كيف عبَّر القرآن عن مراحل نشأة الكلام الإنساني – نفخة الروح (3) – مجلة روز اليوسف

كيف عبَّر القرآن عن مراحل نشأة الكلام الإنساني – نفخة الروح (3) – مجلة روز اليوسف

لا يمكن أن يكون هناك تفكير إنساني بدون نمط لغوي لذا فقد ارتبطت نشأة الفكر بنشأة الكلام الإنساني ارتباطاً لا انفصام فيه وقد عبَّر القرآن عن مراحل نشأة الفكر ونفخة الروح بنشأة الكلام الإنساني كالتالي:

المرحلة الأولى:

مرحلة تقليد أصوات الحيوانات والطبيعة (الرسالة المشخصة – العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول) وهي التي عبَّر عنها بقوله: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} البقرة 31.

لقد شرحنا في مقال سابق معاني العلق والقلم (التمييز) والآن لنشرح مفهوم الأسماء (الاسم).

الاسم: لقد جاء الاسم من أحد فعلين في اللسان العربي:

1 – من فعل “وسم” وهذا الفعل أصل واحد يدل على أثر ومعلم، ووسمت الشيء وسماً: أثرت فيه بسمة، والوسمي أول المطر لأنه يسم الأرض بالنبات. وسمي موسم الحج موسماً لأنه معلم يجتمع إليه الناس. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} (الحجر 75). أي الناظرين في السمات الدالة.

2 – من فعل “سمو”: السين والميم والواو أصل يدل على العلو. يقال سموت إذا علوت، وسما بعده علا، وسما لي شخص: ارتفع حتى استثبتَّه، وسماوة كل شيء شخصه، والجمع سماء وسماو. والعرب تسمي السحاب سماء، والمطر سماء. والسماءة: الشخص. والسماء سقف البيت. وكل عالٍ مطلٍ سماء. حتى يقال لظهر الفرس سماء.

ويقال إن أصل “اسم” سمو وهو من العلو لأنه تنويه ودلالة على المعنى.

لنناقش الآن: هل الاسم مشتق من “وسم” أم من “سمو”. فإذا كان الاسم من “سمو” فهو العلو والارتفاع. أي أن الاسم يعلو صاحبه ولو كان هذا الكلام صحيحاً لعرفنا اسم كل شيء دون أن يخبرنا عنه أحد لأنه يعلوه وهذا يخالف الواقع الموضوعي. أما إذا كان الاسم من “وسم” فهو سمة لصاحبه، أي شيء يميزه عن غيره. ونحن نسمي الأشياء لنميزها عن بعضها أي لنعطيها سمات مميزة. ولكل شيء سمة خاصة به، فنقول “تفاح جميل” فالتفاح اسم لثمرة أطلقنا عليها هذا الاسم لنميزها عن بقية الثمار، وجميل أيضاً اسم وهو سمة “صفة” مميزة للموصوف وهو التفاح.

وقد قال “الفراء” واضع أسس المدرسة الكوفية إن أصل الاسم من وسم وليس من سمو. حتى أن ابن فارس وضعها بصيغة غير مؤكدة في “سمو” “يقال بأن أصل اسم من سمو”.

فإذا أخذنا بالرأي القائل إن أصل الاسم من “وسم” فيتضح لنا معانٍ واقعية لآيات في الكتاب ذكر فيها لفظة “الاسم”.

لنأخذ الآيات التي فيها لفظ “اسم”:

1 – (بسم الله الرحمن الرحيم): هنا ذكر الصفة المميزة “لله”، والله هو لفظ الجلالة ولا نقول اسم. وإن من سماته أنه الرحمن الرحيم وكذلك قوله: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف 180). فالسمات المميزة لله هي الأسماء الحسنى وقد جاء ذكرها في الكتاب.

2 – {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} (النجم 23). هنا يذكر في هذه الآية أنه في زمن هود كان تعدد الآلهة مع التخصص فهناك إلاه الحرب وإلاه الغضب وإلاه الخصوبة وإلاه الحب وهكذا دواليك. لذا قال: {إن هي إلا أسماء}. لذا أجابه قومه: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} (هود 54). هنا ذكر “بعض” كجزء من كل أي أن آلهة السوء اعترت هوداً وذلك لوجود آلهة أخرى لها سمات أخرى.

