الفصل الثالث: نظرية المعرفة القرآنية

تمهيد:

قلنا إن العلاقات المجردة التي جاء التعبير عنها باللغة المجردة والرباط المنطقي القائم على عدما لتناقض بالربط بين نقيضين هما الرحمن والشيطان هي نفخة الروح وهي التي حولت البشر إلى إنسان ومازالت نفخة الروح تقوم بهذا العمل الجبار التي أنجزته الإنسانية بفرعين رئيسيين وهما:

  1. خط التشريع والعبادات والأخلاق وهو العلاقات الاجتماعية والقانونية بين الناس والتعبدية بين الناس والله وهي التي نقول عنها العلاقات المتحضرة “خط الرسالات”.
  2. خط تقدم المعرفة الإنسانية بالموجودات وظواهر الطبيعة والتي سمحت للإنسان بتسخير الطبيعة لمصلحته والسيطرة عليها “خط النبوات” “العلماء ورثة الأنبياء”.

إننا سنطلق اصطلاحا على الخط الأول العقل الاتصالي “الاجتماعي والأخلاقي والتعبدي”، وعلى الخط الثاني العقل العلمي.

وبما أن الكتاب كله يحتوي على النبوة “العقل العلمي” والرسالة “العقل الاتصالي” معا فقد سماه روحا {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى 52). وسمي جبريل روحا لأنه كان ينقل الأوامر “الرسالات” والمعلومات “النبوات”.

وهنا يكمن جدلا لإنسان في العقل العلمي “المعرفي” وفي العقل الاتصالي “الاجتماعي”.

وأعطى تعريف الروح بشكل قاطع في أنها أوامر رب العالمين في الرسالات والمعلومات الموحاة في النبوات بقوله: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء 85). ولكي يبين أن الروح في هذه الآية هي مجمل الوحي أي الأوامر والنواهي والمعلومات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتبعها بقوله:

{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا} (الإسراء 86).

قلنا إن جدل الإنسان يتجلى في ظاهرة الفكر غير الموجودة في بقية الأشياء التي نعرفها لذا قال:

{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} (الكهف 54).

تبين هذه الآية أن قوانين الجدل هي من القرآن وأن الأمثال المضروبة في الكتاب هي من القرآن. وفي قوله: {أكثر شيء جدلا} استعمل كلمة “أكثر” للدلالة على الزيادة الكمية في الجدل. أي أن الجدل الموجود في الأشياء موجود في الإنسان ولكن هناك جدلا في الإنسان غير موجود في الأشياء، هو جدل الفكر. ولو كان جدل الإنسان هو نفس جدل الأشياء ولكنه أوضح في الإنسان. لقال: “وكان الإنسان أكبر شيء جدلا”.

لقد شرحنا في قوانين الجدل القانون الأول للجدل في الشيء الواحد. والقانون الثاني العلاقة المتبادلة بين الأشياء المتميزة بعضها عن بعض “الأزواج”. وهذه العلاقة موجودة في مستويات التأثير المتبادل وهي علاقة في غاية التعقيد حيث ن العلاقة الزوجية بين شيئين مختلفين توجد في مستوى تأثير وليست في وحدة. هذان القانونان يعملان في الأشياء ومن ضمنها الإنسان كبشر وهما العمود الفقري لقوانين القدر.

الأضداد:

إن مفهوم الأضداد يختلف كثيرا عن مفهوم المتناقضات والأزواج. ففي الأشياء لا يوجد أضداد بل أزواج ومتناقضات، ولكن الأضداد موجودة في ظواهر الأشياء التي تدرس من قبل الإنسان. فالقانون الأول للجدل في الشيء الواحد وعيناه من خلال الموت والحياة. وكذلك الأرض والشمس هما من الأشياء. ولكننا لا نقول عن الليل والنهار أنهما من الأشياء ولكنهما ظاهرة طبيعية تولدت عن دوران الأرض حول نفسها، وكذلك الصيف والشتاء هما ظاهرتان تولدتا عن دوران الأرض حول الشمس.

هذه الأضداد والتي هي من ظواهر الأشياء هي الطريقة التي يستوعب بها الإنسان الأشياء ولها وحدة تسمى وحدة الأضداد حيث أن الأضداد يلغي بعضها بعضا ولا تجتمع ولكنها تتعاقب وتتناوب، ويوجد في تناوبها مرحلة انتقالية.

فمثلا بين الليل والنهار يوجد الفجر، وبين النهار والليل يوجد الغسق. فالأشياء في الطبيعة لا يلغي بعضها بعضا ولكن الإلغاء “النفي والإثبات” يكمن في ظواهر هذه الأشياء. حيث نفهم هذا النفي والإثبات من خلال الحركة الميكانيكية والحرارية والعضوية.. الخ. وهذا ما تدرسه العلوم.

وبما ن الفكر الإنساني ظاهرة وليس شيئا. واللغة هي حال هذا الفكر ولا تنفصل عنه، فقد تم التعبير عن الفكر الإنساني في ظاهرة الأضداد وقد ظهرت هذه الأضداد في اللغة كحامل للفكر لا ينفصم عنه. أي أننا يمكن أن نورد ما يلي:

1 – القانون الأول للجل: “قانون صراع المتناقضات في الشيء الواحد” وقد أدى هذا القانون لتطور اللغات كمفردات جديدة وقوانين للصرف.

2 – القانون الثاني للجدل “قانون التأثير والتأثر المتبادل بين الشيئين” وقد أدى هذا القانون إلى العلاقات المنطقية بين الكلمات في تأليف الجمل وإخراج المعاني المختلفة قد عبر عنه في قوانين النحو.

3 – بما أن التعبير عن ظواهر الطبيعة جاء في الأضداد فجاءت الأضداد في التعابير اللغوية وفي المعاني الكلمات أي التعبير عن الفكر، فقد جاءت المتناقضات في الفكر الإنساني المعرفي في مصطلحي الرحمن والشيطان “الحقيقة والوهم” وجاءت الأضداد في التعابير اللغوية “قيا، قعود” “شهيق، زفير” “حب، كراهية”، “فجور، تقوى”، “كفر، إيمان” “سالب، موجب” “كبير، صغير” “قليل، كثير” “يمين، يسار”.

أي وجب علينا تمييز النقيضين في الرحمن والشيطان أي الحقيقة والوهم الملتبسين معا والمربوطين بقانون عدم التناقض وبين التعبير اللغوي على ظاهرة ما وذلك في الأضداد أي أن الرحمن هو الجانب الحقيقي والشيطان الجانب الوهمي في الضد الواحد علما بأن الحركة بين الأضداد هي حركة تناقضية. وظاهرة الأضداد في بنية اللسان العربي واضحة بشكل جلي في الظاهرتين التاليتين:

أ‌ – يوجد أفعال في اللسان العربي ذات تراكيب صوتية بحيث إذا انعكس التركيب الصوتي انعكس المعنى، أي أعطت المعنى المضاد تماما:

  • كتب “تعني تجميع الأشياء بعضها إلى بعض” ومنها جاء الكتاب والمكتب والكتابة.
  • ب ت ك “تعني تفريق الشيء إلى قطع أو تفريق الأشياء بعضها عن بعض، كقوله تعالى: {فليبتكن آذان الأنعام} (النساء 119).
  • در “تعني الإعطاء كقوله تعالى: {كوكب دري} (النور 35). أي أنه شفاف يمرر الضوء.
  • رد “عني رد الشيء”.
  • فاض “عكسها في الصوت والمعنى” ضاف.
  • نهر سمي النهرنهرا لأنه ينهر المياه ويمررها. عكسها في الصوت والمعنى رهن وتعني الحجز ومنه جاءت الرهينة.
  • شرف تعني العلو ومنه جاءت الشرف والشرفة، عكسها في الصوت والمعنى فرش.
  • حبس تعني الحجر عكسها في الصوت والمعنى سبح وتعني الحركة المستمرة.
  • جب وتعنيا لتجميع ومنه جاء معنى الجب وهو المكان الذي يجمع المياه وعكسها في الصوت والمعنى بج فنقول بجت الأرض الماء أي طرحته.
  • رخص تدل على الرخاوة، عكسها في المعنى والصوت صخر.
  • س رح تدل على الإطلاق وعكسها في المعنى والصوت ح رس.
  • ح زم تدل على شدة في الأمر وعكسها في المعنى والصوت م زح.
  • علق منها تعليق شيء بشيء آخر عكسها في الصوت والمعنى قلع.
  • قشع عكسها في الصوت والمعنى عشق.

ب‌ – يوجد في اللسان العربي أفعال كل فعل يحمل المعنيين: المعنى والمعنى المضاد تماما في نفس الفعل. فأحيانا يأتي الفعل بالمعنى الأول وأحيانا يأتي بالمعنى المضاد تماما وأحيانا يأتي بالمعنيين معا، ومن هذه الأفعال:

– ظن: لها معنيان متضادان: المعنى الأول الشك كقوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (يونس 36). {إن بعض الظن إثم} (الحجرات 12).

وجاءت في المعنى المضاد وهو اليقين في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} (البقرة 46). وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} (البقرة 249). وقوله: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابية * فهو في عيشة راضية} (الحاقة 19، 20، 21). وقوله: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنعهم مواقعوها} (الكهف 53). وقوله: {ووجوه يومئذ باسرة* تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة 24-25) وقوله: {فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا} (الإسراء 101).

– عبد: فعل له معنيان متضادان: الأول الذل والخنوع. والثاني الأنفة والكبر. ففي المعنى الأول جاءت في قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة). ومنها جاءت العباد والعبيد. وكقوله تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون} (التوبة 112). وقوله: {لا أعبد ما تعبدون} (الكافرون 3). وقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر 60). وقوله: {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} (هود 123). وقوله تعالى: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} (الأنبياء 53).

وجاءت بمعنى التكبر والأنفة والاستعلاء في قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} (الزخرف 81).

وهذا يعني أن الله أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرحمن لم يلد ولم يولد فإذا تبين أن له ولد فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول إنسان يكفر به ويستنكف عنه.

وجاءت تحتمل المعنيين معا في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات 56). هذه الآية خبرية. فالله خلق الجن والإنس أحرارا ولهم حرية الاختيار، فمنهم من يعبد بمفهوم التذلل والطاعة، ومنهم من يعبد بالمفهوم المضاد، أي يكفر ويتكبر. وهذه الآية تعطينا الغاية من خلق الإنسان وهي الحرية وتنسجم مع قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. الآية} (الكهف 29).

-خفى: لها معنيان متضادان: الأول الستر والثاني الظهور. ففي المعنى الأول جاءت في قوله تعالى: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} (إبراهيم 38) وقوله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (الحاقة 18) وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} (الأحزاب 37).

وفي المعنى الثاني أي الظهور والعلن جاءت في قوله تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه 15). هنا “أخفيها” بمعنى ظهرها. وقوله تعالى: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} (طه 7) هنا “وأخفى” تعني العلن أي يعلم السر والعن.

-تل: لها معنيان متضادان هما: الارتفاع والانخفاض. ففي معنى الارتفاع جاءت كلمة التل وهو المكان المرتفع. وفي معنى الانخفاض جاءت في قوله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين} (الصافات 103) أي أخفضه على جبينه إلى الأرض ليذبحه.

-مولى: لها معنى السيد والعبد. فنقول الله مولانا “أي سيدنا” ونقول فلان مولى فلان “أي خادمة”. وجاءت في المعنى الأول في قوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي} (مريم 5).

-عدل: لها معنيان متضادان: العدل “المساواة” والظلم. ففي معنى العدل جاءت في قوله تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم} (الشورى 15). وقوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة…الآية} (النساء 3). وقوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (الأنعام 152). وفي المعنى الثاني في قوله تعالى: {أإله مع الله بل هم قوم يعدلون} (النمل 60).

-قسط: لها معنيان متضادان: الأول البر والإحسان. والثاني: الجور والطغيان. فالمعنى الأول جاء في قوله تعالى: {إن الله يحب المقسطين} (المائدة 42). وقوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى…} (النساء 3). والمعنى الثاني جاء في قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} (الجن 15).

-رغد: وتعني شظف العيش ورخاءه ففي المعنى الأول جاءت في قوله تعالى: {وكلا منها رغدا حيث شئتما} (البقرة 35). وفي المعنى الثاني {وضرب الله مثلا قرية كانت آمن مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل 112). ومن أراد الاستفاضة في هذا الموضوع فليراجع كتاب الأستاذ محمد عنبر (جدلية الحرف العربي) وفيزياء الفكر والمادة.

كيف استعمل الكتاب فعل “جدل” في المواقف الفكرية الإنسانية:

بما أن جدل الإنسان قائم على جدل الأضداد في مظهره وجدل المتناقضات في جوهره “محتواه” وذلك في تفكيره العقائدي وفي سلوكه فقد استعمل الكتاب فعل “جدل” عند الإنسان في حالة الأضداد وليس الأزواج علما بأن العلاقة بين الأضداد هي علاقة تناقضية.

1 – {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} (الكهف 56).

{وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} (غافر 5).

هنا نلاحظ كيف استعمل الجدل بين الباطل والحق، وهما من الأضداد في وحدة هي الفكر الإنساني، وقد قلنا إن أحد معاني الجدل هو الكلام ومراجعة الكلام “موقف وموقف مضاد”، ونلاحظ هذا المعنى “موقف وموقف مضاد”. بشكل كامل في قوله تعالى:

{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} (المجادلة 1). لقد كانت المرأة التي تشتكي النبي حول المظاهرة في موقف مضاد فيما يتعلق بزوجها ولكنها هي ليست في موقف مضاد مع النبي. فحول الموقف بالنسبة لزوجها قال: {تجادلك في زوجها}.

