.

فكلمة الدين في المعنى الإسلامي هو مادان به الإنسان لله في خروجه من المملكة الحيوانية وما لزم به طاعته. وهنا جاءت بمعنى “الدين” وهو نفخة الروح، ومن جراء هذا العطاء من الله للإنسان تطور الإنسان وأصبح متحضرا له مدنية، وهذه المدنية نشأت عن معرفة الإنسان التدريجية بقوانين الوجود، وبنفس الوقت تحتاج إلى تشريع وطاعة هذا التشريع وذلك لوجود علاقات اجتماعية اقتصادية واعية، لذا سمى الوحي “الروح” لأن الوحي يحتوي على قوانين الوجود بالنبوة والتشريع بالرسالة. وسمى الكتاب “روح” {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى 52) أما مفهوم الدين وهو كلمة (Religion) على أنه العبادات فقط بالمعنى الأوروبي، فهذا فهم مرفوض عند المسلمين.

أما كلمة الإسلام فجاءت من الأصل “سلم” وهو أصل صحيح معظم بابه من الصحة والعافية. فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى والله هو السلام لسلامته من العيب والنقائص “تغير الصيرورة” ومن هذا الباب جاء الإسلام وهو الانقياد لأنه يسلم من الإباء والامتناع من هذا المعنى جاء مصطلح الإسلام والدين الإسلامي وهو الدين الخالص من النقائص والعيوب وهو دين سهل الانقياد ولا يوجد فيه عنت ولا تحجر ولا تزمت بحيث يصبح ممتنعا على الناس، ولكن الإسلام لا يعني الاستسلام أبدا لأن الله طلب منا أن نسلم له لا أن نستسلم بدون قيد أو شرط وفي هذا قال: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} (البقرة 128) ولم يقل مسلمين لك وقوله {وأمرت أن أسلم لرب العالمين} (غافر 66) وقوله: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة 131).

فكيف نفهم الآن قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران 19) وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} (آل عمران 85).

الآن إذا نظرنا إلى مركبات الدين الإسلامي رأيناه يحوي صفتين أساسيتين وهما من المتناقضات وهما الاستقامة والحنيفية، وعلى ثلاث مركبات هي الحق، والأخلاق، والتشريع والعبادات والأعراف، فلنر الآن أين الاستقامة والحنيفية في هذه المركبات الثلاث:

1 – الحق: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (التوبة 33).

{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} (الفتح 28).

لقد فهم المفسرون أن الدين كله هو اليهودية والنصرانية “الأديان السابقة” ولكن الدين كله هو اسم جنس، واعتقد أن الدين كله بالإضافة إلى كل الديانات السابقة يعني الدين الإسلامي بمركباته الثلاث ودين الحق هو أحد مركباته وهو أقواها جميعا “أظهرها” وهذا يعني أن دين الحق هو دين الوجود الموضوعي خارج الذات الإنسانية (الكون)، وهذا الدين يحتوي على القوانين العامة الناظمة للوجود الموضوعي ولحركة تطور التاريخ، وهذا ما جاء في القرآن “النبوة” لأن من يفهم قوانين الوجود يستطيع أن يتحكم بها ويجعلها تعمل لمصلحته.

أما الجانب المستقيم من النبوة فهو النص الثابت، وأما الجانب الحنيف فهو الفهم الإنساني النسبي المتغير.

2 – دين الأخلاق “القيم الإنسانية”: وهو دين السلوك الإنساني الأخلاقي والذي جاء عموده الفقري في الوصايا العشر “الفرقان” وهو مستقيم في محتواه ومتغير في طرق التعبير عنه، وبما أن الأخلاق عبارة عن قيم إنسانية ذاتية فهي ضعيفة في ذاتها بحاجة إلى قوة تؤديها وتدعمها.

3 – التشريع: جاء في حدود الله حيث أعطى الله سبحانه وتعالى في الإسلام حدود التشريع وليس عين التشريع، والاستقامة هي في الحدود، والحنيفية هي الحركة ضمن الحدود وحسب التطور التاريخي للمجتمع.

4 – العبادات: هي من الحدود.

5 – الأعراف: هي حدود الناس وهي الجانب المتغير، وكلها حنيفية حيث أن الفرق بين حدود الله وحدود الناس “الأعراف” أن الأولى ثابتة والثانية متغيرة. لذا فإن حنيفية التشريع مرتبطة بالأعراف. والإسلام يقر كل الأعراف الإنسانية “حدود الإنسان” إذا كان لا يوجد فيها تجاوزات لحدود الله، في هذه الحالة الالتزام بحدود الله أهم من الالتزام بالأعراف.

التقوى:

التقوى: جاءت من الأصل “وقى” وتدل في اللسان العربي على دفع شيء عن شيء بغيره، والوقاية ما يقي الشيء، واتق الله توقه أي اجعل بينك وبينه كالوقاية.

