صورتنا وصورتهم

صورتنا وصورتهم

تتناقل مواقع التواصل الاجتماعي أفلاماً قصيرة تحكي عن الاندماج بين السوريين المهاجرين أو اللاجئين وشعوب البلدان التي وصلوا إليها، لا سيما في أوروبا، وضمن مجالات مختلفة كالمأكولات أو الأغاني واللهجات، ورغم كل المآسي التي مر ويمر بها هؤلاء المهاجرون فالأمل كبير أن يجدوا آفاقاً جديدة للدراسة والعمل، ربما تعوضهم عما مروا به وتفتح لهم أبواباً للإبداع، في ظل حرية افتقدوها في بلادهم، ونتمنى أن تكون هذه الأفلام عاكسة لصورة عامة عن وضع السوريين في المجتمعات الجديدة لا حالات خاصة.

وتشكل الصورة النمطية للآخر المختلف العائق الأكبر أمام الاندماج بين الطرفين، الضيف الذي لن يبقى ضيفاً، والمضيف الذي سيصبح جاراً وزميلاً وصديقاً ربما، وكل طرف يحمل انطباعاً راسخاً في ذهنه عن الآخر، شكلته الخلفية الثقافية المتراكمة عبر العصور، يجعل من الصعوبة بمكان تغييره، إلا من خلال التجربة والعيش المشترك، رغم أن الإنسان الغربي عموماً قد تعامل مع قضية اللاجئين بإنسانية، وتوارت في ذهنه الصورة النمطية للمسلم والعربي لتحل محلها صورة الإنسان المحتاج للإغاثة بشكل أو بآخر، تلك الصورة التي ساهمنا نحن بجزء منها، وساهمت السياسة بالجزء الأكبر، فنظرة الغرب لنا (بكل مللنا وطوائفنا) تشوبها دونية تنبع عن كوننا الشعوب المستعمَرة، منذ الصليبيين وحتى قرن مضى، بما يحمله الاستعمار من عدائية، ناهيك عن أننا كدول عربية، لم نستطع للأسف تحقيق الكثير منذ خروج المستعمر وحتى يومنا هذا، فإما وقعنا تحت حكم طواغيت مستبدين، استباحوا الأرض والعرض، أو بقينا تابعين مستهلكين لا منتجين، وزاد الطين بلة ما شهده العالم منذ نهاية القرن الماضي وحتى اليوم من عنف الإسلام “المتطرف”، فلم تقف صورة المسلم عند حد المتخلف حضارياً بل أضيف لها صورة الإرهابي أيضاً، وعندما رسموا صورتنا وصورة نبينا في عيونهم، لم نحاول إثبات العكس، بل بادرنا إلى قتل من تطاول علينا لنكرس في الأذهان تلك الصورة، علماً أنهم لم يرسموا أكثر مما وصفته أحاديث البخاري ومسلم، وما يتشدق به فقهاؤنا صباح مساء، فقدمنا رسولنا بقالب معين (كان يطوف على زوجاته في ساعة من نهار أو ليلة) وسهلنا على الآخرين السخرية منه، حاشاه عما فعلناه به.

ولم يتوانَ الغرب الأكاديمي عن الاهتمام كلياً بمعرفتنا عن قرب، فخصص المعاهد والكليات لدراسة تاريخنا وحضاراتنا البائدة وحاضرنا ومستقبلنا، بغض النظر عن أهدافه ومآربه.

