الأصولية الإسلامية … إلى أين؟

الأصولية الإسلامية … إلى أين؟

بودي قبل الإجابة، أن أبدأ بإلقاء ضوء على المقصود بمصطلح “الأصولية”، الذي شغل وما يزال يشغل حيزاً واسعاً من الأدبيات العربية والأجنبية تحت اسم Fundamentalism.

الأصولية بمعناها اللغوي العام هي الرجوع إلى الأصول. والأصول عند البعض هي الكتاب الحكيم والسنة النبوية، وعند البعض الآخر هي الكتاب الحكيم وصحيح السنة، وعند بعض ثالث هي الكتاب الحكيم والسنة القولية أو السنة الفعلية. وفي ضوء هذا المفهوم، رغم اختلافاته، فإن معظم المسلمين المؤمنين أصوليين، وأنا منهم، لا يمارسون العنف ولا يؤمنون بالإرهاب. وإذا كانت الأصولية مذهباً في الديانة المسيحية، فهي ليست كذلك أبداً في الإسلام.

نشأت المشكلة حين أطلق على الحركات الإسلامية السياسية التي تمارس العنف والإرهاب اسم “الحركات الأصولية”. فعندما نتكلم اليوم عن العنف والإرهاب عند الأصولية الإسلامية، فنحن نعني هذه الحركات السياسية المسلَّحة بالذات، وليس الإسلام الشعائري أو التشريعي أو الأخلاقي.

في ضوء ما تقدم، سأحاول الإجابة على السؤال الأساس. فبعد أن تم تثبيت دعائم الحكم في بني أمية، سفيانيين ومروانيين، وصاغ لهم فقهاؤهم الغطاء الشرعي المطلوب لحكمهم بوضع تعريف جبري خالص للقضاء والقدر، انطلاقاً من أن كل شيء مقدر ومكتوب سلفاً، وبعد أن تمت مصادرة المسجد لصالح السلطة السياسية، وتم توظيف الأحاديث النبوية الصحيحة ووضع ما يلزم منها لتكريس الاستبداد وخدمته، ظهرت حركات احتجاج توجتها حركة المعتزلة في العصر العباسي الأول، التي رفعت لواء العقل والمعقول والفكر الحر حسبما كانت تعنيه هذه المفاهيم في وقتها ذاك.

وحين حصل الانقلاب السني الأكبر على يد المتوكل، ظهر وترسخ مصطلح أهل السنة والجماعة، وقام تحالف مطلق وشامل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، أو لنقل طبقة العلماء والفقهاء، خضعت سلطة الدين بموجبه للسلطة السياسية تماماً حتى يومنا هذا. فالمفتي العام ورئيس العلماء وشيخ الإسلام يجري تعيينه من قبل السلطة الحاكمة في معظم الدول العربية إن لم نقل كلها.

وكانت هذه السلطة أو الهيئة الدينية أكبر سند ومعين للسلطة الاستبدادية، حتى أن إماماً كالعز بن عبد السلام، حين احتج على الحكام المماليك في مسائل الخمر وإعتاق العبيد وغيرها، لم يكن يخطر في باله أن هذه السلطة التي يحتج عندها سلطة مستبدة وغير شرعية بالأصل.

فإذا نظرنا إلى أوربا في الجانب الآخر، وجدنا الصورة معكوسة ومغايرة تماماً. فالسلطة الدينية في أوربا القرون الوسطى هي التي تعين السلطة السياسية، والبابا هو الذي يعين الملوك وليس العكس. وكان التفسير التوراتي هو الذي يحكم فهم الكون وقوانينه من الناحية العلمية. فنشأت الحركات العقلانية أو العلمانية في أوربا مستهدفة أمرين اثنين:

1 – فصل الدين عن السلطة السياسية، لسبب وجيه جداً. هو أن البابا بسلطته الدينية كان يعين الملوك والأمراء. وعندما يستولي أحد على العرش دون موافقته، أو عندما يرى ملك ما الانفصال عن البابا سياسياً، فعليه أن ينشئ مذهبه وكنيسته الخاصة به. وهذا ما حصل في إنكلترا، حيث نشأت الكنيسة الأنكليكانية منفصلة عن سلطة البابا، وأصبح الملك هو رأس السلطة السياسية والدينية.

2 – فصل العلوم والبحث العلمي عن الكنيسة، بعد أن ثبت أن التفسير التوراتي للكون وقوانينه الذي تعتمده الكنيسة غير صحيح، وظهر بطلانه.

لقد تم ذلك في أوربا لأنه لم يكن يوجد هناك بالأصل تشريع وتشريعات. فالديانة المسيحية انفصلت عن الديانة اليهودية بتركها لشريعة موسى. أي أن البنود التشريعية (سفر الاشتراع) في الكتاب المقدس بعهده القديم ملغاة عند المسيحيين الذين لم يأخذوا إلا الوصايا العشر. لذا فإن نشوء البرلمانات ووضع التشريعات عندهم لم يصطدم بالكنيسة لأنها لا علاقة لها بها أصلاً، الأمر الذي ساعدهم على الإبداع في المجال البرلماني والمجالس التشريعية وحكم الشعب. فكان من المنطقي في رأينا أن نرى في أوربا ما يلي:

1 – كان الملك يعين من قبل البابا، فأصبح الحاكم يعين باسم الشعب. أما في البلاد التي بقي فيها ملك، فقد سحبت منه السلطات، وتحول إلى رمز البلاد وتقاليدها ووحدتها الوطنية.