الآن كيف نجعل وقاية بيننا وبين الله، أي نتقي سخطه وغضبه، فالتقوى في الإسلام لها أنواع منها التقوى الفردية والتقوى الاجتماعية والتقوى التشريعية حيث أن كل ما يتعلق بالتقوى جاء في أم الكتاب “الرسالة” إذ لا يوجد في النبوة أي تقوى، فالتقوى هي في السلوك الإنساني لا في الوجود الموضوعي.

أ‌ – التقوى الفردية: هي الالتزام بالعبادات ما عدا الزكاة والصدقات حيث أنها عبادة وعلاقة اجتماعية ابتداء من الحد الأدنى فما فوق، وهذه التقوى لها علاقة بكل شخص على حدة، فصلاة الإنسان وصومه وحجه لنفسه، فإذ صلى الإنسان فصلاته له ولا يؤثر في صلاته أو عدم صلاته على أحد وكذلك الصوم والحج.

ب‌ – التقوى الاجتماعية “الأخلاقية”: وهي الالتزام بالوصايا “الأخلاق” في علاقة المسلم مع غيره من الناس قاطبة بالإضافة إلى الزكاة والصدقات في علاقته مع مجتمعه.

ت‌ – التقوى التشريعية: وهي التزام المسلم بالتشريع ضمن حدود الله والتزامه بالأعراف السائدة ضمن حدود التشريع، وحقه في المطالبة بتغيير التشريعات والأعراف وتغييرها فعلا إذا طال عليها الزمن وأصبحت معيقة للتطور الذي هو العمود الفقري للتوحيد، ولا يصدر أي تشريع إلا من خلال موافقة أكثرية الناس عليه “الإجماع”.

هذه الأمور كلها تنسجم مع الفطرة الإنسانية ومع قوانين الطبيعة.

ثانياً – فصل الدين عن الدولة:

لنناقش الآن أطروحة فصل الدين عن الدولة، وأطروحة الدولة العلمانية.

لقد ظهرت هذه الأطروحة ابتداء من عصر النهضة في أوروبا نظرا لتناقض مكتشفات العلم مع التفسير التوراتي للكون، ونظرا لجمود شريعة موسى حيث أن طرح التوراة والإنجيل كان مرحليا، وشريعة موسى وعيسى كانت زمانية مكانية حدية، فكانت هذه المطالبة مبررة وتنسجم مع فطرة الإنسان، لذا تم في نهاية الأمر فصل الدين عن الدولة حيث أن الديانتين المسيحية واليهودية أصبحتا في المعابد فقط وكان الابتعاد عنهما ينسجم مع فطرة الإنسان الحنيفية. هذا هو السبب الأساسي في فصل الدين عن الدولة.

أما بالنسبة للدين الإسلامي فهو دين حنيفي منسجم مع الفطرة الإنسانية ويعتمد على التشريع الإنساني ضمن حدود الله وعلى البينات المادية وإجماع أكثرية الناس على التشريع.

لنناقش الآن فصل الدين عنا لدولة من وجهة نظر إسلامية:

1 – إذا أردنا فصل دين الحق عن الدولة، فهذا يعني أن الدولة غير معنية بالبحث العلمي وتطوير مناهج التعليم والجامعات وغير معنية بربط منجزات العلم مع الحياة. والدولة لا تعنيها البينات المادية والإحصائية في رسم سياساتها المختلفة، وبالتالي فإن الدولة تقوم على المنجمين والمشعوذين والدجالين.

2 – إذا أردنا فصل منهج التشريع الإسلامي “حدود الله” عن الدولة فهذا يعني أن الدولة غير حنيفية في التشريع، والتشريع فيها حدي غير متطور، والدولة لا يهمها إجماع أكثرية الناس على التشريع المطروح ولا تأخذ بعين الاعتبار تأثير تطور المعارف على التشريع، ففي هذا يقع ظلم كبير على الناس من جراء عدم تطوير التشريع زمانا ومكانا.

3 – إذا أردنا فصل الوصايا “الفرقان” عن الدولة فهذا يعني أن الدولة غير معنية بشهادة الزور وقتل النفس وإشاعة الفاحشة ورعاية الأيتام وحنث اليمين والوفاء بالمواصفات في البيع والشراء والإنتاج.

4 – إذا أردنا فصل مفاهيم الجمال عن الدولة والتي تعتبر من الفطرة الإنسانية فهذا يعني أن الدولة غير معنية بالآداب من شعر ونثر ورسم ونحت وتصوير وغير معنية بالرياضة والنشاطات الرياضية.

الآن إذا تم فصل هذه البنود الأربعة عن الدولة ينتج لدينا سؤال هام وهو: ما هي الدولة؟ الجواب هو في هذه الحالة: الدولة هي لا شيء. قد يقول البعض إن ما نعنيه بفصل الدين عن الدولة هو العبادات فقط. أقول: لقد كفاكم النبي صلى الله عليه وسلم مؤونة هذا الفصل حيث فصلها بنفسه. فهل مارس النبي الإكراه في العبادات الصلاة والصوم والحج؟ وهل كلف أحدا بمراقبة من يصلي ومن لا يصلي، أو من يصوم أو لا يصوم، أو منأدى فريضة الحج؟ لقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادات أسلوب الترغيب والترهيب، أي الأسلوب التربوي البحت، لا الأسلوب السلطوي حيث نفهم أن الدولة تعني السلطة، والسلطة فيها إكراه، أي لو كانت الصلاة والصوم هي من مهام الدولة لوضعت الدولة عقوبة على تارك الصلاة والصوم، ولأكرهت الناس على أدائها.

