نتائج الاستبداد على علوم القرآن

7 – نتائج الاستبداد على علوم القرآن

أ – الناسخ والمنسوخ :

ثمة أثر آخر من آثار الاستبداد على علوم القرآن، تهو بحث الناسخ والمنسوخ في التنزيل الحكيم. قال تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 106.

ويقول ابن فارس: النون والسين والخاء أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع الشيء وإثبات شيء مكانه. وقالوا: النسخ: نسخ الكتاب. وقال السجستاني: النسخ، ن تحول ما في الخلية من العسل والنحل إلى خلية أخرى. اهـ. فلنسخ إذن معنيان:

الأول: رفع الشيء وإثبات شيء مكانه. كما في قوله تعالى: {… فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم} الحج 52.

الثاني: رفع الشيء نفسه من مكان إلى آخر، كما في نسخ الكتاب في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} الجاثية 29.

فإذا نظرنا إلى الآية 106/البقرة، نرى أنها تحمل المعنيين جميعا. فهي تعني رفع آية وإثبات آية أخرى مكانها، وفي هذه الحالة تكون الآية المثبتة خيرا من الآية المرفوعة، وتعني رفع ونقل الآية من مكان إلى آخر، وفي هذه الحالة تكون في موضعها الجديد مثلها في موضعها الأول (نسخة طبق الأصل).

ونرى أن الإنسان في الآية يحمل المعنى الأول للنسخ، أي رفع الآية وإثبات آية أخرى مكانها خير منها. كما نرى أخيرا أن النسخ والإنساء يقع على آيات الأحكام (أم الكتاب) ولا يقع على آيات قوانين الوجود المتشابهات (القرآن)، {اللوح المحفوظ} {والإمام المبين}، إذ لا يمكن، بل لا يجوز، نسخ قانون المطر أو قانون الجاذبية أو قانون أحداث التاريخ.

ففي الدستور والقانون، يتم النسخ بمفهومية المماثلة والاستبدال، مع اشتراط أن يكون الاستبدال بخير منها لا بأسوأ منها، ويتم تعديل الدساتير والقوانين في البلاد، في الحالات التالية:

1 – أن تبقى بعض المواد على ما هي عليه، وهذا هو مثلها (نسخة طبق الأصل) ويعدل البعض الآخر لعدم ملاءمته للحياة ولتغير الواقع الاجتماعي، فيؤتي بمواد جديدة ملائمة، وهذا هو خير منها.

2 – أن يندثر مفعول قانون بكامله، ويتم تشريع قانون جديد يتلاءم مع الحياة، وهذا هو {ننسها}. والقانون الجديد لا ينطبق عليه {مثلها} بل ينطبق عليه {خير منها}. أما القانون الذي يندثر فهو لا يندثر هكذا فجأة وبشكل قاطع، بل يبقى في أذهان الناس إلى حين، ويبقى ساري المفعول ضمن فترة انتقالية، ثم يندثر ويبطل ويدخل دائرة النسيان التاريخي.

3 – أن يبطل القانون كلية في شكله ومضمونه، وهذا يدخل في القوانين ذات الخصوصية الشديدة التي جاءت لحالات معينة خلال التاريخ، وينطبق عليها قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله..} غافر 78. فالآية تتحدث عن رسالات وشرائع جاءت قبل محمد صلى الله عليه وسلم في الشكل والمضمون، ثم ألغيت كلية ولم تصلنا إطلاقا، أي دخلت في نطاق {ومنهم من لم نقصص عليك}، وأما الذي قصصنا عيك، فشرائع لم تبطل تماما بل تم تطويرها بالنسخ (مماثلة – تبديل)، وتم إضافة أشياء جديدة إليها لم تكن أصلا موجودة.

ونلاحظ أن المواضيع الجديدة والأحكام التي جاءت في الرسالة المحمدية، جاءت في سورة النساء، ولهذا فنحن نرى أن اسم السورة هنا يعني جمع نشيء وليس جمع امرأة، أي أنها سورة أحدث الأحكام وأجدها عهدا، ونرى أن عدد الآيات التي جاءت فيها ناسخة أو خير من الأحكام التي نزلت على موسى ليس بالقليل. وهناك بعض آيات الأحكام جاءت في سورة النساء ولم يكن الوضع التاريخي زمن التنزيل يسمح بتطبيقها، وإنما سيتم الوصول إليها فيما بعد طبقا لدرجة التطور الحضاري (أي أن تطبيقها سيأتي متأخرا عن زمن نزولها) فهي نساء أيضا من جمع نسيء.

ومثال ذلك الآية رقم 3 في سورة النساء التي تتحدث عن التعددية الزوجية، فالوضع الحضاري للعرب حتى الآن لم يصل إلى مستوى هذه الآية لكي يتبناها، أي أن هناك آيات في الأحكام نزلت إلى محمد (ص) ولم تطبق في حياته ولا بعد مماته حتى الآن وهذا ما يؤكد خاتمية الرسالة المحمدية، وأنها جاءت إلى كل أهل الأرض إلى أن تقوم الساعة، وأنها تتناسب مع التطور (الفطرة).

4 – جاء التطور في الأخلاق تراكميا، فمع تطور الحياة ظهرت القيم الأخلاقية، ثم تراكمت هذه القيم، بمعنى أنها جاءت تكمل بعضها بعضا، وليس لتلغي إحداها الأخرى. فبر الوالدين جاء لنوح، والوفاء بالكيل والميزان جاء لشعيب، وأضيف إلى بر الوالدين، حتى صارت عشرة تحت اسم الوصايا عند موسى، ثم تراكمت عليها بعد ذلك قيم أخرى إضافية تحت أسم الحكمة {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}.

