الفصل الثاني: النبوة والرسالة

1 – القرآن (النبوة) هو الموضوعي (Objective) وأم الكتاب (الرسالة) هي الذاتي (Subjective)

لقد قلنا: إن القرآن فرّق بين الحق والباطل “الحقيقة الموضوعية والوهم”، وأم الكتاب فرقت بين الحلال والحرام “السلوك الإنساني”:

إن الوجود الموضوعي وقوانينه موجودة خارج الوعي الإنساني، فالشمس موجودة عرفنا ذلك أم لم نعرف، قبلنا ذلك أم لم نقبل. ومن هنا نقول: إن وجود الشمس “حق” ونقول إن الموت حق ولا نقول إن الموت حلال، لأن ظاهرة الموت موجودة عرفنا أن هناك موتاً أم لم نعرف، قبلنا بالموت أم لم نقبل. وكذلك قانون الجاذبية والساعة والبعث، فإذا عرف الناس أن هناك بعثاً بعد الموت فإنهم سيبعثون، وهم سيبعثون أيضاً إذا لم يعرفوا وهم سيبعثون إذا قبلوا بالبعث وإذا لم يقبلوا، لأن البعث حقيقة موضوعية توجد خارج الوعي الإنساني. ولهذا نقول: إن البعث “حق” ولا نقول إن البعث “حلال”.

والقرآن حقيقة موضوعية مطلقة في وجودها خارج الوعي الإنساني. وفهم هذه الحقيقة لا يخضع إلا لقواعد البحث العلمي الموضوعي، وعلى رأسها الفلسفة وكل العلوم الموضوعية من كوسمولوجيا وفيزياء وكيمياء وأصل الأنواع وأصل الكون والبيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية. أما “الشريعة والأخلاق والعبادات والقانون والسياسة والتربية” فليس لها علاقة بالقرآن لا من قريب ولا من بعيد، لذا يجب أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “القرآن حجة لك أو عليك” “صحيح مسلم ج1 ص203” لأن من آمن بالبعث – والبعث من مواضيع القرآن – يرى التأويل النهائي لآيات البعث حين يبعث لأنه يبصرها حقيقة مادية موضوعية. وعندما يبعث الناس يكون القرآن حجة لمن آمن بالبعث وحجة على من لم يؤمن بالبعث لأن كل آيات الساعة والبعث واليوم الآخر والجنة والنار هي من القرآن، وتأويلها النهائي هو إبصارها.

  • {ولو ترى إذا وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (الأنعام 30).
  • {ونزعنا ما في صدورهم م غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} (الأعراف 43).

وبما أن القرآن هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الآيات البينات، وهو الحق الموجود خارج الوعي الإنساني، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء” “أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داوود وأحمد” و “إن معاشر الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم” “انظر كشف الخفاء ج2 ص83” و “من قال بالقرآن بغير علمٍ فليتبوأ مقعده في النار” “الجامع الصغير للسيوطي ج2 ص167”.

إن ورثة الأنبياء ليسوا علماء الشريعة والفقه وحدهم إن هذا غير صحيح. إن الفلاسفة وعلماء الطبيعة وفلسفة التاريخ وأصل الأنواع والكونيات والإلكترونيات هم ورثة الأنبياء. لذا قال: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران 7) وقال: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت 49) وقال سبحانه وتعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} (فاطر 27) {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} (فاطر 28).

نحن نعلم في اللسان العربي أن كلمة “كذلك” أداة وصل بين خبرين. فالخبر الأول هو الآية 27 وأول الآية 28 والخبر الثاني هو {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فجاءت الأداة “كذلك” لتربط بين الخبرين. ونلاحظ في الخبر الأول علوم الأنواء والجيولوجيا وعلوم الأجناس والأنواع الحية، ثم علق عليها {إنما يخشى الله من عباده العلماء} كذلك قوله تعالى: {أولم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني إسرائيل} (الشعراء 197). “علماء بني إسرائيل” هنا ليسوا الحاخامية والأحبار فقط، ويجب أن نعلم أن النبوة مربوطة بالعلوم الموضوعية والتاريخية. والرسالة مربوطة بالعلوم الاجتماعية والشرعية.

أما الرسالة فهي ذاتية. فما معنى الذاتي (Subjective)؟

لنأخذ مثلاً إحدى وصايا رب العالمين: {ووصينا الإنسان بوالديه} (العنكبوت 8، لقمان 14، الأحقاف 15). فإذا أخذنا بر الوالدين لا نرى أن له وجوداً خارج الوعي الإنساني. فإذا علم الإنسان بوصية الله ببر الوالدين يمكن أن يبرهما أو لا يبرهما، وإذا لم يرد الإنسان أن يبر والديه فيمكن أن لا يبرهما. وكذلك الصلاة، فإذا شاء الإنسان صلى وإن لم يشأ لم يصلّ. أي أن كل أحكام أم الكتاب مرتبطة بالإنسان. فلو افترضنا أنه قامت حرب ذرية وفني الجنس البشري فإن هذا لا يؤثر على الشمس والمريخ.. ولا يؤثر على نواميس الكون والوجود لأن الانفجار الذري هو من نواميس الوجود المادي.

ولكن في الوقت نفسه إذا فني الإنسان ولم يبق هناك جنس إنساني فتذهب معه الصلاة والصوم والحج والزكاة وبر الوالدين واجتناب شر الخمر والميسر وتحريم الربا والعدل والظلم وكل القيم الإنسانية المنفردة والاجتماعية. هنا نفهم ما معنى الذاتي.

ولهذا لم يطلق لفظة الحق على أم الكتاب لأنها قواعد سلوك إنساني وليست قوانين وجود موضوعي، بل أطلق عليها مصطلح الرسالة، وبها أصبح محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وبلغها للناس واجتهد في تطبيق أحكامها في زمانه، وهي ليست كلمات الله ولا من نواميس الوجود، لأن كلمات الله حق “قوله الحق”.

ولا نرى في أحكام أم الكتاب مصطلح “قال الله” وهي قابلة للأخذ بها أو تركها، لذا فهي مناط التكليف وفيها القضاء “أي الاختيار” الإنساني. أي أن الإنسان يقضي فيها بنعم أولاً، وله ملء الخيار فيها {لا إكراه في الدين} (البقرة 256). أما القرآن فليس مناط التكليف ولا يوجد فيه أي أحكام وأوامر تكليفية فهو حق حتمي ساحق ماحق، لذا فهو مناط القدر في قانونه العام، ومناط المعرفة الإنسانية في القوانين الجزئية، ومناط المعرفة الإنسانية بالتاريخ.

وموقف الإنسان من القرآن الإيمان به أو عدمه، ولذا قال {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤيمن ومن شاء فليكفر.. الآية} (الكهف 29). أما أن يغير في قوانينه أو يهرب منها فلا سبيل له إلى ذلك: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً} (الكهف 27) وللإنسان حرية التصرف في القوانين الجزئية للطبيعة دون الخروج ع القانون العام، وهي مناط المعرفة الإنسانية والتصرف الإنساني. ونرى أن التقدم العلمي الهائل أعطى الإنسان حرية التصرف واستعمال هذه القوانين للدمار أو للرفاهية.

ولو قيل: إذا كانت أم الكتاب ليست حقاً وليست كلمات الله، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل أم الكتاب باطل “أي وهم”؟! نجيب فنقول: إن الحق “القرآن” هو الموضوعي جاء لتصديق أم الكتاب “الذاتي”. حيث أن أم الكتاب ليس لها وجود قائم في ذاته ومنفصل عن الإنسان. فما هو المصطلح الذي أطلق عليها في الكتاب؟

إن الظن بأن الروح هي سر الحياة هو الذي أبعد الناس عن المفهوم الحقيقي للروح والذي جاء في آيات الكتاب، فإذا كانت الروح هي سر الحياة فهذا يعني أن البقر والأفاعي والسمك وكل الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات لها روح! وهذا غير صحيح لأن الله سبحانه وتعالى نفخ الروح في آدم ولم يقل: إنه نفخ الروح في بقية المخلوقات.

إن أزمة سوء فهم معنى الروح هي التي أوقعت المسلمين في شرك عدم البحث عن أصل الحياة وأصل الإنسان والأنواع على الأرض، ظناً منهم أن الروح سر الحياة، وهي من اختصاص رب العالمين. لذا لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن أصل الحياة، وذلك ناتج عن خطأ في فهم الآية: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء 85). علماً بأن آيات خلق البش عندي هو العالم الكبير تشارلز داروين. فهل يبحث عن الحقيقة في أصل الإنسان. والقرآن أورد حقيقة أصل الإنسان، فيجب أن يتطابقا إن كان داروين على حق. وأعتقد أن نظريته في أصل البشر في هيكلها العام صحيحة لأنها تنطبق على تأويل آيات الخلق.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما معنى قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)؟؟

ولقد ظن الكثير أن الإجابة هي الروح أمر لا يخصهم ولا علاقة لهم به لأن معلوماتهم قليلة، فاستنتج السلف أنه لا بحث في شأن الروح وأنها سر الحياة. هكذا كانت الأرضية المعرفية السائدة، وقد كان موقفهم هذا مقنعاً لهم ولمعاصريهم. أم الأمر بالنسبة لنا فهو غير ذلك.

لننته الآن من أن الروح ليست سر الحياة وأن الموت والحياة هما من قوانين الوجود المادي الموضوعي خارج الوعي الإنساني وكلاهما من قوانين الخلق: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.. الآية} (الملك 2).

{سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى} (الأعلى 1 – 2)، {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (القصص 88). لنأخذ الآن آيات الموت والوفاة التي وردت في الكتاب:

  • {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً.. الآية} (آل عمران 145).
  • {الله يتوفى الأنفس حين موتها … الآية} (الزمر 42).
  • {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً} (الفجر 27 – 28).
  • {ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} (الأنعام 93).

فلنأخذ الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمدٍ بيدهِ”. ولنأخذ قول مصعب بن عمير عندما هددته والدته بأن تقتل نفسها إذا لم يرجع عن دين محمد فقال: “والله لو أن لك مئة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً”.

إن مقولة المترادفات في اللسان العربي جعلتنا نخلط بين النفس والروح فالنفس تقابل بالإنجليزية (SOUL) والروح تقابل (SPIRIT). ومن الخطأ القول: الفاتحة إلى روح النبي، وروح المتوفى. والصحيح: الفاتحة إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونفس المتوفى.

إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر الروح في مجال الحياة والموت بتاتاً، ولكن التشابه في آيات خلق آدم، والأرضية المعرفية للسلف جعلتهم يقولون: إن الروح هي سر الحياة، وكان هذا ينسجم مع أرضيتهم المعرفية، وفي هذا يكمن إعجاز القرآن الأكبر وهو الجدل بين النسبي والمطلق “أو الجدل بين المحتوى والمتحرك والنص الثابت”. فالنفس هي التي تحيا وتموت ولا علاقة للروح في ذلك. ولا يمكن شرح مقولة الروح إلا بعد شرح نظرية المعرفة الإنسانية في القرآن، وسنفصل القول فيها في فصل جدل الإنسان.

ولكن لإعطاء فكرة للقارئ عن الروح التي حولت البشر إلى إنسان، أي التي نقلت الإنسان نقلة نوعية من المملكة الحيوانية إلى كائن عاقل واع، نقول: لإعطاء هذه الفكرة لا بدّ من الإشارة إلى أننا نرى أن نفخة الروح هي الحلقة المفقودة عند العلماء الذين بحثوا في نشأة الإنسان. كما نرى أن آدم هو أبو الحسن الإنساني لا الجنس البشري، بمعنى أنه يبدأ التاريخ الإنساني الواعي بآدم. أما قبل آدم فكان ثمةَ صنفٌ من المملكة الحيوانية يدعى البشر. ثم اصطفى الله آدم وزوجه من ذلك الصنف {إن الله اصطفى آدم …} (آل عمران 33). فآدم إذاً لا يدخل في النبوات ولا في الرسالات. ثم إن هناك معنى خاصاً للفظة آدم، فهي تحمل صفة التشابه (وسنفصل القول في ذلك لدى البحث في نشأة الكلام الإنساني). لقد نفخ الله الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي.