وهذا لا يوجد في الإسلام بتاتا، حيث أن العبادات هي صلة بين العبد وربه، وكل مهمة الدولة ف العبادات تنحصر في التسهيل على الناس أداء الحد الأدنى من العبادات واحترام هذه العبادات وعدم تشجيع الناس على تركها.

وهكذا نفهم قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران 19)، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران 85).

وهكذا نجد أيضا أنه لا يوجد إنسان في الأرض إلا وله في الإسلام نصيب علم ذلك أم لم يعلم، لأن الإسلام ينسجم مع الفطرة الإنسانية “طبيعة الناس”. قد يقول قائل إن معظم أهل الأرض في هذا المنظور ملتزمون بحدود الله ويعيشون حسب أعرافهم المتطورة، فهل يعني هذا أن معظم أهل الأرض سيدخلون الجنة؟ جاء الجواب في الكتاب أن المؤمنين منهم فقط سيدخلون الجنة، لذا أتبع قوله {الآمرون بالمعروف والناهون عنا لمنكر والحافظون لحدود الله} (التوبة 112).

بقوله {وبشر المؤمنين} (التوبة 112). أي أن البشرى للمؤمنين من هؤلاء. لذا فقد ورد الموقف الإلهي من الناس كافة في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة 62).

نلاحظ هنا أن هذه الآية تنطبق على كل أديان أهل الأرض السماوية منها وغيرها، والشرط الأساسي هنا الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. هنا نريد أن نصحح الخطأ الشائع وهو أن الصابئين هم أهل حران شمال شرق سوريا الذين أطلق عيهم الصابئة، والصح هو أن الصابئين من صبأ عن الأديان السماوية الثلاثة ولكنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا ما نعرفه عن قول العرب في مكة عندما كان يدخل أحد منهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم (صبأ فلان) أي خرج عن دين الآباء ودخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم. وهنا الصابئون من صبأ عن ديانة موسى وعيسى ومحمد ولكنه مؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا.

من هنا نرى لماذا وضع صيغة المبني للمجهول في قوله: {فلن يقبل منه} (آل عمران 85) حيث أنه مفروغ منه أنه لن يقبل من قبل الله لقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} ولكن هناك وجه آخر أنه (لن يقبل منه) من قبل الناس أيضا، فأي خروج من الفطرة الإنسانية في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتشريعي فيه خروج عن الإسلام فسيؤدي ذلك بالضرورة إلى استنكار الناس له لذا فإن ميزاننا نحن المسلمين بأن أي موقف لا يوجد فيه خروج عن حدود الله وفيه العدالة النسبية “أي معتمد على البينات المادية” سيؤدي إلى غرضاء الناس ومواقة أكثرية الناس عليه.

وأي موقف يؤدي إلى احتجاج أكثرية الناس عليه فهو موقف غير إسلامي. هذا هو ميزننا الدقيق في {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم 30).

من هذا المنظور نرى أن الأحاديث الثلاثة للنبي صلى الله عليه وسلم إن صحت منسجمة تماما بعضها مع بعض:

1 – “بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني” “الجامع الصغير”.

2 – “اختلاف أمتي رحمة” “الجامع الصغير ج1/12”.

3 – “كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” “ذكره الجامع الصغير”.

هنا نلاحظ كيف أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الحنيفية وأنها هي العمود الفقري لرسالته وهي سنته. وهي بالمفهوم الذي طرحناه تحمل مفهوم السماحة وعدم العنت والتحجر، وهي ملة إبراهيم وليست ملة موسى وعيسى لذا قال “كل مولود يولد على الفطرة” حيث أن الحنيفية هي فطرة الإنسان وهي أساس الإسلام وعلق بقوله “فأبواه” وهما أكثر الناس تأثيرا عليه، ثم المجتمع يحولانه من فطرة إسلامية حنيفية إلى عقيدة متزمتة متحجرة حدية عينية لذا قال “يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” ولم يقل أو يجعلانه على ملة إبراهيم علما بأن إبراهيم جاء قبل موسى وعيسى.

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم “اختلاف أمتي رحمة” فقد علق عليه البعض بأنه إذا كان الاختلاف رحمة فهذا يعني أن الإجماع نقمة. أقول إن الإجماع نقمة فعلاً. فهل يمكن أن تطبق عقوبة الإخلال بالآداب العامة في باريس مثل عقوبة الإخلال بالآداب العامة في اليمن؟ إن أم الكتاب أعطتنا المجال بأن نطبق تشريعات مختلفة على حالة معينة باختلاف الزمان والمكان، وكل هذه التشريعات إسلامية بحتة.

