عالمية آيات الأحكام (الرسالة) في عصر ما بعد الرسالات – مجلة روز اليوسف

عالمية آيات الأحكام (الرسالة) في عصر ما بعد الرسالات – مجلة روز اليوسف

الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده منذ أن بعث نوحاً حتى خاتم الرسل محمد (ص). وبما أن التوحيد هو رأس الأمر كله، فإن هذا الدين يتألف من ثلاثة فروع هي: القيم والشرائع والشعائر.

  1. بالنسبة للقيم (الأخلاق) فقد خضعت للتراكم منذ نوح حتى وصلت إلى الوصايا العشر (الفرقان) عند موسى (ع)، والحكمة عند عيسى (ع)، والفرقان عند محمد (ص)، وأضيف إليها أمور أخرى تحت عنوان (الحكمة) التي وردت في سورة الإسراء. وكل القيم هي قيم إنسانية عالمية، وهي العمود الفقري للإسلام. والحكمة لا تنقطع إلى قيام الساعة على ألسن الحكماء، وهي وحدها لا تحتاج إلى وحي ولا إلى قياس، وهؤلاء الحكماء ليس من الضروري أن يكونوا من خريجي المؤسسات الشرعية، أو من السادة العلماء الأفاضل.
  2. بالنسبة للشرائع، فقد كانت تأتي شرائع مختلفة على شكل رسالة أو رسالات متفرقة، كما عند هود وصالح وشعيب إلى أن اكتملت بشريعة كاملة لأول مرة عند موسى (ع)، وجاءت هذه الشريعة معدلة لعيسى (ع)، وأخيراً جاءت هذه الشريعة للرسول الأعظم (ص). وقد خضعت الشرائع هذه للتطور، لذا سميت هذه الشريعة عند موسى بالكتاب، أي أن الكتاب عند موسى وعيسى هو الشريعة فقط، ونرى في التنزيل الحكيم عن عيسى (ع) قوله تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} هذه البنود الأربعة مجتمعة هي الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. أما الشريعة عند محمد (ص) فهي أم الكتاب، وما مفهوم الناسخ والمنسوخ إلا ليظهر التطور بين الشرائع، وليس ضمن الشريعة الواحدة، وعليه فإن الناسخ والمنسوخ المطروح في علوم القرآن التقليدية على أنه من الشريعة المحمدية هو وهم.
  3. الشعائر: وقد خضعت للاختلاف. فالصوم موجود عند كل الملل، وهو أيام معدودات، ولكن بالنسبة لأتباع الرسالة المحمدية، هذه الأيام المعدودات هي شهر رمضان. وكذلك الصلاة الشعائرية تختلف بين كل الملل. وقيمة الزكاة تختلف أيضاً. لهذا سميت الشعائر بأركان الإيمان، وأتباع الرسول محمد (ص) هم المسلمون المؤمنون. وفرع الشعائر هذا هو من اختصاص السادة العلماء الأفاضل، فليستفيضوا فيه ما شاؤوا، ولن نتعدى على اختصاصهم هذا. وكذلك فإن الدول وبناءها لا علاقة له بهذا الفرع. والمجتمع يحتمل كل دُور الشعائر (العبادة) لأتباع الملل كلها بدون حقد أو تعنت أو استعلاء أحدهما على الآخرين.

قلت في مقالي السابق أن الشريعة الإسلامية بما أنها الخاتم فيجب أن تكون متطورة عن الشرائع التي قبلها. وبما أن الشرائع التي قبلها إلهية، ومع ذلك تم نسخها أو نسخ جزء منها، فيجب أن تكون هناك خاصية في الشريعة الإسلامية تجعلها قابلة للحياة في عصر ما بعد الرسالات وعصور التقدم في العلوم الطبيعية والإنسانية على أنها الخاتم. وهذه الخاصية غير موجودة في الشرائع ما قبلها، فما هي هذه الخاصية؟؟ مع العلم أن القصص القرآني هو لتبيان هذه الفروع الثلاثة مع خط سيرورتها في التراكم والتطور والاختلاف والانتقال من المشخص إلى المجرد خلال النبوات والرسالات (وليس لتسلية النبي (ص) كما قيل).

