مفهوم الدولة الإسلامية

مفهوم الدولة الإسلامية

جميع الآراء الواردة في هذا الموضوع تعبر عن رأي كاتبها، وليس بالضرورة أن تكون متوافقة مع آراء الدكتور محمد شحرور وأفكاره

سارع الكثير من الشباب في الآونة الأخيرة إلى رفع شعارات تطبيق الشريعة و إقامة الحدود و إعلان الحرب على المرتدين ، فهل أدرك هؤلاء المعنى الحقيقي للدولة الإسلامية ، أم أنهم كانوا رهناً للتجاذبات السياسية ، و أداة بيد الساسة تجار الدين ممن يتكالبون على السلطة في البلدان العربية ، و هل يقتصر مفهوم الدولة الإسلامية على تطبيق الشريعة على الشعوب من منظور سلطة معينة؟ ، أم أن لها مفهوم آخر غائب عن الأوساط الإعلامية؟.
الشعوب عبر التاريخ كانت تحكم بإحدى معيارين :
المعيار القانوني: تعني وجود مؤسسة تشريعية تابعة للدولة تقوم بسن قوانين تشمل جميع جوانب الحياة وتعاقب مخالفي هذه القوانين إما بغرامة مالية أو بسجن أو بإعدام أو بجلد .. وغيرها الكثير من أشكال العقوبات ربّما تختلف من دولة إلى أخرى. لنطلق على هذا النوع من الدول اسم “الدولة القانونية”.
المعيار الأخلاقي: تعتمد هذه الدولة بشكل رئيسي على الأسس التربوية و المبادئ الأخلاقية الكامنة لدى شعوبها .. بالتالي لاتحتاج هذه الدولة لوجود مؤسسة أمنية تلاحق الفرد على حركاته و سكناته و لاتحتاج لسن قوانين و عقوبات تشمل كل جوانب الحياة لأنها مدركة أن شعبها سيحكم نفسه بمبادئه التربوية العميقة و أخلاقه الكريمة . نطلق على هذا النوع من الدول اسم “الدولة الأخلاقية”.
ولايوجد دولة أخلاقية بالمعنى المطلق ، بمعنى من المحال أن تعتمد الدولة بشكل كامل على أخلاق شعوبها في إدارة الدولة .. ولا بدّ من وجود قوانين تفرض على المجتمع.
ولكن يمكننا القول أن الدولة التي تعتمد بنسبة كبيرة على أخلاق شعبها هي دولة أخلاقية .

هل الدولة القانونية معادية للحقوق و الحريات؟؟
في الحقيقة أن جواب هذا السؤال مقترن بطبيعة هذا القانون .. فإذا وجد القانون لمصلحة الوطن فهذا القانون لا يتعارض مع الحريات و العدالة.
فربما تمشي في مكان مفتوح، وتقرأ لوحة مكتوبا عليها (ممنوع التقدم – حقل ألغام) … لا تجد حقداً في نفسك على من وضع هذه اللوحة، بل لعلك تشكره عليها، ولا ترى أن هذه اللوحة هي حد لحريتك، بل هي ضمان لسلامتك.
لنطلق على الدول التي تحكم بمثل هذا القانون اسم “دولة القانون الشرعي”.
أما إذا وجد القانون لخدمة الأنظمة الحاكمة ولتمديد فترة الحكم وتكريس السيطرة على مقدرات الدولة فهو بالتالي قانون _بأغلبه_ معادي للحريات و الحقوق . نطلق على الدول التي تحكم بمثل هذا القانون اسم “دولة القانون الغير شرعي”.
تبعا لذلك نستطيع تقسيم الدول لثلاثة أقسام
1- الدولة الأخلاقية.
2- دولة القانون الشرعي.
3- دولة القانون الغير شرعي.

أيهما أفضل دولة القانون الشرعي أم الدولة الأخلاقية؟
في الحقيقة أن جواب هذا السؤال مقترن بطبيعة الشعوب فإذا كان الشعب في الأعم الأغلب متمسك بالقيم الأخلاقية و المبادئ الإنسانية التي تردعه عن الأفعال الخبيثة كالسرقة و القتل و الاعتداء و رمي الأوساخ في الشوارع ، فمثل هذا الشعب يتناغم و يتوافق مع الدولة الأخلاقية التي لا تعتمد على أجهزة أمنية رادعة تجوب الحارات و الأزقة وتعمل ليل نهار على حماية المواطنين الآمنين من الاعتداء أو السرقة أو الخطف أو ….
أما إذا ساد الانحلال الخلقي لدى الشعوب و انتشر الفساد و عمّت الفوضى و أصبح القوي منّا يأكل الضعيف فلا بدّ من وجود دولة قانون تلاحق الشعب في كل حركة من حركاته و تفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون .. و من أبرز من اتبع هذه السياسة سنغافورة .