أي لدينا الآن المعادلة: بشر + روح = إنسان.

إن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشراً، شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم، أي تدرسه كائناً حياً فقط، وفي هذا يتشابه الإنسان وبقية المخلوقات كالقرود والبقر والإبل، فكلها كائنات حية ولها جلد وجهاز هضمي وعصبي … الخ، ولا تعيش دون رطوبة وأوكسجين، وكذلك الإنسان البشر.

وهناك علوم تسمى العلوم الإنسانية وهي القانون والشريعة والسياسة والأخلاق والفنون والآداب والفلسفة والتاريخ، ثم هناك العلوم الطبيعية وهي الفيزياء والكيمياء.. وهكذا دواليك.

إن العلوم الإنسانية هي العلوم التي تنتفي بغياب الإنسان. فبدون الإنسان توجد الطبيعة والمجرات والشمس والبحار والتفاعلات الكيميائية، وبدونه لا يوجد أصلاً فقه ولا قانون ولا فنون ولا علوم بالطبيعة.

الروح إذاً هي التي حوّلت البشر إلى إنسان ولنا هنا أن نتساءل: ما الذي يميّز الإنسان من الحيوان ؟؟ يتميز الإنسان من الحيوان بأمرين فقط وهما: النتاج المباشر للروح: المعرفة والتشريع (الأمر والنهي).

فالحرية كانت نتيجة مباشرة للمعرفة، والتشريع جاء رديفاً للمعرفة. وبنفخة الروح أصبح الإنسان خليفة لله في الأرض. ومن جراء نفخة الروح هذه أصبح للإنسان تاريخ واعٍ، وأصبح يلبس لباساً ويسكن بيوتاً، وصار عنده حرام وحلال ومسموح وممنوع، وبنفخة الروح طيّر الطائرات وأطلق الصواريخ وصنع السيارات والغواصات وأشاد المصانع، كما أقام دولاً، ووضع تشريعات وقوانين وأنشأ مؤسسات علمية واجتماعية. كل هذا حصل من هذه النفخة التي قال عنها: {ونفخت فيه من روحي} (الحجر 29، ص72). فنفخة الروح هي النقلة النوعية التي أدت إلى انتقال البشر إلى إنسان.

لنستعرض الآن آيات “الروح من أمر ربي”:

  • {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء 85).
  • {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أرمنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.. الآية} (الشورى 52).
  • {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} (غافر 15).
  • {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.. الآية} (النحل 2).
  • {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر 4).

فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح جاءت الإجابة التالية: هي من أوامر رب العالمين، فقد أمرنا رب العالمين بالصلاة والصوم والحج والزكاة وبر الوالدين والصدق وترك شهادة الزور وأوصانا بالإرث وبعدم قتل النفس إلى نهاية أحكام أم الكتاب. هذه الأحكام لا توجد قائمة في ذاتها وإنما مرتبطة بشكل مباشر بالإنسان. فإذا ذهب الإنسان ذهبت معه، والأحكام مرتبطة بالإنسان العاقل، وقد قال السادة الفقهاء” إن العقل مناط التكليف” و “إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب”. فالله أعطانا الروح من ذاته وليس من المادة الكونية المكونة للإنسان. ولذلك سمى الأحكام روحاً لأنها ليست حقيقة مجسمة وإنما هي سلوك واع.

لنضرب الآن مثالاً على ذلك: نقول: إن تعيين زيد بن عمرو رئيساً لجامعة دمشق هو من أمر السيد رئيس الجمهورية، أي لا بد ليصبح زيد بن عمرو رئيساً لجامعة دمشق من مرسوم تعيين يصدره السيد رئيس الجمهورية. فإذا صدر المرسوم فهل يرى بالعين أو يلمس باليد؟ أي هل هو من المجسمات؟ قد يقول قائل: نعم هو من المجسمات لأن المرسوم يطبع على ورق ويوزع على دوائر الدولة ويرى بالعين. إن الذي يرى بالعين ويلمس باليد هو الورق والحبر، ولو كان الورق والحبر هو عين المرسوم، لأمكن إصدار المراسيم إلى الإنسان والبهائم معاً. ولكن مرسوم التعيين هو المعنى المتضمن في الكتابة والذي يفهمه الإنسان فقط على أنه مرسوم بتعيين زيد رئيساً للجامعة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عندما يطلع إنسان ما على نص المرسوم فإنه يعرف أن فلاناً أصبح رئيساً لجامعة دمشق، وهذا يعني أن معلوماته زادت معلومة، أي أنه كان لا يعرف أن فلاناً أصبح رئيساً لجامعة دمشق، فأصبح يعرف، فهل هذه الزيادة في المعرفة هي زيادة مجسمة؟

إن الروح هنا لها جانبان “الأمر + المعرفة”. وكلاهما لا يعد من المشخصات والمجسمات. وبما أن الأوامر والنواهي يجب أن يستوعبها الإنسان، فيجب عليه أن يمتلك أرضية معرفية معينة حتى يستطيع أن يستوعب الأمر. ولا يمكن أن تتم المعرفة الإنسانية دون قالب لغوي. فعندما عبر الله سبحانه وتعالى عن نفخة الروح في آدم قال: {وعلم آدم الأسماء كلها.. الآية} (البقرة 31) إن في هذه الآية مفتاح فهم الروح، وتأويلها مهم جداً في تحول البشر إلى إنسان.

عندما ورد السؤال عن الروح جاء الجواب:

  • {قل الروح من أمر ربي} (الإسراء 85). “أوامر”
  • {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء 85) “معلومات”.

لاحظ الربط بين الأوامر والمعلومات “الحقائق العلمية”.

وكذلك جاءت بقية الآيات بالمعنى نفسه: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} (غافر 15) {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} (النحل 2). ونلاحظ أن هذه الآية هي رقم 2 في سورة النحل. فإذا نظرنا إلى الآية رقم 1 نرى أنها تقول: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وسمى جبريل روحاً لأنه كان يقوم بمهمتين هما (نقل الأوامر والنواحي “أم الكتاب” ونقل الحقائق العلمية “القرآن”)، علماً أن الآية 86 في سورة الإسراء شرحت تماماً معنى الآية 85 فقد أتبع قوله {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء 85) أتبعها بقوله: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا} (الإسراء 86).

إن الآية 86 شرحت بشكل لا لبس فيه أن الروح المذكورة في الآية 85 هي مجموع ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهل أوحي إليه غير التشريع والعلم؟! لقد فهمنا سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فهماً خاطئاً، فظننا أنهم يسألونه عن سر الحياة، علماً بأنهم كانوا يسألونه عن الناموس الذي جاء إلى موسى وعيسى، حيث أن مفهوم الروح عندهم لا يعني سر الحياة. ولهذا اكتفى السائل بهذا الجواب.

هنا يكمن مفتاح القضية في فهم خلق الإنسان ويتجلى ذلك في أن الروح ليست سر الحياة العضوية. وهكذا نرى أنه عندما سئل عن الروح أجاب إجابة شافية وافية، ولم يقل للناس إن الروح سر لا تعرفونه فاسكتوا ولا تسألوا، “هكذا فهمها مفسرونا”، وعلينا تجاوزهم، لأنه دون هذا التجاوز يستحيل تأويل آيات خلق الإنسان، وأي تأويل لآيات خلق الإنسان ينطلق من أن الروح هي سر الحياة هو تأويل خاطئ لا يمكن أن يتطابق مع الحقيقة الموضوعية (objective reality) وأصول البحث العلمي الموضوعي. ومن جراء هذا الفهم الخاطئ ابتعد العرب المسلمون مئات السنين عن البحث العلمي في خلق الإنسان وأصل الأنواع وتركوه لغيرهم.

ويجب أخيراً أن نعلم أن الروح هي القاسم المشترك بين الله والإنسان وأنها سر التقدم الإنساني والرقي وأن الإنسان فقط له روح، فعندما نفخ الله الروح في آدم وهي من ذاته أسجد الله له الملائكة لأنه من هذه النفخة أعطاه الخلافة “حرية التصرف”.

فالله يقضي والإنسان يقضي، والله يعلم والإنسان متعلم.

2 – أم الكتاب هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي كتاب الله، وقد جاء القرآن تصديقاً لها

تحتوي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على عدة فروع وهي:

  1. الحدود بما فيها العبادات.
  2. الفرقان العام والخاص (الوصايا).
  3. أحكام مرحلية.
  4. أحكام ظرفية.
  5. تعليمات عامة لا تدخل في الأحكام الشرعية جاءت تحت بند “يا أيها النبي” كلباس المرأة في سورة الأحزاب.
  6. تعليمات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم “زوجات النبي”.
  7. ممنوعات كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وهي تخضع للاجتهاد ما عدا الحدود والعبادات وأول من اجتهد بها النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها حسب الظروف الموضوعية في شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي.

لا أريد هنا أن أخوض في تفصيلات أم الكتاب لأننا أفردنا لها فصلاً خاصاً بها في الباب الثالث ولكن أقول أن هذه هي الرسالة وبها أصبح محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. ولها الطاعة المنفصلة أو المتصلة لذا قال {قل أطيعوا الله والرسول.. الآية} (آل عمران 32). “طاعة متصلة” وقال {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. الآية} (المائدة 92). “طاعة منفصلة”، ولم يقل أبداً وأطيعوا النبي، لأن الرسالة أحكام والنبوة علوم.

هذه هي الرسالة التي طبقها محمد صلى الله عليه وسلم بسنته لذا قال صلى الله عليه وسلم إن صح “وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به” من خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (انظر جامع الأصول جـ3 ص465). وقال “أوتيت الكتاب ومثله معه”.

لقد كان تطبيق محمد صلى الله عليه وسلم لأم الكتاب في شبه جزيرة العرب في القرن السابع هو الاحتمال الأول لتطبيق الرسالة وفقاً للشروط الموضوعية زماناً ومكاناً وسنفصل الحديث عن ذلك عند الكلام على السنة في بحث أم الكتاب.

ولكن أريد أن أبين نقطة وهي أن الآيات من أم الكتاب والتي تبدأ بقوله تعالى: {يا أيها النبي} ليست أحكاماً شرعية، بل هي تعليمات أو حالات خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم أو هي تعليمات عامة وليست تشريعات أي أنها “ولله المثل الأعلى” تعليمات إجرائية وليست مراسيم تشريعية.

لقد جاءت لفظة الآيات البينات للقرآن. وقد شرحنا مفهوم البينات بأنها بينة في ذاتها. أما الآيات المبينات فهي مبينة لغيرها وهي من أم الكتاب. وجاءت الآيات المبينات في أمور تتعلق بأحكام ظرفية في أم الكتاب مثل الزنا. وقد وردت لفظ “مبينة” مفرداً مع الفاحشة فقط في قوله {إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة} (النساء 19). و {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشةٍ مبينةٍ} (الأحزاب 30). وقوله {ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ} (الطلاق 1). هنا نلاحظ أن الفاحشة بحاجة إلى ظروف وملابسات تبينها.

وبما أن الزنا مرتبط بأمور ظرفية، فقد بين هذه الأمور الظرفية والشروط اللازمة لإقامة الحد في سورة النور في الآيات (4 – 9) إذ بين رمي المحصنات والشهادة والملاعنة ثم أتبع ذلك بقوله في الآية 34: {ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيناٍ}. وعندما ذكر الفاحشة المبينة في الآية رقم 1 في سورة الطلاق ذكر بعدها آيات تتعلق بالعدة والعلاقات الأسرية 2، 4، 6، 7. وهذه الآيات تتعلق بالرسالة ولذا ذكر في آخر سورة الطلاق {رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات.. الآية} (لطلاق 11).

3 – تفصيل الكتاب

  • {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37).
  • {ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون} (يوسف 111).
  • {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيمٍ خبير} (هود 1).
  • {أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} (الأنعام 114).

هذه الآيات تتحدث عن التفصيل، ولكن يجب أن نميز بين نوعين من التفصيل.