وحول علاقتها مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله يسمع تحاوركما}. هنا نلاحظ كيف استعمل فعلي الحوار والجدل في آية واحدة. وعندما يوجه الإنسان كلاما إلى آخر، أمرا أو نهيا أو خبرا بدون أن يعرف موقف الآخر، في هذه الحالة يسمى “خطابا” كقوله تعالى لنوح: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37) ومن هنا جاء مفهوم المهرجان الخطابي حيث يعرض الإنسان في خطابه وجهة نظر، وبعد ذلك يجادله قسم من الناس، وقسم آخر يحاوره.

2 – {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر 56).

  • {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص} (الشورى 35).
  • {حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} (الأنعام 25).
  • {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) (غافر 4).

هنا نلاحظ أن الجدل غير الحوار فقد قال “يجادلون” ولم يقل “يحاورون” أي يمكن أن يكون هناك حواريين اثنين من المؤمنين حول معنى آية. ولكن الذي يتخذ موقفا ضد آيات الله فهذا موقف جدلي لذا قال عن الذي يجادلون في آيات الله {ما لهم من محيص}. وقال عنهم : {الذين كفروا}. وقال عنهم: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر 56).

3 – {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} (هود 32).

  • {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} (الأعراف 71).

هنا كان موقف جدلي بين نوح وقومه وبين هود وقومه وكان الجدل قائما بينهم على الوحدة والتعددية لذا قال لهم هود: {أتجادلونني في أسماء}. وكان هذا الموقف الجدلي بين الوحدانية والتعددية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه في قوله: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون} (الحج 68).

4-ولكي يبين أن الجدل من الأضداد يمكن أن يكون في الإنسان الواحد وأن الأضداد تتناوب وتتعاقب قال عن إبراهيم: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب} (هود 74-75).

لقد اتخذ إبراهيم موقفا مضادا حين جادل رب العالمين في قوم لوط فالله يريد أن يهلكهم وكان موقف إبراهيم هو التريث لذا قال {يجادلنا في قوم لوط}. ورد الله عليه: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد داء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} (هود 76).

ولكي يبين وحدة الأضداد في إبراهيم أوردها في آية منفصلة في قوله: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} (هود 75). فالحلم هو من الأناة، والتأوه من العجلة فهما متضادان ووحدتهما هو منيب من الإنابة. فالإنابة أما بحلم أو بتأوه. ولكي يبين أن الأضداد تتناوب وتتعاقب قال في سورة التوبة: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} (التوبة 114). لاحظ التناوب في قوله تعالى:

إن إبراهيم لأواه حليم – إن إبراهيم لحليم أواه.

والإنابة هي وحدة “أواه حليم” كالتنفس الذي هو وحدة الشهيق والزفير.

هنا نلاحظ الجدل في الأضداد في المواقف الإنسانية، ففي موقف إبراهيم مع أبيه كان أواها حليما أي كان يستعجل الاستغفار لأبيه لذا غلب الأواه على الحليم، وفي موقفه من قوم لوط كان موقف إبراهيم هو تأجيل العذاب لذا غلب الحليم على الأواه. وهكذا لا نستغرب لماذا سمي إبراهيم خليل الرحمن، والرحمن ففيه توليد الثنائيات.

جدل الأضداد في العلاقات الاجتماعية والسياسية والفكرية بين الناس:

لقد قسم القرآن جدل الأضداد الذي يعتبر ظاهرة للتعبير عن المتناقضات الداخلية في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية بين الناس إلى نوعين من الجدل:

– النوع الأول:

جدل متصالح غير متخاصم أي هناك مواقف جدلية بين مجموعتين من الناس ولكن هذه المواقف ليست مواقف تصادمية وبدون عنف وقد أطلق عليها القرآن “الجدل بالتي هي أحسن” وذلك في قوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت 46). فقوله: {إلا بالتي هي أحسن}. يعني بالضرورة أن هناك جدلا مضادا وهنا نلاحظ كيف بين الكتاب العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب فالعلاقة العقائدية هي علاقة جدل متصالح {بالتي هي أحسن} أي هناك مواقف جدلية ولكنها غير تصادمية، ولكن فيما يتعلق بالعدل والظلم يمكن أن يكون هناك جدل تصادمي مع أهل الكتاب ومع غيرهم من المسلمين أيضا لذا قال: {إلا الذين ظلموا}.

هنا بين لنا الكتاب الموقف الإسلامي الواضح من غير المسلمين من أهل الكتاب وهذا الموقف “هو موقف جدلي غير تصادمي” بالنسبة للأمور العقائدية وموقف جدلي تصادمي في الأمور الاجتماعية الاقتصادية والسياسية في حالة الظلم، وحالة الظلم هذه تنطبق أيضا على العلاقة بين المسلمين أنفسهم لذا قال: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء 148).

– النوع الثاني:

الجدل التصادمي “الجدل المتخاصم” هذا النوع من الجدل بين المتناقضات في الجوهر والأضداد في المظهر فيا لعلاقات الاجتماعية والسياسية هو جدل مبرر في الحالات التالية:

أ‌ – حالة الظلم لقوله: {إلا الذين ظلموا}.

ب‌ – في حالة القتال العقائدي والسياسي لفئات تعادي المسلمين عنوه وصراحة كالعلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وبين مشركي العرب حيث كانت علاقة جدل تصادمي وقد بين هذا في قوله: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} (الزخرف 57-58). هنا نلاحظ العلاقة الجدلية المتخاصمة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وكانت هذه العلاقة واضحة في المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب.

وقد أكد الكتاب أن العلاقة مع غير المسلمين من غير أهل الكتاب هي علاقة جدل غير تصادمي {بالتي هي أحسن}. وذلك عندما يكون موقف هؤلاء من المسلمين موقف جدل غير تصادمي وقد أكد هذا في قوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فيا لدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة 8).

هنا نلاحظ كيف وضع الآية بصيغة عامة بحيث لم يقل “من أهل الكتاب” بل وضعها صيغة عامة لكل الناس. أي على المسلم أن يكون في علاقة جدلية غير تصادمية مع كل الناس الذين يتخذون مواقف مضادة ما عدا هؤلاء الذين يتخذون مواقف جدلية تصادمية من المسلمين ويحاولون احتلال أراضيهم وديارهم. ومع الظالمين من المسلمين ومن غيرهم.

– شرح قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون):

بما أن أساس لمعرفة الإنسانية هو التمييز “القلم” حيث أنه في الإدراك الفؤادي، العين تقلم الأولان والأبعاد والأشكال ضمن مجال إمكانياتها، والأذن تقلم الأصوات ضمن مجال إمكانياتها السمعية وكذلك بقية الحواس ثم بعد ذلك يأتي الفكر المجرد وتقلم العلاقات المجردة بعضها عن بعض بواسطة اللغة المجردة أولا ثم بواسطة اللغة المجردة والأعداد والرموز ثانيا وهذه اللغة المجردة والرموز تقوم على علاقات منطقية. ولكن عندما بدأ الإنسان بالكلام كان لا يميز الذكر عن الأنثى في المتكلم والمخاطب ولا يميز العدد أيضا فقد ظهر هذا التمييز في فترات لاحقة.

فالكتاب يخبرنا أن إحدى وسائل التمييز التي لعبت دورا في الكلام الإنساني المجرد هو صوت النون وذلك في قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} (القلم 1).

فنرى في اللسان العربي أن الصيغة العامة التي تشمل العاقل وغير العاقل هي صيغة “ما” كقوله: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض} (النحل 49).

ثم استعملت النون لتمييز العاقل فقط بلفظة “من” كقوله: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها} (الرعد 15).

“ما” “صيغة عامة” سبقت في الاستعمال التاريخي.

“من” “صيغة خاصة” للعاقل جاءت بعد “ما” وقد استعمل فيها صوت النون.

وكذلك لعبت النون دورا في التمييز بين الذكر والأنثى وذلك في “نون النسوة”. حيث “أنتم” صيغة عامة للذكور والإناث سبقت “أنتن” “صيغة للإناث فقط” أي أن ميم الجماعة سبقت نون النسوة في الاستعمال التاريخي.

وهكذا نجد أن صوت النون في السياق التاريخي كان له دور كبير في التمييز “التقليم” لذا أتبع هذا الصوت في الآية بقوله: {والقلم}. وبزيادة التقليم زاد التصنيف للأشياء وهذا ما يسمى بالتسطير لذا أتبعها بقوله: {وما يسطرون}.

وقد جاءت يسطرون من فعل “سطر” وهو في اللسان العربي له أصل مطرد يدل على اصطفاف الشيء كالكتاب والشجر وكل شيء اصطف. وهذا ما يسمى باللغة الإنكليزية (Classification) وهو ما نسميه بالعربية التصنيف. أي أن القلم هو تمييز الأشياء بعضها عن بعض وهو ما يسمى (identification) ثم يعقبه تصنيف الأشياء حسب مواضيعها وهذا ما يسمى بالتسطير. وفي هذا قال {وكل صغير وكبير مستطر} (القمر 52). أي أن كل الأمور والأشياء صغيرها وكبيرها تدخل ضمن التصنيف (Classified).

ومن فعل سطر جاءت الأسطورة وهي تصنيف الأشياء الباطلة بعضها إلى بعض لإخراج قصة ولهذا سميت أسطورة.

فصوت النون زاد في تقليم الأشياء بعضها عن بعض وزيادة التقليم أدت إلى التصنيف. لذا قال: {ن والقلم وما يسطرون}.

قد يقولا لبعض إن صوت النون زاد في التقليم والتصنيف في اللسان العربي فما حال بقية الألسن؟

إن الشيء المؤكد في صوت النون هو أنه موجود في كل ألسن أهل الأرض قاطبة وبدون استثناء.

وبالإضافة إلى صوت النون يوجد الأصوات التالية في كل ألسن أهل الأرض قاطبة:

الألف أ

اللام ل ألر

الراء ر

الياء ي

السين س

ولقد ميز الصحابة الذين خطوا المصحف بين يس. {يس}. التي هي مقطعين صوتيين “ي س” والتي تلفظ بالدمج (YES) وبين ياسين الكلمة التي وردت في سورة الصافات في قوله: {سلام على آل ياسين} (الصافات 130). أي أن “يس” و”ألر” و”ن” هي مقاطع صوتية موجودة في ألسن أهل الأرض قاطبة.


الفرع الأول: جدل الأضداد في معرفة آيات الله (العقل الرحماني والعقل الشيطاني)

أولاً: أسس العقل الرحماني:

لقد عبر القرآن عن جدل الأضداد في ظواهر الطبيعة في مصطلح آيات الله وذلك في قوله:

  • {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم 22).
  • {إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين} (الجاثية 3).
  • {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون} (الجاثية 4).
  • {واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية 5).
  • {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} (الجاثية 6).

لقد أعطى الكتاب في سورة الجاثية ثلاثة مستويات مختلفة لظواهر الطبيعة سماها في الآية رقم 6 بآيات الله. هذه المستويات هي:

1 – المستوى العام: هو ظواهر الطبيعة فيا لوجود المادي كله في قوله: {إن في السموات والأرض}. هنا نلاحظ قوله: {في السموات والأرض}. ولم يقل “إن السموات والأرض”. حيث أن تصديق الظواهر العامة في السموات والأرض هو من أركان الإيمان لذا قال: {لآيات للمؤمنين}.

2 – المستوى الخاص الأول: هو ظواهر الحياة العضوية في قوله: {وفي خلقكم وما يبث من دابة}. وقد جعلها في مستوى يقيني حيث أن الخلق والبث والحياة والموت هي من قوانين الجدل “التسبيح” اليقينية التي يعتبر البعث نتيجتها لذا قال: {لقوم يوقنون}.

3 – المستوى الخاص الثاني: ظواهر الطبيعة غير العضوية كالليل والنهار والأمطار والرياح وقد جعلها في مستوى عقلي أي أنه يربط فيها المقدمات والنتائج ويمكن تقليدها على مستوى صغير لذا قال {لقوم يعقلون}.

والآن: ما هي المركبات المعرفية لظواهر الطبيعة؟ لقد أعطى الكتاب المركبات المعرفية لظواهر الطبيعة في الآيات التالية والتي سماها “كتاب مبين”.

  • {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام 59).
  • {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (يونس 61).
  • {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} (هود 6).
  • {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} (النمل 75).
  • {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكن عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا اصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (سبأ 3).

هنا نلاحظ أن الآيات التي ورد فيها مصطلح “كتاب مبين” تحتوي على ظواهر معرفية وهذه الظواهر يمكن أنه تجمل بالبنود التالية:

  • {ويعلم ما في البر والبحر}: تركيب الأشياء (Ingredients).
  • {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}: الحركة الميكانيكية للأشياء “الانتقال من مكان إلى آخر”. (Movement).
  • {ولا حبة في ظلمات الأرض}:
  • {وما من غائبة في السماء والأرض}: مواقع الأشياء (Position).
  • {ولا رطب ولا يابس}. الحركة الحرارية والعضوية للأشياء (Transformation of motion).
  • {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر}: الكتلة والوزن وقد بين وحدة الكتلة والوزن في الذرة وذكر أن هناك أصغر من ذلك وأكبر من ذلك.
  • {ويعلم مستقرها ومستودعها}: حركة الحياة العضوية للكائنات الحية بما فيها البشر.
  • {ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه}: أعمال الإنسان الواعية “السلوك الواعي” مهما استرسل فيها وذلك في قوله: {إذ تفيضون فيه}.

هنا يجب أن نذكر الملاحظة الهامة وهي أنه في الآيات السابقة يتكلم عن أشياء وظواهر موجودة فعلا في العالم المادي.