2 – كان تفسير الكون وقوانينه يتم طبقاً للنص التوراتي والفهم الكنسي له، فأصبح يفسر من خلال المخابر والتحاليل، فنشأت مراكز البحث العلمي والجامعات.

3 – مع عدم وجود شريعة مسيحية، فقد نشأت البرلمانات والمجالس التشريعية وصارت تشرع باسم الشعب، وتثبت الوصايا العشر على أساس منظومة أخلاقية.

كل هذا يتساوق منطقياً وتاريخياً مع تطور التاريخ الأوربي، فكل الحركات السياسية والتنويرية التي نشأت هناك، انطلقت من هذه البنود الثلاثة. فما حال الحركات التنويرية والسياسية الإسلامية عندنا؟

أولاً:

السلطة السياسية، عند هذه الحركات فيما يتعلق بالملك، أخذت شرعيتها من ربط طاعة أولي الأمر بطاعة الرسول وطاعة الرسول بطاعة الله. وبقي تعريف القضاء والقدر عندها، على ما كان عليه في العصر الأموي، كل شيء مكتوب سلفاً انطلاقاً من قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} [التوبة : 51]، ومن المأثور الشعبي السائد: المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. فلقد سبق في علم الله بأن بني أمية سيحكمون وهذا هو القضاء، أما القدر فهو نفاذ هذا العلم وتحققه على أرض الواقع. ورغم أن طاعة الله منفصلة عن طاعة الرسول وأولي الأمر في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء : 59]. إلا أن السادة العلماء تجاهلوا ذلك تماماً لأنهم كانوا تحت إمرة السلطة المستبدة.

هذان المفهومان، مفهوم القضاء والقدر ومفهوم طاعة أولي الأمر، مقروناً بأحاديث نبوية، من مثل ما روي عن حذيفة بن اليمان عن النبي (ص) أنه قال: اسمع وأطع (للأمير) ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك. إضافة إلى النسب لقريش أو لأهل البيت، كل هذا كان بديلاً عن البابا أيام السلطة المستبدة في أوربا. ثم جاء لقب خليفة رسول الله، ولقب أمير المؤمنين ليعطي السلطة السياسية شرعيتها كاملة في الاستبداد والتسلط، حتى أن الحركات الإصلاحية قبل سقوط الخلافة كانت تتحدث عن المستبد العادل، ولا تبحث في كيفية انتخاب الأمير أو مدة حكمه أو صلاحياته. وكانت السلطة الدينية تحت إمرة الخلافة.

بسقوط الخلافة عام 1923، سقطت معها شرعية الاستبداد ولم تتبلور بعدها وحتى نهاية القرن العشرين أية شرعية أخرى في أذهان الناس، وهذا سبب ما نراه الآن من خليط عجيب من الأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي، فأصبح الحكام يشعرون بأن شرعية وجودهم أضحت ناقصة أو مفقودة، فوجدوا أنفسهم مضطرين للاستعانة مرة أخرى بالسلطة الدينية (المفتي العام، شيخ الإسلام). ووجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام هذه الشرعية الاستبدادية في ثورة إيران تحت شعار ولاية الفقيه، حيث يحق له إيقاف أي تشريع يصدره البرلمان، وحيث يمثل نظام الحكم هناك الحالة الوسط بين حكم الشعب وحكم الشرع التقليدي في ظل ولاية الفقيه.

ثانياً:

يختلف العالمان العربي والإسلامي عن أوربا بوجود شيء اسمه الشريعة. وأقصد بالشريعة آيات الأحكام (علاقات أسرية واجتماعية / حدود وعقوبات / معاملات وأحوال شخصية)، وهي أمور لا يمكن فصلها عن الدولة ولا بأي شكل. وإذا كان يمكن فصل الشعائر عن السلطة السياسية، كالصوم والصلاة والحج، فإنه لا يمكن قطعاً فصل أمور الزواج والطلاق والإرث والوصية والتربية والتبني والشراء والبيع النقدي أو لأجل. والقروض الاستثمارية والاستهلاكية. وهذه المشكلة بالذات لم تواجهها أوربا أصلاً.

ثالثاً:

إذا كانت أوربا قد استطاعت التخلص من التفسير التوراتي للكون وقوانينه، فإننا في البلاد العربية والإسلامية لم نستطع ذلك، لأن هذا التفسير انغرس في تراثنا بعد أن دخله تحت اسم ” الإسرائيليات” متسلحاً بحديث نبوي ينسب إلى النبي (ص) قوله: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. ورغم أن كثيراً من المتنورين اليوم يحتجون على ما في تراثنا من تفاسير توراتية طفحت بها كتب التفسير القرآني وكتب الحديث النبوي وكتب الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، لأن الاحتجاج لا يؤثر على الفقه كركن من أركان حضارتنا اليوم، إلا أننا ما زلنا نسمع فتاوى ونقرأ كتباً تنادي من هنا وهناك بتكفير من يقول بكروية الأرض. ونكتشف أن مشكلتنا مشكلة تفسير ومشكلة فقه تشريعي قائم على هذا التفسير.