اشتق التفصيل من الفعل “فصل” وهو أصل صحيح يدل على تمييز الشيء من الشيء وإبانته عنه “ابن فارس م4 ص505”. وعلى هذا المعنى فالتفصيل يحمل وجهين:

1 – الوجه الأول: التفصيل بمعنى الشرح: وقد سبق لي أن ذكرت الآيات التي تتحدث عن الكتاب بأن فيه محكماً ومتشابهاً والتي تذكر أن القرآن جعل عربياً وأنزل عربياً، وأن أم الكتاب عربية وأن القرآن لا يمسه إلا المطهرون، هذه الآيات تشرح محتويات الكتاب، لذا فهي لا محكمة ولا متشابهة أي ليست أحكاماً وليست قرآناً فهذه الآيات تسمى تفصيل الكتاب في قوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}. وقد جاء التفصيل بمعنى الشرح في قوله تعالى في آخر سورة يوسف {وتفصيل كل شيء}.

2 – الوجه الثاني: الفصل المادي للأشياء زمانياً أو مكانياً أي أن تأتي أحداث متتالية مفصولة زمنياً بعضها عن بعض كأن نقول: الفصل الدراسي الأول والفصل الدراسي الثاني، فهذا يعني أن هناك فاصلاً زمنياً فصل بينهما وأنهما جاءا بالتتالي وبمعنى الفصل الزمني كأحداث متتالية جاءت الآية {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آياتٍ مفصلاتٍ فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين} (الأعراف 133) فهنا ذكر خمس آيات من الآيات البينات التسع التي جاءت إلى موسى ولكن ذكر هنا أن هذه الآيات الخمس كانت آيات مفصلات أي مفصولاً بعضها عن بعض.

إذ جاء الطوفان أولاً ثم تلاه الجراد وهكذا حتى الدم، وهناك أيضاً الفصل المكاني أي فصل آيات الكتاب بعضها عن بعض ووضعها في أماكن مختلفة في الكتاب (السور). وعلى هذا الأساس نفهم قوله تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} (الأنعام 114) أي أن الكتاب مفصل إلى 114 سورة، كأن نقول ولله المثل الأعلى: إن كتاباً ما مؤلف من فصلين أو ثلاثة فصول. هذا ليبين أن فصل الآيات بعضها عن بعض توقيفي وأن عدد الآيات وترتيبها في كل سورة توقيفي من الله.

أما قوله تعالى {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيمٍ خبير} (هود 1) فهذه الآية تتحدث عن الفصل المكاني للكتاب المحكم والذي يمثل مجموع الآيات المحكمات “أم الكتاب” لذا وضع الكتاب في صيغة النكرة في قوله “كتاب” ثم عرفه بإضافة {أحكمت آياته} وهو هنا الكتاب المحكم وليس المصحف. هذا الكتاب المحكم نرى أن الأحكام فيه متوزعة في كل المصحف، فنرى أحكاماً في سورة البقرة ثم نرى أحكاماً أخرى في سورة النساء والمائدة.. الخ وهذا ما لا نراه في الكتب الإنسانية، فعندما نقرأ أحكام الدستور لدولة ما، نرى أن هذه الأحكام تحمل صفة التتالي فنرى المادة الأولى تتلوها المادة الثانية وهكذا.

ولكن في الكتاب نرى حكماً ما يتلوه آية كونية ثم قصص ثم حكم آخر وهكذا. هذا الفصل في الآيات المحكمات لبعضها عن بعض إنما هو من الله، يدلك على ذلك أنه أتبعها بقوله: {ثم فصلت من لدن حكيم خبير}.

فإذا سأل سائل: ماذا وضع بين آيات الكتاب المحكم؟ لقد جاءت الإجابة على هذا السؤال في سورة فصلت في قوله: {كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون} (فصلت 3).

لنرى الآن الربط:

{الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون}. فصيغة “قرآناً عربياً” هي حال لفعل فصلت وليست وصفاً لكلمة “كتاب”، أي أن آيات الكتاب المحكم فُصل بعضها عن بعض ووضع بينها القرآن وفاعل الفصل هو الله سبحانه وتعالى لقوله: {من لدن حكيمٍ خبير}.

إن التيه الأكبر في كتب التفاسير هو أن أصحابها لم يربطوا بين الآية 7 من آل عمران وهي: {هو الذي أنزل في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} نوع الآية: “تفصيل الكتاب، لا محكم ولا متشابه”.

والآية /1/ من سورة هود وهي: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (نوع الآية: تفصيل الكتاب و “الر” من أصوات السبع المثاني).

والآية /3/ من سورة فصلت وهي: {كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون} (نوع الآية: تفصيل الكتاب).

والآية /23/ من سورة الزمر وهي: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.. الآية} (نوع الآية: تفصيل الكتاب).

إن الخطأ هو الظن بأن الكتاب المقصود بهذه الآيات المذكورة أعلاه هو نفسه، أي أن الكتاب الموجود ما بين دفتي المصحف هو المقصود بهذه الآيات كلها. وبدون هذا التفريق لا يمكن وضع منهج علمي لفهم الكتاب من أحكام وقرآن وتفصيل الكتاب.

الآن يمكن أن نسأل السؤال التالي: ما هي الغايات التي فصل الكتاب من أجلها على هذا الشكل أي لماذا تداخل التشابه وتفصيل الكتاب بين المحكم، ثم تفصيل الكتاب إلى هذا العدد والمواقع من السور والآيات؟

إن الهدف الأول الذي نراه هو أن الآيات المحكمات قابلة للتزوير وليس فيها أي إعجاز، وقد حصل فعلاً هذا عند اليهود، إذ نرى عندهم أحكاماً جاء بها أحبار اليهود. أي أن اجتهادات أحبار اليهود أضيفت إلى الأحكام التي جاءت إلى موسى إضافة وفي هذا قال: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.. الآية} (البقرة 79) وقد قلت: إن الكتاب بالنسبة لليهود والنصارى هو الأحكام فقط. أما الشكل الذي وضع به القرآن بين الأحكام فإن أي اجتهاد في الأحكام لا يمكن وضعه داخل هذه الأحكام، لأن عدد الآيات وترتيبها في السورة الواحدة المؤلفة من محكم ومتشابه ولا محكم ولا متشابه مضبوطٌ تماماً وموقع كل آية مضبوطٌ تماماً، وهذا ما أكده الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه.. الآية} (المائدة 48).

فالكتاب بالحق هو القرآن وهو النبوة مع تفصيل الكتاب. هذا القرآن هو تصديق لما بين يديه من الكتاب، وأم الكتاب هي من الكتاب حيث تشكل مع القرآن الكتاب. أي أن الوظيفة الثانية للقرآن بعد تصديق أم الكتاب “الذي بين يديه” هي الهيمنة على أم الكتاب. والهيمنة في اللسان العربي تعني الحفظ والرقابة فنقول: هيمن الطير على فراخه عندما يفرد جناحيه فوقهم ليحفظهم. ومنه جاء اسم الله “المهيمن” وهو الحافظ والرقيب.

والناحية الأخيرة التي نراها في تفصيل الكتاب هذا التداخل في المواضيع في السورة الواحدة فنرى أن قصة موسى في أكثر من موضع وكذلك آيات خلق الإنسان وخلق الكون حيث نراها متداخلة مع غيرها ومتناثرة ضمن نسق لا ندري إلى الآن الآلية الرياضية لهذا النسق، ولكن الذي نقوله هو ما يلي:

إذا نظرنا إلى جسم الإنسان وهو أكمل المخلوقات المعروفة رأينا أن أعضاء جسم الإنسان متداخل بعضها ببعض، فهناك الأجهزة والأعضاء المختلفة لهذه الأجهزة، ثم نرى أيضاً أن الأجهزة المختلفة متداخل بعضها ببعض، فلا نرى الجلد وحده والعظام وحدها والعضلات وحدها وكذلك الأعصاب والأوردة والشرايين، كل هذا متداخل بعضه ببعض، فلا نرى في الإنسان أولاً طبقة كاملة من العظام تليها طبقة كاملة من الأوعية الدموية تليها طبقة كاملة من العضلات.. وهكذا دواليك.

ثم نجد هذه الظاهرة في الطبيعة، فالأحوال الجوية هي الحرارة والرطوبة والرياح ولكن هذه العناصر متداخل بعضها ببعض مكاناً وزماناً غير مفصولة. وأن الذي صنع الإنسان والطبيعة هو الذي صاغ الإنزال وأمر بالتنزيل وفصل الكتاب، فنرى هذا التشابه العجيب حيث أن الناموس واحد. ثم إن الإنسان منذ ألف عام شاهد الدم وقال عنه إنه سائل أحمر والآن نرى الدم فيه كريات حمر وبيض وصفائح.. الخ، وهكذا عندما نظر الأقدمون إلى القرآن شاهدوه كما شاهد الأقدمون الدم، والآن نحن نشاهده كما نشاهد الآن الدم أكثر وضوحاً مع معرفة الوظائف لكل مركب. والقرآن في صياغته، والكتاب في توزيع آياته وتفصيله معقد كتعقيد تركيب جسم الإنسان، وما زلنا إلى اليوم نكتشف الجديد وأمامنا الكثير الكثير لنبحث عنه ونعلمه.

إن النتيجة الأساسية التي نستنتجها من تفصيل الكتاب أن هناك سوراً في الكتاب كلها قرآن، وسوراً في الكتاب فيها قرآن وأم الكتاب معاً، وسوراً فيها أم الكتاب فقط، فإذا كان هناك سورة كلها من أم الكتاب أي أن كل آياتها محكمات فتصبح السورة محكمة، وفعلاً هناك سورة واحدة فقط في الكتاب محكمة ليس فيها قرآن، وقد نبهنا الله لهذا في سورة محمد في قوله: {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم} (محمد 20).

في هذه السورة قال: سورة محكمة، قال عنها محكمة للتعريف أي ليميزها عن بقية السور، ولو كانت كل السور في الكتاب محكمة لما قال سورة محكمة، ثم لاحظ كيف جاء الإنزال والتنزيل للفظة “سورة”. فعندما ذكر التنزيل لم يعط أي معلومات في قوله {لولا نزلت سورة} وعندما ذكر الإنزال للسورة أتبعها بمعلومات للإدراك في قوله: {فإذا أنزلت سورة محكمة.. الآية}. فإذا تصفحنا الكتاب نرى أن هذه السورة المحكمة هي سورة التوبة التي تبدأ بالآية {براءةٌ من الله ورسوله} ثم نرى أن هذه هي السورة الوحيدة في الكتاب التي لا تبدأ بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” والسبب في ذلك هو عد وجود أي آية من آيات القرآن فيها وبالتالي لا يمكن أن يكون اسم الرحمن في البسملة لقوله {الرحمن * علم القرآن} (الرحمن 1 – 2) لذا حذفت البسملة كلها لأن القرآن كله رحماني حيث أن آية {علم القرآن} لا تعني أنه علمه للآخرين بمعنى العملية التعليمية، ولكنها تعني أنه وضع اسمه الرحمن علامةً للقرآن لكي يميز.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم واعين لهذه الحالة تماماً حيث وضعوها سورة لوحدها ولم يعتبروها تتمة لسورة الأنفال. فإذا أردنا أن نقارن بين سورتين في الكتاب إحداهما محكمة تماماً والأخرى متشابهة تماماً “قرآن فقط” فما علينا إلا أن ننظر إلى سورة التوبة “كلهم محكم” وسورة الصافات “كلها متشابه” فإن ما نراه بشكل واضح هو اختلاف المواضيع واختلاف الصياغة، فسورة الصافات هي من أعقد السور في الكتاب. ولو سألني سائل: هل عدد آيات المتشابه “القرآن” أكثر أم عدد آيات الحكم “أم الكتاب”؟ لقلت: إن عدد آيات لمتشابه أكثر بكثير من عدد آيات المحكم “أم الكتاب” لأن هناك أكثر من سورة واحدة في الكتاب كلها قرآن.