إن الإجماع بمفهومه الإسلامي الصحيح هو إجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح لحالة معينة في زمان ومكان معين، لا الإجماع المطلق الذي لا يحوي بعد الزمان والمكان وهذا ما يسمى بالإجماع الوهمي وهو الذي يطرحه الآن علماء الدين الإسلامي بقولهم “أجمع جمهور العلماء” حيث أن هذا الإجماع ليس أكثر من وهم يطرح على الناس. لأنهم أخذوا آراء الفقهاء في أماكن مختلفا وأزمنة مختلفة وجمعوها وقالوا هذا هو الإجماع الذي يجب أن يتبعه المسلمون في كل زمان ومكان، إلى أن تقوم الساعة، فقتل الإسلام في مهده وتم طرحه في فراغ وفصل عن الحياة بأيديهم ولا يزالون يقاتلون من أجل فصله ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويظنون أن أعداء الإسلام هم الذين يريدون فصله عنا لدولة، علما بأن فصل الإسلام الحقيقي عن الدولة وبالمنظور المطروح في هذا الكتاب فيه استحالة.

هنا أريد أن أنبه إلى ناحية في غاية الأهمية وهي مبدأ الدفاع عن الحدود.

فإذا تجاوز أحد من الناس حدود الله، فإن الله سبحانه وتعالى يدافع عن حدوده لأنه هو الذي وضعها، فإذا تم تجاوز حدود الله من قبل أحد فسيقع ظلم كبير على الناس، في هذه الحالة يجب أن يتأكد الناس بأن الله سبحانه وتعالى لن يترك حدوده مستباحة، وأنه سيتدخل ويكيد لمن يخترق حدوده. أما إذا استبيحت حدود الناس كأن يصدر تشريع إنساني يضع حدودا لضرائب الدخل وفيه ظلم للناس وهو ليس من حدود الله، فعلى الناس أن تعلم أن من مهامها هي حصرا إزالة هذا الظلم والاحتجاج عليه، لا أن تضعه على عاتق الله وتنتظر تدخل الله.

إن الإنسان الذي ينتظر تدخل الله في كل شاردة وواردة في الحدود التي لا تتعلق بحدود الله هو الإنسان المستكين الذي يخضع ويتلاءم مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم. فالله يحرس حدوده، والناس تحرس حدودها والله الموفق.

ثالثاً – إسلامية الدولة العربية بالمنظور المعاصر:

إذا سألني سائل: ما هي المواد التي يجب ان يحتويها دستور أية دولة لكي تصبح إسلامية؟ إنني أنوه هنا بالخطأين الشائعين جدا من قبل المسلمين وهما:

أ‌ – المناداة بأن دستور الدولة القرآن، وهذا خطأ لأن القرآن لا يحتوي على أي تشريع.

ب‌ – خطأ المناداة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة الإسلامية لا تحتوي على أحكام، بل على حدود، ولا يوجد حكم حدي في الإسلام إلا في حالة الفاحشة العلنية.

فحتى تصبح الدولة العربية المنشودة أو أي دولة إسلامية يجب أن يحتوي دستورها على عقيدة التوحيد، وهذه العقيدة يعبر عنها بما يلي:

1 – إن عقيدة الدولة العربية الإسلامية فيما يتعلق بالوجود هي أن هذا الكون الذي نعيش فيه هو وجود مادي حقيقي مبني على الثنائية بالتناقضات والأزواج والأضداد وعلى تغير الصيرورة “التطور” في الأشياء وفي المجتمعات، والتناقضات الداخلية في المجتمعات تؤدي بالضرورة إلى تغير الشكل وظهور شكل جديد في المجتمع والعلاقات الاجتماعية وفي بنية الدولة. لذا فإن هذه الدولة هي دولة متطورة مبنية على البينات المادية التي يقدمها العلم الموضوعي وعلى العقل، وهذه الدولة لا يمكن أن تزول ولكن تتطور من شكل إلى آخر مادام هذا الكون قائما حتى قيام الساعة (نهاية التاريخ) وهلاك هذا الكون ليقوم على أنقاضه كون جديد خال من المتناقضات، والإنسان يتدخل في تغير الصيرورة إسراعا أو إبطاءا ولكن لا يستطيع أن يلغيها.

لذا فإن البحث العلمي وربط العلم بالحياة ودفع عجلة التطور إلى الأمام هو أحد المبررات الرئيسية لوجود هذه الدولة، في هذه المادة تكمن عقيدة توحيد الربوبية {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88). أو ما أطلقنا عليه قانون التسبيح. وأي طرح للعدالة خارج عن هذا القانون هو طرح طوباوي وهمي وإن العدالة لا يمكن أن تكون إلا نسبية مرحلية.