ومما زاد الأمر تعقيداً انقسام الأمة إلى مذاهب، لكل مذهب كتبه وفقهه ورجاله، فنشأ كم تراكمي تراثي هائل غير متجانس في بعض جوانبه، متضاد متعارض في بعضها الآخر، يصعب تنسيقه ويصعب غربلته ويصعب قبوله كما هو ويصعب التخلي عنه. وهذا كله أثر على سلوكيات الحركات الإسلامية الأصولية ومواقفها المختلفة.

فالحركات الليبرالية أخذت بالمنهج الأوربي، ورفضت بالتالي الفقه وتشريعاته، لكنها لم ترفض الإسلام كتوحيد ورسالة سماوية وشعائر وقيم ومثل عليا. وجاءت مطالبتها بفصل الدين عن الدولة لتعني فصل الفقه والشريعة، وليس فصل الصلاة والصوم والحج، ولا فصل قتل النفس وبر الوالدين والغش في المواصفات عن الدولة. إلا أن هذه الحركات الليبرالية لم تمتلك الأسس النظرية الفلسفية، بحيث تجد لنفسها مكاناً ضمن الثقافة العربية الإسلامية، فبقيت غريبة خارجة عن ثقافة الناس. علماً أنني لا أشكك مطلقاً بإخلاص ونوايا ووطنية معتنقي هذه الليبرالية الغربية، التي تم أخذها كما هي عن أوربا دون قولبة ضمن الثقافة العربية الإسلامية.

أما الأمر مع الحركات الماركسية فكان أدهى وأمر. إذ انطلقت هذه الحركات من المطلق، واعتبرت التاريخ حتمية تشبه إلى حد ما حتمية القضاء والقدر كما أقرتها الدولة الأموية المستبدة، ورأت أن الانتقال من طور إلى طور وصولاً إلى الشيوع انتقال حتمي فأصبحت بذلك ذات طرح دوغماتي. ثم انتقلت إلى اعتبار قوانين تطور المجتمعات ضمن هذه المراحل مجرد قوانين فيزيائية بحتة، فأسقطت بذلك جدل الإنسان والإرادة الإنسانية ودور الفرد والمجتمع في التاريخ. ونظرت إلى القومية نظرة أشبه بنظرة المماليك وفقهائهم، حين اعتبروا قدسية الرابطة الإسلامية القادرة على تذويب جميع الروابط القومية في بوتقتها.

ثم وقعت فيما هو أدهى من ذلك بنزوعها نحو الإلحادية العلمانية. وانصرفت طروحاتها إلى تفكيك الدين بما هو دين، وليس إلى مكافحة السلطة الدينية التي صادرت عقول الناس وإراداتهم. وإذا كانت تبريراتهم اليوم وبالأمس تلقي اللوم على الكنيسة الإقطاعية المستبدة ورجالها كراسبوتين وأمثاله، في ردة فعل الماركسية والماركسيين تجاه الدين، فهم في رأينا لم يفعلوا أكثر من إقفال النبع بحجة أن الساقية قذرة!!

أما الحركات القومية فقد طرحت مفهوم العلم والتقدمية والحداثة، وحولتها إلى دوغما. فتمت مصادرة الحريات تحت شعار الوحدة العربية والاشتراكية والتقدمية، واستقرت عندها مصطلحات مثل: رجعي / عميل / خائن، مقابل ما كان مستقراً عن الإسلاميين مثل: كافر / ملحد / مشرك، ومقابل ما كان مستقراً عن الشيوعيين مثل: رأسمالي / إمبريالي / عدو الشعب.

وكانت حرب 1967 فاتحة المهازل والتعرية لهذه الحركات. فقد أظهرت هذه الحرب أن مشروعات الحداثة في الوطن العربي هي مشروعات خانت وعودها. وبدت الطروحات القومية طروحات رومانسية شاعرية خالية من أية نظرية فلسفية لتأسيس الدولة والمجتمع، ولتحقيق العدالة، وللتوليف بين المصالح المتنازعة. فكان أحسن ما أنتجته الحركات القومية هو ذلك النظام البوليسي الذي خنق الأزهار في الحقول.