فطبقا لآيات الكتاب إذا أردنا معرفة ظواهر الطبيعة فما علينا إلا أن نحدد العناصر التالية لهذه الظواهر:

1 – مواقع الأشياء (Position): ففي الموقع يظهر مفهوم النسبة والأضداد، فإذا أردنا أن نحدد موقع جسم ما فما علينا إلا أن ننسبه إلى جسم آخر ثم نحدد موقعه بالنسبة لهذا الجسم، فيظهر مفهوم الفوق والتحت واليمني واليسار والشمال والجنوب.

2 – البعد (Dimension): ففيا لبعد لا يظهر مفهوم النسبية وإنما يظهر مفهوم المقارنة، فعندما نحدد بعد جسم “أبعاده الثلاثة” نحتاج إلى مقياس للمقارنة حيث أن أبعاد الأجسام موجودة في ذات الأجسام غير منسوبة إلى غيرها، وإنما لها مقياس للمقارنة وفيها الصغير والكبير.

3 – حركة الجسم (Motion): في الحركة تظهر الأنواع المختلفة للحركة وفيها مفهوما لنسبية والوقت والأضداد. فهناك الحركة الميكانيكية والحرارية والعضوية وانتقال شكل من أشكال الحركة إلى شكل آخر، فمن الحركة الميكانيكية نحصل على حرارة، ومن الحرارة نحصل على حركة ميكانيكية.

4 – كتلة الجسم: نعبر عنها بالكتلة ثم بالوزن وقد اعتبر الكتاب أن الذرة هي وحدة الوزن “الثقل” وهي وحدة مركبة الأجسام المختلفة.

5 – تركيب الجسم: وهو معرفة العناصر المركبة لهذا الجسم.

6 – الكم في الوحدة أو الكتلة أو البعد أو الحركات بأنواعها.

هذه هي مركبات العلوم الطبيعية كلها، ولكن علينا أن نعلم أن هناك مفهومين متناقضين في هذه العناصر الخمسة الأولى وهما حركة الجسم وموقع الجسم، فلا يمكن للإنسان أن يدرس بنفس الوقت حركة جسم وموقعه. فإذا أردنا أن ندرس موقع جسم في لحظة ما، فهذا يعني أنه لا يتحرك. وإذا أردنا أن ندرس حركته فهذا يعني أن موقعه متغير. فلإزالة هذا التناقض تم تقسيم العلوم إلى فرعين رئيسيين هما:

أ‌ – حركة الجسم دون النظر إلى موقعه، وهذا ما عبر عنه في الطلب بمفهوم الفيزيولوجيا وما عبر عنه في التاريخ بمسار التاريخ. وما عبر عنه في اللغة بمسار تطور اللغة. وعندما ندرس مسار صاروخ من الأرض إلى القمر فإننا نعتبر الصاروخ نقطة مادية.

ب‌ – موقع الجسم وأبعاده ومركباته دون النظر إلى حركته: وهذاما عبر عنه في الطب بالتشريح، فالتشريح يأخذ مقطعا من جسم الإنسان إما في الجنين أو لطفل أو المسن ويدرسه في اللحظة التي تم أخذ المقطع فيها وما عبر عنه فيا لتاريخ بالفترات التاريخية. فالمؤرخ إما أن يدرس حركة مسار التاريخ أو يدرس تاريخ العالم في القرن الثالث قبل الميلاد. ففي هذه الحالة يذكر الشعوب والأسماء والمعارك والوضع الإنتاجي والاقتصادي بكل تفاصيله الممكنة.

إن موقع الجسم وأبعاده يسمى بالمواصفات الهندسية للجسم (Geometrical Properties) وهي من أهم المواصفات التي يدرسها الإنسان في العلوم. فمثلا في الهندسة ظهر عزم العطالة من بعد الجسم وموقعه. فالجسم له ثلاثة أبعاد M3 وله موقع واحد بالنسبة إلى شيء آخر منسوب إليه. وهذا الموقع الواحد له بعد M1. ففي هذه الحالة يصبح عزم العطالة M4.

طريقة التعبير عن المعارف:

قلنا إن أساس المعرفة هو التقليم ثم التسطير “التمييز والتصنيف” وقد تم التعبير عن المعرفة بالأشكال التالية:

1 – التعبير التشكيلي: وهو أن يرسم الإنسان شكلا ما شاهده مشاهدة مشخصة وقد رسم الإنسان فعلا في الكهوف القديمة بعض الحيوانات التي كانت لها صلة مباشرة معه “تعبير فؤادي” ثم تطور هذا التعبير إلى أبجدية بتطور اللغة المنطوقة ووسائل الإنتاج وتطور إلى فنون النحت والرسم والتصوير. أي أن بداية التعبير التشكيلي كانت بداية فؤادية لها علاقة مباشرة بالسمع والبصر ثم تطورت إلى تعبير مجرد عن قيم “انظر فصل المفاهيم في الباب الرابع”. وما زالت هذه التعابير تستعمل حتى يومنا هذا بالرسم في علوم الهندسة والطبيعة والطب.

2 – التعبير اللغوي: وهو أعم وأساس التعابير عن المعرفة الإنسانية وقد بدأ بداية فؤادية مشخصة بالسمع والبصر ثم انتقل إلى التجريد وقد شرحت هذا في مقالتي حول نشأة اللغة وارتباطها بالفكر.

3 – التعبير “الكمي” العددي والرمزي: وهو التعبير الأكثر تجريدا من التعبير اللغوي لذا ظهر في مرحلة متأخرة “حيث ظهر في الرياضيات”. وظهرت فيه العلاقات المجردة بأرقى تعابيرها.

فمثلا عندما نريد أن نعبر عن دائرة، فأما أن نرسمها تشكيليا أو نقول هذه دائرة لغويا أو نكتب معادلة دائرة بالشكل التالي:

R² = X² + Y²

– التعبير العددي “الكمي”:

لنبدأ الآن بتعريف العدد والرقم. إن الرقم والعدد مصطلحان يعبران عن الكم. فالرقم يعبر عن كم معرف والعدد عن كم غير معرف، أي أن الرقم عبارة عن عدد معرف. فإذا قلنا مثلا لإنسان: عد الطلاب الموجودين في القاعة وقال إن عددهم “45” طالبا.

ففي هذه الحالة يكون قد أجابا لطلب، وإذا قلنا له رقم الطلاب الموجودين في القاعة فقال إن زيدا رقمه واحد وعمرا رقمه اثنان… وهكذا دواليك، فالعدد هو واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، والرقم هو الأول، الثاني، الثالث، الرابع. فالفرق بينهما هو كالفرق بين المعرفة والنكرة. فالعدد منكر والرقم معرف. لذا فعندما نمارس علوم الكم فإننا نتعامل مع الأعداد لا مع الأرقام فنقول: الضرب العددي، لا الضرب الرقمي. فإذا أردنا أن نبحث في كيفية ظهور الأعداد والأرقام عند الإنسان فما علينا إلا تتبع نفس خطوات نشأة اللسان، فبداية نشأة اللسان كانت بداية فؤادية أي أن بداية العد كانت بداية فؤادية متصلة بحاستي السمع والبصر. فالطفل الآن لا يجرد الأعداد بل نضع له تفاحة ونقول هذه تفاحة. ثم نضع تفاحتين ونقول هاتان تفاحتان.

والإنسان القديم عندما بدأ بالعد لم يجرد العد من مدلولاته. فمهمة الفؤاد في العدد هي “هل يفيد العدد الدال على الشيء المدلول المشخص أم لا يفيد” أي المطابقة بين الكم ومدلولاته المشخصة وبالتالي الكم والكيف معا.

وهكذا نرى في الحضارات القديمة أن أسماء الأشياء وأعدادها مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا بالمعادلة التالية:

1 “تفاحة” + 2 “تفاحة” = 3 “تفاحة”.

ثم جاءت المرحلة التالية وهي مرحلة التجريد وهو فصل العدد الدال عن الشيء المدلول أي فصل الكم عن الكيف وهو ما يسمى بالتجريد العددي، وقد تعلم الإنسان التجريد في الأعداد من اللغة المجردة، فهو لم يستطع تجريد الأعداد إلا بعد أن جرد اللغات وأصبح عنده علاقة اصطلاحية بين الصوت والمدلول. لذا ظهر التجريد العددي عند الإنسان متأخرا عن التجريد اللغوي أي أصبح عنده جمع مجرد وهو:

1+2=3.

أي أعداد مجردة عن مدلولاتها. وهكذا ظهر علم الحساب عند الإنسان القائم على استعمال العلاقات المنطقية القائمة على عدم التناقض بين المقدمات والنتائج. أي أن علاقات التأثير والتأثر المتبادل بين الأشياء أصبحت علاقات تأثير وتأثر متبادل بين الأعداد طال قانونا لثاني للجدل” فأصبح:

1+2=3

3-2=2

1+1+1=3

1+1-1=1

أما كيفية التطور في التعبير عن الأعداد فهو بحث خاص مشابه لتطور التعبير عن الأصوات اللغوية “الأبجدية”:

P1-343

– القدر والمقدار:

لقد بدأ العد بتعبير كمي عن كيفيات متماثلة أو مختلفة، ثم انتقل إلى تعبير كمي مجرد عن الكيف. لذا وجب علينا تمييز مصطلحين وردا في الكتاب وهما القدر والمقدار فكلاهما له أصل واحد وهو فعل “قدر”. وهذا الفعل في اللسان العربي أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كل شيء والقدر قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها وكذلك القدر ومنه جاءت قدرة الله تعالى وهي استطاعته على نفاذ أي شيء يريده في كمه وكيفه: {وهو على كل شيء قدير}. وقوله: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} (القمر 55). فالقدر كما ورد في آيات الكتاب هو وجود الأشياء بكمها وكيفها معا “كنهها” خارجا لوعي الإنساني حيث أن الكم والكيف لا ينفصلان عن بعضهما في الوجود الموضوعي وفي كنه الأشياء وغايتها وهو التحول “تغير الصيرورة” والتطور.

لذا قلنا إن القرآن فيه قوانين القدر وهو الحق. وهكذا نفهم قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر 49). وقوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (الفرقان 2). وقوله: {نحن قدرنا بينكم الموت} (الواقعة 60). وقوله: {وقدر فيها أقواتها} (فصلت 10). وقوله: {من نطفة خلقه فقدره}. عبس 19). وبما أن القدر فيه الكم والكيف معا وفيهما تكمن وظيفة الأشياء قال: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} (الأعلى 1، 2، 3). هنا لا حظ كيف ربط {قدر فهدى}. أي أن وجودا كميا وكيفيا معا يؤدي إلى هداية الشيء للقيام بوظيفته. لذا وضع {والذي قدر فهدى}. في صيغة مطلقة وليس لها أي علاقة بالسلوك الإنساني الواعي.

أما المقدار فقد عبر عنه الكتاب على أساس أنه كم مجرد عن الكيف وهو صيغة معرفية مجردة لأنه لا يمكن أن يجرد الكم عن الكيف إلا في الصيغ المعرفية المجودة، ففي الواقع الموضوعي يوجد:

تفاحة + تفاحة = تفاحتان “قدر” كم وكيف معا.

أما في الواقع المعرفي المجرد فنقول:

1 + 1 = 2 “مقدار” “كم مجرد فقط”.

ولقد جاء المقدار في الآيات التالية:

أ- الله يعلم ===> معرفة.

ب- ما تحمل كل أنثى ===> كيف، وهو الحمل.

ج- وما تغيض الأرحام وما تزداد ===> كم مرتبط بالكيف، تغيض وتزداد “زيادة ونقصان في “الكم” أرحام “كيف”.

د- وكل شيء عنده بمقدار ===> كم مجرد حيث عمم الكم على معرفة الأشياء.

2 – {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} (السجدة 5).

{تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} (المعارج 4).

هنا نلاحظ كيف أتبع مصطلح المقدار بتعبير عددي “كمي” مباشر. وهكذا نجد أن نفخة الروح بدأت بقوله: {وعلم آدم الأسماء كلها}. والتجريد اللغوي. ثم تطورت إلى التجريد الكمي الذي تم التعبير عنه بالأعداد والرموز الرياضية. وهكذا نجد أن اللغة والرياضيات هما وجهان لعلم واحد وهو “قانون عدم التناقض والعلاقات المنطقية” أي أن مادة علم المنطق هي اللغة والرياضيات. فإذا كانت اللغة قائمة على التجريد، فالرياضيات هي مرحلة متقدمة وهي تجريد التجريد.

وإذا أردنا أن نعرف علم الله في الأشياء فهو علم رياضي بحت، أي في علم الله لا يوجد أصفر فاتح وأصفر غامق، وتفاحة كبيرة وتفاحة صغيرة، ولكنها في علمه كلها علاقات رياضية عددية بحتة وهي مفاتيح الغيب لأن العلاقات الرياضية تتصف بالدقة والتنبؤ وعندما يريد الله أن يخبرنا عن شيء من علمه فهناك طريقتان:

أ‌ – إخبار رياضي مباشر غير لغوي. وقد جاء هذا الإخبار في السبع المثاني.

ب‌ – تحويل هذا الإخبار إلى لغة إنسانية. وهذا ما حصل في ليلة القدر عند إنزال القرآن، أي تحويله إلى صيغة لسانية قابلة للفهم من قبل الإنسان وهذا هو الجعل {إنا جعلناه قرآنا عربيا}.

