لو رسم انسان ما صورةً لوجه انسان، ورسم له عيناً واحدة فقط، فإن أول امرئ ينظر إلى هذه الصورة سيلاحظ بسرعة، الخطأ في الرسم، ولن يتريث قبل أن يقول: تنقصها عين. ولكنه لو رسم لوجه من مرآة (أي رسم الوجه معكوساً) وقدمها إلى الناس فإنه قد يراها ملايين الناس لمدة طويلة من السنين دون أن يلاحظوا أنها معكوسة. ومثل هذا حصل لأهل الأرض عبر مئات السنين عندما كانوا يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض، ولكنهم كانوا عاجزين عن تفسير بعض الظواهر انطلاقاً من مسلمتهم هذه، حتى جاء شخص واحد، بشر منهم ومثلهم، وقال: إن العكس هو الصحيح وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

من هذه الحقيقة التاريخية التي حصلت فعلاً تبيّن لي بعد ربع قرن من البحث الدؤوب والتفكر الطويل والتأمل الواعي أننا نحن المسلمين مأسورون لمسلمات قد يكون بعضها معكوساً تماماً، وسأمثل لها في الصفحات القريبة الآتية.

بيد أني أستميح القارئ الكريم عذراً لأني سأطلب إليه التريث في الحكم عليَّ قبل أن يمضي معي في رحلة هذا الكتاب، وألا يتسرع-بحكم بعض مسلماته الموروثة، التي سأثبت له بالبرهان أنها معكوسة-إلى نبذ كتابي قبل الصبر على صحبته، لأنه سيجد فيه احتراماً شديداً وإكباراً عظيماً لفكرة وعقله وإن فقد في كتابنا هذا الاحترام والإكبار نفسيهما لعواطفه. ومن ها هنا نستعين بالله تعالى ونقول:

لقد دخل العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري والعقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، والأدبيات الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين تطرح الإسلام عقيدة وسلوكاً دون أن تدخل في العمق الفلسفي للعقيدة الإسلامية. ولقد انطلقت من أطروحات، عدتها من مسلمات العقيدة الإسلامية وهي لا تدري أن هذه المسلمات بحاجة إلى إعادة نظر، فدارت هذه الأدبيات نفي حلقة مفرغة، ولم تصل إلى حل المعضلات الأساسية للفكر الإسلامي (التقليدي)، مثل أطروحة القضاء والقدر والحرية، ومشكلة المعرفة، ونظرية الدولة، والمجتمع والاقتصاد والديمقراطية، وتفسير التاريخ، بحيث ينتج عن ذلك فكر إسلامي معاصر يحمل كل مقومات المعاصرة شكلاً ومضموناً دون الخروج عن المقومات الأساسية للعقيدة الإسلامية في أبسط أشكالها وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

إن الفكر العربي المعاصر ومن ضمنه الفكر الإسلامي يعاني من المشاكل الأساسية التالية:

1 – عدم التقيد بمنهج البحث العلمي الموضوعي في كثير من الأحيان، وعدم تطبيق الكتاب المسلمين لهذا المنهج على النص القدسي الديني المتمثل بآيات الكتاب الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم. حيث إن أول شرط من شروط البحث العلمي الموضوعي هو دراسة النص بلا عواطف جياشة، من شأنها أن توقع الدارس في الوهم، وخصوصاً إذا كان موضوع الدراسة نصاً دينياً أو نحو ذلك.

2 – إصدار حكم مسبق على مشكلة ما قبل البحث في هذه المشكلة، وخير مثال على ذلك “المرأة في الإسلام” إذ نرى الباحث الإسلامي مقتنعاً مسبقاً وقبل البحث أن وضع المرأة في الإسلام وضع سليم وأن الإسلام أنصفها، فيكتب كتاباً في ذلك ويقول إنه بحث علمي. وكل ما فعله أنه أوجد التبريرات لوجهة نظره المسبقة، ونرى الباحث المعادي للإسلام مقتنعاً مسبقاً أن الإسلام ظلم المرأة، ويقدم بحثاً عن ذلك ويقول إنه بحث علمي. وكلاهما وقع في الخطأ نفسه، إذ إن أي مشكلة تتطلب بحثاً علمياً موضوعياً، تعني أن الباحث نفسه غير متأكد من النتائج، أو لا يعرف النتائج أصلاً وبالتالي أجرى بحثاً علمياً ليتأكد أو ليعرف النتائج، وهذا ما قمنا به فعلاً في الكتاب، ومن ضمنه بحث الإسلام والمرأة، فعندما بدأنا بهذا البحث قلنا إننا لا نعرف شيئاً إطلاقاً عن موقف الإسلام من المرأة. فجمعنا آيات الكتاب المتعلقة بالمرأة، ودرسناها لنعرف ما هو وضع المرأة في الإسلام، وخلصنا إلى نتائج لم نجدها في كتب التفسير، ولا في كتب الفقه، وتبين لنا أن المرأة لها وضعان: وضع في الكتاب، أي في النص المقدس، ووضع في الفقه الإسلامي الذي يحمل صفة التطور التاريخي (النسبية الزمانية والمكانية).

3 – عدم الاستفادة من الفلسفات الإنسانية، وعدم التفاعل الأصيل المبدع معها، حيث لا يمكن أن نضع كل ما أنتجه الفكر الإنساني، منذ اليونان إلى يومنا هذا، في هامش الخطأ أو الباطل، فإذا قلنا: إن كل ما طرحه الفكر الإنساني شيء والإسلام شيء آخر، أي كل ما خطر في بالك فالإسلام غير ذلك، ينتج لدينا سؤال لا يمكن الإجابة عليه وهو (ما هو الإسلام)؟ فضمن هذا المنطق لم يتم تعريف الإسلام إلى اليوم. أما إذا قلنا: إن ما طرحه الفكر الإنساني فيه غث وفيه ثمين، وفيه حق وفيه باطل، وفيه خطأ وفيه صواب، فهذا يعني أننا نحن المسلمين قادرون على أن نتفاعل إيجابياً مع الفكر الإنساني كله، دون خوف، أو وجل، ولكن حتى يتم هذا التفاعل الإيجابي يجب علينا نحن العرب والمسلمين أن نمتلك ميزاناً مرناً، نستطيع أن نتفاعل به مع الآخرين، دون خوف، وهذا الميزان غير موجود عندنا في الوقت الحاضر، وهذا يقودنا إلى النقطة الرابعة.