وبما أن أم الكتاب أنزلت عربية {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} (الرعد 37) وجزء من أم الكتاب له علاقة بالأحداث التي حصلت في أثناء بعثة محمد صلى الله عليه وسلم “أسباب النزول”. أما القرآن فليس له علاقة بالأحداث التي حصلت في أثناء بعثته صلى الله عليه وسلم وأنزل أيضاً عربياً {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (يوسف 2). فلو جعل القرآن فقط عجمياً لأصبح في الكتاب لغتان: القرآن أعجمي وأم الكتاب وتفصيل الكتاب باللسان العربي. أي يصبح الكتاب بلغتين عربية وأعجمية وآيات متداخلة بلسانين، الأحكام وتفصيل الكتاب عربية حيث أن في الأحكام وتفصيل الكتاب تلازم الإنزال والتنزيل ولا يوجد فيهما جعل والقرآن أعجمي فوجب فصل بعضهما عن بعض. وفي هذا المجال بالضبط في سورة فصلت: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي.. الآية} (فصلت 44).

لاحظ هنا “فصلت آياته” أي فصل بعضها عن بعض، والهاء في “آياته” تعود على مجمل التنزيل كله حيث ذكره في مجال “الذكر” في الآيات 41 و42 في قوله: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. وهل يمكن أن يجعل القرآن أعجميا؟ الجواب: نعم، لسببين: الأول: هو أن القرآن له وجود مسبق قبل أن يكون عربياً وإنما جعل عربياً دفعة واحدة في الإنزال. وثانياً أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت نقل القرآن إلى الناس دون تأويل، وفي هذا كان عجب العرب بأن ينزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في شبه جزيرة العرب، والعرب قوم متخلفون عن غيرهم فكانت تجاورهم فارس والروم.

وكان الروم والفرس متقدمين من الناحية العلمية والحضارية على العرب: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم} (الزخرف 31). لاحظ أن هذه الآية جاءت حول القرآن فقط، وليس حول أم الكتاب. والقرآن لا علاقة له بأسباب النزول، والقريتان هنا هما الروم والفرس. و “القرية” هنا من المجتمع المستقر من فعل “ٌرو” ومنها جاء الاستقرار لأن الروم والفرس كانوا مؤهلين أكثر من العرب لاستقبال القرآن لهذا أتبعها بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك} (الزخرف 32). ولهذا فإنه كان كثيراً ما يسبق إلى ظني أن المقصود بالقريتين إنما هو الفرس والروم، لا مكة والطائف.

وفعلاً، من الناحية الموضوعية، لو كان القرآن أعجمياً وبقية الكتاب عربياً لرأينا في السورة الواحدة الآيات المتداخلة آية عربية وأخرى أعجمية. ولبرز التساؤل التالي: لماذا لم تفصل الآيات بعضها عن بعض العربية على حدة والأعجمية على حدة {ولقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي}. وإنه لمن الوهم الكبير الظن بأن قوله: {أأعجمي وعربي} هو أن القرآن أعجمي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي حيث أنها لا تستقيم من الناحية اللغوية، أي كيف يتم عطف القرآن على النبي، ولكن المعنى يستقيم تماماً عندما تعود جملة “أأعجمي وعربي” على الكتاب نفسه أي جزء منه أعجمي وجزء آخر عربي.

قد يسأل سائل: لماذا لم يقل: إن الكتاب كله “أي الذكر الموجود بين دفتي المصحف” أنزل عربياً دون هذه التفاصيل؟ أقول إن هناك سببين لهذه التفاصيل:

1 – القرآن تلازم فيه الجعل والإنزال “جعل عربياً وأنزل عربياً” أي له وجود مسبق في لوح محفوظ وإمام مبين، أما أم الكتاب وتفصيل الكتاب فليس لهما وجود مسبق بل تلازم الإنزال والتنزيل فيهما ولا يوجد فيهما جعل.

2 – هناك آيات في الكتاب غير عربية وهي آيات السبع المثاني حيث أنها ليست بلسان عربي وإنما هي أصوات إنسانية أي أن /الم * يس / ليست عربية ولا تركية ولا إنكليزية … الخ. بل هي ألفاظ مركبة من أصوات تتألف منها اللغات الإنسانية قاطبة. فمثلاً لفظة “يس” تتألف من صوتي الياء والسين وهما موجودان في كل ألسن أهل الأرض دون استثناء، وكذلك لفظة “الر” المؤلفة من أصوات الهمزة واللام والراء هي أصوات موجودة في كل لغات أهل الأرض فهذه الألفاظ ليست عربية ولا غير عربية، لأن اللفظة في لسان ما تتألف من أصوات “دال” ترتبط بمعنى وهو المدلول “المعنى في الذهن”. ولو كانت لفظة “الم” أو لفظة “يس” عربية لما مضى أربعة عشر قرناً على نزولها وما زلنا لا نفهمها.

ونكتفي بالقول: الله أعلم بمرادها. وهناك مئات الآلاف بل الملايين أتقنوا اللسان العربي على مدار أربعة عشر قرناً. ولو كانت “الم” لفظة عربية لأدرك الإنسان العربي معناها في الذهن مباشرة لأنها كلمة تدخل ضمن مفردات لسانه، ولكن لا يوجد في اللسان العربي كلمة تلفظ “ألف لام ميم” بل يوجد كلمة تلفظ “ألم” كقوله. {ألم نشرح لك صدرك} (الإنشراح 1). ولكن “ألم” في آية {ألم نشرح لك صدرك} هي مختلفة تماماً عن آية “ألف لام ميم”. وهكذا يظهر جلياً لماذا لم يقل: إن الكتاب كله أنزل عربياً.

ورد في الآية 7 من سورة آل عمران قوله {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات … الآية} (آل عمران 7) هذه الآية صنفت الآيات في الكتاب إلى أكثر من نوعين. فلو قلنا: إن الكتاب فيه نوعان من الآيات محكم ومتشابه فقط لوضع الآيات المتشابهات معرفة أي في صيغة “والأخر متشابهات” في هذه الحالة يفهم أن كل الآيات غير المحكمات هي متشابهات ولكن كونه وضع التشابه في حالة غير معرفة يفهم أن غير المحكم فيه متشابه ولكن ليس كله متشابهاً فنستنتج بالضرورة أن هناك آيات في الكتاب لا محكمات ولا متشابهات، هذه الآيات هي تفصيل الكتاب حيث ورد في الكتاب آيات كثيرة تشرح محتويات الكتاب وأعتقد أن هذه المعضلة وقع فيها الكثير ممن عملوا في علوم الكتاب.

و أوضح مثال على ذلك الآية رقم 7 في سورة آل عمران والتي تقول: إن الكتاب فيه محكم وفيه متشابه في الآيات غير المحكمة. هذه الآية نفسها كيف تصنف: هل هي متشابهة؟ والجواب: لا هي غير متشابهة لأنها هي التي أخبرتنا عن وجود المحكم والمتشابه. والاستنتاج المنطقي أنها آية من الكتاب تشرح محتوياته، هذا النوع من الآيات تم تصنيفها في الآية رقم 37 من سورة يونس في قوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} أي أن الآيات التي تشرح محتويات الكتاب وتصنيفاته هي تفصيل الكتاب وعددها في الكتاب ليس بالعدد القليل.

مثال آخر: الآية 37 من سورة يونس التي تقول إن هناك قرآناً وهناك تصديق الذي بين يديه وهناك تفصيل الكتاب هي نفسها لا محكمة ولا متشابهة وتنتمي إلى زمرة الآيات التي تدخل تحت عنوان تفصيل الكتاب وكذلك الآية {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87) ليست أحكاماً وليست قرآناً وليست من السبع المثاني لأنها تتكلم عن عطف القرآن على السبع المثاني وليست قصصاً فهي شارحة للمتشابه في الكتاب وهو القرآن والسبع المثاني فتدخل تحت بند تفصيل الكتاب. وقد أكد أن تفصيل الكتاب موحى من الله أيضاً وليس من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37). هنا جاء تفصيل الكتاب بمعنى شرح محتويات الكتاب لا شرح أحكام الكتاب.

أما المعنى الثاني لتفصيل الكتاب فهو فصل آيات الكتاب بعضها عن بعض فصلاً مادياً. أي أن ترتيب الآيات في كل سورة وعدد هذه الآيات هو أمر توقيفي من الله سبحانه وتعالى، فنرى أن سورة البقرة فيها 286 آية وآل عمران فيها 200 آية وتسلسل الآيات في كل سورة لم يأتي حسب نزولها بالضرورة بل تم ترتيبها وحياً وقد جاء هذا المعنى المادي في الفصل لا في الشرح في قوله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود 1)، وسيأتي شرح هذه الآية في حينه.

يبقى لدينا سؤال هام هو: هل آيات تفصيل الكتاب مثل الآية رقم 7 في آل عمران والآية رقم 37 في سورة يونس أهي من النبوة أم من الرسالة إنها قطعاً ليست من الرسالة لأن ليس فيها أحكام ولا أوامر ولا نواه ولا مواعظ أو وصايا، ويبقى أحد الاحتمالين:

الأول: أنها من النبوة لأن مواضيعها كلها إخبارية تعليمية، لذا فإنها تدخل تحت بند النبوة حيث أنها آيات تعليمية شارحة لمحتويات الكتاب ولكنها غير متشابهة.

الثاني: أنها ليست من النبوة ولا من الرسالة وأنا أستبعد هذا الاحتمال حيث أن الكتاب الذي أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم حوى النبوة والرسالة معاً. فمحمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول وله مقامان فقط: مقام النبوة ومقام الرسالة فلا يوجد أي مقام آخر إضافي نعطيه للنبي لكي يغطي تفصيل الكتاب، وبالتالي فآيات تفصيل الكتاب تدخل في النبوة ولكنها ليست متشابهة وليس لها علاقة بلوح محفوظ أو إمام مبين بل أوحيت مباشرة من الله تعالى.

4 – أم الكتاب “الرسالة” كتاب الألوهية والقرآن والسبع المثاني “النبوة” كتاب الربوبية

  • تعريف الألوهية والربوبية:

لقد جاء في الكتاب أن الله سبحانه وتعالى هو إله الناس وهو رب العالمين بقوله: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة 1). وقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (محمد 19). وقوله {فإلهكم إله واحد} (الحج 33) وقوله {رب المشرقين ورب المغربين} (الرحمن 17). فما معنى مصطلح الرب ومصطلح الإله؟

  • الرب:

جاءت الرب في اللسان العربي من الملك والسيادة. فنقول إن الأب هو رب الأسرة والسيد، فعلاقة الأب بالأسرة هي علاقة سيادة وملكية وسيطرة كقوله تعالى: {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً} (يوسف 41) وقوله {اذكرني عند ربك} (يوسف 42)، فإذا كان لزيد ثلاثة أولاد: الأول يطيعه، والثاني لا يطيعه ولا يعصيه، والثالث لا يعترف به أصلاً، فهل مواقف الأولاد الثلاثة تغير من حقيقة أن زيداً هو أبوهم؟

فالربوبية هي حقيقة موضوعية خارج الوعي الإنساني وهي علاقة الله بمخلوقاته كلها وهي علاقة سيطرة وملكية وسيادة وهي علاقات صارمة لا تبديل فيها. فعندما ندرس قوانين الفيزياء والكيمياء والجاذبية فإننا ندرس قوانين الربوبية حيث أنها قوانين صارمة تعمل خارج الوعي الإنساني، فالله هو رب الناس “مؤمنهم وكافرهم” ورب الشجر والسموات والأرض شاؤوا أم أبوا، عرفوا أم لم يعرفوا.

لذا فعندما ادعى فرعون الربوبية قال {أنا ربكم الأعلى} (النازعات 24) وهذا الإدعاء كان إدعاء ملكية وسيادة بقوله: {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس ليس ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} (الزخرف 51) أي أن فرعون في ادعائه الربوبية، حسب أن مصر بأراضيها وأنهارها وسمائها ومزروعاتها وحيواناتها وسكانها هي ملكه الشخصي يتصرف بها كيف يشاء ومتى يشاء دون أن يعارضه أحد.

وعندما قال الله سبحانه وتعالى للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة 30) فمن هو خليفة الله في الأرض غير الإنسان؟ فخلافة الإنسان لله في الأرض هي أن أعطاه سلطة من سلطاته، وسلطان الله على المخلوقات ه من مقام الربوبية، فأعطى الله للإنسان من هذا المقام فأصبح الإنسان يملك الأرض والسماء ويتصرف بها وتعلم قوانين الربوبية في الأِشياء لكي يصبح هو رباً لها.