سنغافورة ودولة القانون الشرعي
انفصلت سينغافورة عن اتحاد ماليزيا في سنة 1385 هـ -1965 م، وعرفت بعد الانفصال بجمهورية سنغافورة. نالت سنغافورة السلطة رسميا في 9 أغسطس 1965 ، وأصبح لي كوان يو أول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة.
يتكون المجتمع السنغافوري من 80% من الصينيين، و14% من المالاي، و8% من الهنود، و1% من الأورآسيويين والأعراق الأخرى ، حيث كان بينهم ما بينهم من الأحقاد و المكائد و النزاعات العنصرية ، وكانت الدولة قبل الاستقلال في قمة التخلف الحضاري و الإنساني حيث الشوارع في قمة القذارة ، و العشوائيات في كل مكان ، وكان الانحلال الخلقي و الفساد المؤسساتي سائدا في الدولة.
أدرك لي كوان يو أنه أمام مجتمع ساد فيه الفساد الأخلاقي و التخلف الحضاري مما جعله مجتمع عاجز عن بناء الحضارة و القضاء على الفساد ، فاتبع سياسة سن قوانين صارمة حتى سميت سينغافورة (بلد الغرامات) فباتت قوانين هذا البلد تشمل كل كبيرة و صغيرة ، فالبصق في الشوارع له غرامة و تخريب الممتلكات العامة عقوبتها السجن أو الجلد وغيرها الكثير من القوانين التي تطبّق على الجميع ولا تفرّق بين رئيس دولة أو وزراء أو مدنيين ، وتشمل القوانين كل مايتعلق بالقضاء على الفساد و الحفاظ على الممتلكات العامة و تعزيز الوحدة الوطنية سواء العرقية أو الطائفية.
نجحت سياسة لي كوان يو نجاحا مبهرا حيث ارتفع دخل الفرد في سينغافوره بعد الاستقلال من 395 دولار عام 1965 حتى 31000 دولار عام 2010 و لم ينحصر الإصلاح على الجوانب الاقتصادية فحسب بل حقق لي كوان يو بسياسة القانون تلك نهضة أخلاقية على مستوى الفرد و المجتمع.

ما تصنيف الدولة التي حكم بها سيّدنا أبو بكر الصديق ؟
بعث النبي محمد عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق فوضع الأسس المنهجية لبناء جيل أخلاقي يرتكز في المعاملات و التجارات و العلاقات السياسية و المجتمعية و الأسرية على القواعد الأخلاقية ، فباتت الأخلاق هي ركيزة المجتمع الأولى و مصدر تشريعه في كافة جوانب الحياة.
وبعد أن أصبح أبو بكر خليفة، قال مرَّة لعمر وأبي عبيدة بن الجراح: “إنه لابدَّ لي من أعوان”، فقال عمر: “أنا أكفيك القضاء”، والثاني قال: “أنا أكفيك بيت المال”. وظلَّ عمر في سدة القضاء بالمدينة مدة سنة كاملة لم يختصم إليه أحد خلالها، حتى جاء في يوم إلى أبي بكر طالباً منه إعفاءه من القضاء، فسأله أبو بكر مستغرباً: “أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟” ، فأجابه عمر:
“لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟”
بالتالي اعتمدت الدولة التي حكم بها سيدنا أبو بكر الصديق على الأسس التربوية و المبادئ الأخلاقية التي تربت بها الأمة على يد أشرف الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام . فلم يحتاج إلى سن قوانين شاملة ولم يحتاج لوجود مؤسسة مخابراتية كبيرة تجوب البلاد و الحارات و الأحياء و الأزقة لتعزيز الأمن و حماية المواطنين و معاقبة المخالفين. وهذا مايتناغم و يتوافق مع مفهوم الدولة الأخلاقية.