ولكي نفهم كيف تحصل المعرفة بالمقدرات “القدر” من خلال الأعداد “المقدار” ما علينا إلا أن نشرح المفهوم التالي:

– العد والإحصاء:

العدد في اللسان العربي جاء من فعل “عد” وهو أصل صحيح يدل على مقدار ما يعد. ويقال ما أكثر عديد بني فلان وعددهم ومنه جاءت العدة: ما أعد لأمر يحدث والاستعداد له، وجمع العدد أعداد، وعداد الملدوغ أن يجد الوجع ساعة بعد ساعة، وعداد السليم أن يعد له سبعة أيام، فإذا مضت رجوا له البرء، ومن الباب العدان لأنه محدود بزمان. وأن عداد القوس أن تنبض بها ساعة بعد ساعة.

والإحصاء في اللسان العربي جاء من فعل “حصو” وهو المنع والعد مع الإطاقة وشيء من أجزاء الأرض ويشتق منه الحصاة “العقل” كقول الشاعر:

وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاة على عوراته لدليل

لنر الآن كيف جاء العدد والإحصاء في الكتاب وبأي معنى تم استخدامهما:

  • {فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا} (مريم 84).
  • {لقد أحصاهم وعدهم عدا} (مريم 94).
  • {قالوا لبثنا يوما أوب عض يوم فسئل العادين} (المؤمنون 113).
  • {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} (المؤمنون 113).
  • {قال كم لبتم في الأرض عدد سنين} (المؤمنون 112).
  • {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس 5).
  • {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} (الكهف 11).
  • {فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} (الجن 24).
  • {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} (الجن 28).
  • {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم 34).
  • {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج 47).
  • {أحصاه الله ونسوه} (المجادلة 6).
  • {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف 49).
  • {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12).
  • {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29).
  • {فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} (الطلاق 1).
  • {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} (الكهف 12).

إن الآيات الواردة أعلاه تدل على أن العد والإحصاء فعلان متغايران مع وجود علاقة ما بينهما. فلو كان العد هو الإحصاء لأصبحت الآية: {لقد أحصاهم وعدهم عدا}. لا معنى لها أي تصبح “ولقد أحصاهم وأحصاهم” أو “لقد عدهم وعدهم” وكذلك الآية 28 من سورة الجن تبين أن هناك فرقا وعلاقة بين الإحصاء والعدد وذلك في قوله: {وأحصى كل شيء عددا}. فكونه قال “عددا” وهي هنا حال لفعل أحصى فهذا يعني أن هناك إحصاء من نوع آخر غير عددي. فالإحصاء هو أن نعقل الأشياء. فحن نرى نخلة فنعقلها عن طريق الحواس ولكننا نراها كقطعة واحدة متكاملة علما بأنها تتألف من آلاف الجزيئات أي نراها كما متصلا ووحدة متكاملة “نحصيها” بحيث إذا ضمت هذه الجزيئات المتألفة منها النخلة “كم منفصل” بعضها إلى بعض أصبحت نخلة “وحدة متكاملة”.

لذا فإننا نميز عدة أنواع من الإحصاء وهو أن نعقل الشيء ككل وذلك ما بأن نعرض صورة له ونرسمه وهذا ما نفعله الآن عندما نريد أن نعقل خلية فنضعها تحت المجهر ونرسمها “إحصاء كيفي” وإما أن نعقل الشيء عن طريق الوصف اللغوي كأن نصف شخصا وصفا عن طريق التعبيرات اللغوية بحيث أن المستمع يأخذ صورة كاملة عنا لشخص الموصوف “إحصاء لغوي” أما النوع الثالث من الإحصاء فهو الإحصاء العددي، أي الإحصاء عن طريق الكم أي أننا نأخذ صورة كاملة عن الكم المتصل “الإحصاء” بواسطة الكم المنفصل “العدد”. لذا قال عن إحصاء الله للأشياء بأنه إحصاء عددي لا إحصاء لغوي أي أن علما لله للأشياء كما قلت علم رياضي تجريدي بحت.

فإذا قلنا لشخص ما: كم عدد الطلاب في القاعة فيقول مباشرة إن عددهم مثلا عشرة طلاب وإذا قلنا له أحص الطلاب الموجودين في القاعة فيجب عليه أن يعطينا صورة كاملة عن كل الطلاب الموجودين في القاع بحيث يمكننا أن نأخذ صورة كاملة “متصلة” عنهم من خلال إحصائه لهم دون أن نراهم. وعندما نسأل عن عدد سكان سوريا في عام 1988 فالجواب يأتي في عدد واحد وعندما نسأل عن النشرة الإحصائية للجمهورية العربية السورية عن عام 1988 فالجواب يأتي في مجلد كبير يقدم لنا صورة متكاملة “كما متصلا” عن الجمهورية العربية السورية ولكن التعبيرات في هذا المجلد عبارة عن معلومات عددية منفصلة بعضها عن بعض بحيث أن مجموع هذه المعلومات يعطينا صورة متكاملة عن سوريا، وكلما زادت المعلومات العددية المنفصلة زادت الصورة وضوحا.

لذا قال: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} أي أننا يمكن أن نعدد نعما لله علينا بشكل منفصل ونقول: النعمة الأولى البصر، والثانية السمع، وهكذا دواليك. ولكننا مهما عددنا هذه النعم واستغرقنا في عدها منفصلة لا يمكن لنا أن نعقل “نحصي” نعمة الله علينا ككل متكامل متصل.

ونفهم قوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين}.

فالسنة وحدة زمنية منفصلة إذ نقول: سنة.. سنتان. ولكن السنة الواحدة تحوي على وحدات زمنية أصغر منها وهي الشهور والأيام…الخ. فإذا قلنا سنة سنتان فيكون الانفصال في العد بين العدد والذي يليه هو سنة. لذا كان السؤال {عدد سنين} فجاء الجواب {فسئل العادين}.

وبما أن الإحصاء هو كم متصل متكامل فعندما نسجل على إنسان عمله صوتا وصورة ثم نعرضه له، فهذا إحصاء لأن المشاهد يأخذ صورة متكاملة عن عمل الإنسان، فالإحصاء يمكن أن يكون لشيء واحد متكامل تنطبق عليه مقولة أصغر وأكبر، ولا تنطبق عليه مقولة أكثر وأقل. وهكذا نفهم قوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (الكهف 49).

هذه الآية تبين لنا بشكل واضح الأمور التالية:

1 – أن أعمال الإنسان غير مكتوبة وغير مسجلة سلفا.

2 – أن الله يأخذ صورة وصوتا عن أعمال الإنسان حين قيامه بها وقد أكد هذا في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية 29).

3 – ولكي يؤكد أن الصورة والصوت المنسوخة عنه والمكتوبة “المجمعة والمصنفة” ستعرض عليه يوم القيامة ويراها “يعقلها” بنفسه فقد قال: {ووجدوا ما عملوا حاضرا}.

4 – ولكي يؤكد معنى الإحصاء بأنه كم متصل استعمله في حالة المفرد واستعمل مصطلح الصغير والكبير معه نال: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}.

أما العدد فإننا نستعمل معه الكثرة والقلة. فعندما يرد مصطلح {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الأعراف 187). فإنه يقصد أكثر من شخص واحد وعندما نقول “ولكن أكبر الناس لا يعلمون” فإننا نقصد شخصا واحدا ككل.

لذا قال عن معركة حنين {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} (التوبة 25). وقوله واضح أنه عن الكثرة والقلة، وأن الكثرة أكثر من واحد فقال {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} (الفرقان 14).

وعندما نقول إن العدد سبعة أصغر من ثمانية فإننا نقارن بين العدد سبعة ككل وبين العدد ثمانية ككل ونستنتج أن الثمانية أكبر من السبعة. أي أننا نقارن بين ما يحوي الرقم سبعة ككل مع كل أعداده ومركباته الجزئية، وبين الرقم ثمانية ككل مع كل أعداده ومركباته الجزئية.

والآن بعد أن عرفنا أن الإحصاء هو “التعقل” نقول بأن له عدة أنواع، فعندما يكون نوع الإحصاء عدديا يصبح كما متصلا. والعدد كم منفصل. فالكم المتصل والكم المنفصل يخضعان للمساواة والترجيح. فعن الكم المتصل نقول:

Y = X

أو

Y > < X

وعن الكم المنفصل نقول:

4= 3 + 1

5 > 4

5 < 6

والآن كيف نحول الكم المنفصل إلى كم متصل؟

لكي نعرف كيف يتم التحويل نورد المثال التالي:

P1-349

إذا أخذنا المستقيم AB ولنقل إن هذا المستقيم هو حرف طاولة ذو لون أخضر. ثم غطينا هذا المستقيم بقطعة من القماش ذات لون أصفر. ووقف متفرج فإنه يرى قطعة القماش ذات اللون الأصفر ولا يرى شيئا من حرف الطاولة. فعند ذلك نقول إن لون حرف الطاولة مجهول. فإذا ثقبنا قطعة القماش في النقطتين A وB فإن المشاهد يرى نقطتين خضراوين أي إنه يعرف لون حرف الطاولة في نقطتين. فعند ذلك نقول إن المستقيم معرف في نقطتين. وإذا أخذنا الآن نقطة ثالثة C وثقبناها. فسيرى المشاهد ثلاث نقاط ذات لون أخضر، والباقي مجهول. وتبقى باقي المسافات مجهولة. فإذا استمرينا بتثقيب النقاط يزيد عدد النقاط المعرفة، وتقل المسافة بينهما. وهذه المسافة نرمز لها بـ X وهي مقدار حسابي عشوائي ليس له إشارة. فكلما قلت المسافة X بين النقاط زاد عدد النقاط المعلومة. فإذا انتهت X إلى الصفر فإن عدد النقاط المعلومة ينتهي إلى اللانهاية. ففي هذه الحالة نرى نقاطاً متقطعة “كما منفصلاً” ونرى خطا مستقيماً “كماً متصلاً” أي أننا أحصينا المستقيم “عقلناه” من خلال عدد لا متناه من النقاط المنفصلة.

P1-350

ونرى أن أحسن تعبير عن الكم المنفصل هو X وأحسن تعبير عن الكم المتصل هو dX. أي عندما تنتهي X إلى الصفر تحصل على dX.

وهذا هو الفرق بين الكمبيوتر والمعادلات الرياضية “التفاضلية” فالكمبيوتر يعمل على Y X أي يعمل على الكم المنفصل. لذا فإنه يعبر عن نتائجه من خلال نقاط منفصلة (dots) وكلما قربت النقاط المنفصلة من بعضها زادت دقته. أما المعادلات الرياضية فتعمل على dY, dX النهايات والمشتقات وتعبر عن الكم المتصل. أي تابع ومتحول من خلال التعبير (Y = f(X وبما أن المعادلات التفاضلية تعبر عن كم متصل فإن أحد أسس صحتها هو الاستمرارية. وبما أن الاستمرارية غير متوفرة في عالم الذرة فإن الرياضيات الكلاسيكية تصبح غير صالحة لهذا العالم. ولذلك لجأنا إلى مفهوم جديد هو ميكانيك الكم Quantum Mechanics.

وبما أن الرياضيات هي تعبير مجرد رمزي لها رباط منطقي قائم على عدم التناقض فهي تحمل خاصية اللغة التي هي تعبير مجرد أي تحمل خاصية الأضداد في التعبير. فهناك الموجب والسالب. وإنه من الخطأ الفاحش أن نقول إن -3 و +3 هما أزواج. بل هما أضداد لأنه يعدم أحدهما الآخر.

0 = 3 – 3 +، 0 = X – X +

وهناك أيضاً الحلول الحقيقية والحلول الوهمية، وهما من المتناقضات لأنهما ملتبسان بعضهما مع بعض في نفس المعادلة فعند الحل ننسف الحل الوهمي ونأخذ الحل الحقيقي.

وبما أن الكم المنفصل والكم المتصل يعبر عنهما من خلال الأضداد فهناك لمرحلة الانتقالية بينهما كالفجر بين الليل والنهار وهذه المرحلة الانتقالية هي الصفر. أي أننا يجب أن لا نفهم الصفر على أنه عدد بل هو كيف، يعبر عن انتقال الأعداد “الكم المنفصل والتوابع “الكم المتصل””. من ضد إلى الضد الآخر. فالصفر في الأعداد هو مرحلة انتقال من كيف إلى كيف آخر. والصفر في المعادلات يعبر عن التجانس. وفي المشتقات يعبر عن النهايات.

وكذلك يجب أن نفهم اللانهاية على أنها حالة تمثل حالة انتقالية من كيف إلى كيف آخر.

والآن يمكن لنا أن نطرح السؤال التالي:

هل هناك أعداد لها صفات المتصل والمنفصل معا؟؟

فإذا كان هناك أعداد تحمل هذه الصفة المميزة جدا عن غيرها، وجب أن يكون لهذه الأعداد صفات أساسية لها علاقة في الطبيعة حيث أن الطبيعة يتمثل فيها المنفصل والمتصل معا.

هذه الأعداد أطلق عليها اسم الأعداد المتعالية أو الأعداد السامية (Transidental Number). وسنطلق عليها نحن مصطلح الأعداد الرحمانية لأنها حوت الثنائية. هذه الأعداد يجب أن تحمل الصفات التالية:

  1. لا يمكن أن تكون عددا صحيحا كالعدد 2.
  2. لا يمكن استنتاجها من تقسيم عددين صحيحين كتقسيم 5÷2=2.5.
  3. ليس لها نهاية كسرية كالعدد 4.5667.
  4. ليس لها نهاية كسرية تحمل صفة الترداد. كالعدد 1.33333 أو كالعدد 1.181818.

