الحركات الإسلامية

الحركات الإسلامية

تعاني الحركات الإسلامية السياسية، بمختلف فصائلها التي ترسم طيفاً كبيراً ابتداءً من الاعتدال إلى أقصى التطرف، من إشكالية معرفية في مرجعياتها، لها علاقة مباشرة بالدولة وبنائها، وبالعنف واللا عنف، إضافة إلى علاقاتها بالعلوم والشعائر والأنشطة الاجتماعية والثقافية الأخرى.

الدولة المعاصرة تحتاج إلى إبداع نظري معاصر، وبخاصة في حقل البنية والحريات وتداول السلطة والتعددية، في حين أن الحركات الإسلامية قيدت نفسها سلفاً – حتى فيما يتعلق بسفك الدماء – بشيء اسمه الأحكام الشرعية. رغم أن كتب الفقه الموروثة والفتاوى التي صاغها أصحابها في عصور خالية مضت، لم تعد اليوم كافية لإقامة دولة حديثة إنسانية المحتوى.

من هنا نستطيع القول بأن أول ما تحتاج إليه الحركات الإسلامية هو إعادة النظر في مرجعياتها، وفي أدلة الأحكام الشرعية وآليتها، منطلقة من القاعدة التي تقول: تتغير الأحكام بتغير الأزمان، لتستطيع بالتالي أن تبني قواعد معاصرة تبني على أساسها سياساتها وسلوكها ومواقفها.

صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قام ببناء أول دولة عربية إسلامية عاصمتها المدينة المنورة، وتلك هي الحدود الجغرافية، في القرن السابع الميلادي، وتلك هي الحدود التاريخية، رغم أن رسالته كرسول كانت عالمية إنسانية لا تخضع لحدود الزمان (التاريخ) ولا لحدود المكان (الجغرافيا)، وذلك في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107]، وقوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف : 158].

لكن إقامته لهذه الدولة كانت من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة. وما لم نميز بين هذين المقامين، فسنقع فيما وقعت فيه الحركات الإسلامية، حين اعتقدت أن عملية بناء الدولة بخطواتها وترتيباتها وعلاقتها بالناس وعلاقة الناس بها، أمراً رسولياً لا يمكن ولا تجوز مخالفته.

لقد كان رسول الله (ص) معصوماً في تلقي الرسالة وتبليغها حصراً، معصوماً في ذاته ونفسه من كل ما يعزي النفس الإنسانية لقوله تعالى {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} [الأعلى : 6]. ومعصوماً من كل تدخل الآخرين يداً ولساناً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ …. وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …} [المائدة : 67].

وهذا ينسجم تماماً مع المنطق السليم من جهة، ومع مضمون الرسالة من جهة أخرى. فالرسالة تشريعات وأحكام وشعائر، لا تحتمل الخطأ والصواب، أو السهو والنسيان، أو التقديم والتأخير. ولا مكان فيها للرأي والرأي الآخر. ومن هنا كان لابد من عصمة حامل هذه الرسالة، ولابد من الأمر بإطاعة كل ما يأتي به. وبالفعل نجد أن آيات وجوب الطاعة جاءت من مقام الرسالة وليس من مقام النبوة:

  • {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء : 80].
  • {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور : 54]
  • {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران : 32]
  • {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ} [المائدة : 92]

فالرسالة في مجال التشريع تأمر وتنهى (افعل ولا تفعل)، وتحدد المحرمات وتضع الحدود. وفي هذا المجال بالذات يصدق قول من قال: لا اجتهاد في المحرمات أما نصوص الشريعة كالإرث والوصية والعقوبات فالاجتهاد فيها وارد. والرسالة في مجال الشعائر، من صلاة وصوم وحج وزكاة، تشريعات دائمة خالدة الاجتهاد فيها بدعة. والبدعة ضلالة والضلالة في النار. ففي مجال التشريع تنهى الرسالة عن الغيبة والنميمة والتجسس وتتبع عورات الآخرين والسخرية منهم، وفي مجال الشعائر، بقول رسول الله (ص) مثلاً عن قوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى : 1] اجعلوها في سجودكم. وكلا المثالين لا يخضع للاجتهاد ولا للرأي الآخر. وليس أمامنا ونحن نتبلغها إلا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة : 285].