3 – {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} (آل عمران 45). إن المسيح هو سمة عيسى بن مريم وقد ذكر هذه السمة بقوله: {وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين} (آل عمران 45). ولا نرى في الكتاب أبداً صيغة “اسمه” مع عيسى بن مريم إلا وقرنها بالمسيح “اسمه المسيح”. لأن المسيح هي سمة خاصة لعيسى بن مريم وقد ذكر هذه السمة في الآيات (46، 48، 49) في سورة آل عمران.

4 – {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً} (مريم 7). هنا أعطى الله اسماً لابن زكريا، وسمة هذا الاسم أنه أكثر اسم حي من أسماء أهل الأرض لذا سماه “يحيى” وهو أول تسمية.

5 – {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (الصف 6). إن أحمد هو السمة المميزة لمحمد بن عبد الله وهذه الصفة هي على وزن أفعل وهي للتفضيل.

لذا فقد أعطى الله لمحمد (ص) سمة الحمد المميزة بالتفضيل له على كل الرسل والأنبياء، فسماه أحمد. وقد فهم العرب الأوائل هذه الصفة على أنها خاصة بمحمد (ص) فامتنعوا عن تسمية أبنائهم باسم أحمد. ولا نرى في صدر الإسلام أو في العهد الأموي من سمى ابنه “أحمد” وإن أول اسم صادفناه تاريخياً باسم أحمد هو الإمام أحمد بن حنبل في العهد العباسي. علماً بأن كثيراً من الصحابة سموا أبناءهم باسم محمد. أي أنهم فهموا أن اسم أحمد خاص بمحمد (ص). كما أن اسم المسيح خاص بعيسى بن مريم (ع).

وهنا يجب أن لا نفهم أن التعليم وحي “إلهام” لأن الوحي يحتاج إلى لغة مجردة، ويجب أن لا نفهم أن الله جلس مع آدم وعلمه كما نعلم الأطفال، بل يجب أن نفهمها فهماً مادياً رحمانياً، أي أنه أصبح يميز بواسطة الحواس “السمع والبصر” ويقلد بواسطة الصوت “السمع والجهاز الصوتي”. أما قوله “آدم” فقد جاء هنا اسم جنس للدلالة على أن البشر أصبح متكيفاً متلائماً بوجود جهاز صوتي وبانتصابه على قدميه ومتلائماً لعملية الأنسنة.

أما قوله “الأسماء” فهي من فعل وسم وهي السمات المميزة للأشياء المشخصة، والسمات الأساسية المميزة للأشياء المشخصة هي الصوت والصورة. وقد بدأ بملاحظة الذي يصدر صوتاً ويتحرك “معاً” “الحيوانات” قبل ملاحظة الذي يصدر صوتاً بدون ملاحظة الحركة “الشجرة” لذا قال: {كلها} أي السمات الصوتية المميزة لكل الأشياء المشخصة الموجودة حوله. أما قوله: {ثم عرضهم}. فللدلالة على أن السمات هي للمشخصات حصراً لأن عرضهم تعود على المسميات لا على الأسماء وهل يعرض إلا المشخص. وهنا يجب أن نصحح أمرين اثنين:

1- أن “الأسماء” هي السمات وليس كما يقول البعض بأنه علمه أسماء الأشياء كلها بمعنى اللغات.

ولو عنى هذا لقال “علم آدم الألسن كلها” حيث إنه عند استعمال الألسن في شكلها البسيط “استعمال التجريد من أبسط صورة” بدأ الوحي للإنسان من نوح وعندها قال: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه} (إبراهيم 4).