وبالتالي يمكن استنتاج هذه الأعداد من سلسلة غير متناهية. فإذا نظرنا إلى الأعداد التي تحمل هذه الصفات رأينا أن فيها عددين أساسيين هما (e) أساس اللوغاريتم الطبيعي، والعدد الذي يمثله الرمز (Pi) اللاتيني أساس التوابع الجيبية. هذان العددان يستنتجان من سلسلة غير متناهية وليس لها نهاية مترددة. فضمنا كل منهما يحمل كل الأعداد المنفصلة وهما في ذاتهما يمثلان كما متصلا. فإذ نظرنا إلى هذين العددين رأينا أن العدد e يرصد التوابع الأسية. والعدد الذي يمثله الرمز (Pi) اللاتيني يرصد التوابع الجيبية. فالتوابع الأسية تمثل التزايد والتناقص في الطبيعة.

والتوابع الجيبية تمثل الترداد في الطبيعة والتابعان الأسي والجيبي هما تابعان أوليان في الرياضيات أي أن حلا لمعادلة هو أن تصل إلى تابع أسي أو تابع جيبي أو تابع أسي جيبي.

وكذلك نجد أن الجذر التربيعي لـ 2 هو عدد رحماني. والذي يستنتج من علاقة فيثاغورث للمثلث القائم الزاوية والمتساوي الساقين حيث كل ضلع قائم يساوي الواحد والوتر يساوي الجذر التربيعي لـ 2 أما في مفهوم الجذر التربيعي الموجب فتظهر وحدة الأضداد فنقول إن جذر 4 هو +2 و-2. أما إذا أخذنا حالة السالب مثلا – 4 فنقول إن – 4 =-1×4. فجذر 4 هو + 2و-2. ويبقى لدينا جذر الـ -1 الذي يظهر لنا أن هناك حالة وهمية وحالة حقيقية. فظهرت الأضداد في السالب والموجب وظهر النقيضان الملتبسان معا في الحقيقي والوهمي.

وبما أن اللغة هي تجريد والرياضيات هي تجريد وترميز معا فكلاهما قائم على قانون عدم التناقض وقانون التأثر والتأثير المتبادل “العلاقات المنطقية” ففيهما التعريف والتنكير. فـ “ال” تعتبر أداة تعريف في اللغة يقابلها الإحداثيات في الرياضيات. والإضافة في اللغة للتعريف، والإضافة في الرياضيات x1, x2, x3 أيضا للتعريف.

التغيرات الكمية والكيفية:

قلنا إن الكم والكيف مرتبطان في الطبيعة ارتباطا لا ينفصل والمعرفة الإنسانية تميز بعضها من بعض بعملية التقليم فالمعرفة الإنسانية إما أن تهتم بالكيف أو بالكم وهذا يتبع مستوى المعرفة الإنسانية فالأذن تميز النغمات المختلفة في الأصوات أولا وهي كيف والعين تميز الألوان وهي كيف والجلد يميز درجات الحرارة والنعومة والخشونة وهي كيف. فبداية التمييز كيفية فؤادية تحولت عن طريق التجريد إلى تعبير كمي علما بأن الكم والكيف مرتبطان معا في الطبيعة من قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} (الأعلى 1-3) أي أن وظيفة كل شيء تتبع المقادير الموجودة فيه وأن أي تغير كمي في الأشياء يتبعه تغير كيفي وظيفي.

ولولا هذا القانون لأصبحت كل علوم الرياضيات علوما ليس لها أي معنى ولا تعكس أي واقع موضوعي. أي أن التعبير المعرفي القائم على الأضداد لقانوني الجدل الأساسيين في الأشياء الأول والثاني هما التغيرات لكمية التي يلازمها تغيرات كيفية، ولولا هذا التغير الكمي والكيفي لما أمكننا فهم قوانين الجدل في الطبيعة وفي الإنسان. فقانون التغير الكمي الذي يلازمه تغير كيفي هو قانون تابع لقوانين الجدل 1، 2 وغير منفصل عنهما وهو القانون الذي مكنا لإنسان من فهم قوانين الجدل الأساسية فعندما نقول: حين تبلغ درجة حرارة الإنسان 43 فهذا يؤدي إلى الموت فالحرارة كم والموت هو انتقال من كيف إلى كيف آخر. وارتفاع الحرارة في الماء يؤدي إلى التبخر فارتفاع الحرارة تعبير كمي والانتقال من حالة سائلة إلى حلة بخارية حالة كيفية وقابلة للانعكاس وتكاثف بخار الماء يؤدي إلى انخفاض الحرارة وهذا التكاثف له تعبير كمي، وانخفاضا لحرارة له تعبير كمي. وكلاهما يمثل كيفا متميزا عن الآخر ولكنهما متعلقان ببعضهما وهذا ما شرحته في قوله تعالى:

{خلق الإنسان من علق} (العلق 2). أي أن الوجود الموضوعي عبارة عن علاقات متداخلة بعضها ببعض فما علينا إلا أن نميزها ونفصلها عن بعض “التقليم” وهذا الفصل هو فصل معرفي بحت يجري من قبلنا، أما فصل كيفيات مختلفة بعضها عن بعض أو فصل بين كم وكيف وفصل بين كميات مختلفة بعضها عن بعض والتي تعبر عن كيفيات مختلفة فهذا أرقى أنواع التقليم الذي هو التقليم الكمي من كيفيات مختلفة. وهو الذي قلنا عنه بأنه أرقى أنواع العلوم فهو “الإحصاء العددي”. {وأحصى كل شيء عددا} (الجن 28).

وعليه يمكن أن نقول إن قانون الكم والكيف هو الذي سمح للإنسان بمعرفة الطبيعة عن طريق التقليم وإنه سمح للإنسان بفهم الطبيعة وقوانين الجدل وهو الذي سمح للإنسان بالسيطرة على قوانين الطبيعة لمصلحته. فالله مسيطر على الطبيعة ومعرفته لها معرفة رياضية ونحن أيضا نمتلك معرفة رياضية وكلما زادت معرفتنا الرياضية بالطبيعة زدنا سيطرة عليها حيث أن المعرفة الرياضية تتصف بصفتين أساسيتين هما الدقة والتنبؤ.

ثانياً: العقل الشيطاني:

قلنا ن العقل المدرك للموجودات عبارة عن علاقة جدلية بين نقيضين هما: الرحمن وهو الجانب المادي الموضوعي “الحقيقي” والشيطان الفعلاني وهو “الوهم والخرافة”. وقد شرحنا في الأقوال السابقة أسس العقل الرحماني المادي في الإدراك الفؤادي والفكر والعقل. فما هي أسس العقل الشيطاني الوهمي الذي يولد الخرافة والوهم والأمنيات الكاذبة لدى الناس؟

لقد قلنا إن المادة حقيقة موضوعية وإن الدماغ الإنساني مؤلف من مادة. فكيف يمكن للمادة التي هي حقيقة موضوعية أن تولد وهما؟ لقد أعطى القرآن جوابا لهذا السؤال ممثلا بالشيطان الفعلاني الذي هو أحد أطراف العملية الجدلية القائمة في الفكر الإنساني “الوسواس” “الأمنيات الكاذبة”. والطرف الآخر هو العقل الرحماني المادي حيث قال: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطن كان للرحمن عصيا} (مريم 44) فمن مهمات الشيطان تحويل قراءة القرآن من قراءة مادية رحمانية إلى قراءة مثالية شيطانية. وقد نجح في هذه المهمة نجاحا باهرا، لأننا لم نمتثل قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطن الرجيم} (النحل 98) ولاحظ أنه قال {فاستعذ بالله}. ولم يقل {فاستعذ بالرحمن}.

فلنعدد الأبواب الرئيسية التي يعمل من خلالها الشيطان الفعلاني:

الباب الأول: “تلاه فهو إذن سببه” وهو الربط بين حدثين متتاليين لا علاقة موضوعية بينهما إلا التتالي. مثال ذلك كسوف الشمس وموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث تلا كسوف الشمس حدث موت إبراهيم. وقد وقع كثير من الصحابة في هذا الوهم وهو قولهم “كسفت الشمس لموت إبراهيم” ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع في هذا الوهم حيث صحح لهم بقوله: إن الشمس آية من آيات ربي لا تكسف لموت أحد ولا لحية أحد. يمكن أن نضرب على هذا الباب آلاف الأمثلة حيث أن هذا هو سبب ظهور معظم الخرافات عند أهل الأرض جميعا وظهور الأسطورة. وأريد أن أورد مثالا آخر بسيطا يقع فيه معظم العرب المسلمين وهو أن زيدا شتم عمرا، وبعد فترة وجيزة أصابت زيدا حمى فيقولون إن الحمى أصابته لأنه شتم عمرا. وقس على ذلك آلاف الأمثلة.

هنا يجب أن نميز بين الربط الوهمي الناتج عن التتالي وبين الحسد. فالحسد هو صفة تحمل صاحبها على القيام بعمل مؤذ لقوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} (الفلق 5). وإن الشر عمل واع مقصود لقوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة 8). أما العين فلها تأثير واحد علمي وهو: إذا نظر مجموعة من الأشخاص وركزوا نظرهم إلى شخص معين وهو يمشي، فربما يؤدي إلى انزلاقه ووقوعه على الأرض لقوله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون} (القلم 51).

الباب الثاني: الخلط بين قدرة الله ومشيئته. هذا الباب دخل منه الشيطان وأوقع كثيرا من الناس في الوهم وخاصة العرب المسلمين. والخلط بين قدرة الله ومشيئته هو الباب الذي دخل من خلاله مشعوذون ودجالون ممن يدعون التصوف أو العلم إلى عقول المسلمين السذج وزادوهم جهلا وسذاجة، وهذا الباب لا يولد إلا التخدير والأماني الخادعة. فكيف حصل هذا الخلط؟.

لنضرب المثال التالي لنوضح الالتباس بين القدرة والمشيئة. لو قلنا إن زيدا يستطيع أن يحمل 10كغ فهذا لا يعني أنه كلما صادف 10كغ حملها بالضرورة. فحمله 10كغ يتوقف أولا على استطاعته، وثانيا على مشيئته، يريد أو لا يريد.

وكذلك عندما يعلن الرئيس الأمريكي أن باستطاعة بلاده إسقاط أية طائرة تطير فوق مجالها الجوي فهذا لا يعني أن أية طائرة تطير فوق المجال الجوي للولايات المتحدة سيتم إسقاطها بالضرورة. حيث نرى أن إعلان المشيئة يتبع إعلان القدرة. فيقول أن الولايات المتحدة ستسقط أية طائرة تطير فوق مجالها الجوي بدون إذن مسبق. ولكن إعلان المشيئة دون أن يسبقه إعلان القدرة يصبح هراء. وإلا فكيف يمكن لإنسان أن يعلن عن إرادة ما إذا كان غير قادر على تنفيذ هذه الإرادة؟!

لقد فصل الكتاب بين آيات القدرة لله تعالى وآيات المشيئة. ففي آيات القدرة قال:

  • {يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} (النور 45).
  • {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} (الملك 1).
  • {إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} (الروم 50).
  • {يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير} (الحديد 2).
  • {الله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} (المائدة 120).

هذا فيما يتعلق بالموجودات وظواهرها. أما فيما يتعلق بالأوامر ونفاذها بالنسبة لتاريخ الإنسان فقال:

  • {ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} (التوبة 39). {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} (الأنعام 17).
  • {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم إن الله على كل شيء قدير} (البقرة 20).
  • {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} (البقرة 284).

من الآيات الواردة أعلاه نلاحظ إطلاق القدرة في ظواهر الطبيعة مع الإنسان. ولكن إطلاق القدرة لا يعني الخروج على ظواهر الطبيعة وقوانينها حيث نعلم أن ظواهر الطبيعة وقوانينها هي كلمات الله وهي سننه في خلقه حيث قال: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا} (الكهف 27). وقال: {فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا} (فاطر 43).

وبالنسبة للإنسان فإن الله قادر على أن يفعل ما يشاء من حيث إطلاق القدرة، ولكن قرنت في الكتاب القدرة بالمشيئة وذلك في قوله: {وما يضل به إلا الفسقين} (البقرة 26). {والله لا يهدي القوم الظلمين} (البقرة 258). {والله لا يهدي القوما لكفرين} (البقرة 264). {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمنهم} (آل عمران 86). {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} (النحل 37). {إن الله لا يهدي من هو كذب كفار} (الزمر 3). {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} (غافر 28). {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} (الشورى 13).

ونلاحظ هنا أمرين بالنسبة للوجود وظواهره الذي هو كلمات الله. فمشيئة الله هي أنه لا مبدل لكلماته ولا تبديل ولا تحويل لسنته، وبالنسبة للإنسان فمشيئة الله هي أنه لا يهدي الفاسقين والكاذبين والمنافقين. علما بأنه قادر على هدايتهم من حيث القدرة.

إن السؤال عن قدرة الله غير وارد بالنسبة للإنسان المسلم ولا الكافر. فإذا قلنا هل يستطيع الله، يخلق الشمس علما بأن الشمس موجودة؟ وهل يستطيع الله أن يخلق إنسانا، والإنسان موجود؟ فإذا قلنا هل يستطيع الله أن يجعل الشمس مكعبا بدلا من كرة فنقول: نعم يستطيع. فإذا قلنا ولكنها كرة وليست مكعبا، فهل هذا عجز؟؟ الجواب: هي كرة وليست مكعبا لأنه أرادها أن تكون كذلك. كأن نقول إنه طارت طائرة فوق الولايات المتحدة ولم يتم إسقاطها فإننا نفهم أن الولايات المتحدة لمترد ذلك ولا نفهم أنها غير قادرة على ذلك.

فإذا كان زيد ذكرا فإن الله قادر على أن يجعله أنثى. لكن بقاء زيد ذكرا مع أن الله قادر على أن يجعله أنثى لا يعني العجز بل يعني أن الله أراده أن يكون ذكرا من خلال قوانينه.

