قبل مكافحة الإرهاب

قبل مكافحة الإرهاب

يسارع المسلمون المؤمنون برسالة محمد عند كل حادثة دهس متعمد أو ذبح أو تفجير، إلى التبرؤ من مرتكبيها ونفي التهمة عن أنفسهم وعن دينهم، وتتعالى الأصوات من هنا وهناك بأن هؤلاء الإرهابيون لا يمثلون الإسلام ولا يعبرون عنه، وتتبارى الفضائيات باستضافة الأئمة للكلام عن سماحة هذا الدين ومدى تقبله للآخر، وعن كم التعايش الذي ننعم به في بلداننا العربية لا سيما قبل “الربيع العربي”، وتعقد الاجتماعات وتقام المحاضرات وتشن حروب وتباد مدن بهدف مكافحة الإرهاب، لكنه بلا جدوى يأبى إلا أن ينتشر كالنار في الهشيم، ويأبى فقهاؤنا المحترمون الاعتراف بالمشكلة التي تنخر في ثقافتنا، ويناورون باللف والدوران، فيتهمون الإرهابيين بـ “نقض العهد” تارة، وبالضلال والتآمر على الإسلام تارة أخرى.

ويمكن لأصحاب نظرية المؤامرة قبول التهمة بالتآمر من قبل مدبري الجريمة، لكن العاقل لا يفهم أن يتآمر الإنسان على الإسلام فيقتل نفسه لتشويه هذا الدين، سيما إذا كانت الثقافة الإسلامية الرائجة تحمل في طياتها ما يمكن لأي متآمر أن يتكىء عليه في تجنيد من لديه استعداد للموت وهو يقتل “الكفار والمشركين”، وكله إيمان أنه قد مات في سبيل الله، وأن الجنة بانتظاره، وقد يستهجن الناس أن منفذي العمليات الانتحارية في الغرب أغلبهم أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، ولدوا وترعرعوا في تلك البلاد، لكنهم تتلمذوا على يد أئمة حملوا معتقداتهم معهم إلى “دار الكفر” وأحلوا دماء أهلها، بناءً على ما تعلموه من ثقافة موروثة، خلطت بين القتل والقتال، وبين الجهاد كمجاهدة للنفس ومجاهدة الآخرين بالسيف، ولا يختلف الأمر بالطبع عنه في البلاد الأصلية، حيث يمكن لشاب أن ينظر لأهله على أنهم مرتدون وفق منهج “الشيخ” وبالتالي قد يغادرهم أو يقاطعهم، ولا يتورع عن القيام بتفجير انتحاري ممكن أن يطيح بأبناء مدينته.

ويعتقد البعض أن محاربة “الفكر الإرهابي” هي كبسة زر، وبمجرد إعلان أن الإسلام دين المحبة والرحمة سيمكننا القضاء على هذا الفكر، وننسى أو نتناسى أن مناهجنا الدراسية والحياتية تقوم على إرهاب أنفسنا قبل الغير، ونظرتنا للحلال والحرام يشوبها الكثير من الخطأ، إذ يحدد التنزيل الحكيم المحرمات ويعددها، وهي تقوم على تعاملنا مع الآخرين في معظمها (عدا الشرك بالله ومحرمات الطعام) ويترك كل ما دونها للقوانين والذوق الشخصي، بينما نرزح نحن تحت ضغط العكس تمامًا، ويحتل ما يخصنا كأفراد جزء كبير من الموانع، فالموسيقا حرام والغناء والفن والنحت والرقص والتزين وأغلب المباهج حرام، والفرح والضحك منبوذان، وحتى إذا أبت الفطرة الإنسانية إلا أن نقوم بكل هذه الأمور تبقى عقدة الذنب لتسيطر علينا، وأملنا بالجنة ضئيل فنحن مخطئون ونردد “لك الحمد حتى ترضى”، فالله بالنسبة إلينا إله غاضب دائمًا لا يمكن إرضاؤه إلا إذا قرأنا دعاء ما سبعين مرة قبل النوم، ومنظومة القيم الأخلاقية في مجتمعاتنا يمكنها أن تتأرجح وفق فتاوى من هنا وهناك، إذ لا أولوية لها أمام إقامة الصلاة في المسجد، ويمكن لحج أو لعمرة أن تغسل ما اقترفناه من كذب وغش، ونتشدق بـ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت 45) لكن لا نجد ذلك على أرض الواقع.

أما الآخر المختلف فقد نصادقه ونحن عاصون، فهو كافر بالله مشرك، لا تجوز تهنئته بعيده ولا الترحم عليه، وكتبنا تحفل بأحكام قتل المرتد ورجم الزاني وعقاب من أفطر في رمضان ومن ترك الصلاة، وما طبقته داعش هو خير مثال على ما يدرس في كليات الشريعة والأزهر وغيره.

والمضحك المبكي أن الأزهر الذي يعاقب من يقول إن حكم السرقة ليس قطعًا فيزيائيًا لليد، إنما هو كف يده عن المجتمع بالسجن أو غيره، وأن الإسلام دين رحمة، هو نفسه من يدعي الوسطية، وإذا كنا نناقش جواز أو منع سفر المرأة من دون محرم، فكيف لنا أن نقنع العالم بحضارية إسلامنا؟ وأقول “إسلامنا” لأنه إسلام مختلف تمامًا عما جاء للرسول محمد بن عبد الله في التنزيل الحكيم وبلغه لمن حوله، بل هو الإسلام الذي اكتملت بلورته في العصر العباسي، بما يتناسب مع تلك الظروف السائدة زمانيًا ومكانيًا، ومع ما جادت به قريحة الفقهاء حينها فاخترعوا أحاديث تواكب مصالحهم ومصالح حكامهم، فتقولوا على الله وعلى رسوله ووضعوا ما جاء في التنزيل الحكيم جانبًا، واستندوا لشريعة موسى حينًا ولما ابتدعوه أحيانًا، فإذا كان الله تعالى قد ترك للإنسان حرية المعتقد {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29) ولا عقاب للمرتد إلا في الآخرة {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة 217) وجدوا لدى شريعة موسى أن المرتد يقتل، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقس على ذلك رجم الزاني وغيره الكثير، مما يستبدل الرحمة والحنيفية المناسبة لكل أهل الأرض بأحكام حدية وضعت لمجتمع بدائي قبل ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، أما في الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث فوضعوا أحكام لا تمت لكتاب الله بصلة، وما حديث “لا وصية لوارث” إلا مثال بسيط عن ذلك، ألغوا فيه تكليفًا أساسيًا من الله لعباده، لا يختلف عن الصيام صيغة، لكن لا أحد يعمل بالوصية اليوم فيما ينبذ المجتمع من يتهاون بالصيام.
وإذا كان فقهاء القرن التاسع الميلادي قد ارتأوا ما يناسبهم مشكورين، ألا يجدر بنا أن نرفض ما ارتؤوه، وأن نعود لكتاب الله لنتبين رسالة الرحمة والعالمية والخاتمية؟ وهذه العودة لا تكون إلا سلة واحدة، فمن يريد رفض أحاديث الجهاد والقتال والسيف ودار الكفر والإيمان، عليه أن يرفض كل ما يتعارض مع القيم الإنسانية، ويبحث عن الخلل، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة.

الرابط على موقع أبواب

(1) تعليقات

اترك تعليقاً