أما في مقام النبوة فالأمر مختلف تماماً، لأن النبوة علوم وتعليمات، والنبي في مقام النبوة يخطئ ويصيب، ويستشير أصحابه، ونحن نرى في التنزيل الحكيم أن الله تعالى حين يصحح للرسول (ص)، فقد كان يصحح له من مقام النبوة، كما في قوله:

  • {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ …}[التحريم : 1]
  • {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال : 67]
  • {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة : 113]

أو كان يعطيه تعليمات خاصة به كقوله تعالى:

  • {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب : 50]

أو يعطيه تعليمات خاصة بأزواجه كما في قوله تعالى:

  • {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [الأحزاب : 32]

أو يعطيه تعليمات خاصة بالمؤمنين كما في قوله تعالى:

  • {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب : 59]

لكن هذه كلها تعليمات وليست تشريعات. ثمة إذن سنة رسولية وسنة نبوية – إن جاز لنا التعبير -.

سنة رسولية ملزمة واجبة الاتباع بتشريعاتها، لم يأت بها الرسول من عنده بل جاء بها من كتاب الله الموحى. ومن هنا نفهم المقصد الذي ذهب إليه الرسول في قوله – إن صح – ما معناه: إذا بلغكم عني قول، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوا به قلته أم لم أقله.

وسنة نبوية غير ملزمة ولا واجبة الاتباع لأنها سنة ظرفية اجتهادية لا تحمل طابع التشريع الأبدي، والقياس عليها غير ضروري والتأسي بها غير مطلوب، ومثال على ذلك اجتهادات الرسول في تطبيق آيات الأحكام من إرث ووصية وعقوبات فهي تحمل الطابع الظرفي، لا الطابع الأبدي لأنها من مقام النبوة. وأنه تم الاجتهاد فيها في مجال شبه جزيرة العرب في القرن السابع، وتحويل هذه الاجتهادات إلى شرع إسلامي أبدي أوقعنا في مطب التحجر وجعل المقدس في كتاب الله وخارج كتاب الله. لأن الأسوة الحسنة مخصوصة حصراً بالرسول في مقام الرسالة بقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21].

ونحن نعتقد أن الصحابة الكرام، الذين لازموا النبي فترة كافية ليتشبعوا بمنهجه وينهلوا من نبعه، كانوا واعين تماماً لهذا الفرق الجوهري. وانظر معي كيف قبل الإمام علي كرم الله وجه بيعة الخلافة على كتاب الله وسنة رسوله، ورفض البيعة على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر. وانظر معي كيف أن عمر بن الخطاب (رض) اجتهد لنفسه وبنفسه في الأحكام النبوية بعد أن فهم أنها إبداع اجتهادي مرن يحقق التلاؤم مع المستجدات الاجتماعية الزمانية والمكانية، وإبداع اجتهادي مطاوع يضع نفسه في خدمة الإنسان، وليس إطاراً جامداً قمعياً يضع الإنسان في خدمته. ولذلك اجتهد في الإرث وفي الزكاة وفي توزيع الفيء، وقد توسم فيه النبي الاجتهاد فقال إن صح: لو كان نبي بعدي لكان عمر.

نعود بعد هذا التفصيل الذي لابد منه، إلى ما قلناه من أن النبي كقائد لهذه الأمة هو الذي وضع من مقام النبوة أسس إقامة الدولة لأول مرة في التاريخ العربي والإسلامي، ملتزماً في ذلك الخطوط العريضة والمقاصد الإلهية والقيم العليا التي نزل بها الوحي الأمين، وعلى رأسها الشورى والعدل والحرية والمساواة.