لنبحث الآن موضوع الشريعة المحمدية، ولماذا هي عالمية وليست محلية وخاصية التطور موجودة ضمنها.

إذا قارنا شريعة محمد (ص) بشريعتي موسى وعيسى نرى أن شريعة موسى وعيسى تحمل اسم “الكتاب” أي مجموعة من البنود التشريعية التي جاءت إليهما ولكن هذه التشريعات تحمل الطابع الزماني والمكاني “المرحلي التاريخي” من حيث الزمان والمكان “لبني إسرائيل”. لذا كان موسى رسول بني إسرائيل، وأرسل عيسى لبني إسرائيل لتعديل شريعة موسى.

وهكذا نرى أن شريعة موسى وعيسى كانتا شريعة عينية، أي أن كل التشريعات التي جاءت إليهما تشريعات عينية مشخصة وأن مفهوم التجريد في التشريع لم يكن في رسالتي موسى وعيسى، لذا فقد وجه الله سبحانه وتعالى اللوم لبني إسرائيل لشدة تمسكهم بشريعة موسى عندما جاء عيسى وقال: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} (آل عمران 50). ومن جراء هذا التمسك بشريعة موسى (الكتاب) ثم بشريعة موسى المعدلة برسالة عيسى، وعلى مر الزمن، أصبح هذا التشريع غير صالح، وخرج من الحياة تماما كما خرج من الحياة التفسير التوراتي للكون والإنسان، وبقي في الحياة منهما الفرقان فقط “الوصايا العشر”، حيث أن الفرقان عبارة عن أخلاق وليس تشريعا ولا تفسيرا للكون والإنسان. وجاء لمحمد (ص) تحت اسم (الفرقان) أيضاً. وقد انفصلت المسيحية عن اليهودية عندما ألغى بولس شريعة موسى وأبقى الفرقان فقط (الوصايا العشر) وحسناً فعل لأن هذه الشريعة لا تحمل الطابع الكوني وإنما هي محلية بدائية.

أما بالنسبة لرسالة محمد (ص) فالوضع يجب أن يكون مختلفا تماما، حيث أن محمد (ص) خاتم الرسل بالإضافة إلى أنه خاتم الأنبياء فكما أن نبوته جاءت بشكل متشابه لكي تصلح لكل زمان ومكان فيجب أن تكون لشريعته خاصية ما، تميزها تماما عن الشرائع التي قبلها وتجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الخاصية ليست خاصية التشابه (ثبات الشكل وحركة المحتوى)، وهذه الخاصية ينطبق عليها قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107) وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا… الآية} (الأعراف 158).

إن مشكلة الأدبيات الإسلامية والفقه الإسلامي التاريخي الذي هو من نتاج الإنسان المتعلقة بالشريعة هي أنها إلى اليوم لم تميز هذه الخاصية لكي تستعملها بيسر وسهولة وتكون مقنعة لغير المسلم، قبل أن تكون مقنعة للمسلم نفسه بأن محمدا (ص) رسول الله إلى الناس جميعا وهو رحمة للعالمين وأن الرسالة صالحة لكل زمان ومكان.

إن إغفال هذه الخاصية جعل من التشريع الإسلامي تشريعا متزمتا متحجرا وحجب عنا فهم أسس الشريعة الإسلامية كما حجب عنا فهم السنة النبوية والسنة الرسولية على حقيقتهما حيث أن مفهوم السنة الذي قدمه لنا الفقهاء هو مفهوم خاطئ تماماً، لأن فهم السنة مرتبط بهذه الخاصية التي تتيح لنا وضع مفهوم معاصر متجدد دائما للشرع الإسلامي وللسنة النبوية، وبالتالي وضع أسس جديدة للتشريع الإسلامي وإعادة النظر بالأسس القديمة التي وضعها بشكل رئيس الإمام الشافعي.