5 – العبادات تراكمية في العدد، موحدة في المضمون، مختلفة في الشكل. فعند نوح لا يوجد صلاة ولا صوم ولا زكاة. ثم تراكمت بعد نوح عدديا، وبقي مضمونها واحدا هو طاعة العبد لربه. واختلف الشكل، فأصبح الصوم صوما عن الطعام مثلا، بعد أن كان صوما عن الكلام في الأصل. وأصبحت الصلاة وضوءا وقراءة وركوعا وسجودا بعد ن كانت دعاء وذكرا.

ولهذا لا يمكن أن يأتي التبديل ضمن الشريعة الواحدة للرسول الواحد، بل لابد أن يكون بين الشرائع المختلفة والرسل المتتابعين. وقد أصاب من فهم أن نسخ الآية هو نسخ الرسالة والشريعة، ولهذا لا يمكن أن يوجد ناسخ ومنسوخ في التنزيل الحكيم الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كله يطرح علينا الأسئلة التالية: هل هناك آيات أحكام فيا لتنزيل الحكيم متماثلة؟ فإذا وجدت فلماذا النسخ؟ وهل هناك آيات أحكام خير من آيات أخرى في التنزيل؟ فإذا وجدت فما هي؟ وأيها الناسخة؟ وأيها المنسوخة؟ وما هي الآيات المنساة؟.

بما أن التطور في التشريع يتجه من المشخص إلى المجرد، متطابقا مع خط سير الإنسانية، فيجب في المماثلة، أن تكون الآية الجديدة مماثلة ومطابقة للآية المنسوخة القديمة، وهنا يأتي معنى النسخ بمعنى نسخة طبق الأصل، أما في حالة {خير منها} فيجب أن تشمل أمرين:

أ‌ – أن تكون الآية المنسوخة عينية مشخصة، والآية الناسخة تقترب من التجريد، لتتناسب مع تطور الإنسانية كما قلنا في الاتجاه من التشخيص إلى التجريد وتتحدثان عن نفس الموضوع.

ب‌ – أن يتجه التشريع فيها نحو التخفيف فيما يتعلق بالعقوبات، وليس نحو التشديد، ونحو توسيع الحلال على حساب تضييق الحرام، الأمر الذي يؤكده قوله تعالى في إرسال عيسى إلى بني إسرائيل إذ كانت رسالته الميل بالتشريع نحو التخفيف {ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم…} آل عمران 50. ونحو توسيع المحارم في حالات البعد عن المملكة الحيوانية واكتمال المجتمع الإنساني المتحضر كمحارم النكاح إذ جرى زيادة عددها في رسالة محمد (ص) لأن فيها تطورا باتجاه المجتمعات المتحضرة. {الذين يتعبون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} الأعراف 157.

فإذا ما تأملنا في التنزيل الحكيم، رأينا فيه الأحكام. البديلة للآيات المنسأة، لكن يبقى علينا أن نبحث حكما خارج التنزيل لنجد الآيات المنسأة نفسها. وإذا ما وضعنا باعتبارنا أن تطور التشريع بطيء، والتبديل نسخا أو إنساء لا يتم خلال شهور أو عدة سنوات، بل يحتاج إلى مئات السنين، خاصة فيما يتعلق بأسس التشريع وعمومياته (وهذا ما تؤكده دساتير العالم، إذ أنها لا تتعدل خلال خمس أو عشر سنوات).

وليس بخصوصياته وتفاصيله (الاجتهاد)، وإذا ما لاحظنا أخيرا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبدا أصحابه ن يضعوا آية من التنزيل مكان أخرى تحت مفهوم الناسخ والمنسوخ، ولم يصلنا بالتواتر أنه أشار إلى هذا المفهوم أو ذكره، يبقى لدينا احتمال واحد، هو أن النسخ والإنساء جاء على شريعة سابقة للرسالة المحمدية، ونرى أنها شريعة موسى وكتابه، بدليل ذكر أهل الكتاب وما أنزل إليهم في التنزيل الحكيم بالعديد من السور، وبكثير من الاستفاضة(1). ونضرب مثالا بالآيات التالية:

  • {… قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} الأنعام 91.
  • {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} البقرة 53.
  • {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} آل عمران 48 – عن المسيح.
  • {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} البقرة 105.
  • {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة 106.
  • {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} المائدة 15.

الكتاب >>>> الشريعة (الأحكام).

مثلها >>>> يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون.

خير منها >>>> ويعفو عن كثير

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم غليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} الشورى 13.

لقد ذهب القائلون بالنسخ إلى أن الآية 2 من سورة النور {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة… الآية} قد نسخت آيتي النساء 15 و16 {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم آذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما}. ونرى أن هذا خطأ، قاد إليه خطأ سبقه، هو الاعتقاد بجواز النسخ في الرسالة الواحدة.

فالآية 15 تتحدث عن فاحشة بين النساء حصرا، عقوبتها الإمساك في البيوت بعد استكمال الشكل بالشهادة، وهي ما نسميه اليوم “السحاق”، والآية رقم 16 تتحدث عن فاحشة بين الذكور حصرا، والفاحشة في الآيتين ليست الزنا، إذ الزنا جماع بين أنثى وذكر دون عقد شرعي، وهو ما استهدفته الآية 2 من سورة النور، ونصت على عقوبته بالجلد.

وذهب القائلون بالنسخ إلى أن الآية 234 من سورة البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والله بما تعملون خبير} نسخت الآية 240 من السورة نفسها {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف، والله عزيز حكيم}. ونرى مرة أخرى أن القول بالنسخ هنا خطأ. فالعجيب العجيب أن تنسخ آية نزلت، آية أخرى لما تنزل بعد. والأعجب منه أن نعلق ما نشاء من الثياب على مشجب النسخ، بعيدا عن كل متواتر موثوق، اعتمادا على اجتهادات وتفاسير هي أضعف من أن يعتمد عليها في إعمال نص قرآني وحكم إلهي، أو في إبطاله ونسخه.