4 – عدم وجود نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية، مصاغة صياغة حديثة معاصرة، ومستنبطة حصراً، من القرآن الكريم، لتعطينا ما يسمى (إسلامية المعرفة) بحيث تعطي هذه النظرية منهجاً في التفكير العلمي لكل مسلم، وتمنحه ثقة بالنفس وجرأة على التعامل والتفاعل مع أي نتاج فكري أنتجه الإنسان، بغض النظر عن عقيدته. إن غياب هذه النظرية، المصاغة صياغة معاصرة، أدى بالمسلمين إلى التفكك الفكري، والتعصب المذهبي، واللجوء إلى مواقف فكرية أو سياسية تراثية، مضى عليها مئات السنين، تقوم على كيل الاتهامات بالكفر والإلحاد والزندقة والهرطقة والمعتزلية والجبرية والقدرية لهؤلاء وهؤلاء، كل هذا بهدف الخروج من مأزق فكري، يقع فيه المسلم في مواجهة الفكر المعاصر، علماً بأنه ليس كل فكر أنتجه الإنسان هو عدو للإسلام بالضرورة.

ولكن غياب المنهج المعرفية، الذي يمكن أن يواجه كل غث، ويحتوي على كل ثمين، هو الذي يؤدي بالضرورة إلى مواقف التشنج والسذاجة وضيق الأفق. لذا فإننا في كتابنا هذا أفردنا بحثاً خاصاً لمشكلة المعرفة الإنسانية “جدل الإنسان”، لأن مشكلة الفلسفة الكبرى هي تحديد العلاقة بين الوجود في الأعيان، وصور الموجودات في الأذهان. ولدى الخوض في هذه المشكلة وجب علينا بالضرورة أن نقف على الأرضية العلمية للقرن العشرين، لذا فإنه ليس من العبث تسمية الفلسفة بأم العلوم قاطبة.

5 – إن المسلمين في العصر الحاضر يعيشون أزمة فقهية حادة، وثمة صيحات صادقة تقول: إننا بحاجة إلى فقه جديد معاصر، وبحاجة إلى فهم معاصر للسنة النبوية، وقد تم تشخيص هذه المشكلة، ولكن دون وضع حل لها. فإذا أردنا أ، نخترق الفقه الإسلامي الموروث “الفقهاء الخمسة” وجب علينا إعطاء البديل، وهذا ما فعلناه في هذا الكتاب حيث طرحنا منهجاً جديداً في الفقه الإسلامي، وطبقناه على أحكام المرأة فنتجت لدينا أحكام لم تكن عند الفقهاء كلهم.

ولكننا لم نستطع القيام بهذا العمل إلا بعد صياغة نظرية أصيلة في المعرفة الإنسانية “جدل الإنسان”، منطلقة من القرآن الكريم، إذ إن المنطلق الفلسفي ينتج عنه بالضرورة الحل الفقهي.

هنا قد يسأل سائل: ماذا نفعل بكتب التراث من فقه وتفاسير، التي يطبع منها كل عام آلاف النسخ، وتدرس على أنها الإسلام؟ الجواب على هذا السؤال الصعب جداً هو أنني لم أستطع أن أقدم هذا الكتاب، وأصل إلى النتائج المطروحة للقارئ، إلا بعد أن تم حل هذه المعضلة مع التأكيد على أنني عربي مؤمن مسلم.

التراث والمعاصرة والأصالة

علينا أن نميز بين المصطلحات الثلاثة الواردة أعلاه، بوضع تعريف لكل منها:

التراث: هو النتاج المادي والفكري الذي تركه السلف للخلف، والذي يؤدي دوراً أساسياً في تكوين شخصية الخلف، في عقله الباطن (نمط التفكير) وسلوكه الظاهر. هكذا يفهم التراث على أنه من صنع الإنسان ونتاج النشاط الإنساني الواعي، في مراحل تاريخية متعاقبة.
المعاصرة: هي تفاعل الإنسان المعاصر مع النتاج المادي والفكري، الذي هو أيضاً من نتاج الإنسان، فبهذا المعنى يكون التراث والمعاصرة مفهومين متداخلين، تفصل بينهما لحظة الآن المتحركة باستمرار، وعليه إذا صدر مقال في صحيفة، منذ عشر سنوات، فإنه قد يدخل في مفهوم التراث. وليس للناس خيار في الانتماء إلى تراثهم، ولكن لهم الخيار في انتقاء معاصرتهم من التراث ومن منجزات عصرهم، لأن الحدث الإنساني الواعي يدخل في عالم الممكنات قبل وقوعه (بحيث يمكن حدوثه أو عدم حدوثه)، وبعد وقوعه يصبح حقيقة لا رجعة فيها. فنحن العرب المسلمين لا خيار لنا في تراثنا، أي إننا لا نستطيع أن نضع تراثاً غير التراث الذي حصل فعلاً، وورثناه، ولكننا نستطيع أن نختار بأنفسنا منه ما يلزم حاضرنا ومستقبلنا، ونحن أيضاً بهذا الاختيار نصنع تراثاً لأجيالنا المقبلة.

إن القرآن الكريم قد نهانا عن أن نقف من التراث موقف الانصياع الأعمى والتقديس {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون 24) {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} (الزخرف 22) هذا الموقف يدعو إلى أن نحترم تراثنا لا أن نقدسه. إن الذين صنعوا التراث العربي الإسلامي هم من الناس ونحن من الناس أيضاً، ومعروف قول أبي حنيفة النعمان “هم رجال ونحن رجال”، وقد آن لنا أن نصنع تراثاً لأجيالنا القادمة بملء إرادتنا وبدون حرج، وهذه هي عين المعاصرة.

الأصالة: للأصالة عنصران متتامان، يفهم كل واحد منهما حسب الموضوع المطروح تحت عنوان الأصالة. فإذا قلنا: إن اللسان العربي لسان أصيل، فهذا يعني أنه لسان له جذور غارقة في القدم، وهذا هو العنصر الأول، وأنه ما زال حياً مثمراً إلى يومنا هذا، وهذا هو العنصر الثاني. وهذا المعنى أخذناه من قوله تعالى {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} (إبراهيم 24-25)، فجذر الشجرة وأغصانها هما العنصران المتتامان: الجذور تضرب في الأرض والأغصان تعطي الثمار.

وفي هذا المجال نقول: لقد قام العالم مندليف ببحث أصيل في الكيمياء، حيث وضع جدول العناصر في الطبيعة، وقولنا (بحث أصيل) هنا بمعنى أنه بحث فيه إبداع وابتكار لم يسبقه إليه أحد. ولكن هذا البحث لم يأت من فراغ، بل اعتمد على تراكمات سابقة في المعرفة الكيميائية (الجذور).

