الولاء الملتبس في دول اللجوء

الولاء الملتبس في دول اللجوء

يعيش بعض المهاجرين و اللاجئين صراعاً داخلياً بين عدة ولاءات تسيطر عليهم، بين البلد الأم بكل ما يمثله كوطنٍ وقوميةٍ ودينٍ وانتماء، والبلدِ الجديد المضيف الذي يشكل الملاذ الآمن والمأوى والوطن البديل، سيما فيما نعيشه نحن السوريون من مأساة، ويزداد هذا الصراع وضوحاً عندما يطغى الموروث الثقافي الديني على تفكيرنا، فيتدرج بدايةً من تأنيب الضمير لاستساغة العيش في بلاد الكفر، حتى إظهارِ الكره للآخر المختلف كونه كافراً، إلى أن يصل هذا الكره لحد العدوانية والجريمة.

وقد يبدو تكراراً ممجوجاً قول إن: “الإسلام بريءٌ من ذلك”، لكنها الحقيقة، فالمسؤول عما رسخ في أذهاننا هو الثقافة الإسلامية الموروثة، لا الإسلام، بما في هذه الثقافة من كتب فقهٍ ومجلدات تفاسير وكتب صحاح، تراكمت كلُّها فوق الرسالة المحمدية فحولتها من رسالة رحمة عالمية خاتمية، إلى رسالةٍ محلية من إله القرن السادس الميلادي إلى عرب شبه الجزيرة فقط، وطلبت من أتباع محمد اليوم التوقفَ والجمود في ذلك الزمان والمكان.

فالتنزيل الحكيم كتابٌ مقدسٌ خالٍ من التناقض، لا مجال للترادف بين ألفاظه، قدّمَ مفاهيم واضحةً عن الدولة والمجتمع، وساوى بين الناس جميعاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات 13) وفق علاقة تعارف فيما بينهم، وجعل معيار التقييم هو التقوى، من حيث كونها عملاً صالحاً {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل 17- 18)، وميز بين الأمّة والقوم والملة، فالأمم مختلفة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} (البقرة 213)، والأمّة هي تجمّع ناس على اتباع شخصٍ ما، أي أصحاب ملة معينة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (يونس 47)، أما القوم فيشتركون بلسانٍ واحد {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم 4)، وقد تتعدد الأقوامُ والأممُ ضمن الشعب الواحد، فنحن كشعبٍ سوري لدينا قوميات مختلفة: عربٌ وكردٌ وسريان وأرمن وآشوريون وشراكس، وأممٌ مختلفة: أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد، ويُفترض كشعبٍ أن يحكمنا قانونٌ واحدٌ ضمن الوطن الذي نعيش فيه، وبالتالي يكون ولائي كمسلم للقيم الإنسانية التي تجمعني مع كل أهل الأرض، وهذه القيمُ هي الوصايا التي أرسلها الله تعالى وأجمعت عليها كل الأديان، من برّ الوالدين ورعاية الأيتام إلى تحريم القتل والزنى وخيانة العهود والغش، وولائي لأمة محمد ينحصر في أدائي للشعائر على طريقتها، فأصوم رمضان وأصلي خمس أوقات في اليوم وأؤدي الزكاة وأحج إلى مكة، وفي القومية أنا أتكلم لغتي العربية، والولاء هنا يتحول لتعصب وعنصرية، أما كمواطن فولائي لقانون الوطن الذي أعيش فيه.

لقد حدد التنزيل الحكيم علاقة الناس مع بعضهم على أساس التعايش، وفق قاعدةٍ أساسية تقوم على: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(الكهف 29)، و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)، أي أنّ التنزيل أكد على حرية الإيمان والكفر {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة 256). وفي هذه الآية وضعَ الكفر بالطاغوت عكس الإيمان بالله، وبالتالي فإنَّ العروةَ الوثقى التي لا انفصام لها هي الحرية بكل أشكالها، سواء ضد الطغيان السياسي أو الديني أو الاجتماعي، وبذلك لا سلطة لدينٍ أو ملةٍ على دينٍ آخر. واللهُ تعالى وضع بيده وحده الفصلَ بين الناس يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(الحج 17)، وتوضح الآية الكريمة: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام 19) أنّ براءتك من المشرك تتحدد بما يشرك به حصراً.

أما مصطلح “الولاء والبراء” كما وصل إلينا عبر الموروث الفقهي، فقد اعتمد الآية {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران 28) وهي آية تخص عصر النبوة فقط، لكنّ الموروث الفقهيّ قسم الناس إلى مؤمنين وكافرين، وفق تعريفٍ مغلوطٍ للإيمان يعتمد على أداء الشعائر فقط، وبناءً على ذلك اعتبر أنّ كلّ من لا يصلي أو لا يصوم هو كافر، وبالتالي خارجٌ عن الجماعة ويجب معاداته، ووصل العداء إلى القتل أحياناً كثيرة، وقسمت البلاد إلى ديار الإسلام وديار الكفر، وهذا لا أساس له، فأرض الله واسعةٌ وعلاقتك بالآخر تقوم على اعتباره أخاً لك في الإنسانية، ناهيك عن أنه في حالة اللجوء الحاصل اليوم هو مضيفك الذي قدم لك العون والمساعدة، عدا عن الرعاية الصحية والتعليمية والمسكن والمأكل في كثير من الحالات، والأهم من ذلك كله الكرامة والعدالة الاجتماعية اللتان لم تحظ بهما في بلدك أصلاً، وكان الأولى بمن ينظر بعين البغض لكل هذا أن يتوجّه إلى إحدى الدول المسماة “إسلامية” والتي تسمح بدخول السوريين كإيران أو السودان مثلاً.

ما أريد قوله إن مفهوم الولاء الوطني ملتبسٌ لدينا، ومتداخلٌ مع ولاءاتٍ عدة، سواء الولاء الديني أو الولاء القومي، فيما يفترض ألا يمنعَ حب البلد الأم من الولاء للوطن الجديد المتمثل في احترام قوانينه ومؤسساته، لا بأشخاصه كما اعتدنا في دولنا العربية، وألا يمنع الولاءُ الديني بصفته علاقةً شخصية بين الإنسان وربه من انسجام اللاجئ مع المجتمع الجديد، سيما إذا كان دينك هو الإسلام ورسولك هو محمد الذي جاء برسالة يفترض أنها رحمة للعالمين لا لقومه فقط {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(الأنبياء 107).

الرابط على موقع أبواب

اترك تعليقاً