فعندما عرف الجاذبية وقوانين الدفع صعد إلى القمر ثم مع الزمن سيتصرف في القمر في هذا المجال قال تعالى: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} (الحج 65) وقوله تعالى {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير} (لقمان 20) وقوله {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون} (الجاثية 13).

فالإنسان “مؤمناً أو كافراً” خليفة الله في الأرض في مقام الربوبية أصبح مالكاً لها مسيطراً عليها متصرفاً بها ثم سيتصرف في السموات. فماذا أعطى الله للإنسان بالضبط لكي يصبح خليفة له؟ “أنظر مقالتي حول نفخة الروح من هذا الكتاب”.

أما الألوهية فهي كما يلي:

بما أن الله أعطى الإنسان خلافته في الأرض فأعطاه من البربوية، وطلب منه مقابل ذلك طاعة لأوامره ونواهه. هذه الطاعة جاءت في الألوهية أي أن يعترف الإنسان أن الله إلاهه، وهذا الاعتراف يعبر عنه بطاعة أوامر الله.

فالربوية هي علاقة صارمة بين الله وكل مخلوقاته وأعطيت للناس سواسية، أما الألوهية فهي اعتراف من العاقل فقط بالله وبتوحيده وبأوامره {أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف 40). لاحظ هنا أن الخطاب موجه إلى العاقل فقط. ولكي يؤكد وحدانية الربوبية وأن الربوبية سيطرة وملكية وقهر قال: {يا صاحبي السجن ءاأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} (يوسف 39) هنا نلاحظ كيف ذكر الوحدانية والقهر مع الربوبية.

فالربوبية علاقة سيادة وملكية وهي علاقة موضوعية صارمة لا خيار فيها. والألوهية هي علاقة طاعة اختيارية من العاقل فقط.

ونشير إلى أمر هام جداً وهو أن الربوبية تسبق الألوهية، فقبل وجود العاقل لا يوجد ألوهية، وإنما وجدت مع العاقل لذا لا نرى في الكتاب صيغة “إلا العالمين” أو “إلاه السموات والأرض” بل نرى صيغة “رب العالمين” “رب السموات والأرض”.

وكان هنا ادعاء فرعون الثاني، وهو إدعاء الألوهية الذي سبقه ادعاء الربوبية بقوله {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. الآية} (القصص 38) هنا الخطاب للعاقل فقط في قوله {يا أيها الملأ}. أما قوله {ما علمت لكم من إله غيري} كان طلباً للطاعة الكاملة من العاقل، ولو سألته: لماذا الطاعة الكاملة؟ لأجاب من مقام الربوبية {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر 29) أي بما أنني أنا ربكم فإنكم سترون ما أرى، لأني أعرف مصالحكم أكثر ما تعرفونها أنتم أنفسكم.

وعندما أعدم فرعون السحرة أعدمهم من مقام الربوبية لأنه مالكهم ولأنهم عصوه في مقام الألوهية {ءآمنتم له قبل أن آذن لكم} (طه 71) عصوه هم في الطاعة فأعدمهم بالملكية. لذا قال تعالى عن فرعون {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} (النازعات 25). فالأولى هنا هي ادعاء الربوبية والآخرة هي ادعاء الألوهية وهنا ذكر الآخر قبل الأولى وهي الألوهية لأنها جاءت بعد قوله. {أنا ربكم الأعلى}.

فإذا أخذنا الآن الكتاب نرى أن كل أوامر الله ونواهيه جاءت في أم الكتاب “الرسالة” فطلب منا أن نقول: “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ونرى كل القوانين الموضوعية الصارمة جاءت في القرآن “النبوة” ففيها كلها قوانين الربوبية، ولو قال: “لا رب إلا الله، بل طلب منهم أن يقولوا “لا إله إلا الله” لأن الله ربهم شاؤوا أم أبوا إّ أنهم لا يستطيعون أن يتحدوه في ربوبيته لهم. فالله رب الناس “كافرهم ومؤمنهم” حيث قال {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} (الإسراء 20) {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} (الإسراء 20) والله من مقام الربوبية يرزق المؤمن والكافر ويعطي المطر والغيث والشمس وكل قوانين الطبيعة للمؤمن والكافر على حد سواء. فإذا سأل سائل لماذا؟ فالجواب لأنه ربهم.

لاحظ قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كحفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} (البقرة 126) فعندما دعا إبراهيم الله أن يرزق أهل البيت الحرام فقط من آمن منهم بالله واليوم الآخر، أما غير المؤمن قلا يدخل في دعاء إبراهيم كان رد الله عليه {قال ومن كفر فأمتعه قليلاً} قليلاً هنا تعني في هذه الحياة الدنيا لقول – {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} (التوبة 38) وقوله {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى.. الآية} (النساء 77).

ثم نرى أيضاً أن الله لم يطلب من أحد الاعتراف بربوبيته، وكل الرسالات جاءت من أجل الألوهية، لا من أجل الربوبية. جاءت من أجل أن يعترف العاقل بأن الله هو الإهه. فبدأ بقوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولو العلم} (آل عمران 18) لاحظ الشهادة من الله والملائكة وأولو العلم. فإذا تصفحنا كل آيات الكتاب فلن نرى أن هناك آية تقول: إن غير العاقل شهد لله بالألوهية، وخطاب الألوهية يعود للعاقل. ففي خطاب الرسل لأقوامهم كانت الألوهية هي العمود الفقري للخطاب:

  • {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} (البقرة 133).
  • {وإلهكم إله واحد} (البقرة 163). لاحظ أن الخطاب للعاقل.
  • {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٍ وما من إله إلا إله واحد} (المائدة 73).
  • {قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} (الأنعام 19).
  • {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} (الأنعام 102).

هنا لاحظ “ربكم ــ خالق كل شيء.

لا إله إلا هو ـــ فاعبدوه.

فخالق كل شيء تعود على ربكم. واعبدوه تعود على لا إله إلا هو.

  • {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} (يونس 90).
  • {قال يا قوم ابعدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} (هود 50).
  • {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (طه 14).

لاحظ كيف أتبع العبادة بالألوهية.

  • {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} (النحل 51).
  • {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} (الأنبياء 29).
  • {فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن ابعدوا الله ما لكم من إله غيره} (المؤمنون 32).
  • {أإلهٌ مع الله بل قوم يعدلون} (النمل 60).
  • {أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} (النمل 61).
  • {ولا تدع ع الله إلها آخر لا إله إلا هو} (القصص 88).

نلاحظ أنه عندما يذكر مقام الأوهية يذكره من باب قبول العاقل له، ومن باب أن يتخذ العاقل الله إلاهه.

  • {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (الإسراء 39).
  • {ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً} (الكهف14).

لاحظ كيف ذكر الربوبية للسموات والأرض والأولهية لدعاء العاقل فقط.

  • {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان 68).
  • {قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء 29).
  • {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} (الشعراء 213).
  • {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} (الأعراف 138).

فإذا تصفحنا كل آيات الكتاب لا نرى صيغة “ولا تدع مع الله رباً آخر”. ولا نجد صيغة “ألا تعبدوا إلا الرب”.

وعندما دعا هود قومه قال {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابةٍ إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراطٍ مستقيم} (هود 56).

لقد قال {الله ربي وربكم} فعلام الخلاف؟ كان الخلاف على الألوهية بقوله: {وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} (هود 50). قال {ما لكم من إله غيره}. ولم يقل ما لكم من رب غيره لأن الأمر مفروغ منه بأن الله هو رب هود ورب قوم هود. ويجب علينا أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى هو رب محمد هود ورب قوم هود. ويجب علينا أن نفهم أن الله سبحانه وتعالى هو رب محمد صلى الله عليه وسلم ورب أبي لهب، وأن الله سبحانه وتعالى إلاه محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه ليس بإلاه أبي لهب. إن أبا لهب لم يؤلهه ولم يعترف بألوهيته واتخذ آلهة غيره.

وبما أن مجال أوامر الله سبحانه وتعالى جاءت في أم الكتاب “الرسالة” فمن هنا نستنتج أن أم الكتاب هي كتاب الألوهية، وبما أن قوانين الكون الصارمة وظواهره جاءت في القرآن اعترف بها الناس أم لم يعترفوا بالقرآن هو كتاب الربوبية.

وبما أن أم الكتاب هي كتاب الألوهية وهو كتاب الله قال في سورة فاطر {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارة لن تبور} (فاطر 29).

أما عن كتاب الربوبية فقال: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً} (الكهف 27).

إن ملاحظة الفرق الكبير بين نهاية الآية الأولى ونهاية الآية الثانية، فـ {يرجون تجارةً لن تبور} فيها رجاء، و {لن تجد من دونه ملتحداً} فيها حتمية.

وعندما ذكر موسى الآيات البينات التسع قال: {وما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} (الإسراء 102). وهنا نلاحظ أيضاً أن الآيات البينات فيها الربوبية.

فهنا جاءت تلاوة كتاب الله الرسالة “أم الكتاب” وتلاوة كتاب الربوبية النبوة “القرآن” “كتاب ربك”. {هذا بصائر من ربكم} (الأعراف 203) والكتابان جمعاً في المصحف مع آيات تفصيل الكتاب، وبما أن الحياة والموت والرزق والأجر من مقام الربوبية فقد قال: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} (الشعراء 109 – 127 – 145 – 164 – 180) {الله لا إله إلا هو رب العش العظيم} (النمل 26) “رب الأمر والنهي”.

  • {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} (النمل 91).

لاحظ رب هذه البلدة.

  • {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن} (النبأ 37).
  • {فليعبدوا رب هذا البيت} (قريش 3).
  • {وإن ربكم الرحمن فاتبعني وأطيعوا أمري} (طه 90).

وعندا جعل الله الإنسان خليفة في الأرض جعله من مقام الربوبية لقوله {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً} (البقرة 30).

أما قوله عن النصارى بأنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة 31) فهو أن أحبار النصارى ورهبانهم مارسوا أمرين هما من اختصاص الربوبية ولا يوجد فيهما أية طاعة وتشريع:

  • الأمر الأول: أنهم في مرحلة من المراحل التاريخية صاروا يوزعون الجنة على الناس بصكوك وهذا من اختصاص الربوبية.
  • الأمر الثاني: وهو قام إلى اليوم في ظاهرة الاعتراف، فإذا اعترف المذنب فإن الراهب يحلله من الذنب وهذا من اختصاص الربوبية.

لذا فإننا نرى في الكتاب أن دعاء الإنسان إلى الله دائماً يأخذ مقام المملوك إلى المالك فيبدأ بربي، والمناداة دائماً من مقام الربوبية “ربي، ربنا” {رب اغفر لي ولوالدي} (نوح 28) {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} (البقرة 201) {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} (المائدة 83). {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف 23) {عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} (التحريم 8). فتكفير السيئة والتحليل من الذنب هي من اختصاص الربوبية، هنا نفهم لماذا قال {أرباباً من دون الله) ولم يقل آلهة من دون الله.

وبما أن مقام الربوبية له وضع خاص لا يستطيع أي إنسان أن يفعله فقد قال: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} (آل عمران 80) أي أن الملائكة والنبيين لا يغفرون لأحد ولا يوزعون على أحد الجنة أو النار.

إن توضيح الفرق بين مفهوم الألوهية والربوبية ينعكس بشكل مباشر على بنية الدولة. فالربوبية سلطة وتملك، والألوهية طاعة من خلال القانون والأحكام. والدولة ينعكس فيها هذان المصطلحان، فالدولة فيها السلطة والتملك وامتلاك مقادير الأمور وفيها الطاعة والولاء عن طريق القانون والأحكام وقد انعكس هذا المفهوم على بنية الدولة من خلال التطور التاريخي للدول، وما القصص القرآني إلا تفاعل الإنسان مع قوانين الربوبية في المعرفة “النبوات” ومع أحكام الألوهية في الرسالات وهكذا يكتسب القصص هذه الأهمية.

5 – العرب اهتموا بفهم أم الكتاب “الرسالة”

لقد اهتم العرب بفهم الرسالة اهتماماً شديداً وأعطوها كل وقتهم وجهدهم وجاهدوا في نشرها بين الأمم ولكنهم لم يهتموا بفهم القرآن. لأن القرآن بحاجة إلى تفرغ ووضع حضاري معين وبحث علمي، لذا قال تعالى عن القرآن {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ} (الإسراء 106) قال: {على الناس} ولم يقل على الذين اتقوا.