علينا أن نعلم أن إرادة الله في الأشياء لا تتم إلا من خلال كلماته: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس 82) وإرادة الله في الأحداث لا تتم إلا من خلاله كلماته. {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة 117). ونحن نعلم أن قوله هو الوجود {قوله الحق}. والوجود كلماته {يحق الله الحق بكلماته}. وعلينا أن نعلم أن لا خوارق ولا تبديل لكلمات الله ولا لسنن الوجود. وإن ما نسميه خوارق في الطبيعة هو خروج عن المألوف وعن المعرفة النسبية للإنسان لا خروجا عن سنن الطبيعة نفسها “انظر فصل إعجاز القرآن”.

وكل ما يقال من أن الكرامات هي الخروج عن ظواهر الطبيعة فهي وهم. ولكن الكرامات هي غير ذلك تماما. فالله يكرم إنسانا بأن يهبه ذكورا وإناثا أو يهبه الحكمة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} (البقرة 269). أو يهبه رزقا حلالا: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} (الأنعام 17) أو يكرمه فيشرح صدره للإسلام.

هذا الالتباس بين القدرة والمشيئة كان مدخل الشيطان عند المسلمين السذج، فيأتيهم دجال ويقول لهم: إن زيدا صنع كذا وكذا. فيسألون كيف حصل هذا؟ فيخرسهم بقوله: {إن الله على كل شيء قدير}.

لقد أمرنا الكتاب بأن لا نسأل عن قدرة الله، وحثنا على أن نسأل عن مشيئته ونبحث فيها أي الكيفية: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} (العنكبوت 20).

فواجبنا كمسلمين أن نسأل ونبحث، لا عن قدرة الله في خلق الشمس، ولكن نبحث ونسأل كيف خلق الله سبحانه وتعالى الشمس. أو كيف تمت مشيئة الله في خلق الشمس. هكذا نصل إلى جواب ونصبح علماء حقيقيين لا دجالين. ولا نسأل هل الله قادر على أن يخلق ذكرا وأنثى؟ ولكن نسأل كيف تمت مشيئة الله في وجود الذكر والأنثى؟ ففي هذا ندخل في علم المورثات ونرى أن هناك حيوانات منوية فيها XY للذكر وحيوانات منوية فيها XX للإناث.

إن الاستعمال الشيطاني الوهمي لبديهية {إن الله على كل شيء قدير}. حرفنا عن منهاج البحث العلمي في الكيفيات والكميات ووقعنا عاجزين أمام العالم. وقد سببت لنا هذه الأطروحة وهما كبيرا بأن رضنا كثيرا من النظريات العلمية مثل نظرية النشوء والارتقاء والتطور. والتي برهنا في كتابنا هذا بأنها العمود الفقري لأطروحات القرآن في الخلق والوجود والساعة والبعث واليوم الآخر.

لقد قال بعض المفسرين القدامى – ونحن نعلم أن في تفسيراتهم كثيرا من الإسرائيليات – في الأمور المتعلقة بخلق الإنسان والكون. لقد قالوا عن آدم بأن الله خلقه على النحو التالي:

جمع الله ترابا من أديم الأرض وخلطه بالماء فأصبح طينا، ثم تركه ليجف فأصبح صلصالا. ومنهم من أضاف بأن كل مرحلة من المراحل استمرت أربعين عاما “كذا”. ثم نفخ فيه الروح فأصبح كائنا حيا “كذا” ثم نام واستيقظ فإذا حواء بجانبه لتؤنس وحشته، وخلقت من ضلعه، ثم سكنا الجنة ثم طردهم الله من الجنة إلى الأرض. فإذا سألتهم: أيعقل هذا؟ فيكون الجواب المباشر “أليس الله على كل شيء قدير”.

ونطرح على من يقول ذلك السؤال التالي: إن كان ما تقولونه صحيحا فهذا يعني أن الله أنشأ معملا للسيراميك “الفخار”. أين؟ لا ندري؟؟ وصنع تماثيل من الطين على شكل إنسان وسمك وحيتان وبقر وغنم وإبل وذباب، وكل أنواع الحشرات والطيور والأسماك والزواحف. كل على حدة. ثم نفخ فيها الروح فأصبحت أحياء. ولكن القرآن يقول إن نفخة الروح حصلت للبشر فقط. علما بأن الإنسان وبقية المخلوقات المذكورة كلها كائنات حية. ومن هذه الأطروحة الوهمية للروح على أنها سر الحياة العضوية، انجحب المسلمون عن علوم الجيولوجيا والمستحاثات وأصل الأنواع والتشريح.

ويمكن أن يأخذ ذلك الطرح الشكل التالي: إذا كان خلق الإنسان قد تم كما ذكر في تلك الروايات “لا كما ذكر في القرآن” فهذا يعني أن الله فعلا هو الذي خلق الإنسان. وإذا جاء طرح آخر يقول إن الخلق لم يحصل كما تقولون، فهذا يعني أن الله لا علاقة له بخلق الإنسان وبالتالي فإن هذا الطرح هو طرح إلحادي كافر. هذا الاستنتاج الشيطاني علينا أن نبتعد عنه وذلك بتوضيح ما يلي:

إن الذين أولوا آيات خلق الإنسان وهي كلها آيات متشابهات “قرآن”، هم أناس كانوا يقفون على أرضية علمية ضعيفة. وكان المستوى المعرفي لعصرهم لا يسمح لهم بالتوصل لاستنتاجات حقيقية، والأرضية العلمية ومناهج ووسائل ابحث العلمي لعصرهم ضعيفة، فأولوا تأويلات تتناسب مع أرضيتهم ومناهجهم. ونحن نعلم قوله تعالى:

{لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} (الأنعام 67) {ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص 88). لذا نستنتج أنهم كانوا عاجزين عن التأويل العلمي المقنع لنا وذلك لعجز الأرضية العلمية ومنهج البحث العلمي لديهم ووسائله.

ونحن حين نتكلم عن خلق الإنسان لا نتكلم عنا لقدرة، بل نتكلم عن المشيئة، أي كيف تمت مشيئة الله في خلق الإنسان. هذه المشيئة فقد تأخذ ثانية واحدة. وقد تأخذ مئات الملايين من السنين فإذا اكتشف داروين أن هذه المشيئة أخذت مئات الملايين من السنين، فهذا لا يعني أنه إلحاد أو كفر وكأن الله لا علاقة له بهذا.

وأمثل بقضية أخرى فأقول: لقد طغى على الأذهان أن عمر الإنسان ثابت منذ أن يخلق في بطن أمه. إن هذا الاعتقاد يلغي كل العلوم الموضوعية في الطب والإحصاء التي تقول عكس ذلك. فإذا قلنا إن عمر الإنسان مفتوح ورزقه مفتوح وعمله مفتوح وغير مكتوب سلفا ذهب ظن الناس السامعين فورا إلى أن الله لا علاقة له بعمر الإنسان ورزقه وعمله. وبالتالي فقولنا كفر وإلحاد. علما بأن الكتاب يقول إن الأعمار والأرزاق مفتوحة بالنسبة للإنسان وغير مكتوبة عليه سلفا. وسنفصل القول في ذلك في مبحث الأعمار والأعمال والأرزاق في هذا الباب.

فإذا أردنا أن نتخلص من هذا الوهم فما علينا إلا أن نعلم أن نظرية التطور في كل شيء هي نظرية التسبيح وهي العمود الفقري لنظرية القرآن فيا لوجود. وأن معرفة الإنسان عبارة عن معرفة نسبية بالموجودات تتطور مع الزمن. وأن القرآن حوى الحقيقة المطلقة ككلمة إلهية. والفهم النسبي كمعرفة إنسانية. لذا ففهمه يخضع للتطور والحركة وهنا السر الأكبر في إعجازه.

-الباب الثالث: الخلط بين العلم والأخلاق والتقوى. أي الخلط بين كلمات الله والتي هي الوجود وقوانينه التي جاءت في القرآن “النبوة” وبين الوصايا والمواعظ والأوامر التي جاءت في أم الكتاب “الرسالة”. لقد دخل الشيطان من الالتباس بين الرسالة والنبوة. هنا أريد أن أورد الأمثلة التالية للتوضيح:

1 – إذا أخذنا قصة نوح في القرآن مع ابنه حيث قال نوح: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} (هود 45) حيث وعده الله بأن ينجي أهله في قوله: {فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم… الآية} (المؤمنون 27).

لقد استغرب نوح كيف يغرق ابنه مع أن وعد الله حق نافذ، ويجيء الجواب: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}.

لكي يكون وعد الله حقا فالذي غرق ليس ابن نوح في الحقيقة، وإنما ابن زنا، دون أن يدري نوح بذلك. لذا كان استغراب نوح استغرابا في محله. وكان جواب رب العالمين بأن نوحا لا يعلم هذه الحقيقة في قوله: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صلح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود 46).

هنا تحت باب اللباقة والقيم الاجتماعية والتحرج تم الوقوع فيا لوهم فقيل لا يليق بامرأة نبي أن تكون زانية مع أنها من أهل النار {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صلحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} (التحريم 10). لاحظ أن الله سبحانه وتعالى لا يستحي من الحق.

2 – عندما اتهمت عائشة أم المؤمنين بالزنا “حديث الإفك” كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الاتهام موقفا موضوعيا ماديا، إذ نه لا يملك دليلا لإثبات الاتهام، ولا دليلا لنفيه، فسكت حتى جاءه الوحي بتبرئتها. وكان الأحرى بالنبي أن يقول منذ أول لحظة “اصمتوا فهذه امرأة نبي ولا يليق بها أن تكون زانية” ولكنه سكت لعدم وجود دليل الإثبات أو النفي.

3 – لقد انعكس وضع المرأة الاجتماعي على وضعها في الجنة. فمن الناحية الشرعية الاجتماعية لا يجوز ولا يليق بامرأة أن تنام مع رجل بدون عقد نكاح، أو أن تعقد على رجلين. فانعكس هذا المفهوم على وضع المرأة في الجنة. فالحور العين هم للرجال فقط. ولا ندري ماذا تركوا للمرأة في الجنة غذ لا يليق بها أن تنام مع رجلين؟ علما بأننا نعلم أن في الجنة لا يوجد شيء اسمه عقود أنكحة. وكل القيم الاجتماعية والمفاهيم الأخلاقية والشرعية والقانونية الموجودة في الحياة الدنيا ملغاة في الجنة.

هنا نستنتج بأن أحد مداخل الشيطان هو الخلط وتلبيس الحقائق الموضوعية في القرآن، بالقيم الاجتماعية والأخلاقية في أم الكتاب.

فعلينا أن لا نسقط نهائيا القيم الاجتماعية والأخلاقية على الحقائق الموضوعية، وإلا فإننا نقع في الوهم “الباطل”.

الباب الرابع: الاعتماد فقط على الرباط لامنطقي المجرد بين المقدمات والنتائج. أي إذا كان هناك رباط منطقي بين المقدمات والنتائج لمسألة ما، ولا يوجد تناقض، فلا يعني حتما أن المسألة صحيحة (انظر أنواع المعرفة) إذ أن صحة الرباط المنطقي لا تعني أن المسألة حقيقية حيث يمكن أن تكون المسألة كلها وهمية وفيها رباط منطقي حيث أن المقدمات يجب أن تكون حقيقية.

الباب الخامس: الأماني: وهو إسقاط أهواء الإنسان الخاصة وأمانيه الشخصية على الواقع الموضوعي، مما يسبب له الوقوع في الوهم. هذا الباب يمكن أن يقع فيه كل الناس بدون استثناء حتى الأنبياء والرسل، وذلك في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطن ثم يحكم الله آيته والله عليم حكيم} (الحج 52). هنا نلاحظ أن الأهواء والأماني هي من مداخل الشيطان الفعلاني. وكذلك قوله: {أم للإنسن ما تمنى} (النجم 24). {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطن إلا غرورا} (النساء 120) وقوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتب} (النساء 123).

وفي الختام نلخص العقل الشيطاني “التكذيب والوهم” بالعبارة التالية:

إن الصور الموجودة في الأذهان غير مطابقة للأشياء الموجودة في الأعيان وهذه هي وظيفة الشيطان الفعلاني.

الفرع الثاني: أنواع المعرفة ونسبيتها

أولاً: أنواع المعرفة:

لقد شرحنا في نشأة الكلام الإنساني ارتباط الفكر باللغة، ارتباطا لا انفصال له، وقلنا إن اللغة تطورت من مرحلة المشخص المحدد بالحواس وعلى رأسها حاستي السمع والبصر، أي من مرحلة العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول إلى مرحلة المجرد مع وجود مراحل انتقالية بين المشخص والمجرد. فقلنا إن أنواع التعبير عن المعرفة أخذ الشكل التشكيلي بالرسم، وتطور إلى الأبجدية وباللغة المجردة “البلاغة” وبالرموز الرياضيات.

فيمكن الآن أن نستنتج أنواع المعرفة الإنسانية وهي:

1 – المعرفة الفؤادية المرتبطة مباشرة بالحواس “وعلى رأسها حاستا السمع والبصر” وهي أبسط أنواع المعرفة وأكثرها فعالية وأكثرها يقينان وهي القاسم المشترك بين أهل الأرض، ذكيهم وغبيهم، لذا قلنا إن الحساب يوم القيامة هو فؤادي مرتبط بالحواس {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} (النور 24) {ووجدوا ما عملوا حاضرا} (الكهف 49) ومن هنا طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليكون يقينه بإحياء الموتى يقينا فؤاديا.