2- يجب علينا أن نفهم قوله: {ثم عرضهم على الملائكة}. بأن آدم “الجنس” كان في الأرض، ولم يعلم ماذا قالت الملائكة، ولا علاقة لآدم بهذا الحديث وفي هذا المجال قال: {قل هو نبأ عظيم} (ص67)، {أنتم عنه معرضون} (ص68)، {ما كان لي من علمٍ بالملأ إذ يختصمون} (ص69). وقد قلنا إن العلم لا يكون إلا بالقلم للإنسان وغير الإنسان لذا فإن ما علمه آدم لم يدخل في علم الملائكة لأن الملائكة لها قلمها الخاص “تمييزاتها الخاصة” لذا أجابت الملائكة بقوله: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (البقرة 32).

هذه المرحلة هي مرحلة التقليد أو المحاكاة “أي مرحلة آدم الأول وفيها ظهر وعي الشخص الثالث هذه المرحلة هي مرحلة ما قبل الكلام الإنساني وهي التمهيد الضروري للمرحلة التي تليها وهي مرحلة بداية الكلام الإنساني القائم على التقطيع بفعل الأمر “أي مرحلة آدم الثاني”.

المرحلة الثانية “مرحلة آدم الثاني”:

مرحلة فعل الأمر وقد جاءت في قوله: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} (البقرة 33). فقوله: {يا آدم أنبئهم}. والنبأ جاء من النبأة وهي الصوت ومنه سمى النبأ لأنه ينتقل من شخص لآخر كما أن الصوت ينتقل من مكان إلى آخر. وقوله: {بأسمائهم}.

أي أن واسطة النبأ هو التمييز الصوتي لذا استعمل حرف الجر “الباء” والباء فيها الواسطة أي أن النبأ “الصوت” هو واسطة الدلالة على الاسم فربط بين الصوت والاسم، وبالتالي الشيء والسمة الصوتية للشيء. وهذه المرحلة ظهر فيها التقطيع الصوتي بواسطة فعل الأمر في هاتين المرحلتين نرى مرحلة الإدراك الفؤادي وهي مرحلة الشيء المشخص وصورة الشيء عن طريق حاستي السمع والبصر واسم الشيء.

نلاحظ في هذه المرحلة أن الله تعالى قال: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} (البقرة 34).

لنقارن تسلسل الآيات (30، 31، 32، 33، 34). في سورة البقرة مع تسلسل مراحل الخلق في قوله تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين} (ص 71} (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص72)، {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (ص73)، {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} (ص 74).

نلاحظ في الآية 30 في سورة البقرة قوله: {إني جاعل في الأرض خليفةً} للدلالة على استكمال التسوية وفي الآية 34 في سورة البقرة طلب السجود ومنه يتبين أن الآيات (31، 32، 33) كانت للتعبير عن بداية نفخة الروح “بداية الأنسنة”.

وفي هذه المرحلة بدأ البشر يصبح إنساناً بظهور الشيطان الفعلاني ولكنه كان غير قادر على ظاهرة العمل الواعي، لذا قال له: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقد شرحت في مقالة سابقة جنة آدم وهي عبارة عن غابات استوائية فيها أشجار مثمرة “متوفر فيها الطعام والماء والظل”، كانت هذه الفترة لتعميم فعل الأمر والتقطيع الصوتي على الأصوات المخزونة لديه من المرحلة الأولى. لذا قال: {ولا تقربا} (صيغة الطلب). وكان هذا الطلب أول ظاهرة من ظواهر التشريع البدائي. هنا علينا أن نفهم الشجرة على أنها ذات معنى رمزي فقط حيث جاءت صيغة التشريع البدائي في صيغة تتعلق بمظاهر الطبيعة الشائعة والبارزة لدى الإنسان.

وقد مثل الشيطان الفعلاني الجانب الجدلي في العملية الفكرية حيث دخل الوهم إلى الإنسان بأن هذه الشجرة فيها الخلود “الباطل” حيث كان لدى الإنسان غريزة البقاء فلعب الشيطان بهذه الغريزة حتى أدخل الوهم إلى الفكر الإنساني. في هذه الحالة التي أخذت فترة من الزمن أصبح الإنسان جاهزاً للعمل الواعي فانتقل نقلة نوعية بقوله: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} (البقرة 36).