وإن كان الفرد الغربي قد تجاوز قليلاً انطباعه تجاهنا، رغم بقاء بعض من عنصرية، طغى العداء غالباً على نظرتنا كأفراد تجاههم، عداء للمستعمر المتفوق، والآخر المختلف، فالإنسان عدو ما يجهل، ونحن نجهل الآخر القريب، فما بالك بالبعيد، فنكيل الاتهامات لكل من يخالفنا الرأي في المعتقد أم في العادات والأعراف، وتحمل ثقافتنا الإسلامية الموروثة بعضاً من وزر ذلك، فنحن “خير أمة أخرجت للناس” والجنة لنا كمسلمين من أصحاب الأركان الخمسة، لا لأحد غيرنا، وكل ما عدانا في النار {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة 94) وما برحت كتبنا المدرسية تعلم الأجيال أن من عمل صالحاً من أهل الكتاب سيجد نتيجة عمله هباءً منثورا، في افتراء على الله ما بعده افتراه، وهو القائل سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62)، ولم ننتبه إلى أن الإسلام المقصود في قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (آل عمران 19) هو الإيمان بالله واليوم الآخر مقترناً بالعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33) وأنك غير معني بإسلام وإيمان أحد {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، وبالتالي سافر البعض إلى ديار الله الواسعة وهو يحمل البغض تجاه أهلها، باعتبارها ديار الكفر، يقضي فيها حاجته، وفاته أنه يأخذ العهد أمام الله على الولاء لتلك الديار ثم ينقض هذا العهد، ويعتبر أن سرقة هذه الديار والتحايل على القانون فيها حلال، وينظر إلى اختلاف عادات المجتمع عما عرفه كفساد وفحش، في حين أن الرذيلة في بلده طالما بقيت طي الكتمان فمسكوت عنها، ولو أن الأمور تبقى عند حدود بغض القلوب لتقبلنا الأمر، وتصبح الطامة كبرى عندما يتجلى البغض قتلاً للناس الأبرياء باسم الإسلام، لاسيما وأن أمهات كتبنا تشكل مرجعاً أساسياً يتكئ عليه القاتل، والأنكى من ذلك أن الصورة النمطية التي حملها المسلم جعلت منه يتقوقع على نفسه وعائلته، ويخلف أولاداً يحملون كراهيته لمن تربوا معه في البلد ذاتها، فلا يتورعون عن قتله بذريعة الجهاد عند الحاجة، ففهمنا للجهاد مغلوط تماماً، وهو في التنزيل الحكيم جهاد النفس للتحكم بغرائزها وشهواتها، والجهاد السلمي لتحسين أمور المجتمع، ثم الجهاد المادي أي القتال، والجهاد في سبيل الله مهما كان نوعه، هو للدفاع عن الحرية الإنسانية بكونها كلمة الله العليا التي سبقت لكل أهل الأرض {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة 256) فالإيمان بالله يوافق الكفر بالطاغوت، أما آيات الحض على قتال المشركين وغيرهم فلا يمكن إخراجها من سياقها التاريخي وزمانها، إذ تبقى ضمن القصص المحمدي لا أكثر، بينما قتل النفس حرام في كل زمان ومكان.

أما الحضارة فنحن من أوصلنا أوروبا إلى ما هي فيه، ألم تعتمد على كتب ابن رشد؟ وننسى أن ابن رشد كان كافراً منبوذاً عندنا وأحرقت كتبه، وأوروبا استأنست بكتبه وتجاوزتها ولم تقف عندها، فكان من حصتها، بينما أخذنا نحن الغزالي وابن تيمية وابن حنبل ولم نتجرأ على تجاوزهم، وبقينا نرزح في عقلية ترادفية عاجزة عن إنتاج المعرفة، تسأل عن المسموح والممنوع لا عن كيفية الحدوث.

ووفقاً لوضعنا الأكاديمي، وعدم اهتمامنا بدراسة ديننا وموروثنا وتاريخنا دراسة نقدية وفق الأرضية المعرفية لعصرنا، فالأولى ألا يلقى الآخر أي دراسة أكاديمية، فلا نجد إلا قلة من المفكرين المهتمين بذلك، في لا مبالاة ممتدة عبر العصور، بحيث بقيت الصورة النمطية للغرب الاستعماري معممة، وكما أن المسلم إرهابي غالباً بنظر الغرب، فإن الأجنبي متآمر علينا، عدا عن أنه فاسق كافر لا يعرف الأخلاق، مع شعور لا يخلو من الدونية تجاه تفوقه الحضاري حتى لو لم يستحق ذلك كفرد.

واليوم وبعد خمس سنوات من المأساة السورية، لعل عقلية الشباب السوريين الذين وصلوا إلى بلاد المهجر تساهم في تغيير الصورة النمطية عن المسلم والعربي بشكل عام، ولعل اندماجهم في المجتمعات المضيفة يضمن ألا يحمل أولادهم كرهاً لأولاد جيرانهم، وربما لاحظوا في تعاملاتهم الآن أن الإنسانية هي ما تملي على المضيفين أخلاقهم، وأن الدين الحنيف الذي فطر الله الناس عليه هو اتباع الصراط المستقيم، فمن يسرق هو مجرم في كل الأرض ونكاح المحارم مذموم في كل الأرض، وشهادة الزور يعاقب عليها القانون في كل الأرض، فلنعامل الناس بأخلاق رسولنا كما وصفه الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم 4) لا كما وصفه أبو هريرة، ونثبت لهم أن ديننا دين الرحمة والخاتمية والعالمية.

الرابط على موقع أبواب

اترك تعليقاً