فإذا أردنا أن نكون أصيلين في المعرفة فعلينا أن نستفيد من كل تراكمات المعرفة التي أنتجها الانسان، ومن ضمنها التراث في كل العلوم، (الجذور) وهي العنصر الأول للأصالة بحيث نحقق قفزة نوعية (الثمار) وهي العنصر الثاني للأصالة. وهذا ما نسميه بالحضارة الحية، فالحضارة الحية كالشجرة الحية، لها جذور وتعطي ثماراً ينتفع بها الناس، وليس في موسم واحد فقط بل في مواسم متتابعة.

إذا نظرنا إلى الحضارة العربية الإسلامية في الوقت الحاضر، نرى فيها عنصر الجذور متوفراً، ولكن لا يوجد ثمار لأنها جفت ونضبت. فنحن الآن مستهلكون للسلع والأفكار، حتى إن أفكار التراث استلكت ونضبت، ووصلنا في طرحنا لأفكار التراث إلى حد السذاجة في بعض الأحيان. وفي هذا المقام يجب علينا أن نميز بين مصطلحين يقع الالتباس بينهما وهما الأصالة والسلفية، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حي، أما السلفية فهي عكس ذلك تماماً، السلفية، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حي، أما السلفية فهي عكس ذلك تماماً، السلفية كما نفهمها هي دعوة إلى اتباع خطي السلف بغض النظر عن مفهوم الزمان والمكان، أي أن هناك فترة تاريخية مزدهرة مرت على العرب استطاعوا فيها حل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واستطاعوا أن يبنوا دولة قوية منيعة، استطاعت تحقيق العدالة بمفهومها النسبي التاريخي، وبالتالي فإن هؤلاء السلف هم النموذج، ويجب علينا أن نتبع خطاهم ونقلدهم ولا نخرج عن نمطهم. فالسلفي هو إنسان مقلد، إضافةً إلى أنه قد أهمل الزمان والمكان واغتال التاريخ وأسقط العقل.

ويعيش السلفي في القرن العشرين مقلداً القرن السابع، والتقليد مستحيل لأن ظروف القرن السابع تختلف عن ظروف القرن العشرين، فمهما حاولنا الرجوع إلى القرن السابع لا يمكننا أن نفهمه كما فهمه أهله الذين عاشوه فعلاً، لأننا نرجع إليه من خلال نص تاريخي فقط. ولهذا السبب وقع السلفي في فراغ فكري وصل إلى حد السذاجة، فقد ترك القرن العشرين عمداً ليعجز في الوقت نفسه عن أن يعيش القرن السابع كما عاشه أهله، فوقع في شرك الغراب الذي أراد أن يقلد صوت البلبل فلم يستطع، ثم أراد أن يرجع غراباً فنسي، فبقي في حالة عدم التعيين، فلا هو غراب ولا هو بلبل.

وهذا هو حال السلفيين، إن السلفية هروب مقنع من مواجهة تحديات القرن العشرين، وهزيمة نكراء أمام هذه التحديات، وهي البحث عن الذات في فراغ وليس في أرض الواقع. هذا فيما يتعلق بالسلفية الإسلامية، ولكن هناك نوعاً آخر من السلفية نراه عند تيارات أخرى تطرح حلولاً نظرية تعمل في فراغ وفق نموذج متحجر طرح في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واعتبرته مقدساً فلا خروج منه، إنها تيارات سلفية أخرى لا تعيش زمانها ولا تتفاعل معه، وقد أثبتت الأحداث فشل هذا النموذج، وبالتالي لم يكتب لها النجاح ولم تستطع تقديم حلول لمشاكل مجتمعها المعاصرة والملحة.

من هذا المنطلق نصل إلى نقطة مهمة في البحث وهي: هل الكتاب الذي أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم والذي يحتوي على رسالته ونبوته هو من التراث أم لا يدخل في التراث؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد أن نفترض أحد الفرضين التاليين وهما:

1 – أن ما يسمى بالكتاب والموجود بين دفتي المصحف هو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.

2 – أن ما يسمى بالكتاب والموجود بين دفتي المصحف موحى من الله سبحانه وتعالى بالنص والمحتوى، وأن الفصول فيه تسمى سوراً، وأن السور مؤلفة من مقاطع كل واحد منها يسمى آية.

فإذا أخذنا الاحتمال الأول، فهذا يعني أن الكتاب هو من التراث لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من الناس، والناس هم الذين يصنعون التراث، ففي هذه الحالة يمكن أن يصنف محمد صلى الله عليه وسلم مع العظماء العباقرة لا مع الأنبياء والرسل، وهذا ما فعله بالضبط أحد الكتاب الأمريكيين (مايكل هارت) إذ صنف محمداً صلى الله عليه وسلم أول عظيم في التاريخ، وانطلت هذه الخدعة على كثير من المسلمين أنفسهم. فإذا كان الكتاب هو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم فيجب أن يحتوي على الخاصة التالية:

إن أي إنسان عظيم هو من نتاج عصره لا يخرج عن ذلك أبداً، فإذا كان الكتاب من صنع محمد صلى الله عليه وسلم فهو بالتالي غير صالح لكل زمان ومكان، وإنما هو وليد الظروف الموضوعية، حقق قفزة نوعية، فصلح للقرن السابع في شبه جزيرة العرب، ولعدة قرون تلته، ولكنه غير صالح للقرن العشرين لأن الإنسان مهما بلغ من العبقرية فإنه يحمل طابع النسبية الزماني والمكاني. وهذا ما يقوله أعداء الإسلام عن الكتاب، وقد ساعدهم على هذا القول لسان حال المسلمين السلفيين أنفسهم، إذ حجروا الإسلام وفق نمط واحد في قولهم إن الإسلام هو وفق نمط القرن الأول الهجري “صدر الإسلام” وهم يقولون في الوقت نفسه إن الإسلام صلاح لكل زمان ومكان، ومن ها هنا وقعوا في معضلة غير قابلة للحل.

وإن كان هذا الكتاب موحى من الله سبحانه وتعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت نفسه خاتم الكتب، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم فيجب أن يحتوي هذا الكتاب على الخواص التالية:

أ – إن الله سبحانه وتعالى مطلق وكامل المعرفة ولا يتصف بطابع النسبية وبالتالي فإن كتابه يحمل الطابع المطلق في المحتوى.

ب – بما أن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يعلم نفسه أو يهدي نفسه وإنما جاء هذا الكتاب هداية للناس وآخر الكتب فوجب أيضاً أن يحمل طابع النسبية في الفهم الإنساني له.