2 – إن التشريع في الدولة العربية الإسلامية ميتي على أنه لا يوجد شيء اسمه الشريعة الإسلامية ولكن يوجد شيء اسمه حدود الله التي وردت في أم الكتاب، والتشريع الإسلامي هو تشريع إنساني ضمن حدود الله، لذا فلا يجوز أن يصدر أي تشريع في هذه الدولة فيه تجاوز لحدود الله وإلا فهو باطل. وصاحب الحق الوحيد في وضع حدود تشريعية دائمة “ثابتة” أ تشريع حدي لا يتغير هو الله وحده. ما كل نص تشريعي حدودي أو حدي يضعه الإنسان فهو بحد ذاته متغير وقابل للإلغاء والحنف عنه ويخضع للعراف ودرجة التطور العلمي والتاريخي للمجتمع، أي للحالات التي تفرزها التناقضات الداخلية للمجتمع وحالات علاقة المجتمع مع غيره من المجتمعات، لذا فيجب أن يضم أي تشريع يصدر في هذه الدولة بندا يحدد مدة صلاحيته ووجوب إعادة النظر فيه.

3 – إن العلاقات الأخلاقية في المجتع العربي الإسلامي مبنية على الفرقان العام “الوصايا”، والدولة ملتزمة بوضع منهاج تربوي للأجيال مبني على الفرقان.

في هذين البندين تكمن عقدية توحيد الألوهية.

4 – إن الدولة العربية الإسلامية تحترم الجد والعمل والكسب والتوفير وطموحات الأفراد والجماعات في كل مجالات الحياة لذا فعلاقتها مع المواطنين لا تقوم على الحقد والحسد، وكذلك علاقة المواطنين بعضهم ببعض.

5 – في الدولة العربية الإسلامية تكفل الدولة للناس ممارسة الحد الأدنى من العبادات بالنسبة للمسلمين وغيرهم، ولا يمكن أن يصدر أي تشريع يمنع الناس من هذه الممارسة، وكذلك لا يمكن أن يصدر أي تشريع يجبر الناس على ممارسة العبادات. وكذلك لا تشجع الدولة أية جهة تحض الناس على ترك العبادات، لأن العبادات ليست موقفا سياسيا أو تشريعيا وبالتالي فإن هذه الدولة تنظر إلى مصطلح الخليفة ورجال الدين والفقهاء والمفتي والإمام على أنها ألقاب تاريخية أفرزها تفاعل الإسلام مع مراحل تاريخية مختلفة للمجتمعات العربية الإسلامية.

6 – بما أن التشريع الإسلامي تشريع حنيف ويحتاج إلى بينات مادية وإجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح، لذا فإن الدولة العربية الإسلامية دولة ديموقراطية تقوم بنيتها الأساسية على التعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي حيث يمكن أن يطرح في هذه الدولة عدة اجتهادات لمشكلة معينة وكلها إسلامية ضمن حدود الله، والمواد المطروحة أعلاه هي ضمان الديموقراطية، وفيها تكمن الأسس المتينة للوحدة الوطنية بحيث أنها تنسجم مع قوانين الطبيعة وفطرة الناس.

رابعاً – في أزمة العقل عند العرب:

في ضوء شرحنا للعقل لعلمي الذي جاء في النبوة والعقل الاتصالي الأخلاقي والتشريعي الذي جاء في الرسالة يتبين لنا بشكل جلي أزمة العقل عند العرب، هذه الأزمة التي هي قديمة حديثة والتي بدأت بشكل جلي بعد حسم المعركة بين المعتزلة والفقهاء لصلاح الفقهاء، وضاع بعد هذه الهزيمة ضياعات كاملا الفرق بين النبوة والرسالة، وبين الكتاب والقرآن، أي تم الدمج بين العقل العلمي والعقل الاتصالي والذي تجلي فيما يلي:

1 – لقد تم دمج القرآن والكتاب والذكر والفرقان معا، وتم تحويل الدين الإسلامي إلى دين اتصالي فقط أي أن لاتنزيل كله جاء من أجل تنظيم العلاقة الاتصالية بين العبد وربه، وبين الإنسان والإنسان، وأن الإسلام دين العبادات والمعاملات فقط. أما الآيات الكونية والقصص التي هي القرآن جاءت ليتفكر المسلم بآلاء الله ونعمه وقدرته، ليس إلا. وأصبح الإسلام ليس له علاقة بالفلسفة وبالعلوم العملية التي أسموها فيما بعد بالعلوم الدنيوية “مثل أصل الإنسان، التطور، النشوء، الارتقاء، خلق الكون، نظرية الطفرة” وقد تم الاعتماد على النقل اعتمادا كاملا بدون نظرة نقدية.