نأتي أخيراً إلى الحركات الإسلامية. فبما أن السلطة السياسية والدينية في العالم العربي منفصلتان، والسلطة الدينية خضعت وتخضع تاريخياً للسلطة السياسية بشكل كامل، ولا يزيد دورها عن تبرير السلوكيات الاستبدادية للسلطة السياسية، فقد قامت الحركات الإسلامية السياسية على الأسس التالية:

  • طرح شعار حاكمية الله لسحب السلطة السياسية من الحكام والسلطة الدينية من المؤسسات الدينية التقليدية، معتمدة على الأدبيات الإسلامية التاريخية من كتب فقه وأحاديث نبوية، هادفة إلى جمع السلطتين الدينية والسياسية في جهة واحدة. وهذا مستحيل في العالم السني. حيث تم فصل هاتين السلطتين منذ عهد معاوية، ومنذ أن تم الاستيلاء على المسجد لصالح السلطة. وهذا يبرر التنافر القائم دائماً بين ممثلي الحركات الإسلامية السياسية من جهة، ورجالات المؤسسة الدينية الرسمية من جهة أخرى.
  • بما أن الحركات السياسية الإسلامية اعتمدت كلياً على أدبيات التراث، فهي لم تقدم أي إبداع في نظرية الدولة والمجتمع، يعكس ويمثل ما جاء به القرن العشرون من قفزات علمية ومعلوماتية شاعت معها بشكل واسع مفاهيم لم تكن شائعة أبداً من قبل، كالدولة والمجتمع المدني والحريات العامة والحرية الفردية وحق التعبير عن الرأي والانتخابات والدستور والاستفتاء وحق المرأة بالعمل والتصويت والحكم.

فالفقه الدستوري مثلاً، الذي يحدد صلاحيات الحاكم ومدة حكمه وطريقة انتخابه، لا وجود له أصلاً في الأدبيات الإسلامية التاريخية. ومفهوم الحرية الفردية مثلاً، يقترن في هذه الأدبيات بنظام الرق. فالحر هو فقط الإنسان الذي لا يباع ويشترى في سوق النخاسة، أما اليوم فمفهوم الحرية الفردية والحريات العامة له عدد من المعاني الأخرى المختلفة تماماً.

ومثله أيضاً مفهوم رأي الناس والبرلمانات. ففي الفقه الإسلامي التراثي التقليدي لا قيمة لرأي الناس، بل لا يجوز أن يكون لهم رأي على الإطلاق، انطلاقاٌ من أن الناس على دين ملوكهم وفقهائهم. وفي الفقه التراثي هناك فتوى ولكن ليس هناك استفتاء. فأين النظرية الإسلامية في الدولة التي تفرد محلاً أساسياً لرأي الناس وللبرلمانات والاستفتاءات؟ لقد اطلعت شخصياً على أدبيات بعض هذه الحركات والجماعات فوجدت نفسي أمام أفراد بغاية الإخلاص لدينهم، لكنهم كجماعات يعالجون مشاكل الدولة والمجتمع المعاصر بمنتهى السذاجة.

لماذا إذن يلجأ بعضهم إلى استعمال العنف المسلح والإرهاب؟ أنا أرى أن ذلك يرجع للأسباب التالية:

1 – السبب الأول، هو ضعف الطرح السياسي وقد أشرت إليه آنفاً. والخلط بين السياسة والكفر، والإسلام والإيمان، والتقوى والشعائر، والجهاد والعنف المسلح. ونسخ آية الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة بآية السيف، واعتماد الترادف في فهم النص مما ينتج عنه أن القتل هو القتال واعتبار ذلك من القراءات المأثورة. كل ذلك لغياب نظرية إسلامية أصيلة معاصرة في الدولة والمجتمع، تضع الجهاد والتقوى والجدال بالتي هي أحسن في مكانها الصحيح.

إن هذا الخلط وغموض الفهم، بوجود عاطفة دينية صادقة جياشة، وبوجود حب حقيقي لله ولرسوله ولكتابه، يمكن أن يؤدي إلى أعمال عنف مسلح. ولعل أكبر مشكلة يقع فيها الإنسان هي أن يقاتل ويموت دفاعاً عن جهله.

2 – السبب الثاني، سبب سياسي بحت. فالعالم العربي والإسلامي يعج بحكومات مستبدة، تشعر في أعماقها أن شرعيتها ناقصة ومهزوزة، وتلتمس دعم السلطة الدينية الرسمية. فكان من الطبيعي أن تقاوم محاولات الحركات التي تسعى إلى سحب السلطة السياسية منها، فيقع العنف. وتصبح المسألة مسألة من جاء أولاً البيضة أم الدجاجة!! علماً أن السلطة المستبدة حين تستعمل العنف في الرد على من يحاول إزاحتها عن السلطة، لا تستهدف فقط الجماعات والحركات الإسلامية بعينها، بل تستعمله في وجه كل من تشعر بخطره عليها إسلامياً كان أم شيوعياً أم قومياً.

في ضوء هذه النقطة الأخيرة بالذات، فنحن نرى أن هذه الحركات لن تنتهي ولن تتوقف طالما أن هناك فقراً وبطالة وجهلاً في المجتمعات العربية. وأن العنف والقوة لا تستطيع القضاء على ما هو قائم منها، لأن لها أرضية واسعة منتشرة بين الناس. فطالما أن هناك فقر وبطالة وسوء توزيع للثروة وامتيازات تمنح بلا حساب لطبقة دون أخرى، وطالما أن نسبة البطالة بين الشباب في الجزائر مثلاً تصل إلى أكثر من 25%، فالعنف لن ينتهي، والحركات لن تنتهي، ماركسية كانت أم إسلامية أم غير ذلك.