ج – بما أن نمط التفكير الإنساني لا يمكن أن يتم بدون لغة، فيجب أن يصاغ الكتاب بلغة إنسانية أولاً، وثانياً أن تكون هذه الصياغة لها طابع خاص وهو أنها تحتوي المطلق الإلهي في المحتوى والنسبية الإنسانية في فهم هذا المحتوى، وهذا ما نعبر عنه بثبات الصيغة اللغوية “النص” وحركة المحتوى، ففي هذه الحالة يمكن أن نقول: إن ذا من الله سبحانه وتعالى لأن الإنسان عاجز عن تحقيق هذه الشروط.

فإذا كان هذا الكتاب يحتوي على هذه الخاصية، فعند ذلك تعطى آياته طابع القدسية أو النص المقدس الذي لا يمس ولا يحرف، وإنما يجري تأويله على مر العصور والدهور، وفي هذه الحالة فقط لا يعتبر الكتاب تراثاً، وإنما التراث هو الفهم النسبي للناس له في عصر من العصور، حتى ولو جاء هذا الفهم من عهد صدر الإسلام. أي أن ما حدث في القرن السابع في شبه جزيرة العرب هو تفاعل الناس في ذاك الزمان والمكان مع الكتاب، وهذا التفاعل هو الاحتمال الأول للإسلام (الثمرة الأولى)، وليس الوحيد وليس الأخير، وقد كان هذا التفاعل إنسانياً في محتواه (إسلامياً) قومياً في مظهره.

وفي هذه الحالة يدخل هذا التفاعل ضمن التراث ما عدا العبادات والأخلاق والحدود “الصراط المستقيم” حيث إنها ليست تفاعلاً مع العصر، وقد عبر عن الأخلاق والحدود بمظاهر العصر. أما اللباس والطعام والشراب وأساليب الحكم ونمط الحياة فهي تفاعل مع الشروط الموضوعية، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفاعل الأول، وكان لنا الأسوة الحسنة.

لقد أجرينا مسحاً شاملاً للكتاب الموحى، فتبين لنا أنه يحوي على الخاصية المذكورة أعلاه، والتي لا يستطيع إنسان أن يقوم بها، ووجدنا هذه الخاصية في الآيات المتشابهات، وبالتالي وجدنا أن هناك ثلاثة أنواع من الآيات في الكتاب. ولم نستطع أن نقوم بهذا التصنيف إلا بعد أن تم تحديد الفرق بين النبوة والرسالة. فالنبوة هي مجموعة من المعلومات أوحيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها سمي نبياً، أي أن كل الأخبار والمعلومات التي جاءت إلى النبي بالإضافة إلى المعلومات فأصبح بها رسولاً، فالنبوة علوم والرسالة أحكام. أي نظرية الوجود الكوني والإنساني وتفسير التاريخ هي من النبوة، وهي من الآيات المتشابهات، أما التشريع مع إرث وعبادات، ومعها الفرقان العام “الأخلاق” والمعاملات والأحوال الشخصية والمحرمات فهي الرسالة أي الآيات المحكمات. وهناك نوع ثالث من الآيات وهو الآيات الشارحة لمحتوى الكتاب، فهي لا محكمة ولا متشابهة، ولكنها من النبوة حيث تحتوي على معلومات، لذا فإن الكتاب من حيث الآيات ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 – الآيات المحكمات وهي التي تمثل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أطلق الكتاب عليها مصطلح “أم الكتاب”، وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية ما عدا العبادات والأخلاق والحدود.

2 – الآيات المتشابهات وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح “القرآن والسبع المثاني” وهي القابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وهي آيات العقيدة.

3 – آيات لا محكمات ولا متشابهات وقد أطلق عليها الكتاب مصطلح “تفصيل الكتاب”.

ونحن نرى أن التحدّي للناس جميعاً بالإعجاز إنما وقع في الآيات المتشابهات “القرآن والسبع المثاني”، وفي الآيات غير المحكمات وغير المتشابهات “تفصيل الكتاب” حيث أن هذين البندين يشكلان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد تبين لنا أن هناك فرقاً جوهرياً بين الكتاب والقرآن والفرقان والذكر. فالقرآن والسبع المثاني هما الآيات المتشابهات ويخضعان للتأويل على مر العصور والدهور، لأن التشابه هو ثبات النص وحركة المحتوى. وقد تم إنزال القرآن بشكل متشابه عن قصد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنعاً عن التأويل عن قصد، أي أن القرآن يؤول ولا يفسر، وأن كل تفاسير القرآن تراث يحمل طابع الفهم المرحلي النسبي.

فإذا سأل سائل: هل آية الإرث من القرآن؟ فالجواب: لا، هي ليست من القرآن “النبوة” ولكنها من أم الكتاب “الرسالة” وهي من أهم أجزاء الرسالة وهو الحدود. فهل هذا يعني أنها ليست من عند الله؟‍! لقد جاء الجواب عن المحكم “أم الكتاب” وعن المتشابه “القرآن والسبع المثاني” وعن اللامحكم واللامتشابه “تفصيل الكتاب” بقوله: {كل من عند ربنا} (آل عمران 7) فما الفرق بينها إذاً، ما دام كل من عند الله؟

الفرق هو أن القرآن فرق بين الحق والباطل، أي أعطى قوانين الوجود، لذا قال عنه {هدى للناس} (البقرة 185). وأم الكتاب عبارة ع تشريع، والتشريع يمكن تحويره، لذا قال عن الكتاب {هدى للمتقين} (البقرة 2). فحتى نصدق أن أم الكتاب من عند الله جاء القرآن مصدقاً لها، لذا عندما وضع محتويات الكتاب قال {وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37) أي أن محتويات الكتاب هي القرآن والسبع المثاني وتفصيل الكتاب، والذي بين يديه “أم الكتاب”. فهذه الآية لا محكمة ولا متشابهة لأنها شرحت محتوى الكتاب لذا فهي ضمن آيات تفصيل الكتاب.

لقد أجرينا مسحاً شاملاً للكتاب، وحددنا فيه مفهوم المصطلحات الأساسية وهي: الكتاب وأم الكتاب والقرآن والسبع المثاني والذكر والفرقان وتفصيل الكتاب والحديث وأحسن الحديث والعرش والكرسي والألوهية والربوبية والنبوة والرسالة، وهذه المصطلحات شرحت في الباب الأول من هذا الكتاب.