2 – المعرفة الخبرية: وهي بأن يتواتر النبأ عن طريق الخبر، بأن العرب انتصروا على الروم في معركة اليرموك. هذه المعرفة قد تنتهي إلى معرفة فؤادية وهذا من اختصاص علماء الآثار. وقد يستطيعون تصديق الخبر أو تكذيبه. وقد يكون الخبر بالتواتر القولي والفعلي. فالله حفظ الكتاب عن طريق تواترا لحفظة. فمنذ أن كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا إلى يومنا هذا هناك أناس يحفظون الكتاب بذاكرتهم دون انقطاع. كما أن نقله إلينا تم عن طريق التواتر الخطي بعد جمع المصحف. علما بأننا في هذا المجال نتكلم عن الخبر كأحد أنواع المعرفة أي صدقه أو كذبه.

وقد برع المسلمون في ذلك وخاصة في علوما لحديث إذ أنهم اهتموا بعلم الحديث وطبقات المحدثين وذلك طبقا للمنهج المتوفر لديهم. ولكن هنا يجب أن نفهم تماما بأن صدق الخبر شيء واستعمالا لخبر استعمالا مطلقا شيء آخر. فصدق الخبر لا يعني بالضرورة إطلاقه وخاصة الخبر التاريخي “انظر فصل السنة في الباب الثالث”.

3 – المعرفة النظرية “الاستنتاجية”: هذا النوع من المعرفة يعتمد على المنطق الصوري والرياضي في الاستنتاج والاستقراء والربط بين المقدمات والنتائج كما هو معروف أن حدود المنطق ثلاث وهي: الحد الأول في المقدمات، والحد الأوسط في العمليات الانتقالية، والحد الأخير في الاستنتاجات، حيث أن المنطق هو استنتاج المجهول من معلوم بقانون عدم التناقض بغض النظر عن الاستنتاج أوهمي هو أم حقيقي. هذا الرباط المنطقي هو نمط التفكير المجرد عند الإنسان بغض النظر أكان المنطلق ماديا رحمانيا، أو مثاليا شيطانيا، حيث أن النقيضين في الدماغ الإنساني “الرحمان والشيطان” مربوطان بقانون عدم التناقض. وهنا ذكرنا أن أحد مداخل الشيطان في هذا الباب. إذ لا يكفي أن يكون هناك عدم تناقض بين المقدمات والنتائج حتى يكون الحكم حقيقيا.

فالرباط المنطقي في العقل الرحماني المادي هو أن المقدمات الموجودة في الأذهان يجب أن تتطابق مع الأشياء الموجودة في الأعيان. أي أن المقدمات يجب أن تكون حقيقية مطابقة للواقع الموضوعي. وهذا ما نسميه بفرضيات النظريات حيث أن هذه الفرضيات يجب أن تتطابق مع الواقع. ثم يأتي الحد الأوسط فيا لعمليات الانتقالية حتى نتوصل إلى النتائج.

إن الحد الأوسط في الاستنتاجات وربط النتائج بالمقدمات برباط عدما لتناقض هو نفسه عند العالم وعند الجاهل. فلا نقول إن العالم عاقل والجاهل مجنون، ولكن نقول إن مقدمات العالم حقيقية، ومقدمات الجاهل وهمية ولكن كليهما إنسان عاقل سوي. وأوضح مثال على ذلك هو الحاسب الإلكتروني فلا يكفي أن نعرف لغة الحاسب حتى نحل مسألة عليه، ولكن يجب أن نعرف الرباط المنطقي الذي يقوم عليه الحاسب لكي نبرمج حل المسألة وهذا ما نسميه (Flowchrt) ونحن إذا وضعنا مخططا منطقيا للمسألة فإننا نأخذ حلولا صحيحة طبقا للرباط المنطقي ولكن هذه الحلول قد تكون مطابقة للواقع الموضوعي “حقيقية” وقد تكون غير مطابقة “وهمية”.

فللتحقق من حقيقة علمية ما هي صحيحة وحقيقية يجب أن نتحقق من أمرين اثنين:

أ‌ – أن تكون المقدمات غير متناقضة مع النتائج “الرباط المنطقي” فإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن العمليات الانتقالية بين المقدمات والنتائج صحيحة.

ب‌ – إذا كانت النتائج مطابقة للواقع الموضوعي فهذا يعني أن المقدمات صحيحة. وكلما كان التطابق بين النتائج والواقع الموضوعي قريبا كلما تأكدنا من صحة المقدمات، حيث أنه أحيانا تكون النتائج النظرية والواقع الموضوعي متقاربين وغير متطابقين مما يدل على صحة الفرضيات المستعملة، ويدل في الوقت نفسه على نقص في الفرضيات أي هناك متحولات أهملت. ولم يتم أخذها بعين الاعتبار.

فالفرضيات هي مجموعة الشروط الموضوعية التي تم تمييزها “تقليمها” من قبل الإنسان، التي تعتبر العناصر المركبة لظاهرة ما.

هذه الناحية من الاعتماد على المنطق بالربط بين المقدمات والنتائج فقط بغض النظر عن فحص المقدمات وتدقيقها وتحقيقها هي السبب في كثير من الوهم الذي وقع فيه علماء الكلام المسلمون إذ اعتمد علم الكلام عندهم على الربط بين الحدود فقط بغض النظر عن المسألة الكلامية أحقيقة رحمانية أم وهمية شيطانية، ولا أريد الاستفاضة في علم المنطق لأن كتابنا هذا ليس كتابا في المنطق. وعلى من يريد أن يستفيض في هذا العلم فعليه بالكتب المختصة.

ثانياً: الزمن والوقت والنسبية:

يجب علينا أن نميز بين مصطلحين أساسيين وهما الوقت والزمن وقد استعمل الكتاب مصطلح الوقت ولم يرد مصطلح الزمن في الكتاب وإنما جاء مصطلح الدهر والسنين. فالوقت جاء من “وقت” ويعني في اللسان العربي الزمان المعلوم، والموقوت الشيء المحدد.

فالزمن له وجود موضوعي وفيه حركة الأشياء، ولكن كيف يمكن للإنسان إدراك الزمن؟؟

نحن ندرك الأشياء بالتقليم الكمي والكيفي. فقد قلمنا الزمن بواسطة الحركة المتغيرة، أي لو أن كل شيء في الوجود يسير بنفس السرعة لما عرفنا أن هناك حركة، أي لما استطعنا تقليمها وبالتالي لما عرفنا لازمن. فمن اختلاف السرعات ظهرت نسبية الحركة ونسبية الزمن وبالتالي ربطنا الزمن بأحداث الأشياء للتعبير عن النسبية في الحركة وظهر مفهوم الوقت، فالوقت هو ربط الزمن بحدث من أجل المعرفة النسبية للحركة، لذا سمي الوقت زمنا معلوما.

وقد استعمل الكتاب مصطلح الوقت بهذا المعنى تماما حيث ربطه بأحداث، فالساعة حدث وهو الانفجار الثاني للكون لذا قال عنها: {قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو} (الأعراف 187). وقال: {إن يوما لفصل كان يقاتا} (النبأ 17). وقال: {إن يوما لفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان 40) وعندما سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الأهلة وهي ظواهر تنتج عن حركة القمر قال: {يسألونك عن الأهلة قل هب مواقيت للناس والحج} (البقرة 189). والصلاة مرتبطة بوقت، ولا وقت مرتبط بحدث، فعندما تصبح الشمس في كبد السماء نقول حان وقت الظهر، لذا قال: {إن الصلاة كان على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء 103). وقال لإبليس {فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} (الحجر 37-38).

ونحن الآن نقول الساعة الثانية حسب توقيت غرينتش ولا نقول حسب زمن غرينتش. وبنفس الوقت نقول “المسافة = الزمن * السرعة” هنا استعملنا الزمن لأننا أخذنا قانونا مجردا غير مرتبط بحدث فلا يصح أبدا أن نقول الوقت وإذا قلنا الوقت فيجب علينا أن نقول وقت ماذا؟ فنحن نستعمل الزمن في المجردات، والوقت عندما نربط الزمن بحدث معرف كوقت الصلاة ووقت الطعام والنوم وتوقيت المعركة وقنبلة موقوتة.

ولتمييز الوقت عن الزمن في الوحدات استعمل الكتاب مصطلح السنة والعام.

فالوقت له نسبته وهي الحدث ونسبة القياس فعندما تصبح الشمس في كبد السماء نقول وقت الظهر “نسبة الحدث” ونقول إن وقت الظهر هو الساعة 11.30 حسب توقيت دمشق أو حسب توقيت غرينتش “نسبة القياس”. لذا قال: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين} (الحجر 37-38). فنسب التوقيت إلى حدث {يوم يبعثون} أما نسبة الزمن فتتعلق باختلاف السرعات فإذا قلنا إن جسما ما يسير على الأرض بسرعة 100كم/سا فإننا ننسب السرعة إلى الأرض ونعتبر أن سرعة الأرض تساوي الصفر.

وهكذا ظهرت النظرية النسبية باعتبار أن هناك راصدا ومرصودا وهناك زمن للراصد وزمن آخر للمرصود، ولما كانت نسبة الزمن لها علاقة بالسرعة فيجب أن يكون هناك سرعة مطلقة تنسب إليها كل السرعات، وحسب معلوماتنا الحالية فإن السرعة المطلقة هي سرعة الضوء حيث أن سرعة الضوء ثابتة بغض النظر عن السرعة البدائية “أي بغض النظر عن سرعة المصدر الضوئي”. وبما أن الضوء حسب معلوماتنا فيه كمال السرعة فلا يسير بسرعة الضوء إلا الضوء أي إذا سار أي جسم بسرعة الضوء فإنه يصير ضوءا.

لقد وضع الكتاب مصطلحات مختلفة للزمن والوقت وهي السنة والعام واليوم. فالسنة مقيس زمني منسوب إلى السرعة لذا فهو وحدة متغيرة غير ثابتة والعام مقياس للزمن منسوب إلى الأحداث أي دائما يأتي معرفا. ولبيان نسبة الزمن في مصطلح السنة نجده يضع السنة منسوبة إلى شيء معروف كقوله: {ألف سنة مما تعدون} (السجدة 5). فهذا يعني بالضرورة أن هناك سنة تختلف عن السنة التي نعد ولا يوجد أبدا مصطلح “ألف عام مما تعدون” لأن الأعوام بحد ذاتها معرفة كقوله: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة 28). فعرف العام باسم الإشارة “هذا” حيث أن العام جاءت في اللسان العربي من “عوم” وتعني السباحة كقولنا الإبل تعوم في البيداء وعاومت النخلة حملت عاما ولم تحمل عاما “الزمخشري أساس البلاغة ص 317” هنا نلاحظ كيف ربط العام بموسم الحمل للنخل.

وكقولنا ولد النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل وليس في سنة الفيل أي تم ربط الولادة بحدث. وهذا المصطلح للتوقيت. فنقول توفى النبي صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للهجرة أي بدأا لتاريخ بحدث وهو هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فنستعمل العام.

ونقول نحن الآن في عام 1987 للميلاد ولا نقول سنة 1987 للميلاد. لأننا ربطنا التاريخ بحدث وهو ولادة السيد المسيح عليه السلام.

وعندما ربط الزمن بحدث قال: {فأماته الله مئة عام ثم بعثه} (البقرة 259). فجاءت العام لتبين القياس ابتداء من الحدث الذي عبر عنه في قوله: {فأماته الله}. وأجابه بالنسبة للمقاييس المعروفة ابتداء من حدث الوفاة في قوله: {بل لبثت مئة عام}. وعندما ذكر الأعوام المتعارف عليها عند العرب قال: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين} (التوبة 126): وقال: {يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} (التوبة 37). وعندما ذكر فصال الطفل وهو حدث بعد الولادة وله قياس قال: {حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين} (لقمان 14).

وفي سورة يوسف ذكر الزمن بالسنة في قوله: {قال تزرعون سبع سنين دأبا.. الآية} (يوسف 47). {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد… الآية} (يوسف 48). {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} (يوسف 49). هنا نعرف العام بعام الغوث والعصير {عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}. كقوله عام الفيل.

ونلاحظ أنه في مصطلح العام لم يستعمل الكتاب مصطلح “مما تعدون”. لأنه في الأصل معرف.

أما مصطلح السنة فقد جاء من “سنه” في اللسان العربي ولها أصل واحد يدل على زمان. وقد جاءت إما كعد للزمن بشكله النسبي كقوله: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج 47). وقوله: {ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} (السجدة 5)، وإما كعد للزمن بشكل عام دون ربط بحدث ما كقوله: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك} (الأحقاف 15). وقوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس 5) وقوله: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} (الكهف 11). وقوله: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} (الكهف 25). هنا نلاحظ كيف استعمل الله سبحانه وتعالى الزمن بشكل عام في قوله: {وبلغ أربعين سنة}. وقوله: {ثلاثمائة سنين}، لأنه يتكلم على وجه العموم عن أي إنسان. و {ثلاثمائة سنين}.

عبارة عن برهة زمنية (t) وفي معنى البرهة الزمنية العددية (t) جاءت الآية {فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى} (طه 40). وقوله: {ولبثت فينا من عمرك سنين} (الشعراء 18). وقوله: {أفرأيت إن متعناهم سنين} (الشعراء 205) وقوله: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} (المؤمنون 112). وقوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} (الروم 3-4). وقوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} (البقرة 259). أي لم يؤثر عليه الزمن t كما يؤثر على غيره. هنا استعمل “يتسنه” للدلالة على الفترة الزمنية. وقوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة 96).