فكلما زادت معاهد البحث العلمي وزاد عدد المتفرغين لهذا البحث وزاد عدد الاختصاصات زاد فهم الناس للقرآن. هذه الشروط لم تكن متوفرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الظاهرة وردت في سورة الفرقان بقوله {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} (الفرقان 30). فقوم الرسول هم العرب، كل العرب، لاحظ قوله {إن قومي} إذ لم يقل: “إن الذين كفروا من قومي”، ولو عنى المسلمين لقال “أمتي” لأن العرب قومه والمسلمين أمته. هذه الآية تنطبق على العرب بما فيهم الصحابة والخلفاء الراشدين من أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب. فإذا سألني سائل: ما دليلك على هذا؟؟ أقول ما يلي:

1 – بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حارب أبو بكر الصديق المرتدين من أجل الزكاة وهي من أم الكتاب “الرسالة” واستشهد في حرب الردة كثير ن الصحابة، ومع ذلك كان أبو بكر الصديق واثقاً من قراره. وقد أجاب في الوقت نفسه عندما سئل عن تفسير حرف من القرآن فقال: “أي سماء تظلني وأي أرضٍ تُقِلني! وأين أذهب! وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى” (انظر تفسير الطبري ج1 ص78).

تأمل قوله، ترى هل كان يقصد الزكاة أو الصلاة أو الإرث؟. وقرأ عمر بن الخطاب “رض” على المنبر قوله تعالى {وفاكهة وأباً} فقال: “ما الأب؟” ثم قال: إن هذا الكتاب فاعملوا عليه، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه” (فتح القدير للشوكاني ج5 ص376) لاحظ أن تعليق عمر بن الخطاب كان على آية من القرآن وليس من الأحكام.

2 – لقد قال الذين كفروا من العرب عن القرآن فقط إنه سحر مبين {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} (الأحقاف 7). لماذا؟ وكيف فهم العرب مؤمنهم وكافرهم قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان} (الرحمن 19 – 20)؟ أقول لم يستوعبوها، فالكافر قال إنها سحر، والمؤمن آمن بها تسليماً.

3 – كان إيمان المؤمنين من العرب كالتالي {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} (يونس 53) وهكذا آمن العرب تسليماً بأنه حق كما جاء في هذه الآية.

4 – روى عن سعيد بن المسيب (أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: “إنا لا نقول في القرآن شيئاً”) رواه مالك في الموطأ. تُرى هل كان سعيد بن المسيب يقصد آيات الإرث أو المحارم أو آية الوضوء أو آية المداينة والتي كلها من المحكمات القابلة للفهم من كل الناس، لقد كان دقيقاً عندما قال: “إننا لا نقول في القرآن شيئاً”.

هذا الموقف من العرب أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان موقفاً علمياً من الناحية التاريخية، لأن القرآن كان معظمه – إن لم يكن كله – غيباً بالنسبة لهم ولم يؤول أية آيةً في زمانهم ولم تكن أرضيتهم العلمية تسمح لهم بالتأويل لذا قال عن الكافرين: {بل كذبوا بما يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.. الآية} (يونس 39). هذا الموقف التاريخي العلمي مقدره الله لهم تقديراً كبيراً بأن سلموا بالقرآن تسليماً وآمنوا به على أنه الحق، علماً بأنه كان غيباً بالنسبة لهم.

هذا التقدير جاء في سورة الواقعة {والسابقون السابقون * ألئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين} (الواقعة 10 – 11 – 12 – 13 – 14) أي عند نزول القرآن آمن به من آمن تسليماً، وهؤلاء هم السابقون، وأعطاهم الله مكانة عالية بقوله: {أولئك المقربون}. أما قوله {ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين}. فهذا يعكس التطور العلمي والتاريخي لفهم القرآن. فالذين آمنوا بالقرآن تسليماً عند نزوله كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة إن لم يكونوا كلهم لذا قال {ثلة من الأولين}. ولكن بعد مرور الزمن وتقدم العلم فإن الناس الذين سيؤمنون تسليماً على طريقة الأولين سيكون عددهم أقل لأننا نعرف الآن معنى قوله تعالى {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان} والناس يؤمنون بها الآن كافر ومؤمن تصديقاً لا تسليماً.

6 – القدر في القرآن والقضاء في أم الكتاب

بما أن آيات القرآن هي آيات قوانين الوجود وظواهر الطبيعة وأحداث التاريخ التي حصلت فعلاً “أي بعد حدوثها لا قبله” والتي تظهر التطور التاريخي الحتمي في اتجاه التقدم من خلالها لأن الحدث التاريخي الإنساني هو قضاء قبل وقوعه، وقدر بعد وقوعه، وهذا الحدث الإنساني قبل وقوعه يدخل في عالم الممكنات وبعد وقوعه ينتقل إلى عالم الحتميات، لذا جاء القصص من القرآن. فقوانين الكون هي قوانين حتمية صارمة وأحداث الإنسان بعد وقوعها تأخذ صفة الحتمية، والقدر هو الوجود الحتمي للأشياء والأحداث خارج الوعي الإنساني، والقضاء هو حركة إنسانية واعية بين النفي والإثبات ضمن هذا الوجود.

فإذ تصفحنا كل آيات أم الكتاب نراها مواعظ وأحكاماً ووصايا ونصائح وتعليمات جاءت حصراً للسلوك الإنساني. فالإنسان له الخيار في أن يقوم بها أو لا يقوم، وهي مناط القضاء الإنساني وتدخل ضمن الحرية الإنسانية. وبما أن أوامر أم الكتاب فيها حركة بين نفي وإثبات، أي نعم ولا، فالله سبحانه وتعالى في أوامره لم يأمرنا إلا بالخير ونهانا عن الشر، ولكن لنا ملء الخيار في أحدهما ولا يمكن أن نمارس الأحكام الواردة في أم الكتاب إلا إذا دخلت وعينا وعلمنا بها، فوجب أن تكون صياغتها سهلة الفهم لأنه على كل الناس ممارستها خاصتهم وعامتهم، ومن هنا كانت لا تحتوي على خاصية التشابه، فلا يمكن للناس أن يصوموا إذا لم يعلموا بالصوم أولاً، وإذا علموا بالصوم فيمكن أن يقبلوا أولاً يقبلوه. أي أن أم الكتاب حتى تنفذ لها شرطان: العلم بها وقبولها، لذا فهي تعاليم إلاهية تدخل ضمن القضاء الإنساني وليست قوانين رحمانية موضوعية.

أما القرآن ففيه قوانين الوجود الموضوعي وقد قال عنه: إنه الحق “فالموت حق” ولا تتأثر ظاهرة الموت بعلم الإنسان لها أو قبوله بها الأمران سيان، والشمس حق فلا تتأثر بعلم الإنسان بها أو قبوله لها. ولهذا نقول: إن آيات القرآن فيها القدر، فالقدر وجود موضوعي والقضاء سلوك إنساني واعٍ.

من هذا المنطلق نفهم الآيتين التاليتين من سورة النساء:

1 – {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولون هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء لا يكادون يفقهون حديثاً} (النساء 78).

2 – {وما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً} (النساء 79).

تبدأ الآية 78 من سورة النساء بقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت} والموت حق ولا علاقة له بالحلال والحرام وتنتهي بقوله: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً} وكما قلت إن القرآن هو الحديث. {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} (الواقعة 81)، فهذه الآية تتحدث عن الوجود لا عن السلوك، فجبريل وإبليس والحياة والموت كلاهما وجود من الله لذا قال {قل كل من عند الله} هذه الآية تتكلم عن المقدرات وجوداً.

أما الآية رقم 79 فإنها تتحدث عن الاختيار الإنساني فالله أوجد جبريل وإبليس وكلاهما حق ولا يوجد أحقية بالوجود لأحدهما دون الآخر، ولكنا أمرنا باتباع جبريل دون اتباع إبليس {ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك} وبما أن أم الكتاب هي الأوامر والنواهي من رب العالمين للسلوك الإنساني حصراً وهي تشكل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أتبعها بقوله {وأرسلناك للناس رسولاً} فالآية الأولى هي آية قدر “وجود” تتحدث عن القرآن والثانية هي آية قضاء “سلوك” تتحدث عن أم الكتاب “الرسالة”.

– ماذا يحدث لو اعتبرنا آية من آيات أم الكتاب قرآناً أو العكس (أية من آيات القرآن أو تفصيل الكتاب أحكاماً):

لنأخذ الآن آية من آيات أم الكتاب وهي من آيات السلوك “قضاء” ونعتبرها قرآناً “حق – وجود” فماذا تكون النتيجة؟ لنأخذ الآية التالية:

{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} (الإسراء 23).

هذه الآية هي من آيات أم الكتاب “الرسالة” وفيها أمر ونهي للإنسان العاقل “موعظة”، فعبادة الله وحده هي أمر للعاقل وقد عطف عليها بر الوالدين. فإذا كانت هذه الآية هي من القرآن فهي حقيقة موضوعية خارج الوعي ونافذة حكماً بغض النظر عن قبولنا لها أو عدم قبولنا فهي كالموت تماماً. وبذلك يصبح معنى الآية كالتالي:

إن عبادة الله موضوعياً نافذة بغض النظر عن وعي الإنسان لها أو عدم وعيه أو كيف يمارسها، فالذي يعبد القمر فقد عبد الله، والذي يعبد الشمس فقد عبد الله.. وهكذا دواليك. لأنه من المستحيل أن يعبد غير الله {لا مبدل لكلماته} وينتج عن ذلك إسقاط العقوبات والإرادة الإنسانية وإسقاط الحرية وتساوي الجنة والنار ونصل إلى مفهوم وحدة وصحة العبادات على اختلاف مشاربها توحيدية أو وثنية وتصبح عبادة الله كعبادة الأصنام لا فرق بينهما، وعبادة الله كعبادة فرعون.

لقد أخطأ ابن عربي حين علق على الآية {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} هذه الخطيئة القاتلة إذ اعتبر أن هذه الآية قرآن نافذٌ “كلام الله” ووصل إلى مفهوم وحدة العبادات وأسقط الإرادة الإنسانية “إسقاط التدبير” وحول الإسلام إلى مهزأة حيث كان تعليقه على هذه الآية “فما عبد غير الله في كل معبود” [الفصوص “فص كلمة سبوحية في كلمة نوحية”] حيث قضى على الإسلام عقيدة وأحكاماً قضاء مبرماً. وما إسقاط التدبير والتواكل والفكر الخرافي الموجود عند العرب والمسلمين حالياً إلا من النتائج المباشرة لهذا الخلط.

لنلاحظ كيف عطف بر الوالدين على عبادة الله حيث قال {وبالوالدين إحساناً} فإذا حكمنا أن هذه الآية قرآن فهذا يعني أن الذي يضرب والديه أو يجوعهما أو يشتمهما، والذي يطيعهما وتلاطف معهما في الكلام ويبرهما، هما سواء وكلا عمليهما من بر الوالدين لأن الإنسان مهما فعل مع والديه فهو قد بر بهما لأنه موضوعياً لا يستطيع إلا أن يكون براً بهما.

والآن إذا أخذنا آية من آيات تفصيل الكتاب واعتبرناها من آيات أم الكتاب مثل قوله تعالى: { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة 77 – 78 – 79) إذا اعتبرنا آية {لا يمسه إلا المطهرون} من الأحكام فهذا يعني أنها تعني الإنسان العاقل ولا تعني غيره، وفيها مجال الاختيار، فإذا فهمناها هكذا فتعني الحائض والنفساء والجنب، فتصبح حكماً شرعياً وهذا هراء.