أما آيات أم الكتاب فقد قال عنها {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد 39). إنها آيات التشريع والعبادات والأخلاق والمحرمات، وتحمل طابع الخصوص في جزء منها، وطابع العموم في جزء آخر، وقد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم حسب الظروف الموضوعية لشبه جزيرة العرب، حيث أن التشريع قابل للتطور، وقابل للإلغاء والاستبدال، {يمحوا الله ما يشاء ويثبت } لذا فإن أم الكتاب هي مناط الاجتهاد والفقه وأول من اجتهد فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم وقد ألغى عمر بن الخطاب تطبيق الآية {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول .. الآية} (الأنفال 41).

يبقى السؤال الهام وهو موقفنا من النبي صلى الله عليه وسلم أو من السنة.

هنا يجب علينا وضع النقاط على الحروف بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهناك موقفان أساسيان متمايزان منه؛ الموقف الأول نبياً مع ما نكن له من عظيم الحب والاحترام والتقدير. والموقف الثاني منه مشرّعاً.

أما الموقف الأول فإني لا أتصور إنساناً مسلماً وعربياً يمكن أن يقف موقفاً سلبياً من النبي صلى الله عليه وسلم لأن مثل هذا الموقف خيانة للدين من قبل المسلم وخيانة للقومية من قبل العربي. ولا أتصور إنساناً عربياً بغض النظر عن دينه يقف موقفاً سلبياً من النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: إنه وطني أو عربي.

أما موقفنا من النبي صلى الله عليه وسلم مشرعاً فهو موقف دقيق جداً. إذ كيف يمكن أن نقول: إن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو الاحتمال الأول لتطبيق الإسلام في القرن السابع، وفي شبه جزيرة العرب، وبالوقت نفسه نقرأ الآية {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب 21).

لقد بحثنا في السنة فوجدنا أن تعريف السنة بأنها “كل قولٍ أو فعلٍ أو إقرارٍ أو نهيٍ قام به النبي صلى الله عليه وسلم” إنما جاء من قبل الفقهاء وليس من قبل النبي نفسه، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يصر على تدوين الكتاب وكان في الوقت نفسه يأمر الناس بعدم تدوين أقواله الشخصية، فمن هذا خلصنا إلى مفهوم معاصر للسنة النبوية، حيث كان دور النبي صلى الله عليه وسلم هو تحويل المطلق إلى نسبي والحركة ضمن حدود الله، في القرن السابع، في شبه جزيرة العرب، وقد نجح في هذا نجاحاً باهراً، وفي هذا المفهوم يكون أول عظيم في التاريخ، وهذه هي سنته على مر العصور والتي وجب علينا التقيد بها، وهي تحويل المطلق إلى نسبي، أي أن باب الاجتهاد في الأحكام لا يقفل، وباب التأويل في القرآن لا يقفل، وكل اجتهاد من قبل الناس في الأحكام “الحركة ضمن الحدود والوقوف عليها أحياناً” أو تأويل في القرآن يدخل في التراث على مر الزمن، لذا فقد خصصنا فصلاً خاصاً في الكتاب للسنة، وأوجدنا تعريفاً معاصراً أصيلاً لها.

بعد أن أجرينا مسحاً للمصطلحات الأساسية لكتابنا في الباب الأول كانت النتيجة المباشرة لهذا المسح هي إعجاز القرآن.

لذا فإن هذا الكتاب التي شرحت معانيها المستعملة في الكتاب “المصحف” يحتوي على الأبواب التالية:

الباب الثاني تحت عنوان “جدل الكون والإنسان”

يحتوي هذا الباب على المواضيع الرئيسة للنبوة “القرآن” وهي الوجود الكوني ومشكلة المعرفة الإنسانية:

أ – الفصل الأول وقد حوى قوانين الوجود الكوني، وهي قوانين الجدل المادي، حيث تبين أن قوانين الجدل المادي وتغير الصيرورة “التطور” هي العمود الفقري لقوانين الوجود في القرآن “النبوة”، وقد تم بحث المتناقضات والأزواج والأضداد في الوجود، فخلصنا إلى قانون تسبيح الأشياء لله. وقد تم في هذا الفصل شرح مفهوم البعث والساعة ونفخة الصور واليوم الآخر والجنة والنار.

ب – الفصل الثاني يبحث في مشكلة المعرفة الإنسانية وهي من المشاكل القرآنية “النبوة”، وقد شرحت تحت عنوان جدل الإنسان، وقد تم شرح مفهوم البشر والإنسان والحق والباطل والغيب والشهادة والقلم والعلق، ومفهوم الفؤاد والقلب والفكر والعقل والمشخص والمجرد.
وقد تبين في بحثنا أن الروح ليست سر الحياة، وإنما هي سر الأنسنة، أي هي التي حولت البشر إلى إنسان.

الباب الثالث تحت عنوان “أم الكتاب والسنة والفقه”

وقد حوى ثلاثة فصول: هي أم الكتاب (الرسالة)، السنة، الفقه الإسلامي.

يشتمل الفصل الأول على (تمهيد في أم الكتاب) تم فيه شرح الصراط المستقيم، وبحث الاستقامة والحنيفية، وعلى ثلاثة فروع:

الفرع الأول: خصص لنظرية بالحدود، حيث أن عالمية الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم وصلاحيتها ورحمتها ومرونتها تكمن في نظرية الحدود، حيث أعطى الله للرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم تشريعات عينية حدية، وختم الرسالات كلها بتشريع حدودي لا حدي، لذا كان محمد صلى الله عليه وسلم بداية الإنسان الحديث والمعاصر، وقد بينا في هذا الفصل أن العبادات تدخل ضمن الحدود ولكنها شخصية وفيها التقوى الفردية.

الفرع الثاني: الفرقان العام “الوصايا العشر” والفرقان الخاص وقد تم فيه تحديد مفهوم الأخلاق والعادات والتقاليد، حيث بينا أن الأخلاق عالمية، والعادات محلية. وقد بينا أن هناك فرقانين: الفرقان العام وهو الذي جاء إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وهو ملزم لكل الناس، وفيه التقوى الاجتماعية، وهو القاسم المشترك لكل الأديان، وهناك فرقان خاص جاء إلى محمد مصلى الله عليه وسلم، وهو غي ملزم لكل الناس وإنما جاء للناس الراغبين بأن يصبحوا أئمة المتقين.

الفرع الثالث: تم فيه بحث المعروف والمنكر وبحث التعليمات الخاصة والمرحلية التي جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم، وبحثنا في خاصية الآيات التي تبدأ بقوله تعالى {يا أيها النبي} علماً بأن الطاعة جاءت للرسالة لا للنبوة {وأطيعوا الله والرسول} (آل عمران 132) وليس في الكتاب آية واحدة فيها (وأطيعوا النبي).

