ظهرت في الآونة الأخيرة عدة برامج تلفزيونية بعنوان (القصص القرآني) تناولت القصص القرآني بأسلوب روائي عاطفي لا يخلو من الأسطورة، ولا يمتلك جديداً على مستوى الطرح الفكري، وإنما هو إعادة إنتاج قراءة موروثة للقصص بتقنيات حديثة. إذ تم دمج التاريخ والدين والأسطورة معاً، بحيث يصعب تحديد الهدف القرآني من ورود القصص، علماً بأن القصص يشكل نصف القرآن إن لم يكن أكثر.

وقد شرحنا سابقاً بأن القرآن جاء من فعل (قَرَنَ)، ونرى أنه قَرَنَ أحداث التاريخ من (إمام مبين) مع أحداث الكون في (لوح محفوظ)، أي أن القصص القرآني يشكل واحداً من موضوعين أساسيين وردا في القرآن (النبوة) في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3)

فما هو أحسن القصص؟ وما هو القصص من حيث الأصل؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا الجزء من كتابنا هذا (القصص القرآني)، والأجزاء التي تليه.

السؤال الذي يطرح نفسه من خلال قراءتنا للقصص في القرآن هو: هل القصص القرآني كتاب في التاريخ يروي لنا أحداث تاريخية كمؤرخ أم كفيلسوف؟

فإذا كان كمؤرخ، وهو يؤرخ من آدم حتى الرسالة المحمدية ضمناً وهو آلاف السنين، فهو غير وافِ، وغير كافِ أصلاً لتغطية التاريخ كمؤرخ. أما إذا نظرنا إلى القصص القرآني كما أرادنا القرآن أن ننظر إليه في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111)

فمن هذه الآية نستنتج أن الله سبحانه وتعالى اختار أحداثاً تشكل مفاتيح لتطور التاريخ الإنساني ابتداء من آدم، يبين فيها سيرورة وصيرورة التراكم القيمي والتشريعي، وأطلق عليها مصطلح (العبرة)، والعبرة ما يجب أن يعبر حاجز من مكان لآخر، أو يعبر الزمان من قرن لآخر.

فالأحداث الإنسانية الواردة في القرآن هي مؤشرات علينا دراستها لفهم التاريخ الإنساني وحركته وسننه، وهو ما نطلق عليه فلسفة التاريخ. أي أن الدراسة التاريخية هي إما دراسة أحداث في برهة زمنية محددة، وهذه مهمة المؤرخين. أو في تطور الأحداث التاريخية وفق تسلسل زمني محدد مع استنتاج السنن التي تحكمها إن أمكن.

إن التنزيل الحكيم يطرح مداخل أنثربولوجية وفلسفية لقراءة صيرورة الإنسان في حركية التاريخ، وجدلياته داخل هذه السيرورة. وإن كان يتسنى لنا اختصار ذلك في القول بأنه: جدل الإنسان مع الإنسان كعلاقات واعية، ومع الطبيعة في المعرفة، وذلك من مقامي الربوبية والألوهية. لذلك رأينا أن فهمنا للقصص يجب أن ينفتح على الأنساق الثقافية الغابرة والحاضرة، وأن يقرأ الإنسان المعاصر القصص القرآني وفق سقفه المعرفي وعلى ضوء العلم بمختلف موضوعاته. فقد احتوى هذا القصص على المفاتيح التاريخية التالية:

1 – عملية الأنسنة، وهي انتقال البشر إلى إنسان بعملية نفخة الروح وهو ما ورد في قصة آدم وظهور مفهوم الخير والشر.

2 – تطور الإسلام كدين، حيث نرى أن هذا التطور في ثلاثة حقول:

آ – تراكم القيم من نوح حتى محمد (ص).

ب – تطور التشريعات من نوح حتى محمد (ص)، ومن المشخص إلى المجرد.

ج – ظهور الشعائر، حيث ظهرت الصلاة مثلاً لأول مرة عند إبراهيم (ع) واختلفت حسب الملل المختلفة.