2 – بما أن سنة الحياة هي العقل العلمي الذي يحاول الإنسان من خلاله فهم الوجود “الله، الكون، الإنسان” وبما أن تخلف هذا العقل يؤدي إلى تدهور مستوى التقدم، وقد حصل هذا في عصور الانحطاط حيث لم يتقدم العرب والمسلمون قيد أنملة إلى الأمام، علما بأن الفقه والعبادات والمواعظ لم تتوقف، والمساجد والزوايا وحلقات الذكر ومجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لم تتوقف بل زادت ونمت، ومع ذلك وصل العرب والمسلمون إلى غاية التدهور في التخلف والسذاجة في التفكير وفي تفسير أحداث الكون والتاريخ الإنساني حتى وصلنا إلى العقدة الكبرى وهي أن كل فشل أساسه العقل العلمي، يعزى إلى فشل العقل الاتصالي، وقد تجلت هذه العقدة في تفسير أحداث التاريخ. فمثلا كل هزيمة مني بها العرب والمسلمون سببها بعدهم عن ربهم وقلة التقوى علما بأن هزيمتهم تمت على أيدي كفرة غير مسلمين. ومازال العقل الاتصالي حتى يومنا هذا هو العقل المسيطر عند العرب في مجالات الأفراد والمجتمعات والدول.

ففي مجالات الأفراد، نرى حتى يومنا هذا المئات من الأغنياء العرب يتبرعون لبناء المساجد والمدارس الدينية، ولا يخطر على بال الكثير منهم التبرع لجامعة أو لمعهد بحث علمي مثل معهد أبحاث السرطان وأمراض القلب، حيث أن تبرعا من هذا النوع لا يقل أهمية عند الله سبحانه وتعالى عن المال المدفوع لمسجد.

أما في مجالات الجماعات فما زالت حتى يومنا هذا المجتمعات العربية والإسلامية تنظر إلى العقل الاتصالي على أنه العقل الديني. وأن الإسلام جاء من أجل التقوى والموعظة والمودة والحب، ويغفلون جانب الحق والباطل في الدين الإسلامي والذي هو أهم جانب فيه وأقواه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاد معركة بدر وأحد والأحزاب من أجل الحق والباطل، لا من أجل الحلال والحرام، أي أن هذه المعارك تم خوضها ليس من أجل ترك الخمر والميسر، بل من أجل سحق وهام الجاهلية “الباطل في عقول العرب” علما بأنه من الناحية الاتصالية كان يوجد عند العرب مكارم أخلاق في الجاهلية وقد ثبتها الإسلام. ولكن العقل الجاهلي العلمي هو الذي نسفه الإسلام نسفا دون رحمة ولا هوادة.

وأما في مجال الدول فترى الأموال التي تنفق على صياغة العقل الاتصالي “المسموح والممنوع” عند المواطن أضعاف ما ينفق على صياغة العقل العلمي “الحقيقي والوهمي”.

هنا أيضا يجب أن ننتبه إلى ناحية في غاية الخطورة وهي أن العقل الاتصالي حتى ولو كانت طروحاته جذابة وجميلة ومحببة إلى النفس مثل مفهوم تحقيق العدل وإلغاء الظلم. حيث أن هذا الطرح يبقى شعارا جميلا محببا ووهميا إذا لم يقترن بالعقل العلمي. أي علينا أن نتعلم باستمرار القوانين الموضوعية للوجود وللعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بحيث لا نقع في طرح للعدالة بشكل طوباوي يتعارض مع القوانين الموضوعية. هذا الطرح لا نجني منه إلا الفشل والخيبة.

وإذا أردنا أن نصوغ هذه الأطروحة بشكل آخر فهو أن العقل الاتصالي يجب ألا يوضع بشكل معاكس للعقل العلمي. فقوانين الوجود لا تتغير من أجل قوانين الأخلاق والعدالة ولا يمكن تطبيق أم الكتاب بشكل معاكس ومتعارض مع القرآن، لأن كل واحد منهما يتماشى مع الآخر ولا يتعارض معه.

3 – إن عدم فهم نظرية الحدود في أم الكتاب لمئات من السنين، أي فهم حدود الله على أساس حدي لا حدودي أوقع العقل العربي في مواقف حدية دائما، فأصبح هذا العقل لا يرى إلا الأبيض والأسود دون النظر إلى آلاف الاحتمالات من الألوان بين اللونين. فهذا العقل يعادي بشكل حدي ويصادق بشكل حدي وابتعد جدا عن مفهوم الحل الوسط في كل الأمور. وعن مفهوم الديموقراطية وإجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح والمدعم ببينات مادية إحصائية.

4 – لقد أثر هذا المفهوم في الوقوف على الحدود على أنها التشريع على منهج التعليم، فأصبح التعليم عبارة عن تلقين من المعلم وحفظ من الطالب أي امتحان المذاكرة فقط، وغاب الفكر النقدي غيابا شبه كامل لمئات من السنين. وفي هذا المجال أورد بيتين من الشعر لابن فارس ينتقد فيه ثقة الناس بما يدعونهم الأعلام الثقاة ويدعو فيه إلى الفكر النقدي ويحذر من التقليد:

اسمع مقالة ناصـح جمع النصيحة والمقه

إياك واحذر أن تكو ن من الثقات على ثقه

علما بأن الفكر النقدي لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا من خلال نظام ديموقراطي يقوم على حرية التعبير عن الرأي.

وهكذا نرى أن أزمة الديموقراطية هي أزمة مستعصي في العقل العربي قبل أن تكون في الأنظمة.