فإذا أردنا أن نقسم الرسالة إلى مواضيع رئيسية رأيناها تتألف من:

  1. الحدود.
  2. تعليمات عامة وليست تشريعات.
  3. تعليمات تحمل طابع المرحلية.

هذه المواضيع كيف نفهمها ضمن منظور عام خاص بها حصرا يجعل من رسالة محمد (ص) رسالة صالحة لكل زمان ومكان أي متجددة دائما؟

هذه الخاصية لا يمكن أن نفهمها إلا إذا فهمنا صفتين أساسيتين متميزتين من صفات الدين الإسلامي بشكل عام، وهما من الأضداد حيث أن الحركة المستمرة بينهما تفرزها الإشكاليات الفردية والاجتماعية للحياة الإنسانية في مجال المعرفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والتي ينتج عنها دائما مجالات جديدة في التشريع كما ونوعا. هذان الضدان هما الحدود التي تحمل معنى الاستقامة (الثبات في القيم والشرائع) والحنيفية (المتغير) حيث يكمن فيهما تطور التشريع وبدونهما يستحيل فهم الدين الإسلامي فهما معاصرا والاقتناع بصلاحيته لكل زمان ومكان. فكما أن المتشابه فيه ثبات النص وحركة المحتوى، فإن الشريعة فيها الاستقامة والحنيفية والثوابت في التعليمات الإلهية (حركة إنسانية ضمن النص والوقوف عنده أو عليه) (الاستقامة في حدود الله، والحنيفية هي الحركة ضمن حدود الله).

فالاستقامة جاءت في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة 6). وقوله: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161). وقوله: {وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153). وقوله عن موسى وهارون: {وهديناهما الصراط المستقيم} (الصافات 118).

أما الحنيفية فقد جاءت في قوله تعالى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (الأنعام 79). وقوله: {ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161) وقوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30). وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة} (البينة 5).

لاحظ قوله تعالى هنا: {وذلك دين القيمة}. وقوله في سورة الروم: {ذلك الدين القيم}. وقوله: {حنفاء لله غير مشركين به} (الحج 31). وقوله: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النساء 125). وقوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين} (يونس 105). وقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} (النحل 120). وقوله: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النحل 123). وقوله: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} (آل عمران 67). وقوله: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا} (آل عمران 95).

ونبدأ بـ “حنيف” فنقول: اشتق “الحنيف” من “حنف” وتعني في اللسان العربي الميل والانحراف، ويقال للذي يمشي على ظهور قدميه “أحنف” والحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل. وبما أن الحنف والخنف والجنف تشترك في صوتين وتختلف في صوت واحد فلها معان مشتركة، فالحنف الميل والانحراف في الرجل، والخنف الميل والانحراف في اللفظ حيث أن جزءا من الأصوات يميل نحو الأنف، والجنف الانحراف والميل في القسمة كقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفا} (البقرة 182).

أما المستقيم والاستقامة فقد اشتقت من الأصل “قوم” وله في اللسان العربي أصلان صحيحان: الأول جماعة من الناس للرجال فقط وهي جمع امرئ، والأصل الثاني الانتصاب أو العزم، ومن الانتصاب جاء المستقيم والاستقامة “ضد الانحراف” وفيها مفهوم الثبات. ومن العزم جاء الدين القيم أي الدين القوي صاحب السيطرة، وجاء قوله تعالى لمعنى العزم والسيطرة في قوله: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161). هنا نلاحظ أن عزم الدين وقوته وسيطرته تأتي بهاتين الصفتين معا الاستقامة والحنيفية حيث جاءتا معا في آية واحدة وأن قوة الدين الإسلامي تكمن في استقامته وحنيفيته معاً.

