ديموقراطية النبوّة

ديموقراطية النبوّة

تسمى علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا العلوم المضبوطة ، لأنها تقوم على أسس رياضية دقيقة، بحيث يصبح هامش الخطأ في التنبؤ بالنتائج لدى القيام بأي بحث ضئيل جداً، بينما يختلف الأمر كلياً في العلوم غير المضبوطة وهي العلوم الاجتماعية، التي تقوم على التغير غير المنضبط، حيث يتبع لعوامل عدة تدخل فيها السياسة والمعتقدات والتقاليد والوعي الجمعي والإرادة، وكل هذه العوامل مجتمعة تشكل حركة التاريخ، وفي حين أننا نستطيع دراسة التاريخ الذي مضى، إذ لا تتبدل السنن ولا تتحول {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب 62)، إلا أن دراسة هذه السنن لا يعطينا قانوناً دقيقاً يمكننا من التنبؤ بأحداث المستقبل، حيث لا يمكن افتراض تكرار الأسباب والمقدمات في أي نموذج تاريخي بشكل متطابق تماماَ، وإلا لانتفت السيرورة في تطور الوعي الإنساني، وبالتالي يبقى التاريخ عصياً على البرمجة المسبقة وفقاً لأحداثه السابقة، لكن هذا لا يمنع من قراءة الخطوط العريضة وأخذ العبر من سنن الأولين {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} (آل عمران 137).

وبقراءة التاريخ وقوانينه لا يمكن لنا إلا الاستنتاج أن الإنسانية تسير في اتجاه الأفضل دائماً، وفي الطريق الصحيح، وكل ما نعيشه هو حصيلة تراكمات، سواء في القيم أم في غيرها، ورغم انتكاسات هنا وهناك إلا أن المسار لا بد له من تصحيح ذاته بطريقة أو بأخرى.
وإذ يبدو المشهد في العالم قاتماً، لا بد لنا من النظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة، حيث تبدو “داعش” سيدة الموقف، ليست كمفردة تعبر عن “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وإنما كظاهرة عالمية، تمثل التطرف، بكل أنواعه وأشكاله، هذا التطرف الذي شكل الثغرة التي دخل من خلالها الأشرار لعقول شباب مسلمين فحولوهم إلى مجرمين لا يعرفون الله الذي نعرفه، وهو التطرف ذاته، إنما دون عنف، الذي كان أحد أسباب وصول “ترامب” إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، فالأميركي الأبيض المتعصب لم يستسغ وصول رجل من أصول أفريقية لهذا الموضع، وأراد استعادة “كرامته” المهدورة جراء ما حدث، إضافة لأن كثيرين لم يستسيغوا وصول امرأة لهذا المكان أيضاً، فالعقل الجمعي بمعظمه في العالم “الراقي” لم يصل بعد، على ما يبدو، إلى الدرجة التي تؤهله لتقبل أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأسود كالأبيض، وأن الذكر كالأنثى، وأن المهاجرين كأهل البلد المضيف سواء بسواء، علماً أن أهل البلد كانوا مهاجرين أيضاً، ومن ثم جاء فوز ترامب الذي هدد بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأميركية، كما هدد بطرد المهاجرين غير الشرعيين، في خطاب يتسم بقمة العنصرية، ويهدد شكل الديمقراطية الذي نعرفه في العالم.
ومع ذلك، فالإنسانية لا يمكنها إلا أن تسير للأمام، وخط التاريخ لا يعود للوراء، وإنما يصحح مساره من الانحراف الذي يطرأ عليه، والشعوب التي أنتجت الديمقراطية كنظام حكم مثالي لردهة من الزمن، تستطيع إنتاج ما هو مناسب لزمن جديد، وقد تتخبط بين نجاح وفشل، لكن لا بد لأي مجتمع مدني من الوقوف على قدميه، فالمدنية سمتها التعدد، بينما القرية سمتها الأحادية، ولا أحادية إلا لله، والحكم الواحد لا بد له أن يزول ويهلك.

وفي ظل التطرف والعنصرية السائدين، لا بد لنا أن ننظر بإعجاب إلى القفزة النوعية التي أحدثتها الرسالة المحمدية في سيرورة التاريخ، فالرسول الأعظم أقام دولته التعددية في المدينة المنورة، أساسها الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى 38)، وفيها كل أطياف المجتمع، المؤمن برسالة محمد والكافر بها، والمسلم على ملة محمد والمسلم على ملة عيسى والمسلم على ملة موسى، والمهاجر وصاحب الأرض، ولم يحارب أحداً قبل العيش بظل دولته، في أول تطبيق للديمقراطية في العالم، يحاسب فيها الناس بناءً على التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، حيث التقوى عمادها العمل الصالح، ووضع فيها حجر الأساس لتحرير المرأة وتحرير الرق، في طفرة سابقة للعصر، بحيث لم تصل الإنسانية لذلك إلا بعد عهود طويلة، بل هاهي اليوم تؤكد على احتياجها لمزيد من الوقت لتصل إلى ما طرحته الرسالة المحمدية بكل ما يخص المساواة بين الناس، بغض النظر عن معتقداتهم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، فالثورة النبوية كانت أول ثورة شمولية كبرى في التاريخ الإنساني تحققت فيها الشروط الثورية الثلاث التي لا بد لأي ثورة أن تستكملها كي تنجح، وتتلخص بـ: الظروف الموضوعية التي تسمح بتغيير ثوري، وعي هذه الظروف، تشكيل الأداة الثورية (القضاء الواعي)، وباعتبار أن العرب كانوا أحراراً لا عبيد فقد وقع على عاتقهم القيام بهذه الثورة، وأسسوا من خلالها وبقيادة النبي محمد (ص) دولة ذات كيان حضاري وسياسي، وحرروا شعوب المنطقة من نير الاستعباد الذي كانوا رازحين تحته، فحتى المسيحية لم تستطع القضاء على الدولة الرومانية، لكن تبنتها الدولة الرومانية وأعادت صياغتها ضمن أطرها الوثنية الإمبراطورية، بينما فعلت ذلك الثورة المحمدية، والرسول قام بهذه الثورة من مقام النبوة فقط، فالرسل لا يبنون دولاً، بل هم الأنبياء، أي بالاجتهاد الإنساني وفق مقتضيات عصورهم، وما فعله محمد هو تنظيم الدولة والمجتمع، وفق الظروف الموضوعية السائدة، معتمداً على الوحي (كتاب الله) فجاءت ثورته عامة شاملة لكل نواحي الحياة الشخصية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وضمن توجيه إلهي غير مباشر في معظم الأوقات، مما أعطاها القفزة النوعية التي غيرت مجرى التاريخ مؤقتاً، ثم ما لبث أن عاد إلى خطه الطبيعي تدريجياً بعد وفاة الرسول.