لنناقش الآن الآيات التالية:

1 – {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} (العنكبوت 14). لقد ورد في هذه الآية مصطلحا السنة والعام معا. فذا يعني أنه استعمل منكرا عدديا في السنة، ومعرفا عدديا في العام، وعليه فليس من الضروري أبدا أن يكون الاستنتاج أن نوحا لبث في قومه 1000 – 50 = 950. فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل لبث نوح في قومه تسعمائة وخمسين سنة أم تسعمائة وخمسين عاما ونحن نعلم أن البنية البيولوجية للبشر لا تسمح له بأن يعمر هذا المقدار من السنين التي نعرفها الآن؟

فهنا إما أن يكون للسنة مقياس آخر غير الذي نعرف، أو أن يكون ربط العام بحدث بحيث يكون العام الواحد “الحول” أكثر من سنة أي في كلتا الحالتين تكون النتيجة لا تساوي 950 سنة من مقاييسنا. وهناك احتمال آخر أن تكون السنة من مقاييسنا ولكن لفظة ألف لا تعني عددا يساوي 500 + 500 ولكن تعني مجموعة من السنين حيث أن “الف” تعني ي اللسان العربي انضمام الشيء إلى الشيء والأشياء الكثيرة. ومنه جاء العدد ألف والتأليف. أي ألف سنة عبارة عن مجموعة من السنين نقص منها خمسون عاما. ففي هذه الحالة أيضا لا تكون النتيجة (950).

2 – {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (المعارج 4).

  • {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج 47).
  • {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} (السجدة 5).

هنا نلاحظ أنه استعمل مصطلح اليوم للدلالة على مقدار زمني مفتوح، فاليوم يمكن أن يكون 12 ساعة أو 24 ساعة أو ألف سنة أو خمسين ألف سنة…الخ. فهنا عندما استعمل المقدار {مما تعدون} فالألف في هذه الحالة لها معنى عددي بحت فعندما قال: {مقداره خمسين ألف سنة} ذكر المقدار الذي هو كم، ولم يقل مما تعدون، وعندما ذكر ألف سنة عن العذاب وتدبير الأمر قال {ألف سنة مما تعدون}.

3 – {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) (الأعراف 130).

هنا ذكر في هذه الآية قانونين أساسيين في هلاك الأمم الصالح والطالح، القانون الأول عام ينطبق على كل الأمم وهو “السنين}. الزمن، أي أن لزمن كفيل بأن يهلك كل الأمم وفي هذا قال: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة} (الإسراء 58). وقال: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88) القانون الأول للجدل.

والقانون الثاني وهو الأزمات الاقتصادية وذلك في قوله: {ونقص من الثمرات}. وهذا القانون أيضا كفيل بإهلاك الأمم لذا وضع العام “السنين”. قبل الخاص. “نقص الثمرات”. وحول الخاص أتم الآية في سورة الإسراء بقوله: {أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا} (الإسراء 58). فالهلاك في الزمن والعذاب الشديد في الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية والحروب، وقد ذكر أن هذا من الأمور المبتوتة المصنفة (Classified) بقوله: {كان ذلك في الكتاب مسطورا}.

ثالثاً: الدائم والباقي :

لقد استعمل الكتاب مصطلح الدائم، ومعنى الديمومة في قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} (هود 107)، وقوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} (مريم 31).

والدائم جاءت من “دوم” وهو في اللسان العربي أصل واحد يدل على السكون واللزوم، والماء الدائم: الساكن. ويحمل عليه تدويم الطائر في الهواء وذلك إذا حلق وكانت له عندها كالوقفة، ومن ذلك قولهم: دومت الشمس في كبد السماء. وذلك إذا بلغت ذلك الموضع، ويقول أهل العلم بها: إن لها ثم كالوقفة ثم تدلك. قال ذو الرمة:

والشمس حيرى لها في الجو تدويم. أي أنها لا تمضي.

فكيف استعمل الكتاب مفهوم الدائم؟:

لقد استعمل الكتاب مفهوما لدائم بمعنيين: الأصل والمحمول. فنقول إن زيدا من الناس مداوم على الصلاة، فهذا يعني أنه لا يقطع وقتا منا لأوقات ويؤدي الفرائض الخمس ولكنه بين الصلاة والصلاة يقوم بأعمال أخرى ونقول إن زيدا مداوم على عمله فهذا يعني أنه يتواجد في مكان عمله في أثناء فترة معينة ولكنه يقوم بأعمال مختلفة ضمن الدوام. فإذا ربطنا قوله تعالى: {وأوصاني بالصلاة والزكاة}. مع قوله: {ما دمت حيا}. رأينا أن {ما دمت حيا}. هي الفترة الزمنية التي قضاها الإنسان على قيد الحياة، وهنا تعني اللزوم، ولكن هذه الفترة الزمنية تحمل ضمنها صفة التقطيع والاستمرار لأعمال وناشطات مختلفة منها الصلاة والزكاة، فالإنسان يصلي ويزكي ويأكل وينام ويعمل.

فإذا صلى خلال فترة زمنية قدرها t1، فضمن هذه الفترة نقول استمر الإنسان في صلاته لمدة 10 دقائق. هنا ظهر مفهوم الاستمرارية في الصلاة، ثم بعد الصلاة أكل لفترة زمنية قدرها t2، فنقول انقطع عن الصلاة واستمر في الطعام لمدة 10 دقائق أخرى، فاستمراريته في الطعام هي في نفس الوقت انقطاع عن الصلاة، واستمراريته في الصلاة هي بنفس الوقت انقطاع عن شيء آخر، ولكن فترة t1 للصلاة وفترة t2، فنقول انقطع عن الصلاة واستمر في الطعام لمدة 10 دقائق أخرى، فاستمراريته في الطعام هي في نفس الوقت انقطاع عنا لصلاة، واستمراريته في الصلاة هي بنفس الوقت انقطاع عن شيء آخر، ولكن فترة t1 للصلاة وفترة t2 للطعام واللتين كلتيهما تعتبران انقطاعا عن شيء واستمرارا في شيء آخر، كلتاهما تقعان على محور الزمن الذي يعيشه الإنسان وهو الدوام.

لقد استعمل الكتاب مفهوم الدوام على أنه محور الزمن (t) الذي يحمل فترات زمنية لأحداث تحمل صفة التقطع والاستمرار اللذين هما النقيضان المتصارعان في حدث ما، وهو أن يبقى مستمرا أو ينقطع وهذان النقيضان محمولان على محور هو الدائم. وبما أن لدائم هو محور النقيضين التقطع والاستمرار وهو محور الزمن فلا نرى أن هذا الاسم يدخل ضمن أسماء الله الحسنى، فلا نقول عن الله إنه دائم ولكن نقول عنه إنه حي باق. ومن الخطأ أن نقول عبد الدائم، أو سبحان الدائم لأن الدائم حامل النقيضين والله لا يحمل صفة التناقض وغير خاضع للزمن.

وقد استعمل الكتاب أحد النقيضين المركبين للدائم والدوام وهي الاستمرار في قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر} (القمر 19). هنا يجب أن ندقق لماذا استعمل الريح ولم يستعمل الرياح، فنحن نعلم أن الرياح عندما تهب فإنها تهب على دفعات، دفعة قوية تتبعها دفعة ضعيفة أو سكون نسبي ثم تليها دفعة قوية ثم تليها دفعة خفيفة. أي أن الرياح تأخذ شكل نبضات مختلفة السرعات. فالنبضة الواحدة تستمر لمدة عدة ثوان لتنقطع فتتبعها هبة أقل قوة أو أكثر قوة تستمر لمدة عدة ثوان أخرى… وهكذا دواليك. لذا سميت رياحا. أما الريح الواحدة فهي نبضة واحدة مستمرة قد تستمر لمدة 10 ثوان أو يوم كامل. وقد ذكر الريح في مجال عذاب قوم هود. حيث استمرت الهبة الواحدة يوما كاملا لذا استعمل الريح مفردة وأتبعها بقوله: {في يوم نحس مستمر} (القمر 19) إن علماء الرياح يعلمون تماما ماذا تعني نبضة واحدة تستمر يوما كاملا.

وما هو الدمار الذي يمكن أن ينتج عنها. لذا أعقب الآية بقوله: {تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} (القمر 20). ونحن الآن نستعمل الدوام والاستمرار بهذا المعنى عندما نقول تهطل الأمطار في سوريا دائما في الشتاء ونقول هطل المطر لمدة ثلاث ساعات مستمرة أي ثلاث ساعات لم ينقطع فيها هطول المطر.

وهكذا نفهم قوله تعالى: {مادامت السموات والأرض}. ولم يقل “ما بقيت السموات والأرض”. وقوله بشكل واضح {إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون} (المعارج 22-23) فدوام الصلاة لا يعني أبدا أنه لا يفعل شيئا في حياته إلا الصلاة، بل يصلي الفرائض ويقوم بأعمال أخرى بالإضافة إلى الصلاة.

وقوله: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} (المائدة 117) أي أن المسيح كان شهيدا على الناس فقط وهو معهم. وعندما رفعه الله إليه لم يكن شهيدا عليهم، لذا قال: {ما دمت فيهم}. ولم يقل “ما دمت حيا” أي أنه في الفترة الزمنية التي كنت مقيما معهم كنت شهيدا عليهم. وقوله: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} (آل عمران 75). إن “ما دمت عليه قائما”. لا تعني استمرار المطالبة. ولو قال ما استمريت عليه قائما لعنى أنا لدائن يلازم المدين ويطالبه بدون انقطاع ولا يقوم بأي عمل آخر غير المطالبة. وقوله: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة 96) تعني أن الفترة الزمنية التي تبدأ بالإحرام وتنتهي بفك الإحرام لا يجوز فيها الصيد.

واستعمل هنا. {ما دمتم}. لأن الحاج قد يحرم من أجل العمرة ثم يفك إحرامه، ثم يحرم من أجل الحج أي أن الإحرام فيه تقطع واستمرار. وعنى هنا بكلمة “ما دمتم” الفترة الزمنية للإحرام. وقوله تعالى: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها} (المائدة 24). هنا أيضا عنى الفترة الزمنية التي يقيم فيها القوم في الأرض التي أمرهم موسى بدخولها. ولو قال “إنا لن ندخلها أبدا ما استمروا بالإقامة فيها” لوجب التعريف أي استمروا بماذا ليأتي الجواب بالإقامة فيها. فهذا يعني إثبات الإقامة ونفي الأفعال الأخرى كالأكل والشرب.

وقوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها} (الرعد 35) هنا ذكر الدوام في مجال الجنة وأكلها وظلها. وقد ذكرت في فصل الجدل بأن الكون الآخر له قوانين مادية جديدة خالية من صراع المتناقضات في الشيء الواحد، لذا لا موت ولا ولادة ولا حمل. وتقوم علاقات تأثير وتأثر متبادل جديدة بين الأشياء. لذا قال: {أكلها دائم}. بمعنى اللزوم والثبات و”ظلها دائم”، بمعنى اللزوم والثبات. ولو قال “مستمر” لوجب تحيد الفترة الزمنية للاستمرار كقوله: {في يوم نحس مستمر}. وقولنا جلس زيد ثلاث ساعات مستمرة. علما بأن الزمن في الكون الآخر له مفاهيم مغايرة لمفهوم الزمن في كوننا الحالي. لذا قال أيضا في مجال اليوم الآخر عن أهل الجنة وأهل النار: {خالدين فيها مادامت السموات والأرض} (هود 107). أي هناك سموات وأرض في هذا الكون بظواهر التقطع والاستمرار وهناك سموات وأرض في الكون الآخر بقوانين الدوام من اللزوم والثبات وبمفاهيم جديدة للزمن.

أما الباقي فقد جاءت في اللسان العربي من “بقى” وهو ضد الفناء أي يبقى على ما هو عليه. لذا نقول إن الله حي باق ولا نقول حي دائم. ألا ترى إلى قوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (الرحمن 27). وقوله: {والآخرة خير وأبقى} (الأعلى 17)، {ورزق ربك خير وابقى} (طه 131) {وما عند الله خير وأبقى} (الأعلى 17) {ورزق ربك خير وأبقى} (طه 73). {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه 127). وقوله: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات 77). أي أن سللة نوح لا تندثر إلى يوم القيامة وهي منتشرة في كل أنحاء المعمورة، لذا تبعها بقوله: {وتركنا عليه في الآخرين} (الصافات 78). {سلام على نوح في العالمين} (الصافات 79).

ومنه البقاء بمعنى البقية وهو ما تبقى ولم يفن أو يستهلك حتى لحظة معينة كقوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} (الحاقة 8). وقوله: {وبقية مما ترك آل موسى} (البقرة 248). وقوله: {وذروا ما بقي من الربا} (البقرة 278). وقوله: {وثمود فما أبقى} (النجم 51). وقوله: {فلولا كان من القرون من قبلكم ولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} (هود 116).

من الدائم والباقي نستنتج أن الوجود المادي الحالي دائم يحمل صفة التقطع والاستمرار التي تعبر عن حركة التغير والتطور. والزمن هو الديمومة الحاملة لهما. والله حي باق لا يحمل صفة التطور والتقطع والاستمرار. فالوجود المادي الحالي دائم ومحوره الله الحي الباقي “أي المرتبط به”.

ويمكن أن نمثل الدائم والباقي في الشكل الرمزي التالي:

{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (يونس 61).

فالله هو محور الوجود المادي الذي يسيطر عليه ومربوط به لذا قال “وما يعزب” وقوله “في كتاب مبين” أي ن الدائم “التقطع والاستمرار” هو في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة الجزئية لأنها تخضع للزمن أي أن نسبية الزمن من قوانين الإمام المبين وليس اللوح المحفوظ.

والدائم والمادة لهما معنيان متقاربان فالمادة جاءت من فعل مد ومنه الامتداد وضمنا تحمل معنى الزمان والمكان فالامتداد فيه حركة “زمان” ويحصل ضمن فراغ “مكان” ومنه نقول الديمومة للمادة والبقاء لله.

(1) تعليقات

اترك تعليقاً