ميثاق المواطنة

المواطنة مبدأ له أبعاد اجتماعية وقانونية وسياسية، يعتمد أساساً على رفع الخلافات والاختلافات الواقعة بين مكونات المجتمع والدولة في إطار التدافع الحضاري، ويعمل على تسييرهذا التدافع بواسطة الحوار مما يسمح بتحقيق أفضل تلاحم في المجتمع وتحفيز المواطن على التعلق بوطنه، والحرص على تطويره والدفاع عنه أمام أي تهديد قد يتعرض له للحفاظ على حريته واستقلاليته.
والمواطنة كمبدأ سياسي، تعمل على ضبط عملية التدافع في المجتمع بضوابط من أهمها مصلحة الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع، بغرض الإستفادة من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية. بحيث يشعر كل أفراد المجتمع بأن مستقبلهم مرهون بمدى نجاح هذه الوحدة التي لا تلغي بأي شكل من الأشكال خصوصياتهم. لكن مفهوم المواطنة لا يمكن له أن يكتمل إلا في ظل دولة ديمقراطية ليبرالية تضمن حق التكافؤ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي…. في الحقوق والواجبات، والحرية الشخصية لكل فرد في خياراته، مع الالتزام بالحياد الايجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيدلوجيات مواطنيها، بعدم ممارسة أي إقصاء أو تهميش أو تمييز ضد أي مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية أو توجهاته الفكرية أو السياسية أو الدينية، وبذلك تصبح مؤسسة حاضنة لكل المواطنين وتمثل مجموع إراداتهم.
فالمواطنة التي تقوم على أساس الإنسان الفرد الحر، هي عصب الديمقراطية باعتبارها حقّا وواجبا في آن واحد، تتعايش عبرها الخصوصيات الحضارية والثقافية والسياسية والدينية… ويتقوّى الشعور بالمواطنة داخل المجتمع الديمقراطي الذي تترسّخ فيه قيم العدالة والحرية والمساواة التي لا يمكن لها أن تتحقق في ظل الاستبداد الذي يلغي حقوق المواطنة ولا يعترف غالبا إلا بالواجبات، حيث تتحوّل معه المواطنة إلى نوع من العبودية. فقد تم طرح العلمانية من قبل اليسار العربي، ولكنه حوَّل الشعوب إلى قطعان بدلاً من أن يجعل منهم مواطنين كاملي الحقوق والحريات.
إن الشعور بالمواطنة هو مؤشر على تمتّع الإنسان بحقوقه وخياراته الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية والسياسية، وهذا ما يجعل منه أهمية في تفسير عدد كبير من الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية في أي مجتمع على رأسها ظاهرة استقراره أو اضطرابه سياسيا، اقتصاديا، واجتماعيا…. وقد خضع هذا الشعور للتطور التاريخي ومر عبر مخاضات عسيرة تم فيها خلطه حينا بالولاء الديني المؤدلج، وأحيانا أخرى بولاءات متعددة كالولاء المذهبي أو القومي.. وتم خلال عملية الخلط هذه ممارسة الإقصاء والتمييز داخل المجتمع الواحد باسم المواطنة، وخاصة في الأنظمة التي تسمى ثورية أو انقلابية، التي لم تكن في الأصل إلا ولاءات متحيزة لم تكن تراعي المفهوم الحقيقي للمواطنة مما ولد اضطرابات وفوضى في العديد في المجتمعات التي تسمي نفسها ديمقراطية لكنها أبعد ما تكون عنها. وعلى هذا الأساس فإن ضمان استقرار المجتمع المدني ورقيه في شتى المجالات يتأتى نتيجة تبني المفهوم المعاصر للمواطنة الذي يحرص على إلغاء كل الفروقات بين أفراد المجتمع ويفتح باب تكافؤ الفرص أمامهم على مصراعيه مما يسهم بقوة في تنمية شعور المواطنة بداخلهم، ومن ثم تكاتف قواهم جميعا في سبيل خدمة الوطن والدفاع عنه.