وإذا كان النبي بهذه القفزة قد وضع حجر الأساس لتحرير المرأة، وبداية تغيير في العلاقات الإنتاجية، مع مراعاة التدرج في ذلك، إلا أن الأهم هو القفزة السياسية غير المسبوقة، حيث قام بالفصل بين السلطات الأربع التي كانت بين يديه: التشريعية والقضائية والتنفيذية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأطيع فيها طاعة منفصلة، أي في حياته من أفراد مجتمعه، لكن ما حدث بعد وفاته مباشرة هو عودة السلطتين التشريعية والتنفيذية ليد من ملك سطوة الحكم، يمارس هاتين السلطتين كيفما شاء بتشريع ما شاء، وفرضه على المجتمع عنوة، إلى أن صارت أيضاً سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي من المفروض أن تسهر على تحقيق العدالة في المجتمع، صارت سوطاً بيد السلطة الحاكمة تضرب بها أي رغبة اجتماعية في التغيير وتحسين الأوضاع، إلا أن وصل الأمر تدريجياً بالأمة لتكون مكبلة من كل النواحي، فكمت الأفواه، وحجرت الحريات، وضاعت العدالة الاجتماعية وقيمة الحرية تحت سطوة السيف، وصارت الطاعة لذي الشوكة هي السارية في الأمة الإسلامية، في ابتعاد جائر عن خط دولة النبوة، مع الإبقاء على أحكامها التي عفت عليها الأزمان.
أما رسالة الرحمة والعالمية والخاتمية فجرى مسخها، ليتحول فيها الإسلام إلى دين محلي شرق أوسطي، وبدل دين الفطرة أصبح دين تكاليف ضد الفطرة، وبدل {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً –} (الأعراف 158) و {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29) أصبحنا نصدر خطباً مليئة بالكراهية والحقد، وحرمنا الجنة على غيرنا ونصبنا أنفسنا موقعين عن الله، نفرز الناس وفق أهوائنا.

ومع كل هذا، أرى أن الأوان لم يفت بعد، بل على العكس، فالظروف التي نعيشها اليوم على كافة الأصعدة، ما هي إلا مخاض طال أو قصر، لا بد له أن ينتهي بولادة ما هو جديد، والوقت قد حان لإعادة تأصيل الأصول، والنظر للإسلام نظرة موضوعية، وفق أرضيتنا المعرفية لا أرضية القرن السابع الميلادي، لعلنا نصل إلى نظام حكم يشبه ذاك الذي أسسه النبي من حيث كونه قفزة نوعية، وبخطوطه العريضة، لا من حيث اجتهاداته التي كانت صالحة لزمانه، نظاماً يتساوى فيه الناس جميعاً، يعتمد مرجعية أخلاقية قائمة على القيم الإنسانية، ويحاسب فيه الناس وفق أعمالهم لا ألوانهم وجنسهم ومعتقداتهم، وتحقق فيه العدالة ويتكافل فيه الناس بعضهم مع بعض، لا يضيره الاختلاف، بل يستوعب الجميع بمختلف أشكالهم، وفق مشيئة الله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118)، وربما يكون نظاماً هادياً للإنسانية بدل أن تدخل في نفق العنصرية والتطرف، لعل شعوب هذه المنطقة تحظى كما حظي أجدادها بشرف توجيه الإنسانية نحو خط سير أفضل، ولعل كل هذه الدماء السورية المهدورة ستكون منارة للعالم أجمع.

الرابط على موقع السوري الجديد

(1) تعليقات
  1. استاذي الدكتور شحرور اطال الله عمركم: اردت فقط ان لا يفهم الناس خطأ ان البيولوجيا تتبع منطق الرياضيات. البيولوجيا ليست علم يتبع الرياضيات ابدا.. نعم هناك قوانين للطييعة لكنها لا تتبع قوانين الرياضيات الصارمة الدقيقة. الصدفة والطفرة مثالين علي عدم الاتباع. آظن انكم تتفقون معي انه لا يوجد علم بصرامة الرياضيات إلا ان كان اصلا معتمدا عليها مثل برمجة الحاسوب. دمت لنا ودامت كتبكم ومنشوراتكم نورا لنا جميعا.

اترك تعليقاً