3 – السبب الثالث، فشل حركات التحديث المعاصرة في ضوء ما أظهرته نتائج حرب 1967، ووقوع العرب والمسلمين فر فراغ فكري وثقافي ووطني، فجاءت الحركات الإسلامية لتملأ هذا الفراغ. لكنها ملأته بخبرات زائلة تاريخية، أبدعها أصحابها لزمنهم في زمنهم، فرسخت بذلك أخطر ما يمكن أن يترسخ في العقل العربي، وهو الماضوية، وساعدتها المؤسسات الدينية الرسمية على ترسيخ هذه الماضوية في العقل العربي حتى الآن.

من هنا نرى استحالة أن تنجح هذه الحركات الإسلامية السياسية وأن تفوز بالشرعية إلا إذا طرحت نظرية إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، تفرد محلاً للرأي والرأي الآخر والمعارضة، ومحلاً لتداول السلطة والاستفتاء والبرلمان وحرية العقيدة، ومحلاً لدور المرأة وحقوق الإنسان العامة والخاصة. وهذا كله لا يمكن أن يحصل إلا إذا تمت إعادة النظر في مفهوم الأدلة الشرعية. فالأدلة الشرعية بمفهومها المؤسس في القرنين الثاني والثالث الهجري، هي التي تحتاج إلى إعادة نظر جذرية من قبل الناس اليوم، وليس الإسلام ذاته.

وبدون إعادة النظر هذه، تبقى هناك خطورة قائمة، هي خطورة احتمال صعود قوى أصولية، الأمر الذي يهدد بالخطر بنية المجتمع المدني ومؤسساته. وهاكم المثال التالي: إن الأدبيات الإسلامية من كتب تفسير وحديث وناسخ ومنسوخ وأسباب نزول ومذاهب وطبقات رجال وجرح وتعديل هي ذات الكتب والأدبيات التي درستها وتبنتها حركة طالبان وأعضاؤها، وهي ذات الأدبيات والكتب التي تدرس في الأزهر والزيتونة وكليات الشريعة وعلوم القرآن والحديث في جامعات دمشق والقاهرة ومكة وغيرها.

وما نريد قوله هو أن هذه المناهج والكتب والأدبيات بما فيها من فقه معاملات وتفسير لقوانين الكون، لا تنتج بالضرورة تطبيقياً إلا شرائح من نموذج طالبات. وهذا ما نادى به الشيخ محمد عبده ذات يوم فكفره التراثيون التقليديون واتهموه بالماسونية والعمالة لصالح الغرب.

وما أريد قوله هو أن عملية أسلمة الواقع عملية سوسيولوجية بحتة، تخضع لقوانين علم الاجتماع. فالمجتمع المتحضر ينتج بفضل هذه العملية إسلاماً متحضراً والمجتمع البدوي ينتج إسلاماً بدوياً. ولعل أسوأ ما أنتجناه نحن، هو حركات إسلامية سياسية تحاول أن تشد المجتمعات العربية الإسلامية بالعنف والقهر إلى الخلف تحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، لتتحول الشريعة الإسلامية بذلك إلى واجهة، وتصبح مصالح الحكام الخاصة هي السياسة الحقيقية للدولة. فأفغانستان اليوم أكبر منتج مصدر للمخدرات في العالم. والمسلمون ليسوا بدعاً من الناس، فهم مثل غيرهم، عندما يصلون إلى الحكم ترى منهم العجب.

نقف عند ظاهرة برزت في السبعينيات من القرن الماضي، عقب حرب 1967، هي ظاهرة سمّوها الصحوة الإسلامية. وهي ظاهرة نشأت كما قلنا بسبب أن مشاريع الحداثة في العالم العربي فشلت وخانت وعودها. وكان لابد من بديل، فكان البديل من الثقافة التراثية الموروثة. لكن هذه الصحوة المزعومة لم تتعد الشعائر والعبادات كما يفهمها أهل التراث من صلاة وصوم وحج، واعتكاف في المحاريب وحلقات ذكر، إضافة إلى تطويل اللحى عند الرجال، والحجاب الشرعي للمرأة الذي غدا شعاراً ورمزاً سياسياً يقاتلون من أجله.

وهذا كله لا يعني الحاكم المستبد في شيء، لا بل هو يشجع عليه ويشارك به، طالما أن ذلك يلهي الناس عما هم فيه، ويصرفهم عن مقارنته بما هو فيه. وأما ما يعني الحاكم المستبد ويهمه من فقه دستوري ورقابة على السلطة ومحاسبة للمسؤولين فغير موجود أصلاً في الثقافة التراثية الموروثة، التي أصبحت كتبها تباع بالملايين ويعاد طبعها، ويعتبر ذلك دليلاً على الصحوة الإسلامية، التي شمرت المؤسسة الدينية الرسمية عن سواعدها للمشاركة فيها، طالما أنها تدعم وجودها وترسخه. وأما عن القسم الثاني الموجود في كتب الثقافة التراثية، قسم الشريعة والتشريع، في المعاملات والأحوال الشخصية، ففيه من المذاهب والآراء الفقهية المتعددة ما يغطي شرعية الأمر وضده، ويجد فيه الباحث ما يحل له أي إشكال يجد نفسه أمامه.