هذه النقلة هي نقلة {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} (طه 117) حيث مثلت هذه النقلة بقوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو}. حيث كانت الحياة الاجتماعية والتشريعية لم تبدأ بعد وبقوله: {فتشقى}. بدأت ظاهرة العمل والتواصل بين اثنين مع البقاء على استعمال الأصوات المقطعة المكتسبة من تقليد أصوات الحيوان وظواهر الطبيعة، لذا اعتبرها القرآن فترة انتقالية مؤقتة بقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}.

مرحلة آدم الثالث:

هذه المرحلة تعتبر القفزة الهائلة في نفخة الروح كقفزة قانون ربط النقيضين بعدم التناقض، وهي قفزة التجريد حيث إن الإدراك الفؤادي يقوم بربط الأسماء بالأشياء كلٍ على حدة ربطاً قائماً على الحواس وعلى رأسها حاستي السمع والبصر.

انتقل الإنسان بعدها إلى مرحلة أخرى من مراحل تطور اللغة وبالتالي الفكر وهي مرحلة التجريد أي الانتقال من العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول القائمة على الحواس “السمع والبصر” إلى علاقة اصطلاحية قائمة على الاسم والشيء فقط وهذا ما يسمى بالتجريد. وبما أن الطبيعة المعروفة كلها قائمة على المشخصات فكان الإنسان بحاجة إلى قفزة نوعية للانتقال من المشخص إلى المجرد. وبما أننا ننطلق من النظرة الرحمانية (المادية) في المعرفة الإنسانية أي أن المعلومات تأتي من الخارج القائم على قوله: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل 78).

فالسؤال الذي يطرح نفسه كيف بدأ التجريد عند الإنسان لأول مرة علماً أن الطبيعة خالية من التجريد أي أنه لم يأت تقليداً لظاهرة ما في الطبيعة؟

هنا جاءت مرحلة آدم الثالث لتغطي هذه القفزة. في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليهِ إنه هو التواب الرحيم} (البقرة 37). لقد جاءت قفزة التجريد من الله مباشرة أي أنه سمع أصواتاً مجردة لها معنى التوبة، والتوبة من المفاهيم المجردة وليست من المشخصات أي أنه سمع فعل أمر من صوتين أو ثلاثة أصوات مقطعة كقوله تب فتاب عليه.

وهنا بدأ التجريد. وقد أعطى التنزيل الحكيم مثالاً رائعاً على التجريد والعلاقة الاصطلاحية بين الصوت والمدلول في الآية (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} (البقرة 58). هنا لاحظ العلاقة الاصطلاحية بين لفظة “حطة” وبين نغفر لكم خطاياكم أي:

حطة “علاقة اصطلاحية بصيغة الطلب” تعني المغفرة.

قارن بهذه العلاقة الاصطلاحية بقوله تعالى:

{فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} والكلمات كما قلنا من الناحية اللسانية تعني مجموعة الأصوات المقطعة أي تلقى مجموعة من الأصوات المقطعة بصيغة الطلب تعني التوبة بعلاقة اصطلاحية غير طبيعية. وعليه فإنه ليس بالغريب أبداً أن نرى أن أول كلمة بدأ بها الوحي للنبي (ص) هي صيغة الطلب بفعل الأمر “اقرأ”. بعد هذه القفزة الربانية الهائلة أي قفزة التجريد بدأ الإنسان في الوجود وبدأت القوانين التالية في العمل:

فالقانون الأول يعمل على ربط النقيضين بعدم التناقض. أما القانون الثاني فبدأ منذ التجريد يعمل بربط الأشياء بعضها مع بعض عن طريق أسمائها المجردة كقولنا “القط جميل”. وهذا هو ربط أسماء الأشياء والمفاهيم بعضها ببعض “تأثير وتأثر متبادل قانون الزوجية” برباط يسمى الرباط المنطقي “المسند والمسند إليه” أي ببداية الفكر المجرد بدأت العلاقات المنطقية بين أسماء الأشياء والمفاهيم وباكتمال التجريد الذي بدأ بقوله: {فتلقى آدم من ربه كلماتٍ}.