في الفصل الثاني (السنة): تم بحث مفهوم السنة التقليدي. وباستخدام المنهج الجديد المقترح في فهم القرآن والكتاب ونظرية الحدود، تم تحديد مفهوم أصيل ومعاصر للسنة النبوية وتم شرح قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب 21).

الفصل الثالث: اشتمل على ثلاثة فروع. هي:

الفرع الأول: أزمة الفقه الإسلامي؛ لقد تم على ضوء الفهم الجديد للرسالة والسنة تحديد أزمة الفقه الإسلامي المستعصية، وتم وضع أسس جديدة للفقه الإسلامي تجعل منه فقهاً متطوراً مرناً، منسجماً مع فطرة الناس، وصالحاً لكل زمان ومكان، ونظرية الحدود هي التي هدتنا إلى هذا الطرح الجديد لأسس الفقه الإسلامي.

والفرع الثاني: فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات.

والفرع الثالث: الإسلام والمرأة. تم في هذا الفرع تطبيق الأسس الجديدة للفقه الإسلامي المقترح، والمبني على نظرية الحدود، وعلى المفهوم المعاصر للسنة، فنتجت لدينا أحكام جديدة عن المرأة لم تكن في كتب الفقه السابقة.

الباب الرابع: وقد جاء تحت عنوان “في القرآن”

تم انتقاء موضوعين يعتبران من مواضيع القرآن، وهما الشهوات الإنسانية والقصص القرآني. ويحتوي هذا الباب على فصلين:

الفصل الأول: (الشهوات الإنسانية). وقد تم في هذا الفصل تحديد الشهوات الإنسانية وتمييزها عن الغرائز البشرية وقد تم استنتاج أسس النظام الاقتصادي الإسلامي العالمي والصالح لكل زمان ومكان، كما تم استنتاج نظرية الجمال في الإسلام، وتطور مفاهيم الجمال عند الإنسان حتى وقتنا الحاضر، وحددنا موقف الإسلام من سائر الفنون.

الفصل الثاني: “نموذج للترتيل في القصص القرآني”. لقد تم في هذا الفصل ترتيل الآيات المتعلقة بنوح وهود وتم استنتاج المراحل التاريخية للنبوات والرسالات، كما تم وضع شجرة الأنبياء والرسل فتبين أنه ورد في الكتاب “24” نبياً منهم “13” رسولاً فقط.

وفي الخاتمة تم شرح الإسلام، وتعريف الدين الإسلامي تعريفاً عاماً شاملاً إنسانياً.

ما هو المنهج المتبع في هذا الكتاب

من حق القارئ أن يسأل ما هو المنهج المتبع في هذا الكتاب، وكيف تم التوصل إلى هذه النتائج التي لا توجد في كتب السلف؟

إن النهج المتبع هو ما يلي:

1 – العلاقة بين الوعي والوجود المادي هي المسألة الأساسية في الفلسفة، وقد انطلقنا في تحديد تلك العلاقة م أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية، ويعني ذلك أن المعرفة الحقيقية “غير الوهمية” ليست مجرد صور ذهنية، بل تقابلها أشياء في الواقع، لأن وجود الأشياء خارج الوعي هو عين حقيقتها، لذا فإننا نرفض قول الفلاسفة المثاليين: إن المعرفة الإنسانية ما هي إلا استعادة أفكار موجودة مسبقاً. وقد أكد القرآن الكريم هذا المنطلق بقوله: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل 78).

2 – انطلاقاً من هذه الآية التي تقول: إن المعرفة تأتي من خارج الذات الإنسانية فإننا ندعو إلى فلسفة إسلامية معاصرة، تعتمد المعرفة العقلية التي تنطلق من المحسوسات عن طريق الحواس وعلى رأسها (السمع والبصر)، لتبلغ المعرفة النظرية المجردة، في ضوء المنجزات العلمية التي بلغتها الإنسانية في بداية القرن الخامس عشر الهجري، وندعو إلى رفض الاعتراف بالمعرفة الإشراقية الإلهامية الخاصة بأهل العرفان وحدهم أو من يسمون “بأهل الكشف” أو “أهل الله”.

3 – الكون مادي والعقل الإنساني قادر على إدراكه ومعرفته، ولا توجد حدود يتوقف العقل عندها. وتتصف المعرفة الإنسانية بالتواصل، وترتبط بدرجة التطور التي بلغتها العلوم في عصر من العصور. وكل ما في الكون مادي. وما ندعوه الآن (فراغاً كونياً) هو فراغ مادي، أي أن الفراغ شكل من أشكال المادة. ولا يعترف العلم بوجود عالم غير مادي يعجز العقل عن إدراكه.

4 – بدأت المعرفة الإنسانية بالتفكير المشخص المحدد بحاستي السمع والبصر، وارتفعت ببلوغها التفكير المجرد العام. لذا كان عالم الشهادة يعني في البداية العالم المادي الذي تعرف عليه الإنسان بحواسه، ثم توسع ليشمل ما أدركه بعقله لا بحواسه، وعليه فإن عالم الشهادة وعالم الغيب ماديان. وتاريخ تقدم المعارف الإنسانية والعلوم هو توسع مستمر لما يدخل في عالم الشهادة، وتقلص مستمر لما يدخل في عالم الغيب، وبهذا المعنى يظهر أن “علم الغيب” هو عالم مادي ولكه غاب عن إدراكنا الآن لأن درجة تطو العلوم لم تبلغ مرحلة تمكن من معرفته.

5 – لا يوجد تناقض بين ما جاء في القرآن الكريم وبين الفلسفة التي هي أم العلوم، وتنحصر بفئة الراسخين في العلم مهمة تأويل القرآن طبقاً لما أدى إليه البرهان العلمي، وذلك وفق قانون التأويل في اللسان العربي الذي شرحناه بشكل مستفيض في الباب الأول من هذا الكتاب، وفي ضوء أحدث المنجزات العلمية.

6 – إننا نتبنى النظرية العلمية القائلة: إن ظهور الكون المادي كان نتيجة انفجار هائل، أدى إلى تغير طبيعة المادة. ونرى أن انفجاراً هائلاً آخر، مماثلاً للإنفجار الأول في حجمه، سيؤدي حتماً إلى هلاك هذا الكون وتغيير طبيعة بالمادة فيه ليحل محله كون (عالم) مادي آخر. ويعني ذلك أن الكون لم ينشأ من عدم (مع التأكيد أنه لا قديم إلا الله)، بل من مادة ذات طبيعة أخرى. وأن هذا الكون سيزول ليحل محله كون آخر من مادة ذات طبيعة مغايرة، وهذا ما ندعوه “بالحياة الآخرة”.