إلا أن لهذه الإيجابية في ظاهرها، وجهاً سلبياً في باطنها، هو الخلاف والاختلاف إلى حد لم يعد يعرف الناس معه أين هو المقصد الإلهي الصحيح. فإثبات هلال رمضان مثلاً أجازه بعضهم بوسائل الرصد الحديثة ولم يجزه آخرون، وفائدة القروض المصرفية لشراء المساكن أجازها شيخ الأزهر، وحرمها إمام من دمشق على صفحات الإنترنت ونادى ببطلان فتوى شيخ الأزهر. وقطع يد السارق من أطرف ما يختلفون فيه، فاليد عند البعض الأصابع، وعند البعض حتى الرسغ، وعند البعض حتى المرفق، وعند البعض حتى الكتف، وقطع الأيدي عند السيوطي يشمل الأرجل في حال التكرار، أما عند أبي مسلم فقطع اليد تعبير مجازي ليس فيه على الحقيقة لا قطع ولا يد. واقتصرت الصحوة الإسلامية تحت هذا الشعار الفضفاض العريض على ما اتفق عليه من شعائر وحجاب شرعي.

ثمة من يرى أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تمثل نقيضاً للتعددية الدينية والسياسية والثقافية في المجتمع. ولابد في الحوار حول هذه المسألة من أن نحدد بدقة ما نعنيه بالشريعة الإسلامية. إن كان التنزيل الحكيم والسنة النبوية، فهذا يعني أن الله ورسوله ضد التعددية الدينية والسياسية والثقافية ضمن حدود دولة الإسلام، وهذا محال.

فالله تعالى يطلقها صريحة مدوية بقوله {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ …} [البقرة : 256]، وبقوله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس : 99]. والأمر كما نراه لعبة مصطلحات، حين ندخل تحت مصطلح الشريعة الإسلامية عناصر أخرى إضافة إلى الكتاب والسنة، تماماً مثلما أدخلوا تحت تصطلح السنة النبوية كتب الصحاح والمسانيد والموطآت والسنن وزعموا أن هذه تلك. فما هي الشريعة الإسلامية التي تناقض ما لا يناقضه الله تعالى في كتابه والنبي (ص) في سنته؟

إذا استبعدنا التنزيل الحكيم والسنة النبوية من مصطلح الشريعة الإسلامية المقصودة بالعبارة موضوع البحث، بدلالة الآيات أعلاه، يبقى أن الشريعة الإسلامية المعنية هي كتب الفقه الموجودة بين أيدينا، ككتاب الأم للشافعي، وحاشية ابن عابدين، والموافقات للشاطبي، وأحكام الإمامة لأبي يعلى، والأحكام السلطانية للماوردي، وغيرها مما لا يحضرنا من كتب الفقه الجعفري والمالكي والحنبلي والحنفي.

لكن هذه الكتب كلها من نتاج الإنسان. والنتاج الإنساني يحمل الصفة التاريخية حتماً وبلا مواربة. وهذه الكتب الفقهية صاغها أصحابها طبقاً لأدلة شرعية وأصول، هذه الأدلة والأصول أيضاً نتاج إنساني يحمل الصفة التاريخية. فإذا كان المقصود تطبيق ما في هذه الكتب بأصولها على واقعنا، أقول: إذن فسينشأ ” طالبان” في كل بلد عربي وإسلامي حسب شروطه الموضوعية السائدة. وهذا لا يمثل نقيضاً للتعددية وللمجتمع المدني وحسب، بل يمثل كارثة تعيدنا إلى ماضوية القرون الوسطى وليس إلى ماضوية الصحابة.

أما إذا فهمنا أن الشريعة الإسلامية هي آيات الأحكام الواردة في التنزيل الحكيم، وهي السنة النبوية على أنها الاحتمال الأول التاريخي لتطبيق هذه الأحكام ضمن مجال حيوي زماني (تاريخي) ومكاني (جغرافي)، فنقول: لا تعارض مع التعددية ولا تناقض مع المجتمع المدني. إنما يبقى علينا أن نشمِّر عن سواعد عقولنا المؤمنة لإنتاج فقه جديد قائم على أدلة وأصول جديدة، تحوي في طياتها ما لا يتعارض مع المجتمع المدني ولا يتناقض مع التعددية، ويتوافق ويوافق على وجود الآخر والرأي الآخر في ظل البرلمانات والانتخابات والاستفتاء. يبقى علينا في زمننا أن نقوم بما قام به الأسلاف في زمنهم، حين قرؤوا آيات الأحكام والسنة النبوية قراءة أولى جاءت مطابقة لواقعهم مناسبة لعصرهم، فنقرأ الآيات والسنة قراءة ثانية تعطينا أصولاً جديدة للفقه والتشريع، أرى أن تنطلق من الأسس التالية:

1 – إن المثل العليا (الأخلاق ومنظومة القيم) خضعت للتراكم من بعثة نوح (ع) إلى بعثة محمد (ص)، حاملة الصفة الإنسانية العالمية، كبر الوالدين وعدم قتل النفس والوفاء بالعهود وعدم الغش بالكيل والميزان والمواصفات وغيرها.