وهذا الهراء حاصل فعلاً عند كثير من الناس لأنه في هذه الحالة تم تحويل “لا” النافية في {لا يمسه إلا المطهرون} إلى “لا” الناهية. وتم تحويل (قرآن كريم) إلى المصحف المنسوخ بحبر على ورق أو على جلد غزال أو على شريط كاسيت. وهكذا نلاحظ ما يترتب على عدم التفريق والخلط بين كلام الله وبين كتاب الله “أوامر الله”. ففي حالة فهم آية قرآن أو تفصيل الكتاب على أنها أحكام يصبح السلوك الإسلامي وأحكامه غير مفهومة إطلاقاً، ولا يوجد أي ترابط في السلوك الإسلامي وفي حال فهم آية من أم الكتاب على أنها قرآن تصبح العقيدة الإسلامية نوعاً من السخرية والمتناقضات التي لها أول وليس لها آخر وهاتان الحالتان حاصلتان فعلاً في حياتنا.

ولنأخذ مثالاً آخر الآيتين التاليتين:

  • {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل 90) هذه آية من آيات أم الكتاب فيها موعظة للإنسان.
  • {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} (الإسراء 16) “قرآن”.

الآية 90 من سورة النحل هي من أم الكتاب لذا قال في آخرها {يعظكم لعلكم تذكرون}.

الآية 16 من سورة الإسراء هي من القرآن لذا قال في آخرها: {فحق عليها القول) “قوله الحق”: أي فيها قانون موضوعي وليس موعظة أو وصية.

لقد حار المفسرون في الربط بين الآيتين، ولكن لا ربط بينهما لأن المواضيع مختلفة تماماً، ففي آية النحل أعطى أمراً ونهياً للإنسان “موعظة” “قانون أخلاقي” فيمكن للإنسان أن يأخذ بها أو لا يأخذ ولا تحتاج إلى تأويل.

أما الآية الثانية فهي قانون موضوعي يعمل خارج الوعي لا علاقة له بقبول الإنسان أو عدم قبوله وتحتاج إلى تأويل حيث أن الخطأ الفاحش هو الظن أن آية الإسراء موعظة أي أن الله يأمر وينهى فيها وهذا عين الخطأ.

7 – الكتاب عند موسى وعيسى

لقد سمَّى الكتاب “المصحف” مجموعة الأحكام التي جاءت إلى موسى وعيسى بالكتاب الله وذلك في قوله {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} (البقرة 101).

وعن عيسى قال {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً} (مريم 30). فالكتاب فيه الرسالة وأضاف إليه النبوة. وقوله أيضاً عن موسى: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53) هنا أيضاً الكتاب عبارة عن التشريع وأضيف إليه الفرقان.

وقوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} (البقرة 79) لاحظ أنه قال الكتاب وهو يريد التشريع فقط الذي جاء في الرسالة، ولهذا حذر من تقليده لأن التشريع يقلد ولا يخضع للتحدي والإعجاز. وقوله عن المسيح {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران 48). لاحظ كيف أضاف التوراة والإنجيل إلى الكتاب والحكمة. إن مجمل هذه البنود الأربعة تشكل الكتاب المقدس عند النصارى. فالكتاب هو التشريع والحكمة هي الوصايا والتوراة نبوة والإنجيل نبوة عيسى.

أي أن مصطلح الكتاب ذو معنيين:

  • المعنى الأول للكتاب: بالنسبة لموسى وعيسى هو مجموعة التشريعات التي جاءت لهما. والرسالة والكتاب عند اليهود والنصارى تختلف عن التوراة والإنجيل: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}. {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} (البقرة 87) لاحظ كيف ربط الكتاب والرسالة عند موسى.
  • المعنى الثاني للكتاب: وقد جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو مجموعة الآيات الموحاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتي تحتو على رسالته ونبوته معاً حيث سمى التشريع عند النبي صلى الله عليه وسلم “بأم الكتاب” أي أن الكتاب والفرقان عند موسى والكتاب والحكمة عند عيسى، يقابلهما أم الكتاب عند المسلمين. ويمكن أن نفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل مفهوم الكتاب في حديثه بمعنى التشريع فقط في قوله “أوتيت الكتاب ومثله معه” حيث فصل هنا بين الكتاب والقرآن حيث قال في حديث آخر “أوتيت القرآن ومثله معه”.

وطبقاً لما أخبرنا الله فإن الكتاب جاء إلى ثلاثة رسل هم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. فلماذا جاء الكتاب لهؤلاء الرسل الثلاثة مع أن هناك رسلاً غيرهم مثل شعيب وصالح وهود ونوح ولا نقول عنهم إنهم جاءهم الكتاب؟

فكما عرفنا أن الكتاب هو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله وحياً، وتحوي الرسالة والنبوة معاً. وإذا نظرنا إلى الرسالة وجدناها مجموعة كاملة من التشريعات والتعليمات “كود تشريعي وأخلاقي” وإذا نظرنا إلى النبوة وجدنا فيها مجموعة كاملة من العلم والمعلومات، على هذا نفهم معنى الكتاب الذي جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

فقد جاء إلى موسى مجموعة كاملة من التشريعات “الرسالة” وقد سميت الكتاب. كما جاءه مجموعة كاملة من المعلومات في النبوة وسميت “التوراة” وجاء هذا أيضاً إلى عيسى الرسالة في الكتاب والنبوة في الإنجيل وجاءت تشريعات كاملة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسميت “أم الكتاب” وبما أن القرآن هو نبوة محمد فقط، والإنجيل نبوة عيسى فقط والتوراة نبوة موسى، ففي الكل التجانس في النبوة لذا عطف بعضها على بعض في قوله {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن} (التوبة 111). لاحظ كيف ذكر لفظة “حقاً” قبل ذكر كتب النبوة الثلاثة.

فإذا نظرنا إلى رسل مثل نوح رأينا أنه لا يوجد عندهم كتاب “كود كامل تشريعي وأخلاقي” مع مجموعة كاملة من المعلومات فرسالة نوح كانت التوحيد والاستغفار فقط ونبوته صناعة الفلك والتبشير بالبنيان وكانت رسالة إسماعيل الصلاة والزكاة لأهله فقط. {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً} (مريم 55). ورسالة شعيب كانت {فأوفوا الكحيل والميزان ولا ت بخسوا الناس أشياءهم} (الأعراف 85) {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (الأعراف 56 – 85).

{ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. (البقرة 60). قد يظن البعض أن قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}. وقوله {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} تعليمات أخلاقية وهذا غير صحيح. فالفساد عكسه الصلاح ونقول: فسد الطعام فهذا يعني أن الطعام غير صالح للأكل، ونقول فسدت السيارة فهي بحاجة إلى إصلاح، فالفساد في الأشياء والوظائف والفسوق في السلوك الإنساني وهو حصراً يعني الخروج عن تعليمات رب العالمين كقوله عن إبليس {ففسق عن أمر ربه} (الكهف 50) وعندما كانت امرأة زكريا عاقراً قال {وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء 90) فهل كانت زوجه فاجرة فأصبحت تقية؟! أم كانت عاقراً فأصبحت ولوداً؟ وعندما نقول فسد جهاز الشرطة فهذا يعني أنه غير قادر على القيام بوظيفته التي أنشئ من أجلها. كما نقول فسدت المعدة فهي غير قادرة على الهضم. ففي نبوة شعيب جاءتنا معلومات وتعليمات في غاية الأهمية وما زلنا إلى يومنا هذا نعاني من عدم فهمها وهي:

1 – بعد إصلاح الأرض من إقامة جسور وطرق وشوارع ومزارع وأبنية وحدائق علينا أن لا نفسدها. لذا قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.. الآية} (المائدة 33).

2 – {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (البقرة 60) فالعثو هو الإقامة في مكان ما وإفساده من جراء هذه الإقامة ومنه جاءت كلمة العث أو العت وهي الحشرة التي تعيش في الملابس الصوفية وتفسدها من جراء عيشها داخلها.

إن القصص القرآني هو تطور تاريخي في أكثر من ظاهرة علمية من حيث تاريخ المعارف الإنسانية عن طريق النبوات وتاريخ التشريع الإنساني عن طريق الرسالات، وقد ظل هذا التطور سارياً حتى جاء الرسل الثلاثة “أهل الكتاب” فجاءتهم مجموعة كاملة “كود كامل” من المعلومات والتشريعات وكان آخرها هو كتاب الإسلام لأنه نسخ جزءاً من التشريعات وثبت جزءاً آخر فكل ما جاء في التشريعات في قصص القرآن فهو ملزم وجزء من ديننا لأنه يدخل مضمن حدود التشريع الإسلامي.

مثل تحريم اللواط صراحة في رسالة لوط وهو محرم علينا أيضاً عدا ما جاء صراحة أنه غير ملزم كقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر..) إلى قوله {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام 146).

أما النبوات فهي تطور في المعلومات إذ بدأت النبوات من قوله {ويصنع الفلك} (هود 38). وقوله {ويمددكم بأموالٍ وبنين} (نوح 12) فتطورت هذه النبوات حتى محمد صلى الله عليه وسلم حيث جاءته “الحقيقة المطلقة ذات الفهم الإنساني النسبي” في القرآن.

فإذا طرحنا البعد التاريخي من أذهاننا من حيث المعرفة والتشريع الإنساني فإن قصص القرآن غير قابل للفهم. وفي هذا البعد التاريخي يكمن التشابه في القصص أي نسبية الفهم.

فبالنسبة لموسى وعيسى فصلت التشريعات عن النبوات، لا كما حدث مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فنبوة موسى هي التوراة وشريعته الكتاب والفرقان وكذلك نبوة عيسى الإنجيل وشريعته هي الكتاب نفس شريعة موسى مع بعض التعديلات {ولأحل لكم بعض الذي حُرم عليكم} (آل عمران 49). لذا قال عن عيسى فقط، أما عند محمد صلى الله عليه وسلم فهو النبوة والرسالة معاً حيث أن رسالة محمد هي أم الكتاب عوضاً عن الكتاب عند موسى وعيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن والسبع المثاني وتفصيل الكتاب وقد جاء جميع ذلك في الكتاب. فمفهوم الكتاب عند المسلمين يختلف عن مفهوم الكتاب عند موسى وعيسى فالكتاب عند المسلمين هو مجمل التنزيل وعند موسى وعيسى هو الأحكام فقط “الشريعة”.

8 – النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً وكان يقرأ ويكتب

نريد في هذا البحث أن نضع النقاط على الحروف حول معنى لفظة “الأمي”. لقد وردت هذه اللفظة في الكتاب في ستة مواقع وهي:

  • {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالبعاد} (آل عمران 20).
  • {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم ن إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} (آل عمران 75).
  • {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (الأعراف 158).
  • {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم.. الآية} (الأعراف 157).
  • {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة 2).
  • {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا بظنون} (البقرة 78).

أولاً: لنعرف ما معنى كلمة الأمي التي وردت في الآيات السابقة. لقد أطلق اليهود والنصارى على الناس الذين لا يدينون بدينهم أي ليسوا يهوداً ولا نصارى لفظ الأمي (وجاءت من كلمة غوييم العبرية “الأمم”). وهو ما نعبر عنه اليوم بالدهماء أو الغوغاء أو العامة، لأن هؤلاء الناي كانوا جاهلين ولا يعلمون ما هي الأحكام في كتاب اليهود والنصارى، والنبوات التي جاءت لهم. ومن هنا جاء لفظ الأمي التي تعني:

1 – غير اليهودي والنصراني.

2 – الجاهل بكتب اليهود والنصارى.

وبما أن التوراة والإنجيل هما نبوتا موسى وعيسى لذا جاء التبشير بنبوة محمد في التوراة والإنجيل وليس في الكتاب لقوله {الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} (الأعراف 157). وهذا واضح في الآية رقم 20 من آل عمران {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين} فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى والباقي من الناس هم الأميون.

وهذا المعنى واضح أيضاً في الآية رقم 75 من آل عمران عندما ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى فمنهم أي اليهود {من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} ومنهم أي النصارى {من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك}. فلماذا لا يؤدي اليهود الأمانات لغيرهم؟ لأنهم يعتبرون “الغوييم” الأمم خدماً لهم وأنهم الدهماء، وهؤلاء الأميون لا تنطبق عليهم وصايا الرب حيث قال {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}.

وفي سورة الأعراف الآية 157. {الذين يتبعون الرسل النبي الأمي}. أمي لأنه ليس منهم لأنه قال: {الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}.

وكذلك جاءت في الآية 158 حيث أتبعها بأن محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى الناس جميعاً اليهود والنصارى والأميين علماً بأنه لم يكن أصلاً يهودياً ولا نصرانياً بل من الفئة الثالثة وهي الأميون.