والذي أخذ وقتاً طويلاً اكتمل الرباط المنطقي للغة بظاهرتي الصرف والنحو، فظاهرة الصرف تعني إعطاء أسماء جديدة للأشياء أي عندما يكتشف الإنسان جديداً غير معروف سابقاً فإن أول شيء يفعله دون شك هو أن يضع له اسماً “مصطلح” وفي الوقت الحاضر تستعمل قواعد الصرف “الاشتقاق” في اللسان الواحد أو يستعار من لسان آخر. وفي ظاهرة النحو تظهر بشكل جلي العلاقة المنطقية بين البنية اللفظية النحوية وبين مدلولاتها.

وكذلك ظهر قانون الأضداد في الظواهر “صفات الأشياء والمفاهيم”. وقد ظهر مفهوم العقل وهو الربط المجرد بين المقدمات والنتائج بقانون عدم التناقض الذي ربط بين الرحمن والشيطان، وبه يستنتج الإنسان المجهول من معلوم وهو القانون الأساسي للتفكير المنطقي المجرد عند الإنسان فإذا كانت النتائج وهمية فهي شيطانية، وإذا كانت حقيقية فهي رحمانية وفي كلتا الحالتين يعمل قانون عدم التناقض.

والآن علينا أن نؤكد الحقائق التالية في أذهاننا:

1 – إن القانون المنطقي موجود عند كل الناس العاقلين على حد سواء، لأنهم يمتلكون لساناً، ولكن مستويات استعمال هذا القانون تختلف من إنسان لآخر، وهذا القانون يعمل على حد سواء.. سواء كانت المقدمات حقيقية “رحمانية” أم وهمية “شيطانية” لأنه لا يمكن أن نقول: إن العلماء عاقلون والدجالين مجانين حيث كلاهما عاقل. ولكن العالم يستعمل المقدمات الرحمانية، والدجال يستعمل المقدمات الشيطانية وكلاهما يستعمل قانون عدم التناقض.

2 – إن القانون المنطقي الذي هو ربط مجرد بين أسماء الأشياء بعضها ببعض لاستنتاج المجهول من معلوم من مبدأ عدم التناقض. هذا القانون هو الذي نسميه المنطق الصوري.

3 – إن قانون الربط بين النقيضين بقانون عدم التناقض والربط المنطقي بين المقدمات والنتائج القائم على عدم التناقض هو القانون الذي لا يخضع للتطور أبداً وهنا تكمن نفخة الروح. حيث أن التطور جاء منهما وهذا القانون لم يتولد من علاقة إنتاجية أو من طبقة أو من علاقة اقتصادية، بل به تميز الإنسان كجنس وقفز من المملكة الحيوانية وهو الحلقة المفقودة عند داروين.

مرحلة الهبوط الثاني:

بعد أن تلقى آدم الثالث القفزة الأساسية وهي بداية التجريد حصل الهبوط الثاني وهو الانتقال إلى مرحلة اكتمال التجريد واكتمال العلاقة المنطقية. في هذه المرحلة بدأ الإنسان باكتساب المعارف وبداية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية في أشكالها البدائية. لذا قال: {قلنا اهبطوا منها جميعاً}. وأتبعها بقوله: {فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة 38).

لاحظ الفرق بين التعقيب على الهبوط الأول بقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} (البقرة 36). وبين التعقيب على الهبوط الثاني (فإما يأتينكم مني هدىً}. وقد جاءت هذه الصيغة للمستقبل، وقد أرسل الله رسلاً للهدى بواسطة الوحي. وهل يمكن أن يكون هناك وحي من الله لإنسان دون أن يملك الإنسان لغة مجردة “لسان” لكي يوحي له بها؟

الاصطفاء:

{إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (آل عمران 33).

لقد حصل الاصطفاء في مرحلة آدم الثالث: أي أن الذي تلقى التجريد والعلاقة الاصطلاحية شخص واحد وعن طريق السمع وقد علمها هذا الشخص للآخرين.

لذا جاءت صيغة الهبوط “الانتقال” في الجمع في قوله: {اهبطوا منها جميعاً}. أي هو ومن كان معه وعلمهم هو تعليماً. وهذا يؤكد قوله تعالى: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه 123).