2 – إن الشعائر التي هي من أركان الإيمان كالصلاة والصوم والحج، خضعت للتنوع. فالصلاة موجودة عند جميع الملل، والصوم موجود عند اليهود والنصارى والمؤمنين، وهو أيام معدودات عند الجميع، وعندنا في شهر رمضان وعند غيرنا في غيره، وكله صوم وكله صحيح. من هنا نقول إن التعددية والتنوع في الشعائر مقبول عند الدولة، ووجود بيوت العبادة من كنائس ومساجد إلى جانب بعضها بعضاً مقبول عند المجتمع المدني ونراها فعلاً وواقعاً في كثير من بلداننا.

3 – أما الشريعة كما هي في آيات الأحكام (عدا التوحيد والشعائر) فقد خضعت للتطور في الفهم والتطبيق. وما يميز الشريعة المحمدية عما سبقها أن هذه الشرائع خضعت للتطور بالتبديل والتعديل والنسخ حتى انتهت إلى شكلها النهائي عند محمد (ص)، فأصبحت أحكاماً لها صفة الحدودية تحت عنوان ” حدود الله”، وفيها تظهر العالمية والخاتمية في الرسالة المحمدية. فعقوبة القاتل هي القتل بالمثل، وهي الحد الأعلى الذي لا يجوز تجاوزه أو تعديه، إنما يجوز النزول عنه واستبداله بعقوبات أخف من الإعدام.

فالبلاد التي تقر الإعدام وقفت على حد العقوبة القصوى، والبلاد التي ألغت أحكام الإعدام تكتفي بالسجن المؤبد مثلاً، وكلاهما إسلامي صحيح. وقل مثل ذلك في عقوبة السرقة. فقطع يد السارق هو العقوبة القصوى لجريمة السرقة (بعيداً عن الاختلاف في تحديد اليد كما أشرنا سابقاً)، فهناك بلاد تقطع يد السارق، وهناك بلاد تكتفي بعقوبات أخف، وكلاهما صحيح إسلامياً. خاصية الحدود هذه في الشريعة الإسلامية والأحكام أعطت الشريعة الإسلامية حنيفية ومرونة، رأينا معظم أهل الأرض يطبقونها بفطرتهم وهم لا يشعرون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ …} [الروم : 30].

4 – الحرام مطلق وشمولي أبدي، محصور بالله تعالى وحده، ولا يحق لأحد غيره أن يحرم، لا رسول ولا نبي ولا صحابي ولا تابعي ولا إجماع ولا قياس. فنحن لا نجد لفظ التحريم في التنزيل الحكيم إلا والله صاحبه. والمحرمات في كتاب الله حصراً اثنا عشر محرماً، تراكمت من نوح إلى محمد (ص)، هي الكبائر، ويأتي في مقدمتها الشرك بالله ثم يليه عقوق الوالدين وقتل النفس وإتيان الفواحش والحنث باليمين وشهادة الزور.

هذه المحرمات لا يقاس عليها، ولا تخضع للحوار أو للتصويت، ولا للرأي والرأي الآخر أو الاستفتاء، ولا تنطبق عليها قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، إلا ما ورد فيه نص صريح ورخصة، كالاضطرار في أكل الأطعمة المحرمة. أما ما يقوله بعض فقهاء الإنترنت من أن إباحة المحظورات تعني تحليل المحرمات، فننصحهم بالعودة لدراسة اللغة العربية على أهلها. وأما سحب رخصة الطعام بحجة الاضطرار على الربا وعلى نكاح الأم، فأمر لا يقول به عاقل. وإذا كان ليس للرسول أن يحرم أو يحلل إلا ما حرم الله وحلل، فما بالك بالفقهاء ومجالس الإفتاء؟ وما رأيك فيما يطالعنا به المتفقهون وأصحاب الفتاوى من تحريمات يومياً؟

5 – قاعدة الضرورات تبيح المحظورات تنطبق على النهي الموجود في كتاب الله تعالى، والنهي أخف من التحريم لأن فيه فسحة. فالتجسس والغيبة من المنهيات وليس من المحرمات. ومن هنا فإن التجسس على الأعداء واستطلاع أخبارهم واجب، والتجسس على المجرمين وعصابات المافيا واجب. ومن هنا أيضاً فإن وصفك لأحد معارفك أمام شخص ينوي تزويجه ابنته أو ينوي فتح محل تجاري معه واجب ولا يدخل في الغيبة التي نهى الله تعالى عنها. وهذا كله يوصلنا إلى القول بأن الرسول إن لم يكن له أن يحرم أو يحلل من عنده بشكل مستقل، فإن له أن يستقل كنبي بالأمر والنهي، مع ملاحظة أن الأمر والنهي فيهما فسحة، وليسا مطلقين شاملين أبديين كالتحريم والتحليل. وهذا يضعنا أمام تفسير وفهم جديد للسنة النبوية.