قد يسأل سائل: كيف تكمن قوة الإسلام في هذين الضدين؟

إن الجواب على هذا السؤال هو ما يلي:

يتولد من هذين الضدين مئات الملايين من الاحتمالات في التشريع وفي السلوك الإنساني العادي بحيث تغطي كل مجالات الحياة الإنسانية في كل مكان وزمان إلى أن تقوم الساعة.

أما لفظة الحنيف بمعناها الطبيعي الكوني المباشر فنقول عنها: لقد جاءت في قوله تعالى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (الأنعام 79).

فهنا (حنيفا) حال والحال تصف الفعل وأول فعل قبلها هو فطر، ومنها جاءت الفطرة “القانون الطبيعي”. أي أن طبيعة السموات والأرض والوجود المادي كله في هذا الكون الثنائي هي طبيعة حنيفية متغيرة، فمن ناحية الحركة لا يوجد حركة مستقيمة في هذا الوجود المادي ابتداء من أصغر الإلكترونات إلى أكبر المجرات كلها لها مسارات منحنية “مائلة” ولا يوجد فيها استقامة لذا وضع صفة الحنيفية صفة أساسية للوجود المادي قاطبة، فالدين الحنيف هو دين منسجم مع هذا الوجود، وصفة “الحنف” هي صفة طبيعية فطرية، فإذا حمل الإنسان هذه الصفة في فطرته فهي تنسجم مع وجوده في هذا الكون.

وهذه الصفة هي صفة الميل والانحراف في التشريع وفي الطباع والعادات والتقاليد والتي نقول عنها صفة التغير “المتغيرات”. فإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يكون هناك ثوابت يحتاجها الإنسان في حياته وتشكل علاقة جدلية مع المتغيرات، وهذه الثوابت لا تخضع للتحول “مستقيمة” بل تنسب إليها المتغيرات. فهنا ظهرت حاجة الإنسان إلى الله ليدله على هذه الثوابت. حيث أن التحول والتغير موجود أصلا في طبيعته وهو قوي جدا في طبيعة الكون والمجتمعات، ولا يحتاج الإنسان لمن يدله عليه، ولكن يحتاج إلى من يدله على الثوابت لذا قال في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم}. ولا يوجد آية تقول اهدنا إلى الحنيفية لأنها أصلا موجودة لذا قال عن الحنيفية: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم 30) ولكن أمرنا أن نكون حنفاء ولا يعني أبداً أن “الثوابت” جاءت لتلغي المتغيرات بل لتشكل معها علاقة ديناميكية “الثنائية”، وهنا يكمن التفاعل بين الثابت والمتحول “المستقيم والحنيف” في الدين الإسلامي. فإذا سأل سائل: إذا كانت الحنيفية “التغير” موجودة في طبيعة الوجود، فما هي هذه الثوابت في التشريعات بالإضافة إلى الوصايا؟

حدود الله

نبدأ بفعل (حـدَّ) هو أصل صحيح وتعني طرف الشيء والحاجز بين الشيئين، ولا يمكن أن يقال أن حد الشيء هو الشيء ذاته، فحد السيف طرفه وليس كل السيف، أي أن هناك شيئاً له طرف أو طرفان أو أكثر أو حاجز بين أشياء. فعندما قال عن الصوم (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة 187):

الطرف الأول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} يفصل بين الإفطار والصيام.

الطرف الثاني: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يفصل بين الصوم والإفطار. وهذان الطرفان من الثوابت.

وهناك حقل بين هذين الحدين هو الصوم وهو المتغير، فمدة الصوم متغيرة مع الزمان في مكان واحد ومتغيرة مع المكان في زمان واحد.

فعندما نتكلم عن حدود الله في التشريعات يجب أن نبحث عن الحقول التي تحدها هذه التشريعات، إن كان في العقوبات أو الإرث أو محارم النكاح أو المأكولات أو الربا أو التعددية الزوجية أو لباس المرأة، كلها تقوم على نظرية الحدود هذه وذلك يضمن صلاحياتها في الزمان والمكان.