هنا لاحظ التعليق على قوله “جميعاً” بعد “اهبطا منها” حصل القول لمثنى والتنفيذ للجمع لأنه لو حصل الهبوط لاثنين فقط فإن كلمة جميعاً لا معنى لها لأنه لو كان الخطاب موجهاً إلى جزء من كل لقال “أجمعون” كقوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (الحجر 30) أي أن السجود ليس من كل الملائكة وإنما حصل من الذين وجه إليهم القول: ولو قال: “فسجد الملائكة جميعاً” لعنى بذلك جنس الملائكة كلهم، وكقولك “فجاء الناس كلهم أجمعون” أي جاء الناس الذين وجهت إليهم الدعوة فقط. ولو قلت “فجاء الناس كلهم جميعاً” لكان معنى ذلك مجيء الناس بدون استثناء. وهنا قوله جميعاً هي للكل، لذا أتبعها بقوله: {فإما يأتينكم مني هدىً}.

وهذا ما نراه حتى يومنا هذا عند كل أهل الأرض أن العلاقة الاصطلاحية بين الصوت والمدلول “الاسم والمسمى” لا تأتي إلا تعليماً أي أن الشخص الذي يعرف العلاقة الاصطلاحية يعلمها للشخص الذي لا يعرفها. وهذا ما يحصل عند تعليم الأطفال الكلام من قبل الوالدين والمجتمع، فالطفل يمكن أن يقلد صوت الهرة والكلب دون أن يعلمه أحد، ولكن لا يمكن له أن يعلم وحده كلمة الهرة أو الكلب.

ولو ولد إنسان وعاش وحده في غابة فإنه يستطيع أن يمر بمراحل آدم الأول والثاني ولكنه لا يبلغ مرحلة التجريد أي بإعطاء علاقة اصطلاحية بين الصوت والمدلول كما حصل عند آدم الثالث إلا إذا علمه إياها أحد. وهنا يكمن الاصطفاء لآدم الثالث. والذي هو أبو الإنسان وأبو الوجود التاريخي وليس أبا البشر. وعندما نقول عن أنفسنا إننا نحن بنو آدم فهذا لا يعني أننا نحن أبناؤه بشكل فيزيولوجي مباشر ولكنه يعني أولاً: أننا نحن من الجنس الآدمي المتكيف المتلائم. وثانياً أن آدم المصطفى أبونا، فنحن أبناؤه من حيث الأنسنة، حيث نقول في اللسان العربي إن فلاناً ابن المدينة أي ولد في المدينة وأخذ طباعها. ونقول إن فلانا ابن أبيه ونعني بذلك أن أباه علمه وأخذ طباعه فكان نسخة عنه أما نوح وآل إبراهيم وآل عمران فهم من أبناء آدم المصطفى من صلبه أي من أبنائه لقوله: {ذريةً بعضها من بعض}. وهذا يؤكد أن هناك بعض الناس من ذرية آدم وليس كلهم.

لذا فإن الإنسان الذي تعلم التجريد ومشى فيه استمر إلى يومنا هذا والذي لم يجرد وبقي على العلاقة الطبيعية فقد انقرض، أما الإنسان الحديث فهو الذي اكتمل عنده حد أدنى من العلاقات المجردة أي أصبح له لغة ولو في أدنى مستوى تجريدي.

مجلة روز اليوسف

(1) تعليقات
  1. قال تعالى : و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين
    وقال تعالى : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو

    حسب اعتقادي وبحسب ما تعلمته حقيقة من المنهج الرائع للدكتور شحرور ، وهو التدقيق في كل لفظة ، جاء الأمر بالهبوط للأرض ككل و ليس لمكان بعينه كما في آية بني إسرائيل حيث أمرهم تعالى بالهبوط لمصر أو أي مصر ، فعندما تكون الأرض كلها دون تحديد مكانا مقترنا بالهبوط فالمقصود هي كوكبنا هذا . لذلك من المحتمل أنهم كانوا في جنة ما علمها عند الله وليس في إحدى جنات الجزاء و الثواب كجنة عدن أو جنة الخلد …

اترك تعليقاً