وقد يقول قائل: عن ورود الآية الناسخة في المصحف الذي بين ايدينا الآن قبل الآية المنسوخة، لا يعد برهانا، فترتيب المصحف بسورة وآياته لم يتوخ تسلسل النزول. نقول: هذا الاعتراض يؤدينا ولا يعارضنا، فالترتيب جاء بيده صلى الله عليه وسلم، ومن قبله، وفقا لوحي جبريل الأمين، آيات وسورا، والأخبار المتواترة أفادت بأنه كان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى موقع الآيات من السور، وإلى موقع السور من التنزيل. وهذا أمر في علوم القرآن، كتب القوم فيه وأكثروا، فليرجع إليه من يرغب بالتفاصيل. أضف إلى ذلك، أنك تجد كل الآيات الناسخة بعد الآية 106 من سورة البقرة وليس قبلها، أي بعد ذكر موضوع النسخ.

ويقول قائل: إذا كان ما تقوله صحيحا، فيجب حين ننظر في التنزيل الحكيم أن نرى فيه:

1 – أحكاما من شريعة موسى، يوجد ما يماثلها في أم الكتاب (نسخة طبق الأصل).

2 – أحكاما من شريعة موسى، يوجد خير منها في أم الكتاب (وفي الموضوع نفسه).

3 – أحكاما من شريعة موسى ظلت سارية المفعول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها، ثم نزل في أم الكتاب خير منها، نحا نحو التخفيف والتجريد (الإنساء).

ونقول: نعم نحن نجد كل هذه الحالات في التنزيل الحكيم، تؤكد ما ذهبنا إليه في فهم الآية 106 من سورة البقرة (انظر الجداول في الصفحات التالية).

ونسير مع جدول المقارنة، لنناقش ونوضح ونعلق على كل نقاطه، ولنضيف ما نرى أنه ينفع في التوضيح:

1 – الفرقان هو ما أنزل على موسى في الوصايا، بمثل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام 151، 152، 153. وقد أضاف إليها سبحانه قيما أخلاقية لم تكن معروفة في عهد موسى ولا في شريعته، شكلت مع الفرقان مصطلح الحكمة.

ولما كانت القيم الأخلاقية، أي الحكمة بما فيها من الفرقان، إنسانية عامة ومثل عليا، تحمل الصفة التراكمية رسالة بعد أخرى، وبدأت بنوح {رب اغفر لي ولوالدي}، فهي لوحدها لا تحتاج إلى وحي ولا إلى رسالة.

2 – التشريعات التي أنزلت على موسى {العين بالعين والسن بالسن} تشريعات مشخصة عينية لمجتمع رعوي زراعي عشائري (أسباط)ن لم يقطع شوطا في سلم التطور التاريخي.

{ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون} (البقرة 52)

{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم * ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة 105 – 106).

{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (المائدة 15).

المحارم عند موسى قليلة جدا حيث لم تكن الأخت مثلا من ضمن المحارم كما لم يكن زواج الأبناء من زوجات آبائهم المتوفين من المحارم أيضا (انظر سفر الملوك الأول 2 – 13)

ما أنزل إلى موسى (ص)

ما أنزل إلى محمد (ص) نهائي إلى يوم القيامة

ملاحظات

– وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (البقرة 3).ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (الأنبياء 48).

– شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه… (البقرة 185).

مثلها (نسخة طبق الأصل)

لقد أنزل الله على موسى عليه الصلاة والسلام فرقانا فيه الأسس الأخلاقية هو الوصايا، إلى جانب كتاب هو التشريعات والأحكام.
وأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هذا الفرقان في آيات ثلاث من سورة الأنعام 151-152-153. وانظر كيف يشير تعالى إلى ذلك بعد هذه الآيات الثلاث بقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن…الآية) الأنعام 154.

– .. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى .. (الوصية الثامنة من الفرقان – الأنعام 152).

– يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء 135).

نسخ خير منها

نلاحظ أن وصية الأنعام فيها العدل ولو كان ذا قربى، أما آية النساء فهي خير منها لأنه أضاف ولو على أنفسكم، وأضاف الوالدين ثم الأقربين. والتقيد بهذه الآية يحتاج إلى شعب وصل إلى مستوى حضاري رفيع جدا، لأنها غير قابلة للتطبيق في مجتمع يقوم على الأسرة والعشيرة كمجتمعنا الحاضر، لذا فقد جاءت الآية في سورة النساء للدلالة على أنها ستطبق في مرحلة لاحقة (نسيء) من التطور.

– ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده (الأنعام 152).

– وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوبا كبيرا * وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا (النساء 2، 3).
– وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغو النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيبا (النساء 6).
– إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (النساء 10).

نسخ خير منها

– وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فألوئك هم الظالمون (المائدة 45).
(انظر لمزيد من المقارنة المادة 196 و197 و200 و229 و230 من شريعة حمورابي) العرب واليهود في التاريخ –أحمد سوسة- دار العربي 1975 ص 370.

– كتبنا عليهم فيها أن لنفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزلا لله فأولئك هم الظالمون (المائدة 45).

مثلها (نسخة طبق الأصل)

ضمير عليهم هنا يعود على اليهود. أما المكان الذي كتبنا عليهم فيه هذا الحكم فهو كتاب موسى، بدلالة سياق ما قبل الآية في قوله: (… بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء…) المائدة 44.

– وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن ولاجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. (المائدة 45).
(انظر لمزيد من المقارنة سفر اللاويين 24 وسفر الخروج 21 وسفر التثنية 4 و19 في كتاب العهد القديم).

– ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (الإسراء 33).
– وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليما حكيما * ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (النساء 92 و93).

نسخ خير منها

لقد فرق كتاب موسى (ص) بين القتل العمد والقتل الخطأ، تمام كما فرق كتاب محمد (ص) بينهما، إلا أنه مال في العقوبة بالرسالة المحمدية نحو التمخفيف، فجلعها في أدنى درجاتها صيام شهرين متتاليين لمن لم يجد الدية، بينما كانت في كتاب موسى تصل إلى النفي لإحدى ثلاث مدن بعينها، وهذا يأخذنا قياسا إلى قلع العين وكسر السن المتعمد وعقوبته المثل قصاصا كما في الآية، أما القلع والكسر الخطأ فبدفع مرتكبة تعويضا ماديا.

– وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم… (الأنعام 146).
– وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه… (الأنعام 138).

– قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفحا أو لحم خنزير… (الأنعام 145).
– .. أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم، إن الله يحكم ما يريد (المائدة 1).

نسخ خير منها

انتقل من العيني المشخص في التحريم إلى التوسيع والتخفيف، أي من الحدي إلى الحدودي بذكر الحد الأدنى من المحرمات وإطلاق التحليل. أما ما زاد عن ذلك فهو اجتهاد إنساني مسموح، كمنع المخدرات والسموم.

– فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.. (النساء 160).
– كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل.. (آل عمران 93).
(وانظر سفر التثنية لمزيد من تفصيل ما حرم الأحبار على أنفسهم وعلى بني إسرائيل زاعمين أنه من عند الله).

– اليوم أحل لكم الطيبات… (المائدة 5).
– يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات… (المائدة 4).
– يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم… (البقرة 172).
– يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم … (المائدة 87).

نسخ خير منها

الانتقال هنا واضح من التشخيص إلى التجريد العمومي المطلق في ربط التحليل بالطيبات عموما، بعد أن أوضح سبحانه الحد الأدنى من المحرمات، وإعادة حكم التحليل إلى ما كان عليه، قبل أن يظلم الذين هادوا أنفسهم.

– إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة… سفر التثنية 22.
اكتفينا هنا بهذا الشاهد، رغم تعددها في أسفار العهد القديم وبخاصة الخروج واللاويين والتثنية.

– الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر… (النور 2).

إنساء خير منها

بقيت الآية حدية، لكنها اتجهت نحو التخفيف، يجعل الشكل أهم من المضمون حتى كاد يطغى عليه ويلغيه، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الرجم للزاني المحصن كمرحلة انتقالية، لتشابه المجتمع العربي وقتها مع المجتمع اليهودي، إلى أن يأتي يوم ينسى فيه الناس هذا الحكم، ويصبح تاريخا عندهم.

– لا تضاجع ذكرا مضاجعة امرأة، إنه رجس. سفر اللاويين 18.
– إذا اضطجع رجل من ذكر اضطجاع امرأة فقد فعل كلاهما رجسا. إنهما يقتلان. ودمهما عليهما.

– واللذان ياتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما (النساء 16).

إنساء خير منها

انتقل الحكم في اللواط من الحدي المشخص، إلى الحدودي المجرد الذي يترك مفهوم الإيذاء لمقتضيات المجتمع وظروفه، فمال بذلك نحو التخفيف، والتخفيف ليس إقلال من شأن الجرم أو تسويفا له كما قد يتوهم البعض، لكنه استبدال للعقوبة بحد أخف، يؤدي في الوقت نفسه الغاية من الردع، مع رقي الإنسان الحضاري، وزيادة وعيه، وقد فتح عقوبة الإيذاء بشكل واسع بحيث تحوي كل عقوبة ممكنة عدا القصاص والإعدام، وأسقط الشكل نهائيا وتركه للمجتمع لتحديده.

الإرث / لا توجد أحكام عند موسى

– “يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (*) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (النساء 11 و 12)


– يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

مواضيع جديدة

(الإرث من الأحكام التي لم تأتي إلى رسول قبل محمد (ص) و هي لذلك آية حدودية مباشرة)

السحاق / لا توجد أحكام

وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (النساء 15)

مواضيع جديدة

أضاف فاحشة جديدة لا توجد عند موسى و هي السحاق و بذلك أغلق (ختم) الفواحش كلها

في كتاب العهد القديم).

– ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا * حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف، إن الله كان غفورا رحيما * والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم، كتاب اله عليكم، وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليما حكيما (النساء 22 و23 و24).

نسخ خير منها

أضاف محارم جديدة في النكاح، وذلك لتوسيع دائرة الأسرة، وفي هذا تطور حضاري نحو الأمام، فزيادة عدد المحارم تؤدي إلى ترقي الإنسانية للأمام، وقد زاد النبي (ص) عددها من عنده، لأنها آية حدودية تمثل الحد الأدنى من محارم

ملاحظات تتعلق بالجداول

1 – إن بحث الناسخ والمنسوخ يبين لنا مدى صحة ما ذهبنا إليه في كتابنا الأول، حول أن القرآن مصدقا لما بين يديه، وأن الذي بين يديه هو أم الكتاب (الرسالة) وليس التوراة والإنجيل. وبما أن جزءا من رسالة محمد بن عبد الله جاء من رسالة موسى (مثله) فقد قال تعالى: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا} النساء 47.