فإذا أخذنا آية المواريث نرى أنها تقول {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} في الآية وتقول {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}.

نلاحظ أن هناك نوعين من الحدود كالصوم {حدود الله فلا تقربوها}، وكالإرث والطلاق {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} وفي الطلاق {تلك حدود الله فلا تعتدوها}. فما الفرق بين {(لا تقربوها} و {لا تعتدوها}؟

لتوضيح ذلك نضرب المثال التالي: إذا كان لدينا حقل له حدود (سور) وهذا السور مكهرب، نضع لافتة تقول (لا تقترب السياج مكهرب) أي أنه يجب أن لا يمس السياج وأن يبقى مسافة أمان بينه وبين السياج. أما إذا كان السياج عادياً، فنضع إشارة تقول (لا تتعدَّ السياج) أي يحق للمار أن يمس السياج ولكن لا يحق له تعديه إلى الطرف الآخر.

فحدود الله التي قال عنها {لا تقربوها} مثل الصوم، علينا أن نبقي مسافة أمان بيننا وبين هذه الحدود، وهذا ما سماه أهل السنة بالإمساك قبل الفجر بدقائق، وعند الشيعة بالإفطار بعد المغرب بدقائق. أي أن كل واحد منهما لم يقترب من حدود الله عن أحد أطرافها. وكذلك الزنا من حدود الله التي قال: {لا تقربوها} {ولا تقربوا الزنا} وكذلك مال اليتيم ولا تقربوا مال اليتيم.

أما حدود الله الذي قال لا تعتدوها فيمكن الوقوف عليها أو مسها ولكن لا يمكن تجاوزها مثل الإرث.

لذا يجب علينا أن نبين آيات الأحكام ونبين الحقل الذي يمكن التحرك فيه بدون أن نتعدى حدود الله، أي أن التشريع الإسلامي الإنساني يقف عند حدود، ماسـّاً إياها أحياناً. وهذه الحدود تسمى حدود الله وهي الثوابت.

حدود العقوبات

آ – القتل: إن العقوبات الواردة في التنزيل هي من الحدود وهي حدود عليا للعقوبات، أو ما نطلق عليها في المصطلح الحديث أقصى العقوبات القانونية. فإعدام القاتل هو الحد الأعلى لعقوبة القتل وليس عين عقوبة القتل، يجب الوقوف عنده، ويمكن الوقوف عليه أحياناً، ولكن لا يمكن تجاوزه. فهناك بلاد ألغـت عقوبة الإعدام، وهناك بلاد لم تلغ عقوبة الإعدام وكلاهما صحيح، لأنهما اتبعا الحنيفية. فالذي يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام فإن طلبه صحيح، والذي يطالب بإرجاع عقوبة الإعدام فإن طلبه صحيح، وكلاهما ضمن حنيفية الإسلام. والذين يفعلون ذلك لا يعلمون أن هذه الحنيفية هي الدين القيم {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فعندما ألغى البرلمان التركي عقوبة الإعدام كان ضمن حدود الله، فلا غبار على قراره، لأنه قرر أن يتوقف عند حدود الله لا عليها، وهذا القرار يحتاج إلى برلمان لا إلى فتاوى. ولكن أشخاصاً مثل هتلر وستالين وصدام حسين تجاوزوا حدود الله في عقوبة الإعدام، حيث مقابل شخص واحد أعدمت عائلة بأكملها.

هنا نلاحظ أن الفطرة الإنسانية تأبى تجاوز حدود الله في العقوبات، ومجالس البرلمانات هي التي تقرر أين تقف في تطبيق عقوبة القتل، ولا علاقة للفقهاء بذلك.