وبمعنى الجهل في الكتاب قال: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} (البقرة 78) أي الذين لا يعلمون الكتاب ومحتوياته هم أميون بالكتاب ولذا أتبعها {وإن هم إلا يظنون} (البقرة 78).

فإذا قلنا: إن فلاناً أمي دون التعريف.. أمي بماذا؟ وأراد أن يمحوا أميته فيدخل مدرسة محو الأمية تحت اسم محمد بن سعيد ويخرج تحت اسم هارون. أما إذا قلنا فلان أمي وعرفناه بماذا، فهذا صحيح ونكون قد استعملنا المعنى الوارد في الآية {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}. فكاتب هذا الكتاب هو أمي بعلم البحار مع أنه دكتور مهندس في الهندسة المدنية. أي هو لا يعلم في علم البحار إلا اللمم وعندما يتكلم عن علم البحار فمعلوماته ظنية غير يقينية: {وإن هم إلا يظنون}.

ومن ها هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً بمعنى أنه غير يهودي وغير نصراني، وكان أمياً أيضاً بكتب اليهود والنصارى وكانت معلوماته عن كتبهم هي بقدر ما أوحي إليه بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.

أما إسقاط هذا المعنى على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً أي لا يقرأ ولا يكتب فهذا خطأ، فكما قلت: إن الكتابة هي تجميع الأشياء بعضها إلى بعض لإخراج معنى مفيد “موضوع” فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم عاجزاً عن تأليف جملة مفيدة أو كتابة كتاب “تأليف”؟ إنّ الكتاب الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي أملاه وصاغه. والقراءة تعني العملية التعليمية “تتبع المعلومات” ثم القدرة على استقراء نتائج منها ومقارنتها بعضها ببعض. فالاستقراء والمقارنة جاءا من القراءة، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ؟

قد يقول البعض – وهذه هي الحجة التي يوردها كثير من الناس – إنه عندما جاء الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، واستنتجوا أنه لا يقرأ. وأقول إنه إذا أمر سعيد زيداً أن يذهب، فقال زيد “ما أنا بذاهب” فهل هذا يعني بالضرورة أن زيداً مشلول أو بلا أقدام. هل هذا يعني أن زيداً لا يستطيع الذهاب أو أنه لا يريد الذهاب. ثم هل يعني أن جبريل قدم للنبي صلى الله عليه وسلم مادة مخطوطة لكي يقرأها خطاً. فهنا خلطنا بين إرادة النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة وبين عدم استطاعته، وظننا أن جبريل قدم له مادة مخطوطة على قرطاس ليقرأها، لأنه عندما قال له في المرة الثالثة: اقرأ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. فقال جبريل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق 1). فسكت النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيات ولم يقل ما أنا بقارئ.

قد يقول البعض: ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أمياً بمفهومنا الخاطئ للقراءة والكتابة؟ أقول: نعم لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أول حياته إلى وفاته أمياً بالخط أي كان لا يخط ولا يقرأ المخطوط وجاء هذا المعنى في قوله تعالى {وما كنت تتلوا من قبله من كتابٍ ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت 48). {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} (العنكبوت 49).

لقد وضحت أمية النبي صلى الله عليه وسلم في شيئين: أولهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم في حياته قبل البعثة عن أي موضوع من مواضيع القرآن، ولو فعل ذلك لقال له العرب: لقد كنت تتحدث إلينا عن هذه المواضيع قبل أن تكون نبياً. أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً في مواضيع القرآن تماماً؛ وقوله {من كتاب} منكرة، وتعني القرآن لأنه أتبعها بقوله {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أما مواضيع أم الكتاب فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أمياً بها كلها فمثلاً: الصدق والأمانة والوفاء بالكيل والميزان من مواضيع أم الكتاب، أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً وأميناً ويوفي الكيل والميزان قبل البعثة؟ والناحية الثانية التي تقولها الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً بالخط، وأميته بالخط استمرت إلى أن توفى صلى الله عليه وسلم.

إن السر الأكبر في أمية النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية الخط وقراءة المخطوط هي أن أساس الكلام الإنساني هو الأصوات وليس الخطوط، أي أن اللغة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت لساناً وأذناً “كلام وسمع”. لأن أي قوم إذا غيروا أبجديتهم فلا يتأثرون أبداً في كلامهم بين بعضهم وفهمهم للغتهم بل يتأثرون بقراءة المخطوط. علماً بأن الكتاب جاء إلى النبي وحياً، أي جاءه بصيغة صوتية غير مخطوطة وسماه الكتاب.

فإذا سألني سائل: ما معنى قوله تعالى {وكتبنا له في الألواح} (الأعراف 145)؟ الألواح هنا قرطاسية أي ما يخط عليه. فأقول: لو قال “وخططنا له فالسؤال هنا: ماذا كتب؟ ويأتي الجواب مباشرة {من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء}. (الأعراف 145) فهنا بعد فعل كتبنا ذكر الموضوع مباشرة.

وإذا سأل سائل: ما معنى فعل كتب في آية المداينة في سورة البقرة وهي آية حدودية. {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل.. الآية} (البقرة 282) هنا “فاكتبوه” بمعنى تسجيل العقود حسب الموضوع كأن نقول فريق أول وفريق ثانٍ وموضوع العقد هل هو مال أو بيت أو تنفيذ أعمال.. مع ذكر الأجل.. الخ حيث أن بنود العقد تشمل كل صغيرة وكبيرة لذا قال. “فاكتبوه” وهنا ليس بالضرورة أن يكون الكتاب بالعدل خطياً أو العقد خطياً فيمكن أن يكون العقد شفهياً أي أن هذه الآية تشمل العقود الخطية أو الاتفاقات الشفهية. لذا قال عن الشهادة {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (البقرة 282)

فكيف نفهم هذا الشرط في حالة توثيق العقد في كاتب العدل كما نفعل الآن لأنه في حالة العقد الخطي بوجود الكاتب بالعدل لا داعي أصلاً أن تضل إحداهما لتذكرها الأخرى لأن محتويات العقد الخطية الموثقة في كاتب العدل لا تحتاج بعد مدة من الزمن إلى أي مراجعة، وهذا الشرط صحيح للكتابة الشفهية للعقد “شروط العقد” لأن أساس التعامل بين الناس والدول هو الاتفاقات الشفهية أولاً ثم تنسخ أو لا تنسخ “توثق أولاً توثق”.

ومن ناحية أخرى عندما يتم عقد نكاح بين رجل وامرأة فكتابة عقد النكاح هو اكتمال شروط العقد “الكتاب” بالإيجاب والقبول والشهود وتحديد الصداق … الخ. فإذا تمت هذه الشروط قلنا لقد تم كتاب فلان على فلانة. هذه الشروط لا تعني الخط مطلقاً. فبعد ذلك يتم تسجيل عقد النكاح. ولكن إذا سجل هذا العقد أم لم يسجل فشروطه صحيحة ويبقى صحيحاً، وإذا لم يكن الأمر كذلك وفهمنا الكتابة على أنها التسجيل، فإذا سجل العقد خطياً ففي هذه الحالة يصبح جماع الرجل والمرأة نكاحاً شرعياً. وإذا لم يسجل خطياً فيصبح زنا؟؟!! وأعتقد بأن كل زيجات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن خطية ومع ذلك فهي شرعية والكتاب فيها أي شروط عقد النكاح مستوفاة. والله أعلم.

(7) تعليقات
  1. أقول مع قدرة المؤلف على الكتابة وتميز قلمه، ومن هذه الناحية لايمكن لأحد أن يشكك في هذه القدرات. ولكن من ناحية البرهنة على المصطلحات التي تبناها هنا وإرادته الفصل في مسائل كانت وما زالت محل خلاف بين أهل العلم عبر العصور فلا أجده قد وفق في كثير منها مثل محاولة الفصل بين مقام النبوة ومقام الرسالة والمحكم والمتشابه ومسألة الروح وحتى أمية النبي في الفقرة الأخيرة حول مسألة الخط وتوثيق العقود والاتفاقات الشفهية حيث تعتبر عنده من الكتابة ولو لم تكتب في كتاب لأن النص ذكر الشهود وعلق على ذلك بالقول: (لأنه في حالة الخط بوجود الكتاب بالعدل لا داعي أصلا أن تضل إحداهما لتذكرها الأخرى لأن محتويات العقد الخطية الموثقة في كتاب العدل لا تحتاج بعد مدة من الزمن إلى أية مراجعة) وهذا غير سديد في نظري لأن التذكير يكون على ما هو مدون في الوثيقة أمام القضاء. وكذلك الاستدلال بكتابة عقد النكاح وقوله:(فإذا تمت هذه الشروط قلنا تم كتاب فلان على فلانة) هذا قولك أنت أو قول الناس والذي يهمنا أن تستدل عليه من القرٱن. وعند ذكره لفصل الكتاب وتفصيل الكتاب رأى بأن فصل الكتاب يتعلق بمواضع وعدد الٱيات ومثل لذلك بعدد ٱيات البقرة وٱل عمران. فليذكر لنا سعادته عدد ٱيات سورة الكهف أو حتى سورة الماعون. ثم إن النتائج التي يبغي الوصول إليها بعيدة تماما عن المضمون وهي مسائل لا يمكن الحسم فيها بشيء لحدالٱن وتبقى محلا للاجتهاد دون ادعاء أو تعال على علماء الأمة الذين تطرقوا لهذه المسائل ولم يدعوا الحسم فيها. والمجهود الذي قام به المؤلف يبرز حقيقة واحدة هي أن هذا الكتاب ما هو إلا وحي يوحى.

  2. ذكرت في موضوع الربوبية والالوهية أن قانون الربوبية ينطبق على الجميع عكس الالوهية الذي ينطبق على من أله الله وعبده فقط فما قولك في قوله تعالى في سورة الناس “قل أعوذ برب الناس ° ملك الناس ° اله الناس ” الناس هنا عرب وعجم مسلمين وكفار فكيف يكون الله الههم .


    الأخ أبو بكر
    نعم الله تعالى رب الناس سواء أقروا بذلك أم لا، لكنه إله الناس الذين يؤمنون به فقط، وفي الآية “إله الناس” لا تعني بالضرورة جميعهم.

  3. اعوذ برب الناس تعني الناس جميعا ملك الناس تعني الناس جميعا اله الناس جميعا انا مع ابو بكر و بعدين الدكتور جميع كتبه بنيت علي عدم وجود مترادفات فكيف تكون الناس ككل في اية و الذين يؤمنون به فقط في اية فلماذا لا يقول اله المؤمنيين او اله المسلمين الاخ اللي رد علي ابو بكر اسف كلامك غير منطقي و حتي غير مقنع وانا عن نفسي متحمس للدكتور شحرور و لكني اري ابو بكر وضعه في مأزق و ياريت الدكتور يرد علي ابو بكر نكون شاكرين لاني اري هنا تساوت الالوهية و الربوبية و هل الرسول ص بشير و نذير للمؤمنين فقط و لا بعث للناس كافة يبشرهم و ينذرهم و بعدين لو اله المؤمنيين فقط من اله المشركين أ له مع الله لا اله الا الله


    الأخ مصراوي
    كلمة الناس قد تشمل أحياناً جزء منهم لا كلهم، فالله تعالى رب الناس جميعاً الكافر والمؤمن سواء علموا ذلك أم لم يعلموا، لكنه إله من آمن به فقط، ورسالة محمد عالمية لكن لم يؤمن بها كل الناس، والاختلاف سنة الله في الحياة {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99).

  4. السلام عليكم ورحمة الله

    دكتور قلت أن الكتاب جاء لموسى و عيسى و محمد صلى الله عليهم وسلم فقط
    لكن الآيات من 83 الى 89 من سورة الأنعام تنسب الكتاب و الحكم والنبوة الى رسل آخرين
    من فضلك اشرح لنا هذا الاختلاف


    الأخ منصف
    الآية (89): {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} الكتاب أوتي لموسى وعيسى من بين الأنبياء والرسل الذين ذكرتهم الآيات التي سبقت، والحكم والنبوة أتت لهم ولغيرهم .

اترك تعليقاً