وانطلاقاً “مما سلف” قمنا بقراءة جديدة للذكر الذي تعهد الله بحفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9) {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل 44) معتمدين على الأسس التالية:

1 – مسح عام لخصائص اللسان العربي معتمدين على المنهج اللغوي لأبي علي الفارسي والمتمثل الإمامين ابن جني وعبد القاهر الجرجاني، ومستندين إلى الشعر الجاهلي.

2 – الإطلاع على آخر ما توصلت إليه علوم اللسانيات الحديثة من نتائج وعلى رأسها أن كل الألسن الإنسانية لا تحوي خاصية الترادف، بل العكس هو الصحيح، وهو أن الكلمة الواحدة ضمن التطور التاريخي إما أن تهلك أو تحمل معنى جديداً بالإضافة إلى المعنى الأول وقد وجدنا هذه الخاصية واضحة كل الوضوح في اللسان العربي.

لقد استعرضنا معاجم اللغة فوجدنا أن أنسبها هو معجم مقاييس اللغة لابن فارس “تلميذ ثعلب” الذي ينفي وجود الترادف في اللغة، فقد تم الاعتماد عليه بشكل أساسي دون إغفال بقية المعاجم.

3 – إذا كان الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، فيجب الانطلاق بمن فرضية أن الكتاب تنزل علينا، وأنه جاء لجيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي حديثاً وبلغنا هذا الكتاب. لذا فإن القارئ يلاحظ بشكل واضح أننا في فهمنا للكتاب نقف على أرضية القرن العشرين دون إغفال التطور التاريخي لتفاعل الأجيال المتعاقبة مع الكتاب “التفاسير والمذاهب الفقهة”، حيث كانت نظرتنا لهذه الأدبيات على أنها تفاعل تاريخي مع الكتاب، ولذا فإنها تدخل ضمن التراث العربي الإسلامي. فالفقه الإسلامي الموروث يعكس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مرحلة تاريخية معينة، والتفاسير تعكس الأرضية المعرفية للمرحلة التاريخية التي كتب فيها التفسير، واعتبرنا أنها لا تحمل طابع القدسية.

وإذا كان هناك تناقض في كتب التفسير فإننا لم نحاول تأويل أقوال المفسر لكي نخرج المفسر بأنه على صواب دائماً، وهذا ما نفهمه من مصطلح القدسية، حيث أن القدسية هي لنص الكتاب فقط.

4 – إن الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة أن يهدي نفسه أو يعلم نفسه ولذا فقد أرسل للناس هدى وليس لنفسه، لذا كل ما جاء في الكتاب قابل للفهم بالضرورة، ويفهم على نحو يقتضيه العقل، وقد جاء بصيغة قابلة للفهم الإنساني هذه الصيغة هي باللسان العربي المبين. وبما أنه لا يوجد انفصام بين اللغة والفكر الإنساني، فإننا نرفض القول بأنه توجد آيات في الكتاب غير قابلة للفهم، ونرى أن هذا الفهم تاريخي نسبي مرحلي.

5 – إن الله سبحانه وتعالى رفع من مكانه العقل الإنساني في معرض خطابه له، لذا فإننا ننطلق مما يلي:

أ – لا يوجد تناقض بين الوحي والعقل.

ب – لا يوجد تناقض بين الوحي والحقيقة “صدق الخبر ومعقولية التشريع”.

6 – بما أن الله سبحانه وتعالى رفع من مكانة العقل الإنساني فالأجدر بنا أن نرفع من هذه المنكانة ونحترمها، وعليه فإننا حاولنا جاهدين في كتابنا احترام عقل القارئ أكثر من احترامنا لعواطفه كما ذكرنا في أول هذه المقدمة.

الهدف من هذا الكتاب ولمن هو موجه

1 – يجب أن يفهم هذا الكتاب على أنه قراءةٌ معاصرة للذكر، وليس تفسيراً أو كتاباً في الفقه. ويجب أن يفهم على أن الهدف منه ليس البرهان على وجود الله أو عدم وجوده، حيث نترك هذا الاستنتاج لعقل القارئ نفسه، ونعتبر أن قضية الإيمان بالله أو الإلحاد هي مسلمة يختارها كل إنسان بنفسه نتيجة معاناة فكرية أو قناعة وراثية معتمدين على قوله تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. الآية} (الكهف 29).

2 – من خلال القراءة الجديدة للذكر تبين لنا أن الفكر الإسلامي يحمل الطابع العالمي الإنساني، ومن هنا كان هذا الكتاب موجهاً إلى كل إنسان عربي أو غير عربي، مؤمن أو ملحد، وإلى كافة الاتجاهات العقائدية حيث نعتقد بأن كل إنسان سيجد شيئاً ما في هذا الكتاب يدخل ضمن قناعاته الخاصة، وقد يجد فيه شيئاً ما كان يبحث عنه.

3 – يلاحظ القارئ أننا قد تجاوزنا في كتابنا هذا ك أنواع التعصب المذهبي والطائفي، وكان رائدنا هو البحث عن الحقيقة بشكل موضوعي، وقد حاولنا جاهدين تجنب التأثر بالأدبيات التي كتبت عن الإسلام سلباً أو إيجاباً.

المراحل التي مر بها تأليف هذا الكتاب

إن الأخلاق الإسلامية تلزم الإنسان بأن يتحلى بالأمانة العلمية، لذا فإني أرى لزاماً علي تعريف القارئ بالمراحل التي مر بها تأليف هذا الكتاب حتى ظهر إلى حيز الوجود.