ثمة نقطة أخيرة وقفت عندها طويلاً، هي: إلى أي مدى يمكن القول بأن الأصوليين قادرون على عمل جماعي؟ بعد أن رأيت أن كل النقاط تدور حول الحركات الأصولية السياسية الإسلامية، واقعاً وأيديولوجية وشرعية، وأن هذه هي النقطة الوحيدة التي تستشرف الآتي، وتحاول رسم صورة لما يمكن أن يحصل في المستقبل. وأن إلقاء الأضواء عليها ومناقشتها ومحاولة وضع إجابة لها، أمر يهم جميع الأطراف بمن فيهم الحركات السياسية الإسلامية نفسها، التي أميل إلى حصر الحوار حولها، دون توسيع يشمل كل الأصوليين الذين فيهم من لا يشاطر هذه الحركات كل آرائها، وعلى رأسهم أصوليو المؤسسة الدينية الرسمية.

الإجابة والحوار في هذه المسألة ليس بالبساطة التي نتوهمها. فالسؤال يذكر “العمل الجماعي”، لكنه لا يوضح هدف هذا العمل الجماعي ومقصده. أهو الوصول إلى السلطة؟ سأفترض صدق الشعارات المطروحة عن العدل والمساواة ومحاربة الفساد وترسيخ الأمن والاطمئنان بين الناس. لكن هذه الشعارات لابد لها من آلية تحققها، وبرامج مرحلية تسير عليها تلك الآلية، وهذا كل غير موجود في التراث الذي تقوم الأصولية عليه، إضافة إلى أن ما بين أيدينا من التراث لا يمثل أكثر من 10% من أهرامات هائلة من المخطوطات ما زالت تنتظر من ينفض عنها الغبار في الأقبية والمكتبات. والأصولية باعتبارها تنطلق أساساً من تقديس التراث وأهله والالتزام به حرفياً، رغم ما فيه من تناقضات وثغرات، ستجد نفسها مضطرة إلى وضع العربة أمام الحصان، بإجبار الناس على العودة إلى الماضي بكل تفاصيله، وترك الحاضر بكل مستجداته، حتى يمكن تطبيق نصوص تراثية لا يجوز أن يتغير فيها حرف.

فإذا كان الهدف هو المشاركة بالسلطة، وليس الاستئثار بها، فمع من ستتعاون هذه الحركات في الحكم؟ مع القوميين أم مع الليبراليين؟ أم ستتحول إلى مؤسسة دينية رسمية تحت اسم جديد، مهمتها إضفاء الشرعية على حكم هي شريكة فيه؟

في رأينا أن مجرد اتجاه الحركات الأصولية إلى الاستئثار بالسلطة أو إلى المشاركة فيها، سيبقي الباب مفتوحاً أمام كل الحركات الآتية دينية كانت أم غير دينية لتعود حكاية العنف من أولها، إنما بعد تبادل المواقع والأدوار.

ثمة تجربة جديدة تتم الآن في لبنان، لحركة أصولية الأساس والأيديولوجية، تحاول أن تبرهن على أن الإرهاب لا محل له عندها، وأن العنف موجه حصراً باتجاه الاحتلال والاستعمار والاستغلال. وتحاول ترسيخ مكانها في اللوحة السياسية والثقافية من مجتمعها. إنما لا يمكن التنبؤ الآن إلى أي مدى يمكن أن تتعاون هذه الحركة مع شرائح أخرى قومية، ومع مذاهب أخرى لها وزن اجتماعي، ومع عالم خارجي غربي وشرقي لا يستطيع أن يسمح بحكم تجربته التاريخية بقيام عمل جماعي من أي نوع تقوده حركة أصولية دينية. وإلى أي مدى ستمضي هذه الحركة في اعتبار إيران الأخ الأكبر والراعي الأول والمرشد الروحي لها.

إن ما يدعو إليه البعض – وأنا منهم – إلى أن البداية لابد أن تبدأ من الفرد الإنسان ومن عقله، وإلى أنه لابد من قراءة ثانية معاصرة لكتاب الله تعالى ولسنة نبيه الكريم بعين الواقع الحاضر، بعيداً عن نظارات الشافعي والنعمان ومالك والإمام جعفر والطوسي، مع احترامنا الصادق لهم جميعاً، وإلى أن العقل الكاشف الواعي هو وحده ضمانة الوقوف في وجه العنف والإرهاب إن وجدا فعلاً وحقاً. أقول إن الطريف إلى هذا كله طويلة وشاقة، والأمل في تحقيق مقاصدها مغموس بطوباوية مثالية لا أنكرها، ومع ذلك لا أرى أية طريق أخرى فيها الخلاص.

والحمد لله رب العالمين.

دمشق – 15 رمضان 1421 – 5 / 11 كانون الأول 2000 م

اترك تعليقاً