وحين نقول إن البرلمانات تحقق الشورى والديموقراطية تضمن العدل، والمجتمع المدني يضمن الحرية والمساواة، لا نكون قد خرجنا أبداً عن السنة النبوية التي ما كانت تهدف في وقتها من خلال ما قررته وأرسته إلا إلى تحقيق هذه القيم.

هنا نصل لنفهم تماماً ما قصدناه بالمشكلة المرجعية والمعرفية التي تعاني منها معظم الحركات الإسلامية، والتي تجرهم إلى مواقف وسياسات ليست على ما ينبغي، مثالها أنَّ بوسع طالب في الثانوية الشرعية أن يقمع أي حركة احتجاج على ظلم السلطة، وأن يسفّه كل قرارات لجان حقوق الإنسان بحديث آحاد رواه حذيفة بن اليمان (اسمع للأمير وأطع ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك). فالحركات الإسلامية تعتبر هذا الحديث سنة نبوية خالدة مطلقة واجبة الاتباع في كل زمان ومكان. ومثال (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فهذا الحديث حتى ولو كان صحيحاً مئة بالمئة فهو اجتهاد نبوي ظرفي في حينه لا يحمل الطابع الأبدي.

أما مثال المرجعية التي تعكس الجانب الآخر مما تعانيه الحركات الإسلامية جميعاً، فهو ما قرره الفقهاء في باب سد الذرائع. هذا الباب الذي ليس أكثر من غطاء شرعي يبرر حالات الطوارئ والأحكام العرفية في البلاد العربية سواء كانت مقننة أو غير مقننة.

والأسئلة الموجهة الآن إلى الحركات الإسلامية هي:

  1. أين موقع الحركات الإسلامية من الإبداع المعاصر لبناء دولة تحمل الطابع الإنساني؟
  2. ألم يحن الوقت لنستبدل الفتوى بالاستفتاء.. ودار الإفتاء بالبرلمان؟
  3. هل الحركات الإسلامية مستعدة لإقفال باب سد الذرائع الذي تدخل منه الدولة لتتدخل في حريات الناس الشخصية؟
  4. متى ستقتنع الحركات الإسلامية بأن المجتمع المدني الذي يضمن حرية الرأي والرأي الآخر. هو خير مجتمع تستطيع الثقافة الإسلامية في مناخه أن تعبر عن نفسها؟ وليس تطبيق ما يسمى بالأحكام الشرعية التي هي اجتهاد إنساني تاريخي.
(2) تعليقات
  1. You indicated above in this article that when it comes to Fasting, Hagg, and Zakah that Egtee-had is not allowed. I do understand and agree on your statement for fasting and Zakah, but when it comes to Hagg, I still have a problem with it and that is what does the following rituals has anything to do with believing in GOD:
    – Walking around the Al Kabbaa 7 times
    – Runing between the SAFA and Marwaa 
    – Throwing the stones
    Aren’t these rituals a carry over from the days of the Koffaar. How can performing these rituals affect my belief in God.
    Your feedback and opinion on this issue will be greatly appreciated.


    السيد عباس بن طاهر
    سيصدر لي كتاب قريباً في القصص القرآني الجزء الثاني وفيه شرح الحج في فصل إبراهيم.

  2. دكتور شحرور مع وافر التحية ، اراك فد اغفلت الجانب البشرى فى محمد عليه الصلاة والسلام فكان الاحرى بك ان تفسم الامر الى ثلاث مقامات : مقام محمد البشر ثم مقام محمد النبى ثم مقام محمد الرسول ، فالمقام البشرى هو الذى استشار فيه اصحابه من اهل الخبرة كما فى واقعة الخندق وكما اشارت عليه ام سلمى فى الحديبية ، وفى مقام النبوة زوجاته وصيامه المتصل وصلاته المتصله مثل قيام الليل الى آخره وفى مقام الرسالة : القرآن والتشريعات والاحكام واظن لو انك اعدت بحث الامر وفق هذه المقامات الثلاث لكان ذلك اوفق ولربما وصلت الى معانى اخرى . عموما وفقك الله واعانك ورزقك من فضله .

اترك تعليقاً