وبهذا المعنى يكون مجتمع المواطنة مجتمع متقدم على المجتمع الأهلي، أما في الدول العربية فمازال المجتمع المدني في بداياته، ودلت الأحداث، وخاصة في مصر وتونس وليبيا بعد انهيار أنظمتها السياسية الطاغية، أن هذا المجتمع بدأ جديا في التشكل باندماج الاتجاهات السياسية والعلمانية فيما بينها وتنافسها في اللعبة السياسية دون عنف. وإذا استمر الأمر على هذا النحو الإيجابي، فستصبح الحركات الإسلامية جزءاً من هذا المجتمع المدني، وتصبح غير خطرة شأنها شأن الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوربا. وهذا ليس غريباً لأن الإسلام هو ثقافة المنطقة العربية بأسرها. في حين نجد أن دول الخليج العربي، مازال المجتمع الأهلي هو المسيطر، والنظم السياسية منسجمة تماماً مع المجتمع الأهلي ومع بعضها.
ونحن نرى أن المجتمع المدني في الدول العربية يمكن له أن يحقق ذلك عند احترامه لبنود ميثاق المواطنة الذي استنتجناه من خلال قراءتنا المعاصرة للمرجعية الإسلامية. على أمل أن تعمل به بعض المجتمعات العربية، خاصة التي حققت الربيع العربي وتسعى لبناء دولة مواطنة، والتي نجد فيها المجتمع المدني في بداية تشكيله. فهذا الميثاق سيكون مفيدا لها في تحقيق ما تصبو إليه. وهو على النحو التالي:
1. الحرام شمولي وأبدي وهو من حق الله تعالى وحده حصراً ولم يعطه لأحد من البشر سواء كانوا رسلاً أو صحابة أو فقهاء أو برلمانات، وهو مصطلح له علاقة بالدين فقط. والتشريعات متغيرة ومتطورة لاتحمل صفة الشمولية والأبدية (ولو كانت من قِبَل الأنبياء).
2. تُبنى الدولة على عقد اجتماعي بين المواطنين والسلطة (القانون الأساسي)، وعلى كل طرف احترام بنود وشروط هذا العقد وتطبيقها من أجل الصالح العام. وإذا أخلت سلطة الدولة بشروطه يصبح من حق الشعب حجب ثقته عنها.
3. الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكم هي الانتخابات وقبول مبدأ تداول السلطة، ويبقى الشعب هو صاحب الحق الوحيد في منح الثقة للمنتخبين وسحبها منهم في حال إخلالهم بأحد أو بعض أو كل بنود العقد الاجتماعي المبرم بين الطرفين.
4. المواطنون جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات. فلايسمح بأي تمييز على أساس الدين أو القومية أو العرق. وبالتالي احترام اختلاف الثقافات والملل الدينية في المجتمع لأنها سنة من سنن الله تعالى في خلقه، وحرية الاختيار هي الأساس في خلق الإنسان، وبالتالي يجب عدم فرض ثقافة ما أو ملة دينية ما على أي فرد من أفراد المجتمع بضمان حرية المعتقد والاختيار لكل فرد. كذلك فإن احترام اختلاف القوميات والعروق يعتبر من قوانين وسنن الله في خلقه.
إن مفهوم المواطنة الذي يبنى على مبدأ التكافؤ في المجتمع في الحقوق والواجبات وإلغاء كل أشكال العنصرية يتعارض كلية مع مفهوم “أهل الذمة” لأن هذا الأخير مفهوم تاريخي مرتبط بالأقليات في الدولة الدينية، وبالتالي يجب إلغاؤه تماما من أبجديات الممارسة السياسية في الدولة، واعتباره مصطلحا متجاوزا تاريخيا وغير قابل للتطبيق لما فيه من إخلال بحقوق المواطنين في دولة المواطنة وهضم لحقوقهم السياسية.
5. المرأة صنو الرجل في الخلق والمسؤولية والعمل والتوفير والكسب والقوامة والإرث، فالله سبحانه سوّى بين الذكور والإناث.
6. العدل والحرية قيم مطلقة يمارسها الإنسان في مجتمعه بشكل نسبي، والديمقراطية هي أفضل شكل اجتماعي وسياسي توصل إليه الإنسان حتى الآن لممارسة الشورى كقيمة إنسانية مطلقة وردت في التنـزيل الحكيم، وهي ملك للإنسانية جمعاء، وليست حكراً على أي مجتمع، والأخذ بها لايعيب أحداً وفيها تظهر الثقافة الحقيقية للناس ودرجة الوعي التاريخي للحرية.
7. بما أن المعرفة والتشريع هما نتاج نفخة الروح في الإنسان، فإن حق الإنسان في اكتساب المعرفة (التعليم)، وحقه في انتخاب ممثلين عنه للتشريع (البرلمانات) هما من الحقوق المقدسة التي لاتمس كالحرية والحياة.