هذا ما يؤكد أن التصديق دائما للأحكام، ونرى أيضا أن كتاب موسى ذكر في التنزيل الحكيم أكثر مما ذكرت التوراة (نبوة موسى) وبما أن القصص جزء من التوراة فيه اختلاف لذا قال تعالى (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} النمل 76 – والغريب أن القرآن أكد أن هناك خلافات في قصص التوراة ومع ذلك اعتمدها المفسرون في تفسير القصص القرآني.

أما التوراة كنبوة فجاءت هدى للناس من قبل القرآن وجاء القرآن هدى للناس ونسخها كلية. أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد نسخت كلية شريعة موسى، لأنها حوت كل التعديلات والإضافات النهائية لكي تكون لكل زمان ومكان والرسالة الخاتم، فلا غرابة أنها سارية المفعول الآن في كل العالم المتحضر بدون أن يعلموا ذلك، وقد حوى النسخ كل الحالات الممكنة على سلم التطور التاريخي إلغاء ومماثلة وتعديلا وإضافة.

2 – إن الآية المنساة هي حكم عند موسى نسخ بحكم خير منه في أم الكتاب استعمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل حكم استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهو في كتاب موسى وجاء خير منه في رسالته {أم الكتاب} فهو من الأحكام المنساة والأنساء تاريخي بحت. أي يدخل في مفهومنا المعاصر تحت عنوان “الأحكام الانتقالية”. العلاقات الحضارية، ولهذا جاء التشريع مشخصا غلب المضمون فيه الشكل. والإنسان في مجتمع مثل هذا، يفهم أن القتل هو القتل، ولا يفرق بين العمد والخطأ، ولهذا جاءت شريعة موسى لا تفرق بينهما.

ولما كانت الشريعة المحمدية هي الخاتم لكل الأزمنة والناس، فقد أبقت على هذه الآية للمجتمعات التي لم تقطع شوطا في سلم الحضارة، وجاءت بخير منها للمجتمعات المتحضرة (حكم للقتل العمد وحكم للقتل الخطأ)، أي أنها أخذت بعين الاعتبار أن التطور الحضاري للمجتمعات الإنسانية لا يسير بنفس الخطوة وبنفس المعدل عند جميع أهل الأرض، فالمجتمعات البدائية تأخذ بشريعة موسى (المضمون غالب على الشكل).

كما يمكن في المجتمع الواحد تطبيق شريعة موسى، عندما يكون بدائيا، ثم ينتقل مع التطور ومع الزمن إلى ما هو خير منها، ويتحول الحكم من حدي إلى حدودي، ويتوسع الاجتهاد الإنساني. وهنا نرى مفهوم الخاتمية واضحا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومفهوم الصلاحية لكل زمان ومكان، وللعالمين كافة، إذ كلما تقدمت المجتمعات على سلم الحضارة كلما أخذت الصلاحية في الاجتهاد والتشريع لنفسها ضمن حدود الله، وكلما توسعت في الحنيفية.

ونلاحظ الآن أن كل شعوب الأرض وخاصة المتحضرة تقلد، وبدون أن تقرأ التنزيل الحكيم، في تطور قوانينها وتشريعاتها الخط ذاته الذي جاء في التنزيل الحكيم، النسخ كنسخة طبق الأصل لبعض المواد والنسخ بمعنى الإبدال لمواد أخرى وإلغاء مواد قديمة وإضافة مواد جديدة، ومرة أخرى تظهر صلاحية التنزيل الحكيم في بنيته لكل أهل الأرض (الفطرة).

3 – آية القصاص في القتلى (البقرة 178) آية عينية لها ظروفها الموضوعية في التطبيق، هي حالة القتال العشائري – القبلي ضمن المجتمع الواحد، لإنهاء قوانين الثأر المقيتة، وهي في المجتمع المتحضر غير قابلة للتطبيق، لانتفاء هذه الظروف الموضوعية، فمن مؤشرات الحضارة في المجتمع، اختفاء التعصب السلبي الممقوت للأسرة والعشيرة والقبيلة.

أضف إلى أن المضمون في الآية يغلب الشكل، بينما في المجتمعات المتحضرة الشكل والمضمون متلازمان في العقوبات. فأنت لا تفرق في المجتمعات المتحضرة بين العقوبة (المضمون) وبين الشروط الواجب تحقيقها لتوقيع العقوبة (الشكل)، التي تتضمن مثلا بالنسبة للقتل، التحقيق والتحليل المخبري والبصمات والشهود وتحديد العمد والخطأ أو الدفاع عن النفس، فبدون هذا الشكل لا تقوم عقوبة، وهذه من سمات المجتمع المتحضر. فإذا سأل سائل: وهل هناك في المجتمعات المتحضرة حولنا الآن محل لتطبيق هذه الآية؟ أقول: نعم. في حالات خاصة جدا، أبرزها الجريمة المنظمة (المافيا) التي تعاني منها معظم المجتمعات المتحضرة إن لم يكن كلها.

فهناك مجرمون يعرفون أن من سمات المجتمع المتحضر في العقوبات تلازم الشكل والمضمون، فينفذون جرائمهم، ويخططون كيلا تستطيع السلطات استكمال الشكل، فيفلتون من العقاب، وهناك مجرمون تعرف السلطات تماما بأنهم قتلة (مافيا) ولكن الشكل غير مكتمل لإنزال العقوب بهم، لهذا كله، فإن آية القصاص في القتلى التي أخذت بالمضمون وأهملت الشكل، وقال عنها تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} هي البلسم الشافي للقضاء على المافيات والجريمة المنظمة قضاء مبرما، أقول الجريمة المنظمة ولا أقول الجريمة العادية، لأن للجرائم العادية حكمها المختلف في تلازم الشكل والمضمون.