ب – السرقة: {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..} نرى عقوبة القطع هي الحد الأعلى لعقوبة السرقة. وتطبيق عقوبة الحد الأعلى تتم على المهني لذا قال: {السارق والسارقة}. أما في القتل فيكفي أن تقتل مرة واحدة لإمكانية أخذ حكم بالإعدام أو المؤبد، لذا قال تعالى {ومن يقتل}. أما في السرقة لم يقل (ومن يسرق). فإذا فهمنا القطع فهماً بدائياً وحشياً فيعني (بتر اليد). ومع ذلك فهي الحد الأعلى لعقوبة من امتهن السرقة. وإذا رأينا الآن كل أهل الأرض لا تطبق هذا الحد الأعلى فهم على حق، وهذا شأنهم وهم ضمن حنيفية الإسلام، ولا يوجد فيه تعدٍّ على حدود الله، والذي يقرر العقوبة هو مجالس التشريع ولا تحتاج إلى إفتاء أو علماء أفاضل.

ومع ذلك فإن مفهوم البتر لليد هو مفهوم غريب، فكيف يقول (فاقطعوا أيديهما) وليس يديهما، ثم يقول بعد ذلك {فمن تاب فإن الله غفور رحيم} فما هي هذه التوبة بعد بتر اليد؟!

نحن نقول بمفهوم حضاري إن من امتهن السرقة فيجب أن نقطع يديه عن المجتمع (كف اليد) وذلك بعزله عن المجتمع (السجن). وقد يصل إلى مدة مختلفة طويلة. في هذه الحالة نرى أن التوبة والمغفرة لها معنى. وقد ورد كثيراً في التنزيل الحكيم القطع بمعناه المجازي كتقطيع الأرحام {وتقطعوا أرحامكم} أو {قطع دابر الكافرين}.

ج – الزنا: وهو عقوبة عينية لذا كانت شروط إثباته مستحيلة، لأن العقوبة إلهية وشرط تطبيقها إلهي أيضاً وهي مستحيلة التطبيق، لكي لا يضع شروط التطبيق بيد البشر، ولو وضع شروط التطبيق بيد السادة العلماء لشاهدنا يومياً حملات إعدام جماعية، والهدف هو منع الفاحشة العلنية (الزنا) أما الفاحشة غير العلنية فتبقى لضمير الإنسان. والدولة والقانون لا علاقة لهما والإصرار على شروط تطبيقها يعني إلغاءها. وفي معظم بلاد العالم إن لم يكن كلها الفاحشة العلنية (الزنا – الجنس العلني) غير مقبولة اجتماعياً وقانونيا. أما ما يسمى عقوبة الرجم حتى الموت، فهي عقوبة جاءت في شريعة موسى ونسخت في شريعة عيسى قبل الرسالة المحمدية.

الإرث: فيه حدود دنيا وحدود عليا وله بحث خاص (مثال على ذلك إرث الرجل من زوجته هو حد أدنى وإرث الزوجة من زوجها هو حد أدنى).

الربا: فيه حدود دنيا وحدود عليا.

التعددية الزوجية: فيها حدود دنيا وحدود عليا.

محارم النكاح: فيه حدود دنيا فقط.

الأطعمة: حدود دنيا.

لباس المرأة: حدود دنيا وحدود عليا. فالحد الأعلى للباس المرأة هو تغطية الجسم ماعدا الوجه والكفين. والحد الأدنى هو تغطية الجيوب واللباس الطبيعي ما بينهما.

هنا يجب أن نبين ما يلي:

  1. إن التشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله.
  2. إن البرلمانات هي التي تقرر التشريعات، وحدود الله واضحة في التنزيل، ولا يحتاج التشريع الإسلامي إلى فتاوى.
  3. إن معظم التشريعات الصادرة من كل برلمانات العالم هي ضمن حدود الله، وفيها البرهان على حنيفية الشريعة الإسلامية.
  4. نحن بحاجة إلى الاستفتاء بدل الإفتاء، وإلى مجالس الشعب بدل مجالس الإفتاء. أي أن عهد الفتوى والإفتاء انتهى. والآن جاء دور المجالس المنتخبة والبرلمانات.

في المقالة القادمة نتحدث عن التعددية الزوجية.

مجلة روز اليوسف

اترك تعليقاً