8. فصل السلطات مبدأ أساسي في الدولة غير قابل للنقاش، بحيث يتوجب على كل سلطة آداء المهام الموكلة إليها دون التعدي على مهام السلطات الأخرى، بحيث لايحق للسلطتين التنفيذية والقضائية ممارسة مهمة التشريع الموكلة للسلطة التشريعية (أولي الأمر) ولا يحق لها إصدار أي مرسوم تشريعي.
9. التعددية الحزبية في المجتمع المدني ضرورة أساسية تضمن الرقابة على السلطة والدولة، وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادي والمنتديات، وحرية إصدار الصحف والمجلات والنشرات حق أساسي لكل مواطن، على أن يعلن كل منها علناً عن برنامج عمله وغاياته بالتفصيل. لا ديمقراطية دون معارضة، ولا ديمقراطية دون تعددية حزبية ولا ديمقراطية دون حرية للرأي والرأي الآخر. وهذا يوضح أهمية المعارضة كأساس من أسس المجتمع المدني.
10. المعارضة ـ والتي هي جزء لايتجزأ من الديمقراطية ـ هي البنية الأساسية في العمل السياسي وهي أفضل آلية نسبية توصل إليها الإنسان بخبرته لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى السياسي، باعتبار أن هذا الأمر والنهي هو من مهام المعارضة حصراً، ولايمكن لها أن تمارسه وتحققه إلا بوجود الأمور التالية:
ـ التعددية الحزبية.
ـ حرية الرأي والرأي الآخر.
ـ حرية التعبير عن الرأي بالوسائل السلمية المتاحة.
فإذا استلم الحكم فرد أو حزب أو ائتلاف وتحققت الأكثرية في السلطة، فلا يجوز أن يعني هذا إلغاء المعارضة وقمعها ولو كانت أقلية.
11. تعتبر الدولة أكبر مؤسسة في المجتمع قابلة للفساد والرشوة والمحسوبية، لما تملكه من سلطة ومال وقوة، وهي بذلك المحتاج الأول إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (سلطة المجتمع). وعلى هذا الأساس فإن أحزاب المعارضة أولاً، ثم كل منظمات المجتمع لها الحق في ممارسة هذه المهمة بدون استعمال أدوات الإكراه.
12. على سلطة الدولة الالتزام بالمرجعية الأخلاقية (ميثاق العالمية) في مهمة تسييرها للمجتمع، وعدم التدخل في حياة وخيارات الأفراد الشخصية بالإكراه بما في ذلك حياتهم الدينية، الثقافية، توجهاتهم الفكرية، والسياسية. وعليه يجب ألا يكون ثمة أي بند في الدستور يشير إلى أن “الإسلام دين الدولة” بل يجب أن يذكر فيه أن “القيم الإسلامية” هي المرجعية الأخلاقية (ميثاق العالمية) للدولة، وتعتبر فوق الدستور.
13. إن بند تطبيق مايسمى الشريعة الإسلامية، وخاصة في الأحوال الشخصية، يبقى خيار كل فرد على حدة، وخاصة فيما يتعلق بالزواج والإرث. والدولة لاتفرض أي قانون مهما كان نوعه على خيارات الفرد.
14. حماية كرامة الإنسان واجب على سلطة الدولة بحيث يتوجب منح كل المواطنين حقوقهم كاملة، والسهر على انتشار قيم العدل والمساواة في المجتمع، حتى لاتتحول العلاقة بين السلطة والشعب إلى علاقة راعي وقطيع يساق دون كرامة ودون حرية وذلك بالالتزام بمبدأ المواطنة القائم على مبدأ الإنسان الفرد الحر.
15. المرجعية العرفية والمعرفية والجمالية مرجعيات متطورة، خاضعة للتغيرات الزمانية والمكانية (الجغرافية)، بحسب تطور الشعوب والأقوام والجماعات الإنسانية. وهي التي تحدد خصائص الديمقراطية المحلية ضمن بقعة جغرافية محددة في برهة زمنية تاريخية معينة.
16. لا يحق لأحد فرداً كان أم حزباً أم مؤسسة أم جماعة، أن يدعي لنفسه القيومية والوصاية الفكرية والسياسية على الناس، وأن يوزع الألقاب والتهم على الآخرين دون بينة.
17. لايحق لأي هيئة تملك الأكثرية في المجالس المنتخبة أن تصوت لإلغاء أي حق من حقوق الأقليات السياسية والدينية والعرقية والحريات الشخصية، لأن هذه حقوق غير قابلة للتصويت، لأنها ستقع في خانة ديكتاتورية الأكثرية، وهذا مايخالف جوهر النظام الديموقراطي.