هنا يجب علينا وضع مفهوم للتخلف، حيث كثر الحديث حول هذا المصطلح. فبراينا للتخلف نوعان:

1 – تخلف نسبي عام للإنسانية جمعاء وهو تخلف المعقولات عن المحسوسات وهو ما يسمى بالغيب الكلي، أي أن هناك كثير من قوانين الوجود وظواهره ما زالت مجهولة بالنسبة للجنس الإنساني بشكل عام وهذا التخلف لا يمكن إلغاؤه كليا. حيث أن إلغاءه يعني أن الإنسان أصبح كامل المعرفة، ولكن الإنسانية تسير حتما باتجاه مقارب لهذا الإلغاء دون لوصول إليه.

2 – تخلف نسبي خاص وهو تخلف مجموعة من الناس عن مجموعة أخرى، وهذا التخلف عبارة عن تخلف المعقولات عن المحسوسات بالنسبة لمجموعة من الناس بحيث أن هذه المحسوسات نفسها هي معقولات بالنسبة لمجموعة أخرى من الناس. وقد يظن البعض أن فتح معاهد البحث العلمي والجامعات في الدول المختلفة هو الحل فقط. أقول هو جزء أساسي من الحل وليس الحل كله، حيث أن منهج التفكير العلمي المادي القائل إن التصديق سابق التصور بالنسبة للمعرفة الإنسانية، والذي يجب أن يكون من مسلمات كل فرد في المجتمع متعلم أم غير متعلم هو جزء أساسي مع الجامعات ومعاهد البحث العلمي.

فالوطن العربي عبارة عن شعوب ما زالت متخلفة مع كثرة الخريجين من الجامعات، والسبب أن الإنسان العربي المتعلم يعيش عقدة الانفصام بين ما تعلمه في الكتب والجامعات من علوم مختلفة وبين سلوكه اليومي في الحياة حيث أن طرائق التفكير للحياة اليومية تختلف تماما عن طرائق التفكير العلمي. وهذه المشكلة أيضا موجودة عند الخريجين العرب من جامعات غير عربية.

خامساً – العروبة والإسلام:

ومن خلال سياق هذا الكتاب تبين لي زيف الانفصام المصطنع بين العروبة والإسلام بالنسبة للعرب بالذات، حيث أنني كعربي ومسلم، لم أشعر لحظة واحدة خلال حوالي ربع قرن بأن ما أكتبه يشكل انفصاما بين العروبة والإسلام، بل العكس هو الصحيح، تبين لي هذا التلاحم الطبيعي بينهما، وقد بينت الأيام والأحداث زيف الانفصام المصطنع بينهما. كما أن عالمية الإسلام بينت أنه لا يوجد انفصام بين الإسلام وبين أي قومية أخرى غير العربية. فالمسلم السويدي عليه أن يبقى سويديا بكل أعراف وطبائع أهل السويد، وعليه أن يتقيد فقط بحدود الله والوصايا. واعتقد أن القارئ استنتج لوحده من خلال قراءة هذا الكتاب بأن التطور والتقدم هما أساس العقيدة الإسلامية، وأن اليسر وراحة الناس، وتقديم الأدلة المادية، وإجماع الناس على التشريع، هما أساس السلوك والتشريع الإسلامي، ومن هنا سمي الإسلام “بالدين الحنيف” وأن أحب الأديان إلى الله هو “الحنيفية السمحة” وأن الله رحم عباده ويسر عليهم أكثر من رحمة الوالدين لأولادهما وتيسيرهما عليهم.

من هذا الطرح قد يسأل سائل: إن الإسلام في شكله المعاصر المطروح في هذا الكتاب يختلف تماما عن إسلام القرن السابع الميلادي. أقول: نعم في المظهر، ولا في المحتوى، وأضرب المثال التالي: إذا كتب عالم في نشأة الكون “الكوسمولوجيا” مقالة عن الانفجار الكوني وتطور المادة حتى أصبحت شفافة للضوء، أي حتى ظهر عنصر الهيدروجين، وهذه المقالة هي تأويل قوله تعالى: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر}، وقرأ هذه المقالة أبو بكر الصديق، ففي هذه الحالة فإنه لا يفقه شيئا مما قرأ، ولا يعلم أن هذه المقالة هي تأويل قوله تعالى: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر}، وقرأ هذه المقالة أبو بكر الصديق، ففي هذه الحالة فإنه لا يفقه شيئا مما قرأ، ولا يعلم أن هذه المقالة هي تأويل قوله تعالى: {والفجر * وليال عشر} ولكن إذا كتب صاحب المقالة جملة “بسم الله الرحمن الرحيم” في أول المقالة،فإن أبا بكر سيعلم أن كاتب هذه المقالة هو مسلم وينتمي إلى نفس الدين الذي ينتمي إليه أبو بكر. لذا فإن الخيط الرئيسي الواصل بيننا وبين السلف وبين الخلف، هو التوحيد في أبسط صوره وتعابيره وهو “لا إله إلا الله. محمد رسول الله” والعبادات. فالمسلم من قبل، والن، ومن بعد، يصلي كما صلى النبي والسلف، ويصوم كما صام النبي صلى الله عليه وسلم، ويحج كما حجا لنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا تظهر أهمية التوحيد في أبسط صوره، والعبادات في حياة الأمة، والتي تعتبر خط التواصل في مختلف مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. لذا فقد كان من الطبيعي أن تفصل العبادات عن الدولة وعن أي عمل سياسي أو اقتصادي.