4 – تبدأ سورة المائدة 45 بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين…} وتنتهي بقوله تعالى: {… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}. والظلم، وضع الشيء في غير مكانه عنوة، فهو الظلم المقصود مع سابق الإصرار والترصد، أو جهلا وخطأ، فهو الظلم غير المقصود. فلماذا وصف تعالى عدم الحكم بما أنزل الله بأنه ظلم؟

لقد ذكر الظلم هنا، لأن مبدأ العين بالعين والسن بالسن عقوبة عينية مشخصة تغلب فيها المضمون على الشكل، وتطبيقها على المجتمعات المتحضرة، وضع للشيء في غير مكانه، وهذا هو الظلم. كذلك تطبيق مبدأ تحرير الرقبة أو صيام الشهرين في القتل الخطأ على المجتمعات البدائية الرعوية التي لا تعرف سوى المشخص، وضع للشيء في غير مكانه، وهذا هو الظلم.

فالظلم هو وضع آيات الأحكام والعقوبات في غير مكانها، لأ الحياة وحدها والتطور التاريخي الحضاري في المجتمع، هو الذي يقرر الآية التي ستطبق عنده، وهو الذي يحدد حالات القصاص أو العقوبات الحدودية أو الحدية التي سيعتمدها، والذي يحدد هذه الأمور في المجتمع هم الأحياء المشرعون، ولا يحتاجون معه إلى قول صحابي من أربعة عشر قرنا. فتطور الحياة ومقتضياتها هي المعلم، وآيات الأحكام جاءت لتلائم التطور في الزمان، واختلاف التطور باختلاف المكان، وهنا أيضا تكمن خاتمية الرسالة المحمدية.

أما أن نجتزئ قوله تعالى: {… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} من سياقه، ونرفعه شعارا نضع خلفه أحاديث الآحاد، والأم، وشرح الباري، والفتاوى، و(هكذا أجمع العلماء) و(هكذا اتفق الجمهور)، نكون قد ظلمنا أنفسنا، وظلمنا الناس معنا، ووصلنا وأوصلناهم إلى طريق مسدود، ونكون قد مارسنا الاستبداد بتقديم اجتهادات إنسانية تحت اسم الشريعة الإسلامية، اجتهادات جاءت لمرحلة معينة من التاريخ، ولا يمكن تطبيقها على مراحل أخرى إلا بالإكراه.

علينا أن نعي ذلك، ولا نهدر أموال الناس وأنفسهم تحت شعارات ظاهرها الرحمة {ما أنزل الله} وباطنها العذاب (فرض علوما لسلف على الأحياء المعاصرين، وإيقاف حركة التاريخ والتطور).

أما قوله تعالى: {… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وقوله تعالى: {… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} فقد جاء قوله الأول تذييلا لآية المائدة 44 {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هما لكافرون}.

وواضح من الآية أنها خطاب للنبيين والربانيين والأحبار من اليهود، الذين أضافوا اجتهاداتهم إلى شريعة موسى، وعطوها منزلة ما أنزل الله في كتابه، وانطبق عليهم قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا}. ولهذا نعتهم بالكفر، لأن الذي يضيف أحكاما إنسانية، ويعطيها نفس قيمة ما أنزل الله في كتابه، أو يدعي أنها عين ما أنزل الله في كتابه، يرتكب الكفر بعينه، ولذا قال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.

وجاء قوله الثاني تذييلا لآية المائدة 47 {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. وواضح أن الآية تحكي عن أهل الإنجيل حصرا. فلماذا هذا الحصر بأهل الإنجيل ونحن نعلم أن الكتاب المقدس عند المسيحيين هوا لعهد القديم والعهد الجديد، الذي يحتوي على {الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}، ولماذا خص الإنجيل بالذات من هذه المركبات الأربعة؟

السبب هو أن الذي وضع الأطر للديانة المسيحية هو بولس وليس عيسى بن مريم. فإذا تصفحنا الإنجيل، نجد في نهايته رسائل بولس. وعندما أرسى بولس أسس الديانة المسيحية، التي كانت سائدة عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم 610 – 632م، نجد أنه ألغى تماما شريعة موسى، أي ألغى المركب الأول من المركبات الأربعة، وجعل الديانة المسيحية مستقلة تماما عن الديانة اليهودية، وأقامها ديانة دون تشريع، أي عبادات وأخلاق فقط، وأصبح المسيحيون يقرؤون العهد القديم للتلاوة فقط، وأبطلوا التقيد نهائيا بشريعة موسى، رغم أن الإنجيل الذي هو نبوة عيسى أمرهم باتباع شريعة موسى وكتابه مع بعض التعديلات، لأن الإنجيل لا يوجد فيه تشريع، ففعلوا عكس ما فعله اليهود، وتركوا الشرائع وخرجوا عن طاعة الله في أحكامه.

ولهذا قال عنهم {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. لذا فإن استعمال ذيول هذه الآيات ونهاياتها إطلاقا على المسلمين، مقطوعة من سياقها، ظلم فادح، ووضع هذه المقتطفات (ظالمون – كافرون – فاسقون) شعارا سياسيا تحت اسم حاكمية الله، خطأ يؤدي بصاحبه وبالناس إلى طريق مسدود.

5 – يتضح أمامنا مع الآية 2 من سورة النور، بما فيها من حكم على الزانية والزاني، مفهوم الإنساء تماما، فالأحكام المنسأة، أحكام طبقتها شرائع سابقة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومع التطور التاريخي، ومع الصعود في سلم الحضارة، ستلغى هذه العقوبات والأحكام وتستبدل بأخف منها.