لقد مر هذا الكتاب بثلاث مراحل أساسية:

المرحلة الأولى: من عام 1970-1980

بدأت هذه المرحلة عندما كنت في الجامعة القومية الايرلندية في دبلن موفداً من قبل جامعة دمشق لتحضير شهادة الماجستير والدكتوراه في الهندسة المدنية، وكانت مرحلة مراجعات، ووضع أسس أولية لمنهج فهم الذكر، وفهم الرسالة والنبوة والمصطلحات الأساسية للذكر. وكانت مرحلة غير مثمرة، حيث تم فيها بحث منطلقات غير مترابطة وعاجزة عن فهم الذكر. وقد كان السبب الأساسي في ذلك هو التأثر بالمدارس التقليدية الموروثة والموجودة في الأدبيات الإسلامية القديمة والمعاصرة، والتأثر بالمنطلقات الموروثة اجتماعياً والتي اعتبرتها من المسلمات. وقد تبين لي بعد عشر سنوات أن هناك شيئاً ما في المسلمات التي نعتبرها من أساسيات الإسلامية ليست كذلك، حيث أننا لم نستطع تقديم نظرة إسلامية أصيلة إلى القرن العشرين ومشاكله، انطلاقاً من هذه المسلمات إلا عن طريق المكابرة واللف والدوران والوقوع في الوهم، وقد تبين لي بعد هذه السنوات من البحث أنني أسير في وهم وفي طريق مسدود وذلك للسبب التالي:

إنني نظرت إلى الإسلام كعقيدة من خلال مدرسة موروثة معتزلية أو أشعرية، وإلى الفقه من خلال مدرسة مذهبية موروثة “الفقهاء الخمسة”. وانتهيت إلى هذه النقطة الخطيرة والقاتلة للباحث العلمي الجاد، وهي أنه لا يمكن لإنسان أن يقفز قفزة أساسية نوعية في المعرفة والبحث إلا إ‍ذا اخترق المدارس الموروثة وخرج عنها، وحرر نفسه من إطارات هذه المدارس، حيث أن المدرسية هي نقطة قاتلة في البحث العلمي. وأعيد إلى الذهن ها هنا ما ذكرته في أول هذه المقدمة من مثال الرسام الذي رسم الوجه المعكوس من المرآة وقصة الشمس التي تدور حول الأرض وأمثل ها هنا لبعض المسلمات الإسلامية الموروثة المشكلة والتي بحثها كثير من المفكرين دون الوصول إلى نتيجة منها؛ ثبات الأعمال والأعمار والأرزاق، سيأتي الكلام عليها مفصلاً في حينه، وإنما يلزم القول هنا: إن الذي حال بين المفكرين عبر مئات السنين وبين حل إشكالية هذه المسائل أنهم كانوا ينطلقون من مسلمات معكوسة.

المرحلة الثانية: 1980-1986

في عام 1980 التقيت بزميلي وصديقي الدكتور جعفر دك الباب. حيث كنا زملاء في الاتحاد السوفياتي في الفترة الواقعة بين 1958 و1964 وكان يدرس اللسانيات، وكنت أدرس الهندسة المدنية. وبعد التخرج افترقنا، وكانت لقاءاتنا عابرة، وفي المناسبات. ولكنه في عام 1980 لاحظ من خلال أحاديثه معي أنني مهتم بأمور اللغة والفلسفة وفهم القرآن، فأطلعني على منطلق أطروحته للدكتوراه في اللسانيات التي قدمها في جامعة موسكو عام 1973 وكان موضوعها حول نظرية عبد القاهر الجرجاني اللغوية وموقعها في اللسانيات العامة، وقد قال لي إنه منذ ذلك الوقت وهو يبحث في أصالة اللسان العربي، وأن اللسان العربي أصل قائم بذاته ولا ينتمي إلى أسرة اللغات السامية.

وقد تعرفت عن طريق الدكتور جعفر على آراء الفراء وآراء أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وآراء عبد القاهر الجرجاني. فعند ذلك الوقت أدركت أن الألفاظ خدم المعاني، وأن اللسان العربي لسان لا يوجد فيه ترادف، وأن المترادفات ليست أكثر من خدعة، وأن البنية النحوية يرتبط بها خير بلاغي بالضرورة، وأن النحو والبلاغة علمان متتامان لا ينفصلان عن بعضهما، وأن الفصل بينهما كالفصل بين علم التشريح وعلم الفيزيولوجيا “الوظائف” في الطب، وأدركت من جراء ذلك أن هناك أزمة حقيقية في تدريس مادة اللغة العربية في المدارس والجامعات.

وانطلاقاً من هذا المنطلق اللغوي، بدأت بمراجعة آيات الذكر بشكل جدي، وانتهيت إلى المصطلحات الأساسية “الكتاب، القرآن، الفرقان، الذكر، أم الكتاب، اللوح المحفوظ، الإمام المبين، الحديث، أحسن الحديث”. وأخذت معنى “رتل” في اللسان العربي، فتبين لي أنه التنسيق والصف على نسق، فأخذت الآيات التي فيها لفظة القرآن، والآيات التي فيها لفظة الكتاب، ورتلتها (صففتها على نسق) واستنطقتها، فتبين لي الفرق بينهما. وقد توصلت إلى هذه النتيجة الهامة في أيار 1982. وبعد ذلك اهتديت إلى الفرق بين الإنزال والتنزيل والجعل.

ومن عام 1984 بدأت أكتب رؤوس أقلام، وأفكاراً رئيسية استنتجتها من آيات المصحف، وكنت أجتمع مع الدكتور جعفر كل بعام في دمشق في شهري الصيف ونناقش معاً الأفكار والآراء الجديدة التي اكتشفتها. وقد استمرت هذه الفترة حتى عام 1986. وكانت حصيلتها أفكارا منفصلة متبلورة ولكنها بحاجة إلى صياغة وربط.

المرحلة الثالثة: 1986-1990

بدأت هذه المرحلة بالصياغة الجدية لهذا الكتاب وربط المواضيع بعضها ببعض. فمن صيف 1986 وحتى نهاية عام 1987 تمت الصياغة الأولى للباب الأول من هذا الكتاب والتي كانت أهم مشكلة فيه، وبعد ذلك تمت صياغة قوانين الجدل العام وجدل الإنسان “نظرية المعرفة”. وقد قمت بصياغة الجدل العام صياغة أولية حتى صيف 1988، وبعد ذلك صغنا معاً أنا والدكتور جعفر قوانين الجدل العام الواردة في بداية الفصل الأول من الباب الثاني من هذا الكتاب، وذلك لدقة المتناهية المطلوبة في صياغتها. وقد طلبت من الدكتور جعفر دك الباب أن يقدم للقارئ المنهج اللغوي في كتابي هذا، ورجوته أن يكتب كتاباً مختصراً يعرف فيه بأسرار اللسان العربي لنشره مع كتابي في مجلد واحد.

ولا يسعني في آخر هذه المقدمة إلا أن أقدم جزيل الشكر والاعتراف بالجميل للدكتور جعفر دك الباب الذي أعتبره بحق أستاذي في اللغة العربية الذي علمني أسرار اللسان العربي وحاورني في كل ما يتصل بموضوعات اللغة العربية واستجاب مشكوراً لطلبي بتأليف كتاب “أسرار اللسان العربي” وقدم المنهج اللغوي لكتابي.

دمشق في كانون ثاني 1990

الدكتور المهندس محمد شحرور

اترك تعليقاً