ومرة أخرى أتوقع أن يصدم القارئ بمحتويات هذا الكتاب، وما حواه من أفكار، لذا فإني أرجو من القارئ ألا يتسرع في الحكم علي، وعلى لاكتابوأطلب منه راجيا إعادة قراءة هذا الكتاب. كما أرجو من القارئ أن يعلم ن الدافع وراء هذا الكتاب الذي أعطيته زهرة شبابي، كان الألم مما وصل إليه العرب والمسلمون من مهانة وذل وتخلف، حتى كادت تصبح كلمات “العرب والمسلمين والتخلف” من المترادفات. وكذلك الألم وخيبة الأمل من سذاجة الطروحات والسلوكيات الإسلامية المعاصرة، وبشكل عام من سطحية الفكر العربي المعاصر الذي وصل إلى درجة العقم والجفاف. وعلى القارئ أن يضع نصب عينيه أنني بشر، ولا أدعي الكمال أبدا، ولكنني وضعت منهجا علميا في فهم الكتاب، وأتمنى من القارئ أن يستوعبه ويطوره.

إن العالم الآن على أبواب استقبال القرن الحادي والعشرين الميلادي، ولا أعتقد أنه يوجد شيء عند العرب والمسلمين ليدخلوا به هذا القرن، فكأنه كتب علينا “حاشا الله” أن نعيش عالة على العالم في السلع والأفكار. إن ما نعيشه الآن ليس قدرنا الإلهي ولكنه قضاؤنا الذي اخترناه بأنفسنا نتيجة جهلنا، وعدم وجود نظرية معرفية إنسانية لدينا.

إنني أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم. وأن أكون من الناس الذين استطاعوا أن يقدموا شيئا إيجابيا لأمتهم وشعبهم. ولا أدعي الكما في حياتي الشخصية، ولا أعيش حياة الناسكين. وأرجو أن أكون عند الله من الذين قال عنهم: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (الزمر 35).

{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} (آل عمران 8).

{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود 88).

تم الكتاب والله الموفق

دمشق في 23/12/1989

يوم السبت الساعة الواحدة والربع ظهرا

 

(4) تعليقات
  1. فكرت كثيراً فيما كتبت في نهاية كتابك عن إفنائك زهرة شبابك فيه ..

    لا أكاد أتخيل أن أفني شبابي أبحث في هذا الدين دون أيما مرجع، كل الاحترام لسنوات عمرك التي لم تضع هباء، هدفي هو أن أحاول أن أطور منهجك بما أستطيع، راجياً من الله أن يلهمني الصبر كما ألهمك ..

    مهندس محمد شحرور، أتمنى من الله أن يوفقني كما وفقك، فقراءتي لك، حتى وإن اختلفت مع بعض ما جئت به، كانت سبباً رئيسيا في إطلاق تلك الشرارة داخلي لأبدأ طريق البحث والتغيير.

    شكرا لك.

  2. قرأت الكتاب في 1992م بتدقيق واستخلاص ، والان أ‘عمل على مراجعته فتأكد لي أكثر أن الكتاب يقوم على فبركات ذكية، أحسب أكثر من أي وقت مضى أنه عمل قامت به مؤسسة استشراقية، كما استنتج ذلك الشهيد المفكر الدكتور محمد سعيد مضان البوطي حين ، أخبر العلامة عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني كما ذكر الخير في كتابه سقوط في الأعماق بعد سقوط في االأنفاق -وهو رد على د. شحرور – عن وفد استشراقي غربي زار البوطي إلى مكتبه في الثمانينات بدمشق وأخبره بأنه يعمل على إعدداد كتاب ضخم يعيد للقرآن روحه عبر قراءة معاصرة. وحين خرج هذا الكتاب المنسوب للدكتور شحرور استنتج اليميداني أنه ذاك المشار إليه من قبل د. البوطي.
    يؤكد ذلك أكثر شهادة غير واحد ممن طالب بمناظرة د.شحرور ومن أبرزهم الدكتور ماهر المنجد في رد أحسبه من أقوى الردود على د. شحرور رغم صغر حجمه بعنوان رد علمي على القراءة المعاصرة إ-ذا لم تخني الذاكرة- حين أكد اكتفاء الدكتور شحرور بالصمت إلا من كلمات محدودة قليلة لتشفي غليلا ولاتجيب على تساؤل كما يتوقع، مما يؤكد أن الرجل واجهة أكثر منه صاحب مشروع أو مؤلف حقيقي.

  3. Allah yokthir min amthalik DR shahrour …(malaa ssanbili tan7ani bitawado3in *** innama lfarighato rooussohonna chawamikho)

اترك تعليقاً