كما حكم الزنا في شريعة موسى الإعدام، وهنا نفهم سبب عدم ورودها في التنزيل الحكيم، مع أنها العقوبة الأشد، ونفهم لماذا طبقها النبي صلى الله عليه وسلم. فحكم الرجم جاء لمجتمع ذكوري رعوي عشائري قبلي، والمجتمع العربي في حياته صلى الله عليه وسلم لا يختلف كثيرا عن هذه الصفات. ولهذا طبق شريعة موسى في رجم الزاني المحصن، مع علمه إنها لم ترد في التنزيل، لأنه سيأتي يوم على سلم الحضارة ينسى فيه الناس أن هناك عقوبة رجم (إعدام)، وتبقى عقوبة الجلد الأخف، التي يتغلب فيها الشكل على المضمون.

هذا كله يوضح لنا معنى الإنساء بأنه تاريخي بحت، ويوضح لنا أن الله سبحانه لم يعط الحق لأحد من خلقه بأن يضع تشريعات أبدية إلى أن تقوم الساعة، ويوضح لنا أن الأحكام التي طبقها صلى الله عليه وسلم ولم ترد في التنزيل، صحيحة مئة بالمئة، وصحتها تاريخية مرحلية انتقالية، عدا الأخلاق ولعبادات فهي ليست أحكاما. وهنا نضع أيدنا على المفهوم الحقيقي للسنة النبوية وسبب منع كتابتها، لأن الناسخ والمنسوخ أعطانا برهانا بأن الله لم يعط الحق لأحد بالتشريع إلى أن تقوم الساعة، بل أعطى الحق في تشريعات ظرفية مرحلية. وهنا تكمن أيضا الأسوة الحسنة بالرسول في تعليمنا الاجتهاد كتشريع مرحلي ظرفي تاريخي.

6 – لقد أثر الاستبداد السياسي على تدعيم مفهوم أن الناسخ والمنسوخ يقع في التنزيل الحكيم، متكئا على أن معنى كلمة (آية) هو الجملة القرآنية بين فاصلتين، وذلك للأسباب التالية:

أ‌ – لقد حث التنزيل الحكيم على مكافحة الظلم أيا كان مصدره، وكان لابد للاستبداد لكي يضع حدا للمعارضة الداخلية الشديدة والحروب الأهلية، من إيجاد مخرج في التنزيل نفسه وفي السنة القولية. ترسخ الاستبداد بشكله النهائي، ابتداء من عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله: (لا أخلع ثوبا ألبسنيه الله…) مرورا بعبد الملك بن مروان في قوله: (لا أسمع رجلا يقول بعد اليوم اتق الله إلا ضربت عنقه) وإنهاء بأبي جعفر المنصور ومن بعده في قوله: (إنما نحكم فيكم بسلطان الله).

وكان لابد لصرف المعارضة، أو على الأصح من بقي منها، عن المجال الداخلي إلى المجال الخارجي، فكان أن تم نسخ 120 آية من آيات الجهاد بآية السيف(2)، وكان أن لبس الجهاد لبوس القتال والغزو الخارجي، وكان أن قام الفقهاء بتقسيم الكون إلى دار إسلام ودار كفر، وأن الجهاد حصرا هو الذي يتم بينهما، وأن دار الإسلام هي التي تقام فيها شعائر العبادات علنا (أذان، صلاة، صوم)، وكأن الإسلام هو هذه العبادات، وتغاضوا عن ظلم الحاكم وفسقه، واعتبروها مقبولة من الحاكم، وإتيانه لها لا يوجب العزل(3).

وعزوا ذل إلى الإجماع وإلى الجمهور وإلى أحاديث الآحاد، وعلى رأسها حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بوجوب السمع والطاعة للأمير، وإن ضرب الظهر وأخذ المال(4). وحديث نافع، عن عبد الله بن عمر حين جاء عبد الله بن المطيع بعدها كان من أمر الحرة(5) يلومه على خلع يزيد والخروج عليه(6).

أما التناقضات الداخلية فقد اخترع لها الفقهاء عقابا هو القتل تحت اسم الحرابة، أخذوه ظلما من قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} المائدة 33. إذ لما كانت السلطة المستبدة قد أخذت شرعيتها من الحق الإلهي في الحكم، ومن قضاء الله وقدره، ومن خلافة الله في الأرض، فكل محاربة للاستبداد هي محاربة لله ورسوله، وجزاؤها كما هو وارد بالآية.

ب‌ – لقد تم الضرب بالشورى عرض الحائط، فقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} لا يعني الحاكم المستبد لا من قريب ولا من بعيد، إذ هو، كما يرى الفقهاء، غير ملزم بالشورى، حتى لو استشار فرأى الأكثرية غير ملزمة له، إن شاء أخذ وإن شاء ترك!!

ج – كما تم خنق الفكر والمعارضة الفكرية تحت اسم الزندقة تارة، والردة تارة أخرى، والخروج أو الاعتزال تارات متفرقة، وليس الإمام ابن حنبل، وعبد الله بن المقفع، وابن تيمية، إلا أمثلة حية في تاريخنا، هي غيض من فيض، عن خنق الفكر والقلم والمعارضة.

من هنا نرى أن حرية التعبير عن الرأي، والاحتجاج بالوسائل السلمية المتاحة، لا تعتبر فسادا في الأرض. ونرى في البنود التالية أمثلة لما يدخل تحت هذا الباب:

  1. ترويج المخدرات والمتاجرة بها.
  2. تصريف وبيع الأطعمة الفاسدة التي لا تصلح غذاء للإنسان.
  3. ترويج الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض، وإشاعة الفاحشة بالكتب والأفلام والصور الخلاعية.
  4. تسميم المياه والنباتات والمواشي.
  5. بيع أسرار الدولة للعدو.
  6. تخريب الطرق والجسور والمنشآت العامة.
  7. تخريب الاقتصاد الوطني بإشاعة الكسب غير المشروع ونشر الرشوة.

هذه الأمور يمكن مناقشتها في مجتمع ديموقراطي متعدد الأحزاب، ووضع تشريعات لها تخضع للتصويت والتعديل، مع التأكيد على أن حقوق الإنسان والمطالبة بها لا تدخل تحت باب الفساد في الأرض، ولا تخضع أصلا للتصويت.

7 – أود ختاما، أن أؤكد على حقيقة أن العلم والحرية توأمان لا ينفصلان. فكما أن تاريخ العلوم هو تاريخ أخطائها لا تاريخ صوابها، كذل فإن التاريخ الإنساني هو تاريخ أخطاء المجتمعات الإنسانية، فالعبرة تأتي من الخطأ لا من الصواب. ولهذا السبب في رأينا، أخذ القصص القرآني هذا الحيز الكبير في التنزيل الحكيم، لكي يستنتج الأحياء العبرة من أخبار من طوى التاريخ أخطاءهم، فالتاريخ هو المعلم الأول في العلوم الإنسانية. والذي لا يقرأ التاريخ، عليه أن يعيشه مرة أخرى ليكتشفه من جديد، وحتى لا تحصل هذه الحالة، نبهنا سبحانه بقوله: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب…} يوسف 111.

فالعبرة تكون في تحليل الأحداث وليس في مجرد سردها، وأي شخص يستطيع أن يسرد أحداث التاريخ، ولكن ليس كل شخص يستطيع تحليلها، ولهذا خص سبحانه أولي الألباب بالعبرة من القصص ولم يقل (عبرة للناس).

وقد يسأل سائل: أليس في تاريخنا صفحات ناصعة، وآراء صائبة؟؟

أقول: بلى، يوجد!! لكن الصفحات الناصعة والصواب لا تدخل في موضوع العبرة، وضمن ما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا كيلا تعاد الأخطاء وتتكرر. إن من يدرس التاريخ، عليه أن يبتعد عن الأمور التالية:

  1. ألا يعتبر نفسه قاضيا في محكمة، يصدر الأحكام على أناس التاريخ وشخصياته، فنحن لسنا قضاة، لنحاكم زيدا فندينه، أو نحاكم عمروا فنبرئه.
  2. ألا ينصب من نفسه مدعبا عاما يوجه الاتهامات.
  3. ألا يعتبر نفسه محاميا يدافع عن المتهمين.

هذه الأمور الثلاثة ليس لها إيجابيات في قراءة التاريخ ودراسته، بل كلها سلبيات، فهي تزكي الصراع المذهبي والطائفي، وتوجه الاتهامات لزيد، وتنبري للدفاع عن عمرو، وتدين شخصا وتبريء شخصا آخر. أما الصواب عندي، فهو أن نقرأ التاريخ واضعين أمامنا قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسئلون عما كانوا يعملون} البقرة 134 و141. إلى جانب قوله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب…} يوسف 111.

إننا نتمنى على كل الحركات السياسية والفكرية في الوطن العربي، أن تتقدم إلى إنساننا العربي، بمفصل يحوي جميع النقاط والأمور التي وصلت فيها من واقع خبراتها وممارساتها إلى طريق مسدود. لقد سمعنا الكثير الكثير عن أمجاد وانتصارات، ولم نسمع أبدا عن خيبات وعثرات، لأن هذه هي التي سيخلدها التاريخ، وهذه هي التي ستزود الأجيال القادمة بمناعة تدفع بها إلى القرارات والسياسات الصحيحة، فتتعلم الدروس من الأخطاء والفشل، حين لا تستطيع أن تتعلمها من النجاحات والأمجاد.

ثمة قاعدة في البحث العلمي تقول، عندما يقوم باحث في أحد فروع العلم ببحث، يتضح بعد عدة سنوات خطؤه، ويصل به إلى طريق مسدود، يتهم تقديم هذا البحث إلى المؤسسات العلمية، وينال الباحث عليه درجة علمية، رغم أنه خطأ، معتبرين أن إيجابيته تكمن في أنه دل الآخرين على أن المنهج الذي سلكه في بحثه أوصله إلى طريق مسدود، على الآخرين اجتنابه في أبحاثهم المقبلة. فهل من يدلنا على المناهج التي توصل صاحبها إلى طرق مسدودة، كي تتجنبها الأجيال القادمة؟؟

يتبين لنا، في الختام، أن علم الناسخ والمنسوخ، كجزء من علوم القرآن، كما ورد لنا من أدبيات التراث، هو وهم من أوله إلى آخره. ونحن نعجب أن السلف، لم يهتم به بشكل جدي ومسؤول كما اهتم بتحقيق أحاديث الآحاد؟!!

(1) قولنا إن الأساس في التشريع قبل محمد صلى الله عليه وسلم هو كتاب موسى وشريعته، فلأن عيسى المسيح جاء ليأخذ بشريعة موسى نحو التخفيف، وليحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم، وهو ما فصلته الآية 146 من سورة الأنعام (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها… الآية}.

(2) انظر “كيف نتعامل مع القرآن” للشيخ محمد الغزالي – دار الوفاء للطباعة والنشر 1992 ص 82.

(3) انظر “الأم” للإمام الشافعي.

(4) انظر صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ج3، ص1477، الحديث 52 من كتاب الإمارة.

(5) اسم الغزوة التي قام بها يزيد بن معاوية على المدينة المنور لإرغام أهلها على بيعته، ثم استباحتها ثلاثة أيام، وافتضاض ألف عذراء فيها. وانظر تاريخ الرسل والملوك للطبري.

(6) انظر صحيح مسلم، ج3، ص1478، الحديث 58 من كتاب الإمارة.

اترك تعليقاً