لذلك نرى أن قصص الأنبياء هي مؤشرات أساسية لتغطية مراحل الرسالات التي عاشها الإنسان حتى ظهور الرسالة المحمدية، حيث نعيش الآن عصر ما بعد الرسالات، ونرى أن هذا الخط المرسوم في القصص القرآني، والعبر المستقاة منه تتطابق على مستوى السيرورة والصيرورة مع كثير من المكتشفات الأثرية والعلمية، والدراسات الانثربولوجية.

إن شرط القراءة المعاصرة للقصص يكمن في رفع التلبسات الأيديولوجية عن النص، والسير في الأرض أو قراءة أقوال من سار في الأرض وبحث ونقب واكتشف. وهذا الانفتاح على العلوم والأنساق الحضارية والثقافية المختلفة يمكِّن الناظر في التنزيل الحكيم أن يطرح القصص في بعد عالمي وإنساني وأن لا يحصر نفسه في زاوية القراءة الأيديولوجية.

وفي هذا الصدد علينا أن نميز بين أمرين مختلفين بغاية الأهمية، وهما القصص المحمدي الوارد في التنزيل الحكيم، والسيرة النبوية التي كتبها كتّاب السيرة. فما ورد من أحداث تاريخية في سورة التوبة أو الأنفال أو محمد، وغيرها فيما يتعلق بالأحداث التي تتعلق بالرسالة المحمدية هي جزء من القصص القرآني، وهي التي تلازم فيها الإنزال والتنزيل ولا علاقة لها بليلة القدر، ولكنها تنسب إلى القصص القرآني بمجرد وصولها لنا. وهذه الأحداث لا تحتوي على أي تشريعات، بل فيها عبر فقط يجب أن تصلنا. وقد خصصنا جزءاً خاصاً من القصص القرآني للقصص المحمدي، بينما كتب السيرة النبوية هي كتب تاريخ فقط اختلط فيها الديني والتاريخي والأسطوري لتصبح قراءة مغلقة على ذاتها تشرِّع للسلطتين الكهنوتية والسياسية. لذلك وجب علينا دراسة القصص المحمدي القرآني الوارد في التنزيل الحكيم كمسلمين ومؤمنين، وقراءة السيرة النبوية وتنقيحها كقارئي ودارسي تاريخ.

إننا نقدم في هذا الكتاب الجزء الأول من القصص القرآني ويتألف من الأبواب التالية:

آ – القصص في التنزيل الحكيم وفلسفة التاريخ: ويتألف من أربعة فصول

ويحتوي هذا الباب على قراءة لطبيعة العقل التراثي الذي تعامل مع القصص وإشكاليات مصادره ومرحلته التاريخية، إضافة إلى طرح المقدمات المنهجية لفهم القصص وفق سقفنا المعرفي المعاصر.

ب – قصة آدم ويتألف من خمسة فصول:

وفيه نفتتح تاريخ البشرية مع آدم كبداية لتاريخ الإنسان العاقل الواعي، وانتقال البشر من مرحلة الهمج إلى مرحلة الأنسنة ومعطياتها ومتطلباتها، بدءا من نفخة الروح وتعليم الأسماء وانتهاء بهبوطه من الجنة وبداية تكوينه الاجتماعي.

هذا وإننا ننوه للقارئ الكريم بأننا تحرينا الموضوعية ما أمكن ذلك. وإننا في كتابنا هذا – كما تعودنا – حرصنا على احترام عقل القارئ أكثر من حرصنا على إثارة عواطفه ومشاعره.

علماً بأن بقية أجزاء القصص القرآني ستصدر تباعاً من نوح حتى يوسف في الجزء الثاني. ومن موسى حتى المسيح (ع) في الجزء الثالث.

أما القصص المحمدي فله جزء خاص به وهو الجزء الرابع.

نرجو من الله التوفيق….. والحمد لله رب العالمين.

دمشق في 18 / 10 / 2009

الدكتور محمد شحرور

مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة

(1) تعليقات

اترك تعليقاً