18. لكل الناس الحق في محاكمة عادلة، كما أنه لاأحد فوق المساءلة في الدولة فرداً كان أم حزباً أم مؤسسة. وفي حال وجود أحد فوق المساءلة فهذا تعدّ على مبادئ الديمقرطية الشفافة التي تُبنى على طاعة القانون وليس الممثلين الشخصيين له، وفي حال تماديهم في ممارسة مهامهم فيحق للشعب سحب الثقة منهم لأن الطاعة المطلقة لاتكون إلا لله صاحب الحاكمية الإلهية التي لاإكراه فيها. أما محاولات التطبيقات والاجتهادات التشريعية الإنسانية لضبط المجتمع فكلها نشاطات مرحلية ظرفية بحتة تخضع للنقاش والمساءلة ويحق قبولها كما يحق رفضها أو تعديلها أو إلغاؤها.
19. الشريعة الإسلامية الواردة في الرسالة المحمدية شريعة حدودية (نظرية الحدود) لاحدية، بحيث أن قطع يد السارق، أي كف يده عن المجتمع بالسجن وانتهاء بالسجن المؤبد كحد أعلى (وليس كما يطرحه الفقه بأن قطع اليد أي البتر). وعقوبة القتل للقاتل هي الحد الأقصى لعقوبة القاتل. ومن هنا نرى أن معظم التشريعات الإنسانية في المجتمعات المدنية الصادرة عن البرلمانات هي ضمن حدود الله وفي هذا المفهوم تحتمل الاختلاف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر وكلها صحيحة مقبولة لأنها ضمن حدود الله، وهذه هي الحنيفية.
20. الناس أحرار في التعبير عن آرائهم بجميع الوسائل المتاحة السلمية، وفي حال مصادرة هذه الحرية أو قمعها تصبح كلمة الله هي السفلى، ويصبح الجهاد ضرورياً لاستعادة هذه الحرية ولضمان العدالة النسبية في المجتمع. وهو الجهاد في سبيل الله ولا يعني القتال واستعمال العنف حصراً، وإنما يأتي القتال واستعمال العنف كأقصى مرحلة من مراحله وآخرها عند انعدام أي وسيلة أخرى. وجهاد الكلمة وقول الحق هما أكثر أنواع الجهاد فعالية في الوقت الحاضر، وهذه القناعة هي العقيدة القتالية الفردية التي لا يجب أن تكون خاضعة لأي تسييس أو سلطة بل تدخل في إطار القناعة الشخصية للفرد حصراً.
21. الإبداع المادي والفكري مصان في المجتمع المدني.
22. العمل والجد والكسب والتوفير أمور مصانة لكل فرد في المجتمع لأن الأعمال والأرزاق غير مكتوبة سلفاً على أحد. فالأعمال مخلوقة موضوعياً، والإنسان له حرية المناورة والاختيار. والأرزاق مخلوقة موضوعياً وتدخل في العمل الإنساني والإرادة الإنسانية الواعية بطلبها.
23. المقاومة في سبيل الدفاع عن الوطن (الديار) سواء ضد المحتل الخارجي أو الداخلي، واجب على كل أفراد المجتمع، ويمثل العقيدة الجماعية للمواطنين، وأهم التزامات المواطنة.
24. بما أن المسلمين هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بالصراط المستقيم، فإن مفهوم الجزية هو مفهوم سياسي بحت، ولا تؤخذ الجزية من غير المسلمين المؤمنين في أي بلد يكون فيه المسلمون المؤمنون هم الأغلبية، وإنما الضرائب هي القاسم المشترك لجميع أفراد المجتمع. لذا فإن بيت المال هو بيت مال المسلمين، وليس بيت مال المؤمنين. والمؤمنون هم جزء من المسلمين وليسوا كل المسلمين. وبالتالي فإن مفهوم الجزية هو مفهوم سياسي إجرائي تاريخي انتهى زمانه.
إني أقدم هذا الميثاق كنموذج لبناء مجتمع مدني، الوصول إليه يحتاج إلى السير في طريق يتطلب زمناً قد يكون طويل نسبياً، بالنظر لما عانته بعض الشعوب العربية من الطغيان لسنين طويلة. ومازالت بعض هذه الشعوب في مرحلة المجتمع الأهلي، وبعضها الآخر في بداية الطريق إلى المجتمع المدني.

والحمد لله رب العالمين.