هل تتوافق الدولة الأخلاقية مع جوهر الإسلام؟
في الحقيقة أن 3.17 % تقريبـا هي الأحكـام الشرعية في القران الكريم و 96.83 % من القران يحوي الجوهر الكُلي لصناعة الأخلاق و بناء شخصية كونية قادرة على فهم الرب في الكون.
فالدولة التي ترتكز في نظام حكمها على الأخلاق بشكل أساسي أقرب ماتكون إلى روح الإسلام.
ومن هنا نستطيع تحديد مفهوم الدولة الإسلامية بأنها الدولة التي يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه بالاستناد إلى منظومة القيم و الأخلاق الإسلامية التي خلدت في وجدانه .. وليست الدولة التي تفرض على شعبها الشريعة الإسلامية من منظور سلطة معيّنة ، فمثل هذه الدولة تسمّى بالدولة الثيوقرطية .. حكمت أوروبا في القرون الوسطى و حكمت مصر في عهد الفراعنة و ما أنجبت إلا الخزي و العار و الذل للشعوب.
ومن جهة أخرى يمكننا القول أن الدولة التي تعتمد في نظام حكمها بشكل أساسي على سن القوانين ليست قريبة من جوهر الإسلام و بالتالي فإن دولة القانون التي تحكم باسم الإسلام لن تعطي الصورة الحقيقية و الجوهرية لهذا الدين و ستسيء له بطريقة أو بأخرى _حتى لو ساهمت في بناء الدولة و إنعاش الاقتصاد_ لأنها ستصور الدين الإسلامي على أنه مجموعة الأوامر و النواهي و لوائح العقاب و حدود الحرام و الحلال ، و كلها من شئون الدنيا . . أما الدين فهو شيء آخر أعمق و أشمل و أبعد.
ومثل تلك الدول ستعتبر أي مخالفة لاجتهاداتها السياسية هي مخالفة للدين الإسلامي بالتالي ستساهم بشكل أو بآخر ببناء جيل تكفيري يحارب كل من يطالب بتعديل قانون وكل من يخالف الحكومة في اجتهاد سياسي و يعتبر كل من يفعل هذا ناقص الدين وربّما يتم تكفيره وقتله، وهذا يفتح الباب لديكتاتورية ذات طابع ديني تحارب كل من أتى بجديد من اجتهاد فقهي أو سياسي.

ألا تلعب دولة القانون الشرعي دوراً في بناء مجتمع أخلاقي قادر على وضع أسس لبناء دولة أخلاقية ذات هوية إسلامية؟
يمكن من خلال تطبيق دولة القانون الشرعي بناء مجتمع أخلاقي و بالتالي بناء دولة أخلاقية أقرب ما تكون إلى الروح الإسلامية و ذلك لسببين :
الأول : وجود دولة قانون في مجتمع ساد فيه الانحلال الخلقي و عمّ فيه الفساد سيجبر أبناء الدولة في البداية على الالتزام بالقوانين الأخلاقية رغماً عنهم ، ولكن في المستقبل سيولد جيلاً جديداً في دولة طبّق فيها هذا القانون و بالتالي أصبح هذا القانون عادة أخلاقية أكثر من كونه قانون حازم يطبق على الجميع ، وفي هذه الحالة ربما إلغاء الكثير من القوانين لن يؤثر بشكل واضح على مسار تطبيق القوانين في الدولة.
الثاني : تطبيق القوانين المتعلقة بمحاربة الفساد و الحفاظ على الممتلكات العامة و تعزيز الوحدة الوطنية سيلعب _بدون أدنى شك_ دوراً رائدا في إنعاش اقتصاد الدولة و ارتفاع دخل الفرد ،
و ارتفاع الدخل يعني بالضرورة قلة السرقات، قلة الدعارة ، الإنتاج و العمل وهذه الجوانب تصب في مصلحة بناء الأخلاق الإسلامية.
ومما لا شكّ فيه أن المجتمع الفقير لايمكن أنو يخلو من السرقة و ارتكبات المحرمات و سفك الدماء في سبيل لقمة العيش ومن المحال وجود مجتمع فقير يخلو من ارتكاب هذه الفواحش ، فلايوجد طريقة عملية لصناعة الأخلاق سوى القضاء على الفقر ، وهذا مايفسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “كاد الفقر أن يكون كفرا”.
وفي القرآن الكريم جعل الله سبحانه و تعالى من الرزق وسيلة من وسائل تحقيق الإيمان حيث قال ” فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ” ابراهيم37
ومن هنا أخوتي لابدّ أن نؤكد باستمرار رفضنا لرفع الشعارت الجنائية بمعزل عن الحريات و العدالة . فمن أراد أن يقيم الشرع و أن يسير في دروب الأنبياء و أن يلتمس خطتهم و منهجهم فلا بدّ أن يكون أولاً داعيا للقسط آمراً بالمعدلة و أن توضع الأمور في أنصبتها بحيث يأخذ كل ذي حق حقه . قال تعالى :”لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط”
فآخر شيء ينبغي أن نفكر فيه هو الحدود و أوّل شيء ينبغي أن نفكر فيه هو حريات الشعوب المقهورة و العدالة المدوسة بكل